
أولًا: في البدء
“فيِ اَلْبَدْءِ كَاْنَ اَلْكَلِمَةُ. وَاَلْكَلِمَةُ كَاْنَ عِنْدَ اَلله. وَكَاْنَ اَلْكَلِمَةُ اَلله. هَذَا كَاْنَ فيِ اَلْبَدْءِ عِنْدَ اَلله. كُلُّ شَيءٌ بِهِ كَاْنَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ مِمَّا كَاْنَ.. وَالْكَلِمَةُ صَاْرَ جَسَدًا وَحَلَّ بِيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدهُ.. ” (يوحنا 1: 1-14)
لكل شخص عاش على الأرض يوم يُولد فيه ويوم ينتقل فيه إلى الرفيق الأعلى. وبالرغم من أن لدينا تاريخًا لمولد المسيح، لكن ذلك اليوم ليس هو بدايته. فقد كان موجودًا قبل كل وجود، كان في البدء قبل أن تتشكل الأرض، هو البداية، وهو الذي أبدع فخلق العالمين، يكتب الرسول بولس عنه فيقول “الكُلُّ بِهِ وَلَهُ خُلِقَ، الذَّي هُوَ قَبْلَ كُلِ شَئْ وَفِيِه يَقُومُ الْكُلُّ” (كولوسي 1: 16،17)، لكن هذا الذي كان في البدء صار بشرًا، وأخذ جسدًا، وحل على أرضنا في يومٍ كان قد سبق فحدده هو لتجسده، مع أن هذا اليوم ليس هو البداية الحقيقية له. وهذا ما نقره في قانون الإيمان، أن يسوع المسيح مولود غير المخلوق. إن يوم ميلاد المسيح لم يكن سوى إعلان أن الله قد صار بشرًا مثلنا، لذلك يهتف الرسول بولس قائلًا “.. عَظِيمُ هُوَ سِرُ الَّتَقْوَى اللهُ ظَهَرَ فيِ الجسَدِ” (تيموثاوس الأولى 3: 16).
- المسيح كان في الأزل: الأزل ليس بداية الخليقة، بل هو أبعد من ذلك، الله كان في الأزل، والأزل امتداد لا حد له في الماضي. وحين جاء الوقت الذي حدده الله لخلق العالم، خلق الأرض وما عليها، وهي كـوكب يسبح في الكون الذي لا حـدود له، والزمن جزء متناهي الصِغر من هذا الأزل. وكان المسيح موجودًا منذ الأزل، لذلك حين سأله الناس قائلين: “مَنْ أَنْتَ؟ ” أجابهم: ” أَنَا مِنَ الْبَدءِ ” (يوحنا 8: 25)، أي من الأزل. وحين جاء ملء الزمان، صار المسيح الأزلي جسدًا وحل بالأرض. لأن الله منذ خليقة العالم وسقوط آدم، وهو يعد العدة لخلاص الإنسان، بأن يأتي المسيح ابن الله في صورة إنسان ليرد للإنسان الساقط الخاطئ مكانته الأولى، يتجسد المسيح ليهزم إبليس وليسحق رأس الحية. وانتظر العالم كله تلك اللحظة، حتى جاءت بميلاد المسيح منذ حوالي ألفى سنة.
- وُلِدَ المسيح في ملء الزمان، أي في الوقت الذي تهيأ فيه الزمن ونضج لتحقيق خطة الله، ولتجسده، كان الرومان وقتذاك هم سادة العالم والقوة السياسية التي وحدت الدول تحت رايتها تقريبًا، أما الثقافة اليونانية فكانت هي الثقافة التي يُفكر بها العالم والقوة الفكرية التي غزت العقل البشرى، بينما كانت اليهودية هي الديانة التي قدمت للعالم الله الواحد الذي لا شريك له، وهكذا نضج الزمن وتهيأ لتحقيق خطة الله.
- وجاء المسيح من نسل إبراهيم، لأن الله حين أراد أن يختار لنفسه شعبًا، اختار إبراهيم خليل الله ليبدأ به ومعه علاقة جديدة تتكشف من خلالها محبة الله للإنسان، وليكون إبراهيم أبًا للمؤمنين، ونسلًا ينتسب إليه المسيح حين يحل بإرضنا، وأتى المسيح إلى الأرض مولودًا من نسل إبراهيم وداود، مولودًا في أرض فلسطين.
ثانيًا: الإعداد لمجيئه
1- نبوات قديمة:
عاش اليهود عصورًا وأجيالًا متتابعة، ينتظرون بلهفة المسـيا الذي وعدهم به الله ليخلصهم من كل ما كانوا يعانونه من قهر وذل وفقر وفشل وهزيمة وعار. وكانوا يتصورون المسيا سيأتي بطلًا محاربًا مغوارًا ملكًا عظيمًا وكانت النبوات:
أ. نبوات إشعياء النبي: وكانت قبل ميلاد المسيح بنحو 700 سنة.
“وَلَكِنْ يُعطِيكُمُ اَلَّسِّيِدُ نَفْسَهُ آَيَةً… هَا العَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ اْبنًا وَتَدعُو اِسْمُهُ عِمَانُوئِيَلَ” (إشعياء 7: 14)، وتحققت النبوة في العهد الجديد في (لوقا 1: 26-37، قارن متى 1: 25).
ب. نبوات ميخا النبي: وكانت أيضًا قبل ميلاد المسيح بـ 700 سنة.
” أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاَتةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونيِ بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ ليِ الَّذي يَكُوُن مُتَسَلِطًَّا عَلَى إِسرائيِلَ وَمَخَارِجهُ مُنْذُ اَلقَديِمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزلِ ” (ميخا 5: 2).
2- ولادة يوحنا المعمدان:
قبيل ولادة يسوع أرسل الله يوحنا المعمدان ليعلن خبر مجيء المسيح للعالم، وقد كانت ولادة يوحنا المعمدان بطريقة معجزيه.
أ. نبوات عن يوحنا المعمدان:
1- قبل أن يولد يوحنا المعمدان بنحو 700 سنة تنبأ عنه النبي إشعياء فقال أنه عندما يولد يوحنا المعمدان سيعلن انه: “صَوْتُ صَارخٍ فيِ الْبَرَيةِ أَعَدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فيِ القَفْرِ سَبيِلًا لإِلهَنَا” (إشعياء 40: 3) وتحققت النبوة في (لوقا 3: 15،16).
2- ونحو عام 400 قبل الميلاد تنبأ ملاخي النبي عن ميلاد يوحنا المعمدان، فقال: “هَأَنَذَاَ أُرْسِلُ مَلاَكيِ فَيُهيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي وَيَأتي بَغْتَةً إِلى هَيكَلِهِ السَّيِّدُ الذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ العَهْدِ الذِّي تُسَيُّرونَ بِهِ هُوَذَا يَأْتيِ” (ملاخي 3: 1) وتحققت النبوة في (مرقس 1: 4).
ب. معجزة مولد يوحنا المعمدان:
بينما كان زكريا الكاهن الطاعن في السن داخل الهيكل، ظهر له ملاك، وحين اضطرب وخاف هدَّأُه الملاك قائلًا له ” لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِّيا لأَنَ طِلَبتُكَ قَدُ سُمِعَتْ وَاِمرَأَتُكَ أَلِيَصَابَاتْ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا… لِكَيِ يُهَيِئُ لِلْرّبَّ شَعْبًا مُستَعِدًا. ” (لوقا 1: 13) ولما اعترض زكريا بأنه شيخ، وامرأته كبيرة في السن، انعقد لسانه فلم يستطع الكلام حتى ولادة يوحنا المعمدان.
ثالثًا: البشارة (لوقا 1: 26-56).
