الرسالة الأولى إلى تيموثاوس | 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الأولى إلى تيموثاوس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
التحية الرسولية (ع ١ و٢). وبيان قصده من تركه تيموثاوس في أفسس وهو تفنيد بدع المعلمين المفسدين ولا سيما ضلالتهم في استعمال الناموس (ع ٣ و٤). وبيان غاية الناموس وهي المحبة للمنع من ارتكاب الإثم لا إكثار الرسوم (ع ٥ – ١١). وشكر الرسول لله لأنه استأمنه على الإنجيