سفر المزامير | 55 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلْخَمْسُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ
«١ اِصْغَ يَا اَللّٰهُ إِلَى صَلاَتِي وَلاَ تَتَغَاضَ عَنْ تَضَرُّعِي. ٢ ٱسْتَمِعْ لِي وَٱسْتَجِبْ لِي. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي وَأَضْطَرِبُ ٣ مِنْ صَوْتِ ٱلْعَدُوِّ، مِنْ قِبَلِ ظُلْمِ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْماً، وَبِغَضَبٍ يَضْطَهِدُونَنِي».
يحوي هذا المزمور العنوان نفسه الذي يحويه المزمور سابقه (أي لإمام المغنين على ذوات الأوتار الخ). في هذا المزمور شكوى مرة من رجل ادعى الصداقة ثم خان عهودها ونكث وعودها فهو إذاً اسخريوطي العهد القديم. وعلينا أن نراجع تاريخ داود – إذا حسبنا أن هذا المزمور يخصه – لكي نرى على من ينطبق هذا الوصف. وقد نصل أخيراً إلى أخيتوفل الذي كان اليد اليمنى لأبشالوم في ثورته ضد أبيه. ويرجح أن هذا المزمور مع الحادي والأربعين يخصان ذلك الزمان الذي جرت فيه الصورة ومدتها أربع سنوات. ويعجب الإنسان كيف سمح داود لابنه أن تستفحل ثورته على هذه الصورة ولم ينهض لمناوئيها بسوى الصلاة والابتهال إلى الله (راجع مزمور ٤١).
يذهب هتزج للقول بأن هذا المزمور هو لإرمياء ويبني رأيه على ما ورد في (إرميا ٩: ١) وعلى مقدار العذاب والاضطهاد الذي احتمله ذلك النبي مما ينطبق على سيرة حياته أكثر ما على حياة داود. وعلى كل فنحن نتخذ الرأي السابق كما هو العنوان المتوج به هذا المزمور وهو قوله «قصيدة لداود».
(١) يرى المطالع بين السطور حزناً شديداً وكآبة عميقة فإن داود يبسط شكواه أمام الله بالتضرع والابتهال ويتمنى لنفسه البعد عن الناس لكي يتخلص من التفكر بأولئك الأشرار الذين عملوا على الثورة ونقض ملكه. يطلب أولاً إصغاء الله إليه ويترجى أن لا يتغاضى عنه. والأصل العبراني يستعمل كلمة قريبة للقول «ولا تشح بوجهك عني». إذاً هو يلتمس أن يسمع الله صوته وأن يرى حالته ويرثي لها وهو أشبه بطفل ضعيف يلتمس معونة كبير قوي.
(٢) ولا يكتفي بأن يعرض حالته بل يلتمس أن يسمع الله صوته ويستجيب إذ أن الصلاة تتناول هذين العاملين فهي تقرب من الإنسان وتنازل من الله. وقوله أتحير وأضطرب يصوّر حالته السيئة كيف أنه يهرب ويركض إلى هنا وهناك ولا يستقر على حال. وهو كذلك لأنه مشكك في كل شيء لا يستطيع أن يسلم ذاته لأي إنسان ولا يتكل على أحد. وهو مضطرب لأن لا رأي له في هذه الحالة فهو ضائع تائه وتكاد تنسد في وجهه السبل ولا يدري كيف يذهب. وهكذا فهو بصلاته يصرخ متألماً مستجيراً طالباً الرحمة والرضا بعد.
(٣) في هذا العدد يقدم السبب لماذا هو في هذه الأحزان وما عذره في حالته المضطربة. فهو مطرود من قبل عدو قوي ظالم. إنهم يضعون في طريقه العراقيل والأحابيل وينفثون غضباً في وجهه ويتهمونه بالإثم ويلبسونه إياه جلباباً. إن الخوف والاضطراب يملآن قلبه وداخله لذلك لا يدري ماذا يفعل. إن هؤلاء الأعداء جسورون وقحون واضطهادهم له بشدة وغضب.
«٤ يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي، وَأَهْوَالُ ٱلْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ ٥ خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيَا عَلَيَّ، وَغَشِيَنِي رُعْبٌ. ٦ فَقُلْتُ: لَيْتَ لِي جَنَاحاً كَٱلْحَمَامَةِ فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! ٧ هَئَنَذَا كُنْتُ أَبْعُدُ هَارِباً وَأَبِيتُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. سِلاَهْ. ٨ كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ ٱلرِّيحِ ٱلْعَاصِفَةِ وَمِنَ ٱلنَّوْءِ».
(٤) إن قلبه يشعر بالألم كألم المخاض للوالدة ذلك لأن شعوره هو شعور الإنسان الذي يقترب للموت وهو يعرف ذلك وهنا منتهى الرعب. نعم يقال أن في آخر دقائق الحياة يصبح الإنسان المقترب للموت فاقد الحس والشعور لذلك يموت وهو في سلام غير دار بحالته ولكن الهول الأعظم والرعب الأشد هو في تلك الدقائق التي تسبق هذه الحالة حينما يعرف الإنسان أنه يقترب للموت ولا يستطيع أن يرده لا سيما إذا كان ذلك الإنسان في حالة نفسية مرة وشديدة كالتي نجد داود فيها.
(٥) إن هذه المترادفات «خوف ورعدة ورعب» هي أشبه بدرجات سلم وصل فيها المرنم إلى أعظم الآلام. فالخوف هو ذلك الشعور الذي يجعلنا غير مطمئنين وأما الرعدة فهو خوف أشد حينما نرتجف مما نحن فيه ولا نستطيع أن نضبط أنفسنا تجاه خوف كهذا وأما الرعب فهو حالة الاضطراب الدائم والهول الشديد. وقوله غشيني أي التف عليه من كل جانب حتى لم يعد له محيص ولا مناص.
(٦) وهنا يبدأ بالتمني وإن يكن شيئاً بعيداً عنه لا يستطيع أن يترجاه كثيراً فيطلب جناجين ليطير ويتخلص مما هو فيه من ألم وشقاء. ذلك لأن شعوره هو شعور الضيق الشديد وليس له انفراج بسوى الطيران والبعد عن هؤلاء الأعداء الألداء. يريد أن يستريح والكلمة العبرانية تفيد معنى السكون والاطمئنان (راجع ٢صموئيل ٧: ١٠ وأيضاً حزقيال ٣١: ١٣). قال أحدهم إن الحمامة حينما تطير هاربة تنشر جناحاً واحداً فقط.
(٧) ويتابع كلامه بأنه يريد أن يهرب بعيداً عن الناس وأغلبهم أشرار فاسدون يضمرون الكيد والعداوة. يريد أن يستعجل قبل أن يلحقه أحد من طالبي نفسه (انظر إشعياء ٥: ١٩ و٦٠: ١٢) فهو يسعى ليجد لنفسه مكان أمان ولو كان في قلب البرية على حد قول الشاعر العربي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ | عوى وصوّت إنسان فكدت أطير |
لأنه يرى في الناس أعداءه الألداء الذين لم يستطيعوا أن يخلصوا له ولا أن يخلص إليهم. لذلك رأى أن البعد عنهم أولى فيهرب ناجياً بنفسه مما ألم به من ضيق وآلام.
(٨) وهنا لأنه حسب نفسه طائراً مبتعداً عن العمران فإن أهم ما يخافه الطائر هو الريح العاصفة والأنواء الجوية التي تطرد هذه الطيور لكي تختبئ في شقوق الصخور وتأمن في مآويها البعيدة. وهو يريد أن يفعل ذلك بدون ضجة أو ما يثير الشبهات حوله فهو يطير بعيداً هارباً من العمران وملتجئاً إلى الطبيعة وما تحويه من مخابئ هي مراكز الأمن والسلام لمن كان في حالة مضطربة كحالته.
«٩ أَهْلِكْ يَا رَبُّ، فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْماً وَخِصَاماً فِي ٱلْمَدِينَةِ. ١٠ نَهَاراً وَلَيْلاً يُحِيطُونَ بِهَا عَلَى أَسْوَارِهَا، وَإِثْمٌ وَمَشَقَّةٌ فِي وَسَطِهَا. ١١ مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا، وَلاَ يَبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشٌّ. ١٢ لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. ١٣ بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي».
(٩) هنا مقابلة لطيفة جميلة بين البرية والمدينة فبعد أن قال أنه يتمنى جناح حمامة يطير بها للبرية البعيدة الآمنة المطمئنة إذا به يقابلها مع ما في المدينة من ظلم وخصام وعداوة وبغضاء. فكما أن البرية هي ملجأه الوحيد الآن فإن المدينة هي الداعي الأول لهربه وبعده عن مواطن العمران. ذلك لما في المدينة من دواعي العداء والخصام حتى أن صديقه الحميم الذي اعتمد عليه في الشدائد إذا به يتركه. وليس من باب الصدف أن يهوذا الاسخريوطي مثلاً كان من سكان المدينة أورشليم وهو الذي خان سيده وباعه بثلاثين من الفضة كما هو معروف. وقوله فرّق ألسنتهم إشارة لما حدث في برج بابل لأن التعارف باللغة هو أهم تعارف (راجع تكوين ١١: ١ – ٩).
(١٠) يظهر أن الذين كانوا يحيطون بها على الأسوار هم الجواسيس الذين كان يرسلهم أبشالوم لتقصي الأخبار والاطلاع على الحالة عن كثب. في القصة الواردة (٢صموئيل ص ١٥) نجد أن داود لم يهتم بالأمر أولاً ولم يحتط له كما يجب حتى اضطر أخيراً أن يترك قصره ويهرب مع الهاربين. والإثم والمشقة في وسط المدينة أي أصبحت في غليان وعدم استقرار لأن دلائل التمرد والعصيان أصبحت في كل مكان. ويظهر أن هذا جرى كله سراً ولم ينهض الشعب للمناوئة إلا بعد أن كان أبشالوم قد استعد لكل الطوارئ.
(١١) ولكن هذه المدينة أصبحت الآن مملوءة بالمفاسد والظلم والغش في أهم ساحاتها حيثما يجب أن تمتلئ بجمهور الباعة والذاهبين والقادمين. إذاً فهي ليست مكان الأمان والسلام بل بالعكس يجب أن يهرب منها كل إنسان.
(١٢) والشيء الذي يحزن المرنم أكثر الكل هو أنه لم يكن منتظراً ما هو فيه فقد تحوّل الصاحب إلى عدو وانقلب الرفيق إلى مناوئ شرير. والعبارة تفيد العتاب الشديد فكإنما يقول كيف تتحول عني أيها الصديق وكيف تخون العهود على هذه الصورة. لا شك أن أشد الأعداء مضاء وقوة هم الذين يتظاهرون بالمودة ويكتمون البغضاء ولذلك فلا يكون الإنسان مستعداً لمواجهتهم في شرورهم هذه فيضربون على حين غفلة وتكون الضربة أليمة وقاضية في كثير الأحيان.
(١٣) إن الناظم هنا يضع هذا العدو بمرتبة نفسه فلا يذكره بعلاقته معه كعلاقة ملك مع أحد عبيده بل علاقة صديق مؤتمن على أثمن شيء في الدنيا وهي المحبة الأخوية. لذلك يذكره أنه عديل وأليف وصديق لعله يرجع إلى رشده ولا يخون صديقه على هذه الصورة.