في مدينة صغيرة اسمها ناصرة، كانت فتاة صغيرة عذراء مخطوبة اسمها مريم تُصلى، وظهر لها فجأة ملاك، وحياها تحية غريبة، قال: “سَلاَمُ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنَعَمِ عَلَيهَّا. الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فيِ الْنِسَاءِ… هَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدينَ ابْنًا وَتُسَمِينَهُ يَسُوعُ. هَذَا يَكُوُنُ عَظِيمًَا وَابْنُ العَليِ يُدْعَى وَيُعْطِيِه الرَّبُ الإِلَهُ كُرِسىَّ دَاوُد أَبِيهِ. وَيَمْلُكُ عَلَى بَيْتُ يَعْقُوبِ إِلىِ الأَبَد وَلاَ يَكُوُنُ لمِلْكِهِ نِهَايَةً”
كانت رسالة الملاك للقديسة العذراء غريبة، ولم تكن العذراء تتوقع هذه البشرى، رغم أنه ومنذ القديم، كل بنات إسرائيل يشتهين أن يكُنّ الوسيلة التي يتجسد ويأتي من خلالها المسيح إلي العالم (اقرأ في دانيال 11: 37). لكن الله في قدرته على معرفة الناس منذ بداية الخليقة حتى نهايتها، وجد في مريم الفتاة الطاهرة القديسة، فتاة يختارها لتكون أمًا للمسيح.
رابعًا: الزيارة (لوقا 1: 39-56).
كانت مريم تحتفظ في قلبها بسر عظيم هائل، أرادت أن تُخبر به شخصًا تثق فيه وفى حكمته، فتوجهت إلى قريبتها أليصابات زوجة زكريا الكاهن، وعلمت منها أنها تنتظر صبيًا عظيمًا، وما أن رأتها حتى ارتكض الجنين في بطنها وهتفت: “مُبَارَكَةً أَنْتِ فيِ النِسَاءِ مُبَارَكَةً هِي ثَمَرَة بَطْنِكِ فَمِنْ أَيَنْ ليِ هَذَا أَنْ تَأْتىِ أُمُ رَبىِّ إِلىَّ”
خامسًا: الأخبار السارة (لوقا 2: 1-20)
وصدر الأمر بالاكتتاب، وأخذ يوسف مريم إلي بيت لحم ليُكتتب معها، وخارج المدينة، كان رعاة يحرسون أغنامهم، وفى وسط الظلمة، وبينما هم متدثرون تحت الأغطية لعلهم يستدفئون ظهر أمامهم نور وملاك يعلن أعظم بشارة قائلًا: “لاَ تَخَافُوا فَهَا أَنْا أُبْشّرَكُم بِفَرَحٍ عَظِيْم يَكُوُنُ لِجَمِيعِ الْشَعْب. أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمِ فيِ مَدِينَةُ دَاوُد مُخْلِصُّ هَوَ المسيِحُ الرَّبِ” وظهر جمهور من الملائكة يسبحون الله وقائلين: “اَلْمجْدُ لله فيِ الأَعَاليِ وَعَلَى الأَرْضُ السَلامِ وبِالنَاسِ الَمَسَرةِ” فذهبوا ووجدوا مريم ويوسف والطفل.
سادسًا: لم يكن له مكان (لوقا 2: 1-7)
وفى ظلمة الليل، وزحام المدينة، وآلام مريم التي تعاني في أواخر أيام الحمل، جال يوسف يطرق الأبواب باحثًا عن مكان يولد به المسيح، ولم يكن له مكان في المدينة المتسعة. المسيا الملك، مُشتهى وانتظار الدهور، جاء في بساطة وهدوء رهيب، فلم يشعر به العالم، وفى خان صغير، ومذود حقير وجد له أخيرًا مكانًا، فولدت مريم المسيح، وقمطته وأضجعته في المذود.
سابعًا: ملوك قادمون من المشرق يبحثون عن المسيح (متى 2: 1-14)
وفى بلاد متفرقة بالمشرق، مهد الحكمة والعلم، رأى بعض المجوس علامات غريبة في السماء، ونجمًا كبيرًا يعتلى الأفق، وعرفوا من علومهم أن ملكًا عظيمًا يولد، وتبعوا النجم حتى أورشليم وسألوا الملك هيرودس: “أَيْنَ هُوَ الْمُولُود مَلِكُ اليَهُودِ؟”.. ” فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسْ المَلكُ اِضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلَيِمُ مَعَهُ فَجَمَعَ كُلُّ رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَكَتَبةُ الشَعْبِ وَسَأَلَهُم أَيْنَ يُولَدُ المسَيِحُ فَقَالَوا لَهُ فيِ بَيْتُ لَحْمٍ الَيَهُوديَّةُ”(متى 2: 3- 5). وفزع الملك، وعرف من الكهنة الذين يعرفون النبوات والكتب مكان ميلاد المسيح، فأجتمع هيرودس الملك بالمجوس وتحقق منهم زمان ظهور النجم، ثم أطلقهم للبحث عن الصبي على أمل أن يعودوا إليه بالخبر اليقين، فتتبع المجوس النجم حيث قادهم إلى بيت لحم، ثم إلى المذود، وجثوا وسجدوا للمسيح، وقدموا له هدايا، ذهبًا ولُبانًا ومرًا، وبعدما ظهر لهم أوحي إليهم في حلم، آلا يرجعوا إلي هيرودس الملك، عادوا إلى بلادهم في طريق أخرى غير أورشليم التي جاءوا عن طريقها، وظهر ملاك الرب ليوسف في حلم أمره قائلًا: أن يأخذ مريم والمسيح ويهرب بهما إلى مصر من وجه الملك هيرودس، الذي غضب جدًا بعدما خذله المجوس فأرسل وقتل جميع الأطفال في بيت لحم، من ابن سنتين فما أقل من ذلك، لعل المسيح يكون واحد منهم. أما المسيح فكان قد حلَّ في سلام مع العائلة المقدسة في مصر، وعاش فيها حتى وفاة هيرودس،
ثامنًا: تلخيص
كان المسيح من الأزل، وقبل أن يكون للأزل شكل محدد. لم تكن له بداية لأنه هو البداية. لم ينشأ لأن “فِيِه خُلِقَ الكُلُّ مَا فيِ السَمَوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى… الكُلُ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الذَّيِ هُوَ قَبْلُ كُلِ شَيْء وَفِيهِ يَقُومُ الكُلِ ” (كولوسى 1: 16-17) وجاء المسيح.. وحل بيننا.. آخذًا صورة إنسان، مولودًا من القديسة العذراء مريم في بيت لحم، ولأنه لم يجد مكانًا مناسبًا لولادته، وُلِد في المذود، وكانت ولادته سببًا لأن تشدو الملائكة وليفرح ويبتهج الكثيرين، والمسيح يأتي دائمًا يطرق الأبواب، يريد أن يدخل القلوب، وينتظر أن يسمع الناس صوته ليفتحوا الباب، فيدخل بروحه ليغير الحياة والقلوب، ويأتي بالراحة والسلام للناس. لكنه أحيانًا لا يجد لنفسه مكانًا عندهم. هو الآن يقف على باب قلبك ليحل فيه، إن كان بقلبك له مكان. افتح الباب وادعُه للدخول، يمتلئ قلبك به، وبه تبدأ لك حياة أبدية خالدة هانئة سعيدة.
تاسعًا: دعاء
أيها الرب يسوع… جئت إلينا مجدًا لله، وسلامًا للأرض، ومسرة لنا. اجعلني أفتح قلبي لك، لتدخل وتسكن فيه، وتستولي عليه، وتملأه بسلامك ومسرتك باسم المسيح أدعو. آمين. والرب معك.