سفر المزامير

سفر المزامير | 34 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

 اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ

لِدَاوُدَ عِنْدَمَا غَيَّرَ عَقْلَهُ قُدَّامَ أَبِيمَالِكَ فَطَرَدَهُ فَٱنْطَلَقَ

«١ أُبَارِكُ ٱلرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. دَائِماً تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي. ٢ بِٱلرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ ٱلْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ. ٣ عَظِّمُوا ٱلرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَلِّ ٱسْمَهُ مَعاً. ٤ طَلَبْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ فَٱسْتَجَابَ لِي، وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي. ٥ نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ».

هذا المزمور هو أحد المزامير الثمانية التي تحسب أنها نظمت وقت اضطهاد شاول لداود ونجد هذا مدوناً في عناوين ابتداء المزمور كما نجد قوله «لداود عندما غيّر عقله…» لقد اضطر داود أن يلجأ إلى الفلسطينيين أعداء بني إسرائيل الألداء لكي يهرب من وجه شاول الذي كان يطارده من مكانٍ لآخر. وهكذا حسب الملك أخيش أن داود عدوه وعدو شعبه القديم قد وقع في أيديهم ولولا هذه الحيلة التي تذرع بها داود وتظاهر بالجنون لفقد حياته لا محالة. وهكذا طرده الملك من أمام وجهه (راجع ١صموئيل ٢١). وعلينا أن ننتبه لذكره «ابيمالك» بينما هناك أخيش. ويحسب بعض المفسرين أن أبيمالك هي لقب وليست اسماً علماً فهي مثل فرعون لكل ملك مصري. وكل عدد من هذا المزمور يبدأ بحرف من حروف الأبجدية ما عدا حرف الواو فهو مفقود.

(١) يبدأ المرنم بحمد الرب ويتكلم بالضمير الأول المتكلم في الأعداد الأربعة الأولى وبعد ذلك يتحول عن الحمد إلى الموعظة والإرشاد. يبارك الرب دائماً وتسبيحه على فمه ليلاً ونهاراً لا يفتأ يفعل ذلك ولا يهدأ له بال حتى يقوم بهذا الواجب المقدس.

(٢) إن فخره ليس بنفسه بل بإلهه. فهو بذلك ينسى ذاته ويضيع تجاه الله الكلي القدرة. هنا الفرق بين المتواضع والمتكبر فالمتواضع ينسى ذاته ويذكر الله والمتكبر ينسى الله ويذكر ذاته. وقوله الودعاء وبالعبراينة قريبة جداً للمساكين أي أولئك الذين تعلموا من حوادث الدهر لين العريكة واللطف وهكذا سلموا أمورهم لله.

(٣) هنا يؤكد ما قاله سابقاً ويطلب تعظيم الرب فقط ولا يكتفي بأن يفعل ذلك بنفسه بل يطلب من الآخرين أن يشاركوه هذا التعظيم والإجلال. لأنه حينما نعظم الرب بالحق نرفع أنفسنا أيضاً إلى عرشه بالدعاء والابتهال وبالعكس فإن تركناه نسقط إلى أوطى الدركات.

(٥) انتهى في الأعداد الأربعة الأولى من سرد الحمد والتعظيم واختباره الشخصي. هنا يبدأ بربط الأفكار وتقديم النصح. فيقول لنا إن الذين يعبدون الرب كان لهم النور في حياتهم والرفع في وجوههم وبدلاً من أن يخجلوا ويخزوا كان لهم الكرامة والمجد.

«٦ هٰذَا ٱلْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَٱلرَّبُّ ٱسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ. ٧ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ. ٨ ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. ٩ ٱتَّقُوا ٱلرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. ١٠ ٱلأَشْبَالُ ٱحْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو ٱلرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ ٱلْخَيْرِ».

(٦) يذكر هنا كما في العدد الرابع لماذا يجب حمد الرب وتسبيحه. فقد كان لهذا الاختبار الشخصي أثره البالغ في نفسه. لقد اشتاق للرب واعتمد عليه ورغماً عن كل ضيقاته لم يتخل عنه قط. يخبرنا أن صلاة المؤمن لا تذهب عبثاً وعلينا حينما نصلي أن نثق بكل جوارحنا بإلهنا فهو قادر أن يعطينا ما نحتاج إليه بالتمام. هنا يسرد في هذه الأعداد المتوالية بعض الحقائق التي اختبرها المرنم في حياته اليومية لذلك فديانته عملية اختبارية وهكذا هي عميقة الأثر وحقيقية. ولأنه اختبر لذلك يستنتج وينصح الآخرين أن ينسجوا على منواله.

(٧) إن هذا الحمد سبب الحماية الإلهية الحنونة فإن الله يرسل ملاكه لكي يحرس خائفيه فلا يطالهم أي ضيق. وقوله ملاك أي رئيس جند الرب المكلف بهذه المهمة الدائمة (راجع يشوع ٥: ١٤) وهذا يصحبه عدد من الأتباع لذلك فهو يحمي من كل جانب وينجي.

(٨) يود المرنم أن يحصل الآخرون على اختباره بالذات يقول ذوقوا (راجع عبرانيين ٦: ٤ وأيضاً ١بطرس ٢: ٣) ولأنه هو ذاق ونظر الرب لذلك يطلب منهم أن يفعلوا هكذا. بل هو يطوّب المتكل على الرب فله الهناء والسعادة والرضوان.

(٩) ثم يطلب إليهم أن يتقوه ويخافوه ذلك لأنه من مصلحتهم الحقة ولا يمكن أن يوجد عوز وضيق بعد ذلك بل يعيشون في شبع ورحب كل أيامهم.

(١٠) الأشبال هنا هي الأسود الشابة التي بلغت أشدها وتستطيع أن تطلب قوتها بنفسها. ولكنه يؤكد أن هذه قد تحتاج وتكون قدرتها على الفتك بدون فائدة أو جدوى ولكن ليس الأمر كذلك مع المتقين الراجين رحمة الرب فهم دائماً في بحبوحة وعيش رغيد. هؤلاء لهم علاقة وطيدة وشركة مع الله ولأن الله هو الغني الجواد لذلك لن يترك أتقياءه فقراء معوزين. وقد وردت كلمة الأشبال مرات عديدة ويظهر أن الأسود كانت تعيش بكثرة في تلك الأيام (راجع المزامير ٣٥: ١٧ و٥٧: ٥ و١٧: ١٢).

«١١ هَلُمَّ أَيُّهَا ٱلْبَنُونَ ٱسْتَمِعُوا إِلَيَّ فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ. ١٢ مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَهْوَى ٱلْحَيَاةَ، وَيُحِبُّ كَثْرَةَ ٱلأَيَّامِ لِيَرَى خَيْراً؟ ١٣ صُنْ لِسَانَكَ عَنِ ٱلشَّرِّ وَشَفَتَيْكَ عَنِ ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلْغِشِّ. ١٤ حِدْ عَنِ ٱلشَّرِّ وَٱصْنَعِ ٱلْخَيْرَ. ٱطْلُبِ ٱلسَّلاَمَةَ وَٱسْعَ وَرَاءَهَا. ١٥ عَيْنَا ٱلرَّبِّ نَحْوَ ٱلصِّدِّيقِينَ وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ. ١٦ وَجْهُ ٱلرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي ٱلشَّرِّ لِيَقْطَعَ مِنَ ٱلأَرْضِ ذِكْرَهُمْ».

(١١) لا يقصد بالبنين هنا الأولاد الصغار في السن ولكنه أسلوب لطيف للخطاب فيظهر الناصح كأنه أب حنون للمنصوح عليه أن يقبل النصيحة ويسترشد. بل هو واقف موقف المعلم الحكيم الذي ملأته الأيام حنكة وخبرة. وأعظم العلم في نظره هو مخافة الرب. وهنا يبدأ المزمور بالقسم الرئيسي من الكلام ولطالما استعمل داود مثل هذه الطريقة (راجع أمثال ١: ٨).

(١٢) في هذا العدد سؤال جوهري ثم في العددين التاليين يعطي الجواب عن ذلك. وهو أسلوب بديع للكلام وقد استعمله داود في غير هذا الموضع (راجع مزمور ١٥: ١ و٢٤: ٨ و١٠ و٢٥: ٢٢). ويظهر أن ما ورد في (١بطرس ٣: ١٠ – ١٢) هو اقتباسة من هنا.

(١٣) يطلب من الإنسان أن يصان عن الشر وفي القسم الثاني بقوله «وشفتيك الخ..» هو تكرار لنفس المعنى. قبل كل شيء ليكن اللسان طاهراً يبتعد عن الغش والنميمة والخداع.