«١٤ ٱلَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا ٱلْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي ٱلْجُمْهُورِ. ١٥ لِيَبْغَتْهُمُ ٱلْمَوْتُ. لِيَنْحَدِرُوا إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ أَحْيَاءً، لأَنَّ فِي مَسَاكِنِهِمْ، فِي وَسَطِهِمْ شُرُوراً. ١٦ أَمَّا أَنَا فَإِلَى ٱللّٰهِ أَصْرُخُ وَٱلرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. ١٧ مَسَاءً وَصَبَاحاً وَظُهْراً أَشْكُو وَأَنُوحُ فَيَسْمَعُ صَوْتِي. ١٨ فَدَى بِسَلاَمٍ نَفْسِي مِنْ قِتَالٍ عَلَيَّ، لأَنَّهُمْ بِكَثْرَةٍ كَانُوا حَوْلِي».
(١٤) يتابع المرنم وصفه لهذا الصديق الذي خان العهود ونسي ما يتوجب عليه نحو صديقه فكان منه ما كان. فهو صديق حلو الحديث لذيذ العشرة وإن كان من باب:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة | ويروغ منك كما يروغ الثعلب |
ويظهر أنه علاوة على ذلك كان من المتظاهرين في الدين المتممين المراسيم والفروض لا سيما أوقات المواسم والأعياد فهو أول المتظاهرين الذين يحكم عليهم الإنسان حالاً إنهم من أهل التقى والفضيلة والصلاح. وهو من الذين استخلصهم وأعطاهم سره وكشف لهم خبايا القلب والضمير على نسبة ذلك كانت حياته أعظم.
(١٥) وهنا يصرخ المرنم باللعنات الشديدة على صديق كهذا (أو أصدقاء في الجمع ربما) فهو يطلب لهم أولاً أن يقعوا في إشراك الموت بغتة وعلى غير يقظة منهم وهكذا وهم أحياء تفغر الأرض فاها وتبتلعهم كما حدث لقورح ورفاقه. والصورة مرعبة للغاية لأن المرنم يتمنى لهم موتاً فظيعاً على نسبة فظاعة شرورهم لأنه يتبع كلامه بقوله إنهم يستحقون هذا الويل القادم عليهم لأنهم أشرار.
(١٦) في هذه العبارة يوجد ذكر لله وللرب وهنا إشارة هامة. فإن المرنم يذكر المبدع الخالق العظيم لهذه الكائنات جميعها ثم للرب يهوه إله شعبه الخاص الذي سار معهم وخلصهم ولا يزال يفعل هكذا إلى الأبد. وهو يلتجئ إلى هذا الإله العظيم لكي ينجيه من هذه الحالة والورطة الصعبة التي هو فيها. إن أولئك الأشرار يستعملون شرهم لنيل مآربهم الشخصية ويتكلون على ما لديهم من حيل ومكايد حتى يتوصلوا للأذى الذي ينوونه أما متقو الرب فلا سلاح لهم سوى التضرع والرجوع إلى الله لطلب السند والخلاص.
(١٧) هنا ينتقل إلى القسم الثالث والأخير من هذا المزمور. فهو واثق من حسن النتيجة فهو يصلي شاكياً أمره لله صباحاً ومساءً ولا يتوانى عن ذلك قط. هو بحاجة أن يرفع شكواه لمن يسمع الشكوى ويستجيب. ففي قرارة نفسه الهادئة وفي إيمانه الوطيد بالله هو لا يعدم وسيلة يتوسل بها لكي يتصل بمصدر القوة والعون. الله يسمع صوته لذلك فإن حالته مملوءة بالنور والرجاء ولا حاجة أن يتراجع قط إلى الوراء.
(١٨) هذا الإله القدير المحب قد دفع فدية عن نفس المرنم لذلك فهو الآن بأمنٍ وسلام. فهذا المزمور يتكلم عن أمور ماضية وعن اختبارات مرة ولكنها كانت ذات دروس عالية عميقة الأثر. وهو يعترف أنه لم يكن له قبل على أعدائه الكثيرين المحيطين به القاصدين ضرره ولولا معونة الله لم يكن له أدنى خلاص.
«١٩ يَسْمَعُ ٱللّٰهُ فَيُذِلُّهُمْ وَٱلْجَالِسُ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. سِلاَهْ. ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تَغَيُّرٌ وَلاَ يَخَافُونَ ٱللّٰهَ. ٢٠ أَلْقَى يَدَيْهِ عَلَى مُسَالِمِيهِ. نَقَضَ عَهْدَهُ. ٢١ أَنْعَمُ مِنَ ٱلزُّبْدَةِ فَمُهُ وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ ٱلزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ. ٢٢ أَلْقِ عَلَى ٱلرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ. لاَ يَدَعُ ٱلصِّدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٣ وَأَنْتَ يَا اَللّٰهُ تُحَدِّرُهُمْ إِلَى جُبِّ ٱلْهَلاَكِ. رِجَالُ ٱلدِّمَاءِ وَٱلْغِشِّ لاَ يَنْصُفُونَ أَيَّامَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَأَتَّكِلُ عَلَيْكَ».
(١٩) يسمع الله ضجيج الأعداء ويكون إصغاؤه لهم بصورة النفي فهو بدلاً من أن يعينهم يرفضهم ويذلهم. ذلك لأنه ليس معهم بل عليهم. أما قوله «الجالس منذ القدم» أي هو الجالس منذ القدم. ليدين الناس ويحكم عليهم أو تكون القراءة الأصلية «فيذلهم الجالس منذ القدم». هو الله الجالس على العرش كما في (مزمور ٧٤: ١٢ وحبقوق ١: ١٢ وقابل ذلك مع تثنية ٣٣: ٢٧) فهو منذ البدء جالس على عرش العالمين ملكاً ودياناً عادلاً ولذلك فهو أيضاً يحكم ويدين في الحاضر كما في الماضي والمستقبل وقوله واصفاً الأشرار إنهم لا يتغيرون عن شرهم أي قساة القلب متحجرو الضمير ولذلك فهم في أبعد مراحل الكفر والإلحاد.
(٢٠) يعود المرنم إلى وصف هذا العدو الشرير ولا يستطيع أن يغفر له خيانته فهو قد قابل المسالم بالقتال ونقض العهد ونسي الصداقة الأولى. فبعد أن ذكر جمهور الأعداء الذين قاموا ضده فهم جميعاً لا يقاسون بشيء بالنسبة لهذا الخائن اليوم الصديق بالأمس.
(٢١) وهنا يصفه بالنعومة فهو كالزبدة لا يظهر فيه شيء من الخشونة أو القسوة بل يتظاهر بكل ما توجبه الصداقة ولكن شتان بين هذا وما يضمره من نية سيئة وقصد رديء. وكلماته لينة فهو يجاريك على كل ما تقول ولا يعصى لك أمراً وإنما حقيقة حاله إن كل كلمة منه هي سيف مسلول. لذلك فهو عنوان الخبث والرياء فإن كلماته التي كان يجب أن تكون غذاء النفس وتسلية الروح إنما في الحقيقة هي سبب الآلام والجروح.
(٢٢) حينما يقارب ختام المزمور يرى المرنم أن ينهيه بهذه النصيحة الغالية ولا شك هو بذلك يخاطب نفسه أولاً ويقول لها أن تلقى همومها على الله. إن الهم هو حمل ثقيل إن لم يكن أثقل الأحمال ولا يستطيع الإنسان أن يحمله وحده لذلك فعلى المؤمن أن يدعو الله للعون والمساعدة. والسبب هو أنه لا يريد الصديق أن يكون ريشة في مهب الريح متقلقلاً متزعزعاً.
(٢٣) وهنا يتراجع للانتقام ويطلب من الله أن يجازي هؤلاء الأشرار وينزلهم إلى دركات الهلاك والدمار. وهؤلاء لا يعيشون نصف أيامهم لأنهم يقصفون في شرخ العمر ولا يصلون للشيخوخة. ذلك لأنه قد سفكوا دماء أبرياء كثيرين والعدل يطولهم عاجلاً أو آجلاً. ولكن المرنم يتكل على الرب إلهه الذي لم ينسه في الماضي ولا يمكن أن ينساه الآن.
السابق |
التالي |