الرسالة الأولى إلى تيموثاوس | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الأولى إلى تيموثاوس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ
بيان الرسول لتيموثاوس في هذا الأصحاح أهمية العمل الذي وُكل إليه بالنظر إلى أنواع الضلال التي نشأت في كنيسة أفسس وعرضتها للتجربة والخطر وإفهامه ما هو بعض تلك الأنواع (ع ١ – ٦). وتحذير الإخوة من الأوهام في الدين وحثهم على اعتزال الخرافات الدنسة ونهيه لتيموثاوس عن اعتبار الرياضة الجسدية التي أوجبها المعلمون الكاذبون وحثه إياه على ترويض نفسه للتقوى وتوقع إهانة الناس الذين يعلمهم هذا التعليم وأن يكون أميناً شجاعاً في إيراده (ع ٧ – ١١). ونصائح شخصية تتعلق بتصرفه (ع ١٢ – ١٦).
تحذير من المعلمين الكاذبين ع ١ إلى ٦
١ «وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحاً: إِنَّهُ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ ٱلإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ».
يوحنا ١٦: ١٣ و٢تسالونيكي ٢: ٣ و٢تيموثاوس ٣: ١ الخ و٢بطرس ٣: ٣ و١يوحنا ٢: ١٨ ويهوذا ٤ و١٨ و١بطرس ١: ٢٠ و٢تيموثاوس ٣: ١٣ و٢بطرس ٢: ١ ورؤيا ١٦: ١٤ ودانيال ١١: ٣٥ و٣٧ و٣٨ ورؤيا ٩: ٢٠
وَلٰكِنَّ هذا إشارة إلى أن ما يأتي في هذا الفصل يختلف كل الاختلاف عن سر الفداء المجيد المسلم للكنيسة كوديعة ثمينة تيموثاوس ورفقاؤه خدم لها لأنه تعاليم بشرية توجب على الإنسان إماتة النفس والأعمال النافلة وحرمان الإنسان نفسه من العيشة الأهلية وطيّبات الأطعمة لتوهّم أنهم بذلك يُنال رضى الله الخاص.
ٱلرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحاً أي الروح القدس فإنه كان يعلم المؤمنين في عصور الكنيسة الأولى بطرق خارقة العادة. وكان يأتي ذلك أحياناً بعلامات منظورة كما أتى ذلك للأثنى عشر يوم الخمسين فإنه ظهر لهم بألسنة نارية (أعمال ٢: ١ – ١٢). ولجماعة المؤمنين كلها (أعمال ٤: ٣١). ولبطرس يوم تنصر كرنيليوس (أعمال ١٠: ١٠ – ١٦ و١٩ – ٢٠) ولبولس ثلاث مرات مدة أسفاره (أعمال ١٦: ٦ و٧ و٩ و١٠). ولأغابيوس (أعمال ٢١: ١١). وأشار الرسول في خطابه لمشائخ أفسس إلى غير ما ذُكر من أقوال الروح (أعمال ٢٠: ٢٣). وذكر هنا واحداً من إعلانات الروح ولم يبيّن أنه هل كان الروح القدس يخاطبه وحده أو يخاطب جمهور الكنيسة وقوله «صريحاً» يدل على الآخر وأن لا ريب في صحة ذلك القول عند السامعين وأنه لم يكن بإشارات ورموز بل بالوحي المحض.
فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ هذا يعني بحسب اصطلاح الإنجيل الأيام التي بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني الموعود به (عبرانيين ١: ٢) وتسمى أيضاً بأيام الإنجيل.
يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ ٱلإِيمَانِ أي يرجع عن تعاليم المسيح في إنجيله كقوله في (٢تسالونيكي ٢: ٣). ويظهر من العبارة أن أولئك الضالين كانوا من عداد المؤمنين وأعضاء الكنيسة وأن عددهم ليس بقليل.
وقد فضل الرسول المراد بهذا «الارتداد» في ما يأتي وهذا موافق لقول يوحنا الرسول «لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ» (١يوحنا ٤: ١). ومعنى «ارتدادهم عن الإيمان» إنكارهم الإيمان الحق وتمسكهم بالباطل.
تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً أي الشياطين إن الشيطان قادر على الخداع وإضلال الذين ينقادون له (أفسس ٢: ٢ و٦: ١٢) إما بنفسه وإما بواسطة المعلمين الكاذبين (١يوحنا ٤: ٢ – ٦).
وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ الشياطين هنا تفسير «للأرواح المضلة» وهم مصدر الضلال ومعلميه للناس فإنهم حملوا الوثنيين على أن يعبدوا الأوثان ويقاوموا المسيح. وقوله هنا على وفق قوله «إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ ٱلأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ، لاَ لِلّٰهِ… لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ ٱلرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ» (١كورنثوس ١٠: ٢٠ و٢١). ولم يرد الرسول هنا أنهم علموا ما يتعلق بالشياطيين من صفاتهم وذواتهم. ولم يدع المعلمين الكاذبين شياطين بل بيّن إن مصدر أنواع الضلال المذكورة الشياطين. ومثل قول بولس قول يعقوب الرسول «لَيْسَتْ هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ» (يعقوب ٣: ١٥).
٢ «فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ».
متّى ٧: ١٥ ورومية ١٦: ١٨ و٢بطرس ٢: ٣ وأفسس ٤: ١٩
فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ المراد «بالأقوال الكاذبة» ما يأتي في الآية التالية. ونسب «الرياء» إلى قائلها لأنهم نسبوا تعاليمهم إلى الله وهي منهم بإغواء الشياطين فادعوا أن حفظها علة القداسة السامية ونيل رضى الله. أو لأنهم ادعوا أن قداستهم فوق قداسة غيرهم وأنهم بلغوها باتباعهم تعاليمهم. وهذا كقوله «إِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ ٱلْعُقُولَ» (تيطس ١: ١٠).
مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ كأنها مكوية بالحديد المحمى فهي غليظة قليلة الحس كجلد اليد المكوية. إن ضمائر المعلمين الكذبة كانت كذلك لكثرة ما قاوموا الحق فلم يبق لهم من شعور بتنبيهات الضمير لكي يأتوا الحلال ويعتزلوا الحرام فإنهم ادعوا فرط القداسة وهم في الواقع تابعو الشر اختياراً حتى لم يستطيعوا أن يميزوا «إِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَٱلظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!» (متّى ٦: ٢٣).
ظن بعضهم أن قول الرسول هنا مأخوذ عن عادة السادة فإنهم يكوون عبيدهم بحديد محمى لإنشاء علامات يتميزون بها وكانت ضمائر أولئك المعلمين موسومة كذلك فعُرفوا بأنهم عبيد الخطيئة والشيطان.
٣ «مَانِعِينَ عَنِ ٱلزَّوَاجِ، وَآمِرِينَ أَنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أَطْعِمَةٍ قَدْ خَلَقَهَا ٱللّٰهُ لِتُتَنَاوَلَ بِٱلشُّكْرِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَعَارِفِي ٱلْحَقِّ».
١كورنثوس ٧: ٢٨ و٣٦ و٣٨ وكولوسي ٢: ٢٠ و٢١ وعبرانيين ١٣: ٤ رومية ١٤: ٣ و١٧ و١كورنثوس ٨: ٨ تكوين ١: ١٩ و٩: ٣ رومية ١٤: ٦ و١كورنثوس ١٠: ٣٠
مَانِعِينَ عَنِ ٱلزَّوَاجِ هذا أحد تعاليم الشياطين المذكورة في (ع ٢) وإحدى قواعد مذهب اليهود الأسنيين الذين ذهبوا إلى أن القداسة قائمة بإنكار الشهوات الطبيعية وصارت إحدى قواعد الغنوسيين الذين نشأوا بين المسيحيين. وأشار الرسول إلى هذا التعليم بقوله «قهر الجسد» (كولوسي ٢: ٢٣) قال بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس ما معناه إن أحوال الزمان قد تحمل الإنسان على تفضيل العزوبة على الزواج (١كورنثوس ٧: ٢٨ و٣٦ و٣٨). والكتاب المقدس لم ينه عن الزواج قط ولم يشر إلى أن العزوبة أقدس منه بل بالعكس إذ صرّح الكتاب بأن الله وضع الزيجة في جنة عدن (تكوين ٢: ١٨ و٢٢ أنظر أيضاً ص ٥: ١٤).
أَنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أَطْعِمَةٍ أي عن المأكولات اللحمية. فالذين نهوا عن الزواج نهوا عن هذه الأطعمة ولا يزال بعض الناس يعتبر ذلك فضيلة ككثيرين في كل عصر ووسيلة ضرورية إلى بلوغ أعلى درجات القداسة. ومنهم الغنوسيون والأفلاطونيون قالوا بأن أصل الشر في المادة وتعذيب الجسد بالجوع يميت الشر. ولعل أصل هذا المذهب أن الله أمر شعبه في شريعة موسى أن يمتنع عن أكل بعض الأطعمة حفظاً لقداستهم الرمزية فتوسعوا بذلك إلى تحريم كل أنواع اللحم لنيل القداسة القلبية.
قَدْ خَلَقَهَا ٱللّٰهُ لِتُتَنَاوَلَ بِٱلشُّكْرِ قال هذا مقابلة بين قصد الله وما استنبطه الناس من عقولهم فإنه حين خلقها صرّح بأنها حسنة ولم يقصد أن تكون تجارب للناس وعثرة لهم كما تستلزمه تعاليم أولئك المعلمين فإن الله أذن للإنسان أن يأكل البقول أولاً (تكوين ١: ٢٩) ثم البقول واللحوم (تكوين ٩: ٣).
مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ معتبرين تلك الأطعمة بركة لا شيئاً محرماً كأنها نافية للقداسة وغير مرضية لله.
وَعَارِفِي ٱلْحَقِّ فالإيمان بالمسيح ومعرفة حق الإنجيل هما شرط القداسة الحقيقية والقبول عند الله لا النوافل التي يخترعها الناس كالمذكورة هنا.
٤ «لأَنَّ كُلَّ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ جَيِّدَةٌ، وَلاَ يُرْفَضُ شَيْءٌ إِذَا أُخِذَ مَعَ ٱلشُّكْرِ»
رومية ١٤: ١٤ و٢٠ و١كورنثوس ١٠: ٢٥ وتيطس ١: ١٥
كُلَّ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ جَيِّدَةٌ بمقتضى قول الكتاب «وَرَأَى ٱللّٰهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً» (تكوين ١: ٣١ انظر أيضاً رومية ١٤: ١٤ و٢٠). فكون الخليقة من يده تعالى برهان أنها جيدة والقول بخلاف ذلك قدحٌ في الخالق جل وعلا وأنه فضلاً عن خلقه إياها عيّن البقول ولحوم البهائم خاصة قوتاً للإنسان (تكوين ٩: ٣ و٤). فتعليم ماني وأتباعه مناف لما في الآية لأنهم اعتقدوا أن كل مادي مصدر الخطيئة وموطنها وأن القداسة تقوم باعتزال ما يمكن اعتزاله منها.
وَلاَ يُرْفَضُ شَيْءٌ من البقول ولحوم البهائم النافعة وهي باقية على أصلها.
إِذَا أُخِذَ مَعَ ٱلشُّكْرِ مع اعتراف الآخذ بأنه ناله من يده تعالى هبة لا أجراً وأنه أعطاه إياها دليلاً على محبته. وفي قول الرسول هنا تلميح إلى أن ما يأخذه الناس وينتفعون به بلا شكر يجلب عليهم دينونة.
٥ «لأَنَّهُ يُقَدَّسُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ وَٱلصَّلاَةِ».
لأَنَّهُ يُقَدَّسُ اي يُطّهر حتى يسوغ أن يستعمله المقدسون. إن المواد ليست بطاهرة ولا بنجسة في ذاتها ولكن طريق استعمال الناس إياها يجعلها ذات صفة أدبية بالنظر إلى المستعملين. وكلمة الله والصلاة تجعل المواد العارية من الصفة الأدبية واسطة بركة أدبية وقرنه بكلمة الله بالصلاة يفيد أن ما نطلبه بالصلاة وما نشكر الله عليه فيها موافق لكتاب الله وأمثلته نصاً أو معنىً وذلك كما لو سألنا الله أن يقوتنا كما قات بني إسرائيل في البرية والنبي إيليا عند نهر كريت وصرفة (١ملوك ١٧: ٣ و٨) وكما جاء في مواعيد الكتاب الكثيرة وكقول المسيح في الصلاة الربانية «خبزنا كفافنا أعطنا» (متّى ٦: ١١).
٦ «إِنْ فَكَّرْتَ ٱلإِخْوَةَ بِهٰذَا تَكُونُ خَادِماً صَالِحاً لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، مُتَرَبِّياً بِكَلاَمِ ٱلإِيمَانِ وَٱلتَّعْلِيمِ ٱلْحَسَنِ ٱلَّذِي تَتَبَّعْتَهُ».
أفسس ٤: ١٥ و١٦ و٢تيموثاوس ٣: ١٤ و١٥ ولوقا ١: ٣
بِهٰذَا أي بعدم الاكتراث بوصايا الناس المتعلقة باتخاذ إماتة الجسد وسيلة إلى القداسة (ع ٣ و٥).
خَادِماً صَالِحاً كما عُين عليه حين رُسم مبشراً (٢تيموثاوس ٤: ٥) وهذا ما دُعي إليه الرسل والمشائخ والمبشرون والشمامسة من خدمة الكنيسة فلم يُدعوا إلى الرئاسة والسلطة عليها. وفي هذا الكلام ما يستلزم أن صحتها ونموها في الحياة الروحية متوقفان على ممارسة الوسائط التي عيّنها الله وان مقدار النمو متوقف على قدر الانتفاع بتلك الوسائط وأنه يجب على من يعلّمون غيرهم أن يهتموا بتقدم أنفسهم في الأمور الروحية ليستطيعوا أن يفيدوه.
مُتَرَبِّياً بِكَلاَمِ ٱلإِيمَانِ أي بحقائق الإنجيل الجوهرية.
وَٱلتَّعْلِيمِ ٱلْحَسَنِ لا «تعاليم الشياطين» (ع ١) وذُكر «التعليم الحسن» في (ص ١: ١٠ و٦: ٣ وتيطس ١: ٩ و٢: ١).
ٱلَّذِي تَتَبَّعْتَهُ مدحه بولس على ما حصله من المعرفة الروحية والنمو الروحي حثاً له على زيادة التقدم وهذا كقوله له «أَتَذَكَّرُ ٱلإِيمَانَ ٱلْعَدِيمَ ٱلرِّيَاءِ ٱلَّذِي فِيكَ، ٱلَّذِي سَكَنَ أَوَّلاً فِي جَدَّتِكَ لَوْئِيسَ وَأُمِّكَ أَفْنِيكِي» وقوله «أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ تَعْلِيمِي، وَسِيرَتِي، وَقَصْدِي، وَإِيمَانِي، وَأَنَاتِي، وَمَحَبَّتِي، وَصَبْرِي» (٢تيموثاوس ١: ٥ و٣: ١٠). فإن مواظبته على درس أسفار العهد القديم وهو ولد أعدته لقبول يسوع مسيحاً ومخلصاً والالتفات إلى شهادات الأنبياء بأموره.
وجوب تحذير الإخوة من الخرافات الدينية وما يتعلق بها والاتكال على الرياضة الجسدية ع ٧ إلى ١١
٧ «وَأَمَّا ٱلْخُرَافَاتُ ٱلدَّنِسَةُ ٱلْعَجَائِزِيَّةُ فَٱرْفُضْهَا، وَرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى».
ص ١: ٤ و٦: ٢٠ و٢تيموثاوس ٢: ١٦ و٢٣ و٤: ٤ وتيطس ١: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٢٧ وعبرانيين ٥: ١٤
ٱلْخُرَافَاتُ ٱلدَّنِسَةُ ٱلْعَجَائِزِيَّةُ فَٱرْفُضْهَا عنى بذلك التكلم في ما لا ينفع ولا يستحق التفات الحكماء إليه. ولم يصرّح بما أراده من الخرافات المذكورة والمرجح أنه أراد بها ما ذكره في (ص ١: ٤ وفيلبي و٢تيموثاوس ٢: ١٦) و «إماتة الجسد» التي حذرهم منها في هذا الأصحاح (ع ١ – ٦). ومباحثة رباني اليهود التي كانت شائعة في مدارسهم لا تستحق أن تسمى بأحسن مما ذُكر لأن بعضهم كان مما يتعلق بصورة الحروف العبرانية التي كُتبت الشريعة بها وبعضها مسائل دقيقة في عرضيات المطاليب الشرعية مثل تعشير النعنع والأنسون والكمون وعدد الخطى الجائزة في سفر السبت وتعليم كثير من الأساطير الدينية والتاريخية من صحيحة وكاذبة ومسائل جداول الأنساب. وحذر بولس تيموثاوس من أن يبحث فيها ويشغل بها الوقت عبثاً وأوصاه بأن يعتبر أنها غير نافعة لفعله وأنها مضرة.
وَرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى بدلاً من تلك التعاليم الباطلة كالأمر بالنُسك والزهد اليهودي وما يتصل به. وحثه بولس أن يمارس أعمال التقى لكي ينمو في كل الفضائل المسيحية. وفي هذا تلويح إلى أنه لا يستطيع أحد أن ينمو في القداسة بلا جد واجتهاد فيجب أن لا يكتفي بالتأمل في واجباته بل يزيد عليها ممارسته إياها على الدوام وأن يعتاد الصبر في تصرفه مع الناس واحتمال ضعفهم ونقائصهم وأن يبذل الجهد في أن يزيد إيمانه كل يوم (ليغلب به العالم) ومحبته للناس (ليسهل عليه أن ينكر نفسه بغية نفعهم) ورجاءه (لكي لا تغلبه المصائب كلما دعاه الله إلى احتمالها) وتواضعه (لكي يشابه سيده الوديع والمتواضع القلب) وطاعته لإرادة الله (ليهون عليه أن يقول في كل حال «لتكن مشيئتك»). فقول الرسول «روّض نفسك التقوى» كقول المسيح «لْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ» (متّى ٥: ١٦). فإن المؤمن يُظهر في تصرفه اليومي حسن الديانة المسيحية. ولا يجعل هذا الاجتهاد نافعاً إلا نعمة الله فيه تقترن به وتكلله. ولنا من هذا أن اجتهاد الإنسان لا تنفعه ولا تنميه (١كورنثوس ١٥: ١٠ و٢تيموثاوس ١: ٦).
٨ «لأَنَّ ٱلرِّيَاضَةَ ٱلْجَسَدِيَّةَ نَافِعَةٌ لِقَلِيلٍ، وَلٰكِنَّ ٱلتَّقْوَى نَافِعَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، إِذْ لَهَا مَوْعِدُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْحَاضِرَةِ وَٱلْعَتِيدَةِ».
١كورنثوس ٨: ٨ وكولوسي ٢: ٢٣ ص ٦: ٦ ومزمور ٣٧: ٤ و٨٤: ١١ و١١٢: ٢ و٣ و١٤٥: ١٩ ومتّى ٦: ٣٣ و١٩: ٢٩ ومرقس ١٠: ٣٠ ورومية ٨: ٣٨
ٱلرِّيَاضَةَ ٱلْجَسَدِيَّةَ نَافِعَةٌ لِقَلِيلٍ المرجّح أنه بنى هذا الكلام على ما اعتاده أهل أفسس وكورنثوس من استعمال أعضاء أجسادهم في العَدو والصراع ورفع الأثقال وطرحها إلى بعيد استعداداً للملاعب الألومبية والملاعب البرزخية وهي المشار إليها في (١كورنثوس ٩: ٢٥ و٢٧). وكان الاعتدال في تلك الرياضة يوليهم صحة وقوة وإكليل المجد قدام الناس. وكان على المستعد لتلك الألعاب الخضوع لقوانين ثقيلة ذُكرت في تفسير (١كورنثوس ٩: ٢٥) ويتضح مما ذُكر في (ص ٥: ٢٣) أن تيموثاوس مارس بعض تلك القوانين. وظنّ بعضهم أن الرسول أشار هنا إلى إماتة الجسد بالأصوام وما يتصل بها على ما ذُكر في (ع ٣) وأنه فرض إمكان نيل بعض الناس بواسطتها نفعاً روحياً ولكن الأدلة على أن هذا مراده واهية وإلا كانت تلك الرياضة روحية لا جسدية. ولا يقرب من العقل أن ما فنده في (ع ٣ – ٥) وسماه «تعاليم شياطين» يصفه في (ع ٨) بالنفع ولو قليلاً.
وَلٰكِنَّ ٱلتَّقْوَى نَافِعَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ ظاهر وباطن وجسدي وروحي في الزمن الحاضر والمستقبل إلى الأبد كما يتضح من العبارة التالية. وهذا مقابل الرياضة الجسدية التي نفعها محدود وجزئي ووقتي. «فالتقوى» تشتمل على الخير الأعظم للإنسان كله فإذاً يخطئ كل الأخطاء من يظن أن أتباع المسيح خسارة. ومثل هذا قول المسيح «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ» (مرقس ١٠: ٢٩ و٣٠). «فالتقوى» التي هي ممارسة الدين الحق تقدر الإنسان على كل مقصد صالح وعلى نيل كل حاجة حقيقية واحتمال كل ضيقة وحزن وتهب التعزية والنجاة في كل المصائب وتعد للقيام بكل الواجبات للنفس وللقريب ولله وتحقق النعمة هنا والمجد في المستقبل. وتنفع «التقوى» الجسد لأنها تحمل الإنسان على الاعتدال والدأب والاقتصاد وتنفع العقل لأنها تجعله يميز كل أمر على قدر قيمته. وتريح الضمير لأنها تقود الإنسان إلى السلوك بمقتضى كلام الله وتجعله ناجحاً في أعماله لأنها تزيده اجتهاداً واستقامة ورزانة وحكمة وتهب له رجاء صالحاً في ساعة الموت. وأما إماتة الجسد النافلة فتحرم المؤمن من السعادة في الحياة الحاضرة ولا تؤهله شيئاً لسعادة الحياة الآتية.
لَهَا مَوْعِدُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْحَاضِرَةِ أي تتكفل للإنسان بكل ما يحتاج إليه وهو على هذه الأرض. وهذا يوافق إجمالاً ما في (مزمور ٣٣: ١ و٧٤: ١١ و٨٤: ١١). وهي تحقق الحصول على القوت والكسوة (إشعياء ٣٣: ١٦ ومتّى ٦: ٢٥ – ٣٣) والتعزية في الأرزاء (تثنية ٣٣: ٢٧ وأيوب ٥: ١٩ ومزمور ٤٦ ورومية ٨: ٢٨ وعبرانيين ١٣: ٥). والمعونة في الشيخوخة والموت (مزمور ٢٣: ٤ و٣٧: ٢٥ وإشعياء ٤٣: ٢ و٤٦: ٤ و١كورنثوس ٣: ٢١ – ٢٣). والذكر الحسن بعد الموت (مزمور ٣٧: ١ – ٦).
وَٱلْعَتِيدَةِ المواعيد للتقي كثيرة منها قول الله «وَٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣). ولا شيء في هذه الآية ينافي تعليم الإنجيل إن الخلاص هبة مجانية وأن التبرير مبني على استحقاق المسيح وآلامه.
٩ «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ».
ص ١: ١٥
انظر تفسير (ص ١: ١٥). المراد «بالكلمة» هنا ما سبق في (ع ٨) وهي قوله «التقوى نافعة لكل شيء» الخ وهذه الكلمة مستحقة أن تُكتب بين أفضل قواعد الديانة المسيحية.
١٠ «لأَنَّنَا لِهٰذَا نَتْعَبُ وَنُعَيَّرُ، لأَنَّنَا قَدْ أَلْقَيْنَا رَجَاءَنَا عَلَى ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، ٱلَّذِي هُوَ مُخَلِّصُ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ وَلاَ سِيَّمَا ٱلْمُؤْمِنِينَ».
١كورنثوس ٤: ١١ و١٢ وص ٦: ١٧ ومزمور ٣٦: ٦ و١٠٧: ٢ و٦ الخ
لِهٰذَا أي لنيل الوعد العظيم بالسعادة هنا وبالحياة الأبدية مع الله في المستقبل.
نَتْعَبُ وَنُعَيَّرُ أي نحتمل بلا خوف أشد التعب والتعيير نحن المبشرين والمعلمين المسيحيين لما ذُكر. وفي ذلك قال بطرس الرسول «إِنْ عُيِّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ ٱلْمَجْدِ وَٱللّٰهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ» (١بطرس ٤: ١٤). وهذا موافق لما شهد به بولس في شأن عمله وعمل سيلا من أنهما كانا «يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ ٱلتَّلاَمِيذِ وَيَعِظَانِهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (أعمال ١٤: ٢٢). فاحتمالهم أتعابهم وتعييراتهم بالرضى دليل قاطع على أنهم اعتبروا التقوى التي يقتضيها الإنجيل تؤكد لهم حصولهم على الوعد المذكور آنفاً.
لأَنَّنَا قَدْ أَلْقَيْنَا رَجَاءَنَا عَلَى ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ لأنه أمين ومصدر ذلك الوعد وقادر على إنجازه. وكون «الإله الحي» أساس هذا الرجاء لا الأوثان البكم الخالية من الحياة المعبودة في هياكل أفسس الوثنية التي ليست سوى صنع أيدي عابديها يجعلنا نتعب ونُعيّر راضين مسرورين.
ٱلَّذِي هُوَ مُخَلِّصُ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ في هذا تصريح بأن الله الحي هو إله المحبة وأن مراحمه غير مقصورة على أمة واحدة كما ظن اليهود فإنهم توهموا أنه قصر رحمته عليهم فهي لمؤمني كل صنف من البشر. ووصف الله بأنه «مخلص» يوافق قوله الله «ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (ص ٢: ٤) فإنه أعد الوسائط الكافية الموافقة لخلاص الجميع فهو بالنظر إلى تدبير الوسائط مخلص العالم وبالنظر إلى الفعل مخلص الذين يقبلون الخلاص منه.
وَلاَ سِيَّمَا ٱلْمُؤْمِنِينَ الخلاص ممكن لكل إنسان لكنه لا يحصل عليه إلا المؤمنون الذين اعتصموا بذلك الخلاص العام الذي قُدم بالمسيح. وإذا كان الله يريد خلاص جميع الناس فبالأولى أنه يخلص المتكلين عليه. ولا شيء في هذه الآية ينافي تعليم الكتاب الإلهي الصريح وهو أن من الناس من يهلكون بخطاياهم ونصيبهم الموت الثاني (٢تسالونيكي ١: ٩ ورؤيا ٢١: ٨).
١١ «أَوْصِ بِهٰذَا وَعَلِّمْ».
ص ٦: ٢
أَوْصِ بِهٰذَا وَعَلِّمْ أشار بقوله «هذا» إلى التقوى الحقيقية المذكورة في (ع ٧ – ١٠) لا إماتة الجسد والخرافات التي نادى بها بعضهم.
نصائح الرسول لتيموثاوس خاصة ع ١٢ إلى ١٦
١٢ «لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ٱلْكَلاَمِ، فِي ٱلتَّصَرُّفِ، فِي ٱلْمَحَبَّةِ، فِي ٱلرُّوحِ، فِي ٱلإِيمَانِ، فِي ٱلطَّهَارَةِ».
١كورنثوس ١٦: ١١ وفيلبي ٢: ١٥ وتيطس ٢: ٧ و١بطرس ٥: ٣
لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ يظهر لنا أن هذه النصيحة أولى أن تكون لكنيسة أفسس من أن تكون لتيموثاوس. فتوجيهها إلى تيموثاوس يوجب عليه أن لا يترك لأحد سبيلاً بقوله أو سيرته إلى أن ينسب إليه عدم البلوغ في المعرفة والاختبار فيستخف بتعليمه أو سلطته وأن لا يستصغر نفسه حتى يخشى من أن يطلب من الناس أن يعتبروا تعليمه ويطيعوه. إن كثيراً من نصائح بولس لتيموثاوس تشير إلى أن شجاعة تيموثاوس كانت أقل مما اقتضته الواجبات عليه (٢تيموثاوس ١: ٨ و٢: ١ و٣ و٤: ٥).
لم يكن تيموثاوس حديث السن إلا بالنسبة إلى بولس وسائر الرسول ولعله أصغر من مشائخ كنيسة أفسس فإن قدّرنا أنه كان ابن خمس وعشرين سنة حين اختاره بولس رفيقاً في التبشير وكان مشهوداً له من الإخوة (أعمال ١٦: ٢) سنة ٥٢ ب. م قد مرّ عليه خمس عشرة سنة مبشراً فإذاً لم يكن سنّه يومئذ أقل من أربعين سنة.
بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي كن أهلاً لأن يقتدي المؤمنون بك بجودة سيرتك في ما يأتي فهذا يحمل الناس على احترامك وعدم استهانتهم بحداثتك (انظر تفسير فيلبي ٣: ١١ و١تسالونيكي ١: ٧). وما كان واجباً على تيموثاوس في ذلك واجب على جميع المبشرين والرعاة فإن هذا مما أوجبه بولس عينه على نفسه (أعمال ٢٠: ١٨ و١٩ وفيلبي ٣: ١٧ و٤: ٩).
فِي ٱلْكَلاَمِ أي في التبشير أمام الجمهور وفي المخاطبات الشخصية.
فِي ٱلتَّصَرُّفِ أي السيرة الظاهرة التي بها يحكم الناس بما في الباطن فالذي يوجبه على الناس من التقوى بالكلام يجب أن يعلنه لهم بالفعل.
وإنك إذ ما تأتِ ما أنت آمرٌ به تُلفِ من إيّاه تأمر آتيا
وإن تصرّف الإنسان كما يوجبه الدين شهادة يومية بأن المسيح يحيا فيه. ويوافق ما ذُكر نصح بولس لتيطس بقوله «مُقَدِّماً نَفْسَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قُدْوَةً لِلأَعْمَالِ ٱلْحَسَنَةِ» (تيطس ٢: ٧).
فِي ٱلْمَحَبَّةِ للإخوة وللجميع. وذكر الكلام على مظاهر المحبة بالتفصيل في (١كورنثوس ص ١٣).
فِي ٱلرُّوحِ أي في بساطة الروح وتواضعها وهدوئها ومسامحتها وبطوء غضبها. وعبارة «في الروح» خلا منها بعض النسخ القديمة.
فِي ٱلإِيمَان «ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ» (غلاطية ٥: ٦). فتيموثاوس بإظهار ثقته بالله في كل الأحوال حمل غيره على الإيمان به تعالى. والإيمان والمحبة هما أسّ سائر الفضائل. وكلام الإنسان وأعماله دلالة على إيمانه ومحبته.
فِي ٱلطَّهَارَةِ أي القداسة التي تليق بالمؤمنين وكرر النصح لتيموثاوس بهذه الفضيلة في (ص ٥: ٢ و٢٢) وأمر بها مؤمني كورنثوس (٢كورنثوس ٧: ٦). وجرى بطرس على سننه في التوصية بها (١بطرس ٢: ٢٢). وهذه الفضيلة ضرورية جداً للراعي لكي تحترمه الرعية وتثق به.
١٣ «إِلَى أَنْ أَجِيءَ ٱعْكُفْ عَلَى ٱلْقِرَاءَةِ وَٱلْوَعْظِ وَٱلتَّعْلِيمِ».
إِلَى أَنْ أَجِيءَ هذا دليل على أن خدمة تيموثاوس في أفسس كانت وقتية وأنه كان نائباً فيها عن بولس. فإن بولس كان يتوقع الرجوع إلى تلك المدينة سريعاً وتنتهي حينئذ خدمة تيموثاوس فيها فيقوم بولس بها أو يكِلها إلى المشائخ (انظر ص ٣: ١٤ و١٥) ورأى أنه من الضروري في مدة غيبته أن يوصيه خصوصاً بثلاثة أمور تتعلق بخدمته للكنيسة.
ٱعْكُفْ عَلَى ٱلْقِرَاءَةِ القرينة تدل على أنه أراد «بالقراءة» تلاوة كلام الله على الجمهور في الاجتماعات الدينية. وكانت مما اعتادها اليهود في مجامعهم فإنهم كانوا يقرأون فيها كتب الناموس والأنبياء (لوقا ٤: ١٦ وأعمال ١٣: ١٥٩ ولا ريب في أنه أراد بها قراءة أسفار العهد القديم. وأمر بها لأن النفس تحتاج إلى القوت الروحي كما يحتاج الجسد إلى القوت المادي لكي تنمو في المعرفة وتستطيع أن تفيد غيرها. ويحتمل أنهم كانوا يقرأون يومئذ (أي سنة ٦٦ و٦٧ ب. م) بعض البشائر مع الناموس والأنبياء في الاجتماعات المسيحية فإننا نعلم مما كتبه يوستيانس الشهيد أنه كانت قراءة البشائر وبعض الرسائل من فروض العبادة الجمهورية في نصف القرن الثاني للميلاد. ويشير إلى أن المسيحيين كانوا يقرأون الرسائل في الكنيسة أيام بولس مما في (كولوسي ٤: ١٦ و٢بطرس ٣: ١٦).
وما قاله في شأن القراءة الجمهورية لا يمنع أنه يجب عليه أن يقرأ لنفسه ما يعينه على عمله الروحي من الكتب المقدسة وغيرها من الكتب الدينية المفيدة. وذكر بولس في رسائله ما أخذه من أقوال شعراء اليونان يدل على كونه قد ألفَ المطالعة للعلوم اليونانية وأنه أتى ذلك ليثبت تعاليمه الإنجيلية (أعمال ٢٧: ٢٨ وتيطس ١: ١٢).
وَٱلْوَعْظِ (انظر تفسير رومية ١٢: ٨). والمراد «بالوعظ» هنا مخاطبته ضمائر الناس ليحثهم على القيام بما يجب عليهم في الدين وأن يعملوا بمقتضى ما علموا.
وَٱلتَّعْلِيمِ (انظر تفسير رومية ١٢: ٧). «التعليم» هنا هو الخطاب الموجه إلى العقل والاحتجاج لإثبات العقائد المسيحية. ولعل الفرق بين الوعظ والتعليم إن الوعظ خاص ببعض الواجبات والتعليم عامٌّ كلها. وما يأتي يدل على أن الرسول قصد أن يكون كلاهما مبنيين على كلام الله.
١٤ «لاَ تُهْمِلِ ٱلْمَوْهِبَةَ ٱلَّتِي فِيكَ ٱلْمُعْطَاةَ لَكَ بِٱلنُّبُوَّةِ مَعَ وَضْعِ أَيْدِي ٱلْمَشْيَخَةِ».
٢تيموثاوس ١: ٦ وص ١: ١٨ وأعمال ٦: ٦ و٨: ١٧ و١٣: ٣ و١٩: ٦ وص ٥: ٢٢ و٢تيموثاوس ١: ٦
لاَ تُهْمِلِ ٱلْمَوْهِبَةَ ٱلَّتِي فِيكَ نستنتج من هذا النهي ومن قوله له «أُذَكِّرُكَ أَنْ تُضْرِمَ أَيْضاً مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِيكَ» (٢تيموثاوس ١: ٦). إن تيموثاوس كان مائلاً إلى التأمل والانفراد وتجنب مخالطة الشعب وحثّه إياه بأقواله ونصائحه. فقوله له «لا تهمل» الخ بمعنى لا تدع تلك الموهبة تضعف بعدم استعمالك إياها. والمراد «بالموهبة» هنا قوة روحية ونعمة خارقة العادة كالتي كانت تعطاها الأنبياء في أعصار الكنيسة الأولى (رومية ١٢: ٦ و١كورنثوس ١٢: ٤ و٩ و٢٨ و٣٠ و٣١ و١بطرس ٤: ١٠). وأُعطيها تيموثاوس يوم رُسم مبشراً (٢تيموثاوس ١: ٦) وتلك موهبة أهلته للتعليم وسياسة الكنيسة وغير ذلك مما يتعلق بالخدمة الرعوية.
ٱلْمُعْطَاةَ لَكَ بِٱلنُّبُوَّةِ أي بمقتضى نبوءة من الله (١كورنثوس ١٢: ٤ – ٦) فالمرجّح أن الروح القدس ألهم بعض المشائخ أو الأنبياء الذين حضروا رسامته أن يُعلن إرادة الروح القدس أن يهب لتيموثاوس نعمة خاصة إجابة لصلوات الحاضرين وإعداداً له للخدمة التي عُيّن لها كما فعل الروح القدس ببولس وبرنابا حين عُيّنا للخدمة الخاصة بمقتضى القصد الإلهي (أعمال ١٣: ٢).
مَعَ وَضْعِ أَيْدِي ٱلْمَشْيَخَةِ أي جمهور مشائخ الكنيسة إما في لسترة حين أتخذه بولس أولاً معيناً له (أعمال ١٦: ١ – ٣) وأما في أفسس بعد ذلك أو غيرها. وكان وضع الأيدي مقترناً بالصلاة وهو علامة التعيين للخدمة وبيان أن الذين وضعوا أيديهم اعتبروا الذي وضعوها عليه أهلاً لتلك الخدمة وأنهم صدقوا دعوة الله إياه إليها. وهكذا رسم الشمامسة (أعمال ٦: ٦). وتلك عادة أخذت عن الكنيسة اليهودية حين تعيين اللاويين وغيرهم من خدم الدين (ع ٨: ١٠ و٢٧: ١٨ وتثنية ٣٤: ٩). ولنا مما قيل في (٢تيموثاوس ١: ٦) أن بولس كان من الذين وضعوا أيديهم على تيموثاوس. ولا منافاة بين قوله هناك «الموهبة التي فيك بوضع يدي» وقوله هنا «بوضع أيدي المشيخة» لأن وضع يد بولس لا تمنع من أن المشائخ وضعوا أيديهم أيضاً. وكان وضع الأيدي شائعاً في طلب البركة على أحد الناس (تكوين ٤٨: ١٧ ومتّى ٢٩: ٨) فالظاهر مما هنا أن الكنيسة المسيحية اتخذت عادة اليهود بإقامة مجمع من شيوخ يرأسهم الرباني كما يظهر من (لوقا ٢٢: ٦٦ وأعمال ٢٢: ٥) لسياسة الكنيسة. والدليل على أن الكنيسة المسيحية اعتادت ذلك ما في (أعمال ٦: ٦).
١٥ «ٱهْتَمَّ بِهٰذَا. كُنْ فِيهِ، لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِراً فِي كُلِّ شَيْءٍ».
ٱهْتَمَّ بِهٰذَا أي بما ذُكر في (ع ١٣ و١٤) من الواجبات وسبب أنه طلب التفاته الخاص إليها القيام بما عليه وأن لا يستهين أحد بحداثته (ع ١٢).
كُنْ فِيهِ أي كن مواظباً عليه ومبتهجاً به متخذاً إياه عملاً خاصاً وليكن القيام به غاية حياتك.
لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِراً فِي كُلِّ شَيْءٍ ليثق كل الإخوة في الكنيسة بأنك تنمو في المعرفة والاختبار والتقوى. وفي هذا بيان أنه لا يمكنه أن يهتم بهذه الأمور ويواظب عليها وهو ينمو النمو الضروري له باعتبار كونه مسيحياً وراعياً وفي هذا تلويح إلى أنه لا يكون التقدم الواجب باطناً ما لم تكن علاماته ظاهرة.
١٦ «لاَحِظْ نَفْسَكَ وَٱلتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذٰلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هٰذَا تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضاً».
أعمال ٢٠: ٢٨ وحزقيال ٣٣: ٩ ورومية ١١: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٢٢ ويعقوب ٥: ٢٠
لاَحِظْ نَفْسَكَ أي اعتن بصحة جسدك وعقلك واجتهد في أن تكون سيرتك على وفق تعليمك لكي لا تكون عثرة لأحد بل معيناً للجميع. وما قاله هنا يقوم بإطاعته لما جاء في (ع ١٢).
وَٱلتَّعْلِيمَ وهذا يتوقف على إطاعته ما ذُكر في (ع ١٣). فكان عليه ليقنع الناس بصحة تعليمه وينفعهم به أن يعتني بذلك التعليم ويكون أميناً فيه حتى لا يتأخر أن يخبرهم بكل مشورة الله (أعمال ٢٠: ٢٧).
إن ملاحظة المبشر سيرته وتعليمه ضرورية لنجاحه في عمله فلا يكفي أن يكون سلوكه مستقيماً ما لم يكن تعليمه صحيحاً ولا نفع من تعليمه ما لم تكن سيرته على وفق هذا التعليم.
دَاوِمْ عَلَى ذٰلِكَ أي على ما سبق في هذه الآية فعلى الراعي أن لا يكلّ ولا ييأس وأن يزاول مطالعة كتاب الله والعمل بمقتضاه ما دام حياً. وهذا موافق لما قاله في (٢تيموثاس ٣: ١٤).
إِذَا فَعَلْتَ هٰذَا تُخَلِّصُ نَفْسَكَ في يوم الرب أي تنال الحياة الأبدية. وليس المراد بهذا أن خلاصه متوقف على عمله بل إن أمانته لربه تكون برهاناً على أنه قد نال الخلاص (انظر حزقيال ٣٣: ٩ ويعقوب ٥: ٢٠).
وَٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضا بإرشادك إياهم إلى الإيمان بالمسيح والطاعة له بسيرتك وبتعليمك إياهم كلام الله. وليس المراد أن يكون هو واسطة خلاص كل من يسمعه بل خلاص كثيرين منهم. فأعظم ثواب للمبشر بعد مدح المسيح إيّاه أن يكون واسطة خلاص الناس من جهنم وبلوغهم الأفراح السماوية. فكل من طلب خلاص غيره يعتني بخلاص نفسه ومن لا يطلب إلى المسيح خلاص نفسه أولاً فهو عاجز عن أن يخلص غيره.
السابق |
التالي |