الرسالة إلى تيطس | 03 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى تيطس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ
أمر الرسول تيطس في هذا الأصحاح بأن يوصي سامعيه بالخضوع للرؤساء السياسيين الشرعيين وأن يظهروا اللطف والحلم لكل الناس (ع ١ و٢). وذكر علة وجوب ذلك (ع ٣ – ٨). وأن يتجنب المباحثات والخصومات في شأن الناموس الموسوي (ع ٩) وما يجب عليه في معاملة المبتدع (ع ١٠ و١١). وأن يأتي إليه في نيكابوليس ومعه زيناس وأبلوس (ع ١٢ – ١٤). وختم الرسالة بالوداع والبركة (ع ١٥).
وجوب أن يخضع المؤمنون للحكام الشرعيين ع ١ و٢
١ «ذَكِّرْهُمْ أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينِ وَيُطِيعُوا، وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ».
رومية ١٣: ١ و١بطرس ٢: ١٣ وكولوسي ١: ١٠ و٢تيموثاوس ٢: ٢١ وعبرانيين ١٣: ٢١
ذَكِّرْهُمْ أي ذكر مؤمني كريت كأنه أمرهم بذلك قبلاً وخاف أن ينسوا. تكلم الرسول قبلاً في ما يجب على بعض المؤمنين لبعض وما يجب عليهم للكنيسة التي هم أعضاؤها وما يجب عليهم لله. وتكلم هنا بالإيجاز في ما يجب عليهم للخارجين عن الكنيسة.
أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينِ أي الحكام الرومانيين والوطنيين في كريت. كانت تلك الجزيرة مستقلة وكان حكمها جمهورياً قبل أن استولى عليها الرومانيون بنحو مئتي سنة. ومؤرخو ذلك العصر الذين ذكروا أهل كريت وصفوهم بالقلق والاضطراب من نير الرومانيين. ومن المعلوم أن اليهود كانوا دائماً يستثقلون هذه النصيحة. وسبق الكلام على وجوب الطاعة للحكام في تفسير (رومية ١٣: ١).
وَيُطِيعُوا في كل شيء لا يضاد وصايا الله (أعمال ٤: ١٩ و٢٠ و٥: ٢٩) وعلى هذه السنن جرى المسيح بتعليمه وجرى بولس وسائر الرسل على أثره مع أن الحكام الرومانيين أذاقوهم عذاب العار والسجن والجلد والموت.
وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ القرينة تدل على أن الرسول أراد «بالعمل الصالح» ما أمر به الحكام لنفع المملكة بأسرها أو المدينة التي كانوا فيها. كذلك أمر الله اليهود الذي سُبوا إلى بابل بقول إرميا «ٱطْلُبُوا سَلاَمَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلَّتِي سَبَيْتُكُمْ إِلَيْهَا وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى ٱلرَّبِّ، لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ» (إرميا ٢٩: ٧).
٢ «وَلاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ، وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ، حُلَمَاءَ، مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ».
أفسس ٤: ٣١ و٢تيموثاوس ٢: ٢٤ و٢٥ وفيلبي ٤: ٥ وأفسس ٤: ٢ وكولوسي ٣: ١٢
لاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ المرجّح أن الذين نهاهم عن الطعن فيهم هم الحكام الظالمون فيجب أن لا يطعنوا فيهم اقتداء بالملائكة لأنهم «لاَ يَفْتَرُون عَلَى ذَوِي ٱلأَمْجَادِ» (٢بطرس ٢: ١٠ ويهوذا ٩). وهذا موافق لقول المسيح «أحبوا أعداءكم» (متّى ٥: ٤٤).
وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ لئلا يعرّضوا أنفسهم للتأديب أو التهمة بالخيانة.
حُلَمَاءَ (انظر تفسير ١تيموثاوس ٣: ٣). و «الحلم» هو صبر المؤمن حين يتعدى أحد عليه في حقوقه.
الأسباب الموجبة لما ذكر ع ٣ إلى ٨
٣ «لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضاً قَبْلاً أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي ٱلْخُبْثِ وَٱلْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً».
١كورنثوس ٦: ١١ وأفسس ٢: ١ وكولوسي ١: ٢١ و٣: ٧ و١بطرس ٤: ٣
نَحْنُ أَيْضاً الذين نؤمن الآن.
قَبْلاً أَغْبِيَاءَ قصده بهذا أن يبيّن أن ليس للمؤمنين عذر في رفض الطاعة للحكام لكونهم ليسوا بمؤمنين وفي عدم اللطف بالجيران والإحسان إليهم كأنهم خارجون عن دائرة النعمة الإلهية ومحبتنا واعتبارنا لأننا كنا غير مؤمنين مثلهم منذ زمن قريب وعرضة لأن نرتكب ما يرتكبونه من الآثام فعلينا أن نرحمهم كما رُحمنا. والمراد «بالأغبياء» مَن يجهلون الحق.
غَيْرَ طَائِعِينَ لله كما في (ص ١: ١٦).
ضَالِّينَ بتضليل القلوب الفاسدة والشيطان والمعلمين الكاذبين.
مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ هذا كان يصدق على أكثر الرومانيين واليونانيين في عصر بولس فإنهم كانوا متوغلين في أودية الشهوات بدليل قوله في (رومية ٦: ١٦ و١٧).
عَائِشِينَ فِي ٱلْخُبْثِ وَٱلْحَسَدِ هذا وصف الحال التي استمر عليها أولئك الناس عبيد الشهوات فإنهم أرادوا أن يمتازوا على غيرهم باللذات الجسدية وحسدوا من فاقوهم وأبغضوهم.
مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً غير مستحقين أن نحب وليس فينا المحبة الأخوية فنشأ عن ذلك خصومات وحروب وقتل. وصف الرسول هنا حال الناس بدون المسيح والإنجيل وأدخل نفسه بينهم باعتبار كونه أحد أفراد الجنس الساقط ولهذا أوجب أن يكون المؤمنون الذين نجوا من تلك الحال لطفاء مسامحين صابرين على من لم يزالوا في الجهل والخطيئة.
٤ «وَلٰكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا ٱللّٰهِ وَإِحْسَانُهُ».
١تيموثاوس ٢: ٣ وص ٢: ١١
أبان الرسول في هذه الآية والثلاث التي تليها التغيير العظيم الذي حصل عليه المؤمنون في الصفات والأعمال على أثر إيمانهم وأن ذلك التغيير حصل بنعمة الله ومحبته لهم فلم يحق لهم الاختيار لغيرهم. والمراد بقوله «مخلصنا الله» الآب ووصف بأنه «مخلص» في (١تيموثاوس ١: ١) بناء على كون محبته مصدر عمل الفداء كما قيل في (يوحنا ٣: ١٦). وظهر لطفه للناس بإرساله ابنه يسوع المسيح إلى الناس ليموت بغية خلاصهم فأراد بولس أن يتمثل مؤمنو كريت بالله في عظيم محبته لكل الناس فيحبوا جيرانهم الوثنيين ويطيعوا الحكام غير المؤمنين.
٥ «لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغَسْلِ ٱلْمِيلاَدِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
رومية ٣: ٢٠ و٩: ١١ و١١: ٦ وغلاطية ٢: ١٦ وأفسس ٢: ٤ و٨ و٩ و٢تيموثاوس ١: ٩ ويوحنا ٣: ٣ و٥ وأفسس ٥: ٢٦ و١بطرس ٣: ٢١
لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ فنحن لم نعملها ولو عملناها لم تكن علة لخلاصنا لأنه لا أحد من الناس عمل أعمالاً صالحة يجد الله أنه يستحق التبرير بواسطتها. ولو أمكن الناس أن يخلصوا بأعمالهم الصالحة لما كان من حاجة إلى أن يموت المسيح عنهم.
بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا على وفق قول بطرس الرسول «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ» (١بطرس ١: ٣). فمحبة الله حملته تعالى على أن يشفق علينا في شقائنا وكوننا عرضة للهلاك وأن يمنحنا مجاناً هبة الحياة الأبدية بابنه (رومية ٣: ٢٠ – ٢٤ وأفسس ٢: ٣ – ١٠). واعتبر الرسول عمل الفداء قد كمل بقوله «خلصنا» لأن ذلك قصد الله بدليل قوله «ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً» (رومية ٨: ٣٠). وعلى هذا قال «خلصنا» مع أن خلاصنا لا يتم قبل أن نبلغ السماء.
إن الذين خلّصهم الله ويخلّصهم ليسوا كل البشر بل كل المؤمنين الذي عدّ منهم نفسه وتيطس ومؤمني كريت.
بِغَسْلِ ٱلْمِيلاَدِ ٱلثَّانِي أشار بهذا إلى الوسائط التي يُجري الله بها خلاصه. فلذلك «الغسل» هو تجديد القلب بفعل الروح القدس الذي المعمودية بالماء إشارة إليه وهو «الولادة من فوق» التي أبانها المسيح لنيقوديموس بقول «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٣: ٣ و٧) فالمراد «بغسل الميلاد الثاني» هو النعمة الروحية الباطنة التي تشير إليها المعمودية بالماء لكن المعمودية عجزت عن إنشائها. وهذا موافق لقول بطرس «ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ» وقوله «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (١بطرس ١: ٣ و٢٣). والرسول لا يعتبر معمودية الجسد شيئاً إذا لم تقترن بتجديد النفس بالروح القدس.
وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي التجديد الذي ينشئه الروح القدس في نفس المؤمن. والظاهر أن الرسول أضاف هذه العبارة إلى ما قبلها تفسيراً له وبياناً لأن الله لم يخلصنا بمجرد غسل الماء في المعمودية. وهذا التجديد ينشئ في المؤمن جديد الآراء والانفعالات والأشواق والآمال والمقاصد حتى يصح أن تُنسب إليه حياة جديدة (انظر رومية ٦: ٤ و٢كورنثوس ٥: ١٢ وأفسس ٤: ٢٣ و٢٤) وتفسير ذلك كله.
ولعله يحق لنا أن نتخذ الجملة التي هي «غسل الميلاد الثاني» إشارة إلى ما ينشأ دفعة في المؤمن حين ينتقل من الموت إلى الحياة. والجملة الثانية إشارة إلى التقديس التدريجي التابع للولادة الثانية الذي به يتجدد المؤمن يوماً فيوماً حتى يصير على صورة المسيح بدليل قوله «إِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى، فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً» (٢كورنثوس ٤: ١٦).
٦ «ٱلَّذِي سَكَبَهُ بِغِنىً عَلَيْنَا بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا».
حزقيال ٣٦: ٢٥ ويوئيل ٢: ٢٨ ويوحنا ١: ١٦ وأعمال ٢: ٣٣ و١٠: ٤٥ ورومية ٥: ٥
ٱلَّذِي سَكَبَهُ بِغِنىً عَلَيْنَا حسب وعده بأفواه أنبياء العهد القديم بأن ذلك السكب يكون بفعل الروح القدس (يوئيل ٢: ٢٨ – ٣٨ وإشعياء ٤٤: ٣ وزكريا ١٢: ١٥) وانجزه في أزمنة العهد الجديد (يوحنا ٧: ٣٧ – ٣٩ واعمال ٢: ٣٣).
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا (انظر تفسير يوحنا ١: ٣٣ وأعمال ٢: ١٨ و٣٣ و٢كورنثوس ١: ٢٢) فإن المسيح حين تمجد أرسل الروح القدس ليجدد قلوب الناس الذين بدون تجديد يستحيل أن يخلصوا. فحلول الروح القدس متوقف على موت المسيح كفارة وعلى شفاعته. وهذا الروح لا يقتصر على تجديد المؤمنين بل يبنيهم في القداسة ويعدهم لأمجاد السماء.
نُسب الخلاص في الآية السابقة إلى الآب ونُسب في هذه الآية إلى المسيح فكلاهما عملا في إنقاذ الخاطئ بالنظر إلى كون الآب مصدر عمل الفداء وإلى كون الابن حصّله بموته. وما قيل هنا برهان على صحة التثليث فقد رأينا فيه أن الآب مصدر الخلاص وأنه يُجريه بفعل الروح القدس بناء على فعله واحتمله الابن باعتبار كونه وسيطاً وشفيعاً.
٧ «حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ».
رومية ٣: ٢٤ وغلاطية ٢: ١٦ وص ٢: ١١ ورومية ٨: ٢٣ و٢٤ ص ١: ٢
في هذه الآية بيان غاية الخلاص العظيمة التي لأجلها رحم الله الخطاة (ع ٥) وجدّدهم بروحه (ع ٦) إن الرسول يذكر أحياناً تقديس المؤمنين وقيامهم بواجباتهم غاية الخلاص (ص ٢: ١٤). وذكر هنا أن غايته تبريرهم أمام منبر الله وسعادتهم الأبدية.
إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ أي حُسبنا أبراراً لنفسه بر المسيح إلينا وبذلك تصالحنا مع الله ونجونا من العقاب الذي نستحقه لخطايانا (رومية ١: ١٧ و٣: ٢٤ و٤: ٥). والمقصود «بنعمته» نعمة الله الآب التي قيل في (ع ٤) أنها علة عمل الفداء.
وَرَثَةً كما قيل في (رومية ٨: ١٧ انظر التفسير).
حَسَبَ رَجَاءِ ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ «فالرجاء» هنا بمعنى المرجو «والحياة الأبدية» هي الميراث. والمؤمنون صاروا أولاد الله بالتبني ولذلك صاروا ورثته فتبرروا وصالحوا الله وهم على الأرض ولم يحصلوا على ذلك الميراث هنا بل توقعوه بالإيمان والرجاء الحي بيقين (رومية ٨: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧).
٨ «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ، لِكَيْ يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللّٰهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً. فَإِنَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ هِيَ ٱلْحَسَنَةُ وَٱلنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ».
١تيموثاوس ١: ١٥ وص ١: ٩ وص ٢: ١٤ وع ١ و١٤
صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ (انظر تفسير ١تيموثاوس ١: ١٥). «والكلمة» هنا تشتمل على كل ما قاله من (ع ٤ – ع ٧).
أُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ اعتبر الرسول كلامه هنا مهماً جداً في شأن طريق الخلاص نظراً إلى الرحمة الفائقة التي أظهرها الله في تلك الطريق. وأراد أن يكررها تيطس على مسامع مؤمني كريت وأن يؤكد لهم صحتها وأن يجعلها موضوع تأملاتهم ومحادثاتهم في اجتماعاتهم العامة واعترافاتهم وترنماتهم.
لِكَيْ يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللّٰهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً أراد بولس أن ينادي تيطس بالنعمة المجانية المذكورة آنفاً وأن يعتقدها المؤمنون ويذكروها ويكرروها لعلمه أن تأثيرها يقود الناس إلى القداسة شكراً لله على رحمته العظيمة. و «الأعمال الحسنة» المذكورة هنا تشتمل فضلاً عن الإحسان إلى المحتاجين على كل ما يوجبه الإنجيل على محبي الله وإخوتهم البشر وطالبين نفعهم. فمعناها هنا كمعناها في (ص ٢: ٧ و١تيموثاوس ٢: ٣).
فَإِنَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ هِيَ ٱلْحَسَنَةُ وَٱلنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ أي «التعاليم» التي ذكرها آنفاً هي «الحسنة الخ» بخلاف التي حذّرهم منها في الآية الآتية فصرّح بأن تلك التعاليم هي التي تحقق للناس مصالحهم وخيرهم وسعادتهم في هذا العالم والعالم الآتي.
وجوب اعتزال المباحثات والمنازعات في شأن الناموس ع ٩
٩ «وَأَمَّا ٱلْمُبَاحَثَاتُ ٱلْغَبِيَّةُ وَٱلأَنْسَابُ وَٱلْخُصُومَاتُ وَٱلْمُنَازَعَاتُ ٱلنَّامُوسِيَّةُ فَٱجْتَنِبْهَا، لأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَبَاطِلَةٌ».
١تيموثاوس ١: ٤ و٢تيموثاوس ٢: ٢٣ وص ١: ١٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٤
وَأَمَّا ٱلْمُبَاحَثَاتُ ٱلْغَبِيَّةُ وَٱلأَنْسَابُ (انظر تفسير ص ١: ١٤ و١تيموثاوس ١: ٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٤).
وَٱلْمُنَازَعَاتُ ٱلنَّامُوسِيَّةُ (انظر تفسير ١تيموثاوس ١: ٧) المرجّح أن المتنازعين بعض متنصري اليهود ذوي الغيرة على حفظ شريعة موسى وأن موضوع بحثهم نسبة الناموس إلى الإنجيل.
فَٱجْتَنِبْهَا، لأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَبَاطِلَةٌ بخلاف تعاليم الرسول التي أشار إليها في (ع ٨). إن الأمور الدينية التي يختلف المسيحيون فيها تكون في الغالب ليست من جوهريات الدين التي يتوقف عليها خلاص النفس بل من العرضيات المتعلقة بالرسوم. وهي تحول الأنظار عن النافعات وتنشئ منازعات وبغضاً وانقساماً.
معاملة المبتدع ع ١٠ و١١
١٠ «اَلرَّجُلُ ٱلْمُبْتَدِعُ بَعْدَ ٱلإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَعْرِضْ عَنْهُ».
٢كورنثوس ١٣: ٢ متّى ١٨: ١٧ ورومية ١٦: ١٧ و٢تسالونيكي ٣: ٦ و١٤ و٢تيموثاوس ٣: ٥ و٢يوحنا ١٠
أوصى الرسول تيطس في (ع ٩) بالتصرف الواجب من جهة التعاليم الباطلة وأخذ هنا يبين ما يجب عليه من جهة المضِلين والمضَلين.
اَلرَّجُلُ ٱلْمُبْتَدِعُ هو الذي ينادي بتعليم منافٍ لتعليم الإنجيل وما يفسد وحدة الكنيسة. وسمي التعليم الفاسد بدعاً في (١كورنثوس ١١: ١٩ وغلاطية ٥: ٢٠). ووصف بطرس المبتدعين بأنهم «مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ، ٱلَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ… يُنْكِرُونَ ٱلرَّبَّ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُمْ» (٢بطرس ٢: ١). وغلب أن يقترن بتعليمهم الفاسد سوء الأدب وبذلك تشهد أعمالهم بفساد تعليمهم.
بَعْدَ ٱلإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أي بعد الاستمرار على بذلك الجهد في تبيينه له ضلاله وما ينتج من الضرر منه لنفسه وللكنيسة وهو مصر على غيّه.
أَعْرِضْ عَنْهُ أي دع إنذاره لكونه عبثاً ودعه لنفسه ولا تخالطه باعتبار أنه صديق أو أخ في المسيح (١تيموثاوس ٤: ٧).
١١ «عَالِماً أَنَّ مِثْلَ هٰذَا قَدِ ٱنْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُوماً عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ».
متّى ٢٥: ٢٦ إلى ٢٨ ولوقا ٧: ٣٠ وأعمال ١٣: ٤٦ ورومية ٣: ١٩
في هذه الآية بيان علة الإعراض عن المبتدع.
عَالِماً من عدم التفاته إلى نصائحك وإنذارك.
ٱنْحَرَفَ أي عدل كل العدول عن الحق.
مَحْكُوماً عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ لاستمراره في طريق الضلال والإثم بعد اتخاذ الوسائل الكافية لإرشاده وبيان خطيئته وخطره. فالذي يخطئ وهو يعلم أنه يخطئ يحارب ضميره، وضميره يحكم عليه بدليل قول الكتاب «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ» (يوحنا ٣: ١٩).
وصايا خاصة وختم الرسالة ع ١٢ إلى ١٥
١٢ حِينَمَا أُرْسِلُ إِلَيْكَ أَرْتِيمَاسَ أَوْ تِيخِيكُسَ بَادِرْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلَى نِيكُوبُولِيسَ، لأَنِّي عَزَمْتُ أَنْ أُشَتِّيَ هُنَاكَ».
أعمال ٢٠: ٤ و٢تيموثاوس ٤: ١٢
حِينَمَا أُرْسِلُ إِلَيْكَ أَرْتِيمَاسَ أَوْ تِيخِيكُسَ أبان الرسول بهذا أن بقاء تيطس في كريت كان وقتياً وأنه عليه أن يتوقع من يقوم مقامه بعد قليل حتى يترك تلك الجزيرة ويذهب منها إليه. ولم يذكر أرتيماس غير هنا وأما تيخيكس فكان من أسيا الصغرى (أعمال ٢٠: ٤) وكان مع بولس في رومية زمن سجنه الأول وحمل من هنالك رسالته إلى كولوسي (كولوسي ٤: ٧ و٨) ورسالته إلى أفسس (أفسس ٦: ٢١ و٢٢) وأرسله بولس مدة سجنه الثاني في رومية إلى أفسس (٢تيموثاوس ٤: ١٢).
بَادِرْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلَى نِيكُوبُولِيسَ هذا المحل المعين لاجتماعهما وكان هذا اسم عدة مدن في عصر بولس والمرجّح أن المقصود به هنا مدينة في أبيروس وهي قسم في شمالي بلاد اليونان في تخوم مكدونيا على خليج أكتيوم بنى الأمبراطور أوغسطس قيصر مدينة هنالك سماها نيكوبوليس أي مدينة النصر تذكاراً لانتصاره على أنطونيوس وهذه المدينة قريبة من الليريكون حيث بلغ بولس في جولانه للتبشير بالإنجيل (رومية ١٥: ١٩) ومن دلماطية (٢تيموثاوس ٤: ١٠) وهي اليوم خربة.
لأَنِّي عَزَمْتُ أَنْ أُشَتِّيَ هُنَاكَ نستنتج من هذا أن بولس لم يكتب هذه الرسالة من نيكوبوليس وإلا قال «عزمت أن أشتي» هنا وأن الشتاء كان قريباً لأنه طلب منه أن «يبادر إليه» والمرجّح أنه قُبض عليه هناك وسيق إلى رومية أسيراً بدعوى أنه ممن لهم يد في إحراق رومية وأنه هرب منها خوفاً من القصاص فإن نيرون ادعى أن المسيحيين هم الذين أحرقوا رومية فنشأ عن ذلك أن اضطُهدوا شديداً.
١٣ «جَهِّزْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِٱجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ حَتَّى لاَ يُعْوِزَهُمَا شَيْءٌ».
أعمال ١٨: ٢٤
جَهِّزْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ لم يُذكر في غير هذا الوضع ولعله صديق بولس. وسماه «الناموسي» لمعرفته الشريعة الرومانية أو لأنه كان في أول أمره من كتبة الناموس. وسموا «ناموسيين» في (متّى ٢٢: ٣٥) لأنهم كانوا يكتبون الناموس ويفسرّونه ويعلّمونه.
أَبُلُّوسَ (انظر تفسير أعمال ١٨: ٢٤ و٢٥ وانظر أيضاً ١كورنثوس ١٢: ١ و١٦: ١٢). أرسله بولس إلى أفسس مدة سجنه الثاني في رومية (٢تيموثاوس ٤: ١٢). والمرجّح أنه كان حين كتب بولس هذه الرسالة يجول للتبشير بالإنجيل وأن بولس توقع وصوله إلى كريت بعد قليل وطلب مجيئه ومجيء زيناس لتوقعه أن يساعداه على التبشير هناك فوكل إلى تيطس أن يعد لهم كل مقتضيات السفر بقوله «جهز» رأى بعض المفسرين أن أسماء أصدقاء بولس من إخوته المسيحيين المذكورين هنا أسماء آلهة وثنية فإن اسم زيناس مشتق من زفس الذي هو جوبتر وأرتيماس من أرطاميس إلاهة الأفسسيين وأبلوس من أبلون إله الموسيقى عند اليونانيين.
١٤ « وَلْيَتَعَلَّمْ مَنْ لَنَا أَيْضاً أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً لِلْحَاجَاتِ ٱلضَّرُورِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَكُونُوا بِلاَ ثَمَرٍ».
أفسس ٤: ٢٨ وع ٨ ورومية ١٥: ٢٨ وفيلبي ١: ١١ و٤: ١٧ وكولوسي ١: ١٠ و٢بطرس ١: ٨
لْيَتَعَلَّمْ مَنْ لَنَا قصد بهذا الذين شاركوا بولس وتيطس في المحبة والخدمة للمسيح.
أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً كالإحسان إلى الإخوة كتقديم أهبة السفر للإخوة المسافرين وبذلك النفقة على المحتاجين. فيجب على المسيحيين أن يحسبوا أنفسهم تلاميذ مدرسة المسيح على الأرض وأنهم بممارسة الفضيلة المطلوبة هنا يتعلمون الإحسان ويكون تعلمهم استعداداً للخدمة السماوية.
حَتَّى لاَ يَكُونُوا بِلاَ ثَمَرٍ أي حتى يثمروا فيدل إثمارهم على صحة إيمانهم بالمسيح على وفق قوله «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ» (غلاطية ٥: ٦) وقول يعقوب «هٰكَذَا ٱلإِيمَانُ أَيْضاً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ» (يعقوب ٢: ١٧). ومما يستحق الاعتبار هو أن بولس في رسائله التي كتبها أوجب على المؤمنين ممارسة الأعمال الصالحة باجتهاد. وفي هذه الرسائل ليس سوى ثلاثة عشر أصحاحاً وفيها ثمانية أوامر بالأعمال الصالحة (ص ١: ١٦ و٢: ٧ و١٤ و٣: ١٤ و١تيموثاوس ٢: ١٠ و٥: ١٠ و٦: ١٨ و٢تيموثاوس ٢: ٢١).
١٥ «يُسَلِّمُ عَلَيْكَ ٱلَّذِينَ مَعِي جَمِيعاً. سَلِّمْ عَلَى ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَنَا فِي ٱلإِيمَانِ. اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ».
يُسَلِّمُ عَلَيْكَ ٱلَّذِينَ مَعِي لم يذكر من هؤلاء الرفقاء يومئذ لمعرفة تيطس إياهم.
سَلِّمْ عَلَى ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَنَا فِي ٱلإِيمَانِ أي كل أعضاء كنيسة كريت الذين أحبوا بولس باعتبار كونه أخاً في المسيح ومبشراً غيوراً في الإيمان المشترك.
اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِكُمْ (انظر تفسير رومية ١: ٧ و١٦: ٢٠). انتظر بولس أن تيطس يبلغهم هذا الدعاء.
الأصحاح الثاني |