(١٤) ثم يطلب أكثر من ذلك ويلتفت للإنسان بجملته وينصحه بالحيدان عن الشر. ولا يكتفي بذلك بل أن يصنع الخير ذلك لأن بالخير وحده يكون سلامة وطمأنينة وعلى الإنسان أن يسعى في سبيل ذلك ولا تأتيهم عفواً وهكذا قال السيد المسيح «طوبى لصانعي السلام…».

(١٥) إنها لفكرة عظيمة هذه أن الله يرى الصديق ويسمعه. وهذا قريب جداً لما ورد في (مزمور ٣٣: ١٨). إن الله يرى الصديقين ويهتم بهم وينظر إلى خيرهم الحقيقي وهو أيضاً يصغي إلى شكاويهم ولا يتخلى عنهم أبداً.

(١٦) وفي الوقت ذاته فهو ضد الأشرار والظالمين . ولا يرى المرنم فرقاً بين الشر والشرير ولم يسمُ بعد في أفكاره ليقول «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين». فهو يرى الخير للصديقين فقط والعقاب والغضب لغيرهم. بل يتجاوز في شدة إلى القول إن الله يبيدهم تماماً لذلك فهم ينالون العقاب السريع على الأرض ويترك دينونة السماء جانباً لأنها لم تكن واضحة بعد.

«١٧ أُولَئِكَ صَرَخُوا وَٱلرَّبُّ سَمِعَ وَمِنْ كُلِّ شَدَائِدِهِمْ أَنْقَذَهُمْ. ١٨ قَرِيبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ ٱلْمُنْسَحِقِي ٱلرُّوحِ. ١٩ كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا ٱلصِّدِّيقِ وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ ٱلرَّبُّ. ٢٠ يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ. ٢١ ٱلشَّرُّ يُمِيتُ ٱلشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو ٱلصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ. ٢٢ ٱلرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ».

(١٧) يعود للعدد الخامس عشر ويؤكد أن الله قريب من الذين يدعونه. والصراخ يقصد به صراخ التعاسة والآلام ولأن الله محب حنون لذلك يسمع الذين يستنجدون به ولا يتخلى عنهم قط. إن صلاتنا لله يجب أن تكون في طلب المعونة منه وسط الشدائد لا أن لا تكون شدائد بتاتاً إذ هذه موجودة بطبيعة الحال فمعنى أنه ينقذنا منها لا ينفي وجودها وعلينا أن نثق أن الله برحمته ينجينا.

(١٨) إن قرب الله هو بالأخص للذين قلوبهم منكسرة وأرواحهم منسحقة إذ لا يقبل الله أن يستمروا كذلك دون أن يأتيهم بالعون والإسعاف. أي إن الاقتراب لله يجب أن يكون بالتواضع الحقيقي. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره. هؤلاء لا يرون أي فضيلة في عملهم بل كل اتكالهم على نعمة الله ورحمته.

(١٩) إن الصديق يصاب بمصائب جمة فهو عرضة لها كما الشرير أيضاً ولكن الفرق بين الاثنين هو أن الصديق يتعلم من بلاياه وغير الصديق لا يتعلم شيئاً (انظر إشعياء ٥٧: ١٥).

(٢٠) إن حفظ الرب لا يتناول نفس الصديق فقط بل جسده أيضاً فهو يحفظ عظامه لأنها قوام جسمه كله. يحفظه كله فلا يصيبه أدنى ضرر حقيقي. ولا يحفظ جسده إجمالاً بل كل عضو فيه حتى كل عظمة بمفردها لأن الله يعتني هكذا بأولاده حتى أنه يهتم بكل شيء فيهم ولا يتركهم أبداً.

(٢١) وعدل الله يجب أن يظهر ومظهره هو في أن الشر الذي يسعى الشرير وراءه ورغب فيه وأحبه من قبل يتحول الآن عليه لكي يميته. إن الشهوات التي نفسح لها المجال في حياتنا هي التي تسبب لنا أخيراً الهلاك والدمار ونتمنى نادمين لو إننا عرفنا أخطاءنا وآثمنا وأصلحناها.

(٢٢) وبالعكس فإن المسؤولية تجاه الأبرار هي ليست بأيديهم كما الحالة مع الأشرار بل بيد الذي يفدي نفوسهم ويخلصهم من كل ضيق ولذلك فإن جميع المتكلين عليه ينالون الرحمة والرضوان. لا يعاقبون أي لا يطالهم جزاء الله بالقصاص والغضب كما هي الحالة مع مبغضي الصديق.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى