سفر المزامير | 33 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلثَّلاَثُونَ
«١ اِهْتِفُوا أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُونَ بِٱلرَّبِّ. بِٱلْمُسْتَقِيمِينَ يَلِيقُ ٱلتَّسْبِيحُ. ٢ ٱحْمَدُوا ٱلرَّبَّ بِٱلْعُودِ. بِرَبَابَةٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ رَنِّمُوا لَهُ. ٣ غَنُّوا لَهُ أُغْنِيَةً جَدِيدَةً. أَحْسِنُوا ٱلْعَزْفَ بِهُتَافٍ. ٤ لأَنَّ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ، وَكُلَّ صُنْعِهِ بِٱلأَمَانَةِ. ٥ يُحِبُّ ٱلْبِرَّ وَٱلْعَدْلَ. ٱمْتَلأَتِ ٱلأَرْضُ مِنْ رَحْمَةِ ٱلرَّبِّ. ٦ بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا».
(١) يبدأ المزمور بمخاطبة الصديقين والمستقيمين الذين يلتمسون الرب ويعيشون في رضاه. الذين يرون أن سلوكهم يجب أن يتمشى بحسب إرشاد روح الله. هم أولئك الذين كالمرآة النقية يعترفون بمراحم الله ويعكسون لذته بحمده تعالى وإذاعة إحسانه وشكره.
(٢) يطلب المرنم أن يكون الحمد بآلات الطرب المعروفة عندئذ. العود والربابة ذات عشرة الأوتار لأن هذه الآلات تزيد في رونق هذا الحمد وتجمّل الصوت البشري وتزيده وقعاً في النفس وتأثيراً في العواطف ومن يستطيع أن ينكر ما للموسيقى الآلية من عميق الأثر في النفوس. ومنذ أيام يوبال (راجع تكوين ٤: ٢١) الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمور تعرّف الإنسان على هذا الاختراع المدهش.
(٣) بل يستنجد بالصوت البشري الذي يحسن النشيد والغناء. ويطلب أن تكون أغنية جديدة لأنها ذات وقع عميق في النفس. والعزف هو استعمال الآلات الموسيقية والصنوج التي تساعد الشعب على أن يهتفوا عالياً مسبحين اسم الرب.
(٤) كلمته مستقيمة أي لا غش فيها ولا مورابة وعليه فهي تطال جميع المستقيمين أيضاً. وكذلك فإن ما يصنعه ويعمله مملوء بالأمانة لكل الذين يتقونه ويخافون اسمه.
(٥) ومع أن الرب بار ويحب العدل مع ذلك لا شيء يقارن هذا البر سوى رحمته العظيمة التي تملأ الأرض كلها بالخير والغنى والبركات. قد لا نفهم نحن الآن أعمال الرب بل ونفسرها تفسيرات لا تنطبق على الحقيقة وعلينا أن نعود للصواب دائماً.
(٦) يعود هنا لبدء العالمين فهو الإله الخالق الذي قال للكائنات كوني فكانت. بل نفخ فيها شيء ذا نفس حية. و «جنودها» تعود للسموات وهي بالأرجح النجوم التي تملأ السموات وترصعها. وقد تكون الملائكة التي تسمّى الأجناد السماوية أيضاً. أو يقصد بذلك كل ذي حياة فهو كذلك بروح الله فقط.
«٧ يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ ٱلْيَمِّ. يَجْعَلُ ٱللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ. ٨ لِتَخْشَ ٱلرَّبَّ كُلُّ ٱلأَرْضِ، وَمِنْهُ لِيَخَفْ كُلُّ سُكَّانِ ٱلْمَسْكُونَةِ. ٩ لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ. ١٠ ٱلرَّبُّ أَبْطَلَ مُؤَامَرَةَ ٱلأُمَمِ. لاَشَى أَفْكَارَ ٱلشُّعُوبِ. ١١ أَمَّا مُؤَامَرَةُ ٱلرَّبِّ فَإِلَى ٱلأَبَدِ تَثْبُتُ. أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٢ طُوبَى لِلأُمَّةِ ٱلَّتِي ٱلرَّبُّ إِلٰهُهَا، ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي ٱخْتَارَهُ مِيرَاثاً لِنَفْسِهِ».
(٧) وهنا يلتفت للأرض فيرى البحر في كومة مجموعة منفصلة عن اليابسة كما رأى السماء مرفوعة كقبة عظيمة. ولجج المياه أي الأمواج الكبيرة يجعلها مخزونة محفوظة.
(٨) ولأنه الخالق العظيم الذي خلق السموات والأرض والبحر وكل ما فيها لذلك فمن الطبيعي أن سكان الأرض يجب أن يخشوا اسمه ويخافوه. فإنه على نسبة قدرته العظيمة يجب أن يخضع له الجميع ويتمشوا حسب أوامره لأنهم إذا خالفوا ذلك يخسرون أعظم خسارة.
(٩) يعود فيؤكد فكرة الخليقة بأنها بأمر الله تعالى وبكلمة قدرته. الله القادر على كل شيء يأمر وعلى الكل أن يطيعوا (مراثي ٣: ٣٧) فأمره يتمم حالاً كما يفعل العبد الصالح مع سيده فهو يسرع لتنفيذ الأمر الصادر إليه بدون أقل تذمر أو تردد (مزمور ١١٩: ٩١) الرب حميد جداً لأنه حاكم العالمين (انظر ٢صموئيل ١٥: ٣٤ و١٧: ١٤) والتعبير قال كن فكان أصبح شائعاً معروفاً.
(١٠) إن حكم الرب فهو فوق أفكار الشعوب جميعهم. بل بيده أن يبددها كما يشاء ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل. إن الأمم إذا رتبت أمورها بدون الله فهي لا شك خاسرة فلينتبه رجال السياسة والإدارة ماذا يفعلون.
(١١) (قابل هذا العدد بما ورد في أمثال ١٩: ٢١). قوله مؤامرة الرب أي مشيئته تعالى وما يرتبه. إن تاريخ البشرية في جميع أدوارها هو تاريخ أعمال الرب فيها لأنه هو المدبر لكل شيء وبدونه لا يمكن أن يكون شيء ما. ومظهر أعماله وتفسيرها الكامل هو في شعبه المختار الذي منه جاء الأنبياء والمرسلون ثم المسيح نفسه.
(١٢) يطوّب الأمة التي تختار الرب نصيبها وتخضع له وتمشي بأمره وتنتهي بنهيه. ويطوب الشعب المختار الذي جعله الله واسطة لنقل مشيئته لجميع البشرية في مختلف عصورها وعلى مدى دوران التاريخ (انظر تثنية ٣٣: ٢٩). والحق يقال إنها فكرة سامية عظيمة أن يرى الشعب علاقته الوثيقة بإلهه (انظر ١بطرس ٢: ٩) فإن هذه الفكرة العظيمة قد انتقلت بشكل روحي إلى العهد الجديد كما رأينا مثلاً على ذلك.
«١٣ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ نَظَرَ ٱلرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ١٤ مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ. ١٥ ٱلْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعاً، ٱلْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ. ١٦ لَنْ يَخْلُصَ ٱلْمَلِكُ بِكَثْرَةِ ٱلْجَيْشِ. ٱلْجَبَّارُ لاَ يُنْقَذُ بِعِظَمِ ٱلْقُوَّةِ. ١٧ بَاطِلٌ هُوَ ٱلْفَرَسُ لأَجْلِ ٱلْخَلاَصِ، وَبِشِدَّةِ قُوَّتِهِ لاَ يُنَجِّي».
(١٣) نعم إن الرب مسكنه في السماء ولكنه يشرف على الناس جميعاً فهم تحت نظره وفي متناول يده كل لحظة. وهذا ينطبق على جميع الشعوب والقبائل والألسنة على السواء. فكما أن الرب عليم بكل شيء وقدير على كل شيء كذلك هو يطلع على كل شيء ولا تخفى عليه خافية.
(١٤) في هذا العدد أيضاً توكيد لسابقه ويورد لمعنى ذاته ولكنه بشكل آخر فقط. إن النظر العالي هو كاشف أيضاً إذ يتسع الأفق ويمتد النظر إلى كل مكان فكم بالأحرى لله العلي الذي يسكن في أعلى السموات والكلام مجازي بالطبع يقصد به أنه مرتفع عن إفهامنا وعن مدة إدراكنا فنحن لا نستطيع أن ندرك سوى الجزء الأصغر فقط.
(١٥) إن الله يصوّر القلوب ويتحكم بالنوايا والعواطف الداخلية (انظر زكريا ١٢: ١ وأمثال ٢٤: ١٢). ولأنه قد صنع الإنسان فبالطبع يفهم هذا الإنسان الذي صنعه جيداً. ويدرك نتائج أعمال البشر قبلما ينتهون منها لأنه يرى ما لا يرى ويدرك ما لا تدركه البصائر.
(١٦) لذلك فإن هذا الإنسان المتكل على نفسه من دون الله فهو خاسر وفي ضلال مبين. إن كثرة الجيوش قد تتغلب على العدو إلى وقت قصير محدود ثم إذا بهذا العدو يقارعه السلاح بالسلاح وقد يتغلب عليه. وقد جرى مثل ذلك في الحرب العالمية الأخيرة (١٩٣٩ – ١٩٤٥) إذ امتلك هتلر أعظم قوة عسكرية عرفها التاريخ ولكنه أخيراً خسر الحرب. والجبار أيضاً لا يجوز أن يغتر بقوته وجبروته لأن ذلك باطل أيضاً ويجب أن يعتبر أن فوق كل عالٍ عالياً هو الرب العظيم خالق السموات والأرض.
(١٧) قوله «الفرس» أي الفرسان وكانوا وما زالوا قوة جبارة في جميع الحروب. لا سيما إذا وضعت الخيل على مركبات فحينئذ لا تستطيع الجيوش الرجالة أن تقاومها طويلاً وتشبه المركبات «الدبابات» الحربية الحديثة في مدى هولها وتأثيرها الفظيع على سير الحروب الحديثة. وعليه فإن كل مظاهر القوة البشرية لا تفيد شيئاً ولا تجدي نفعاً إذا لم تسيطر عليها قوة الله وتسيرها نحو الأفضل. وفي الوقت ذاته فإن قوته العظيمة تعمل في الضعيف وتقويه حتى يغلب أعظم الأقوياء إذاً فالقوة الحقيقية ليست بشرية بل بالأحرى إلهية.
«١٨ هُوَذَا عَيْنُ ٱلرَّبِّ عَلَى خَائِفِيهِ ٱلرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ، ١٩ لِيُنَجِّيَ مِنَ ٱلْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ، وَلِيَسْتَحْيِيَهُمْ فِي ٱلْجُوعِ. ٢٠ أَنْفُسُنَا ٱنْتَظَرَتِ ٱلرَّبَّ. مَعُونَتُنَا وَتُرْسُنَا هُوَ. ٢١ لأَنَّهُ بِهِ تَفْرَحُ قُلُوبُنَا، لأَنَّنَا عَلَى ٱسْمِهِ ٱلْقُدُّوسِ ٱتَّكَلْنَا. ٢٢ لِتَكُنْ يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ عَلَيْنَا حَسْبَمَا ٱنْتَظَرْنَاكَ».
(١٨) إن الرب يقف هنا موقف المراقب المهتم بمصير أولاده الذين يخافون اسمه ويرجون رحمته. إن الظفر ليس للفرس ولا للفارس بل للرب الذي ينظر للإثنين ويتصرف كما يشاء. ولا من يرد حكمه. وقوله عينه يفيد أن حكمه النهائي على العالم هو مصلحة خائفيه فقط في النهاية يرعاهم بعنايته ويكلأهم بمحبته العظيمة الدائمة. لذلك فإن هؤلاء المؤمنين عليهم أن يلجأوا إليه في وسط المخاطر ولا يخافوا.
(١٩) وحينئذ ستأتيهم النجاة كاملة والخلاص تاماً. وهذا يتم فقط برحمة الله وليس بالنسبة لاستحقاق الإنسان لأنه لا يستحق شيئاً. حتى الموت لهم نجاة منه. ولو عمت المجاعة كل مكان وعضت بنابها كل شخص فلهم حياة ولا يصيبهم أي أذى (راجع مزمور ٢٠: ٨) وتكاد هذه الجملة أن تكون منفردة بذاتها.
(٢٠) لا شك قد كانت صورة الخطر رهيبة والضيقة عظيمة ولكن في حالة كهذه علينا أن ننتظر الرب ولا نتسرع في أحكامنا لئلا تتعقد كل أمورنا. إن العون سيأتي في حينه على شرط أن نتأكد من هذا الترس الذي يرد عنا كل ضيم وننجو به من كل خطر (انظر تثنية ٣٣: ٢٩) والتشديد في هذه العبارة على «هو» أي الله الذي هو عوننا الدائم وملاذنا الأمين وواقينا من كل الضيقات.
(٢١) وفرح قلوبنا هو لأن اسم الرب أساس إيماننا ومحبتنا ورجائنا وبالتالي بواسطته يأتينا الخلاص. إن انتظار الإنسان لله يجب أن يتعادل مع استعداد الله للمساعدة وعلينا أن لا نستعمل اتكالنا على أنفسنا لئلا نخسر اتكالنا على الله. والذين يعدمون الصبر ويضجرون سريعاً لا يمكنهم ان ينالوا بركات الله ولا أن يتمتعوا بمراحمه كما ينبغي. وليكن فرحنا فقط على نسبة عميق إيماننا به واتكالنا عليه.
(٢٢) ويختم كلامه مؤكداً أن إحسان الرب نحونا هو من رحمته فقط. ولأن المرنم يؤمن بالله ويتكل عليه وينتظر رحمته لذلك فهو يود أن يرى الشيء يقابل بمثله. كأن يضع ذلك في كفتي ميزان. الرحمة من جانب والانتظار من جانب آخر فكلما ثقلت كفة الانتظار وحسن الاتكال عليه تعالى كلما عظمت رحمته أيضاً وازدادت وكان البرهان عليها أكيداً يوماً بعد يوم.
السابق |
التالي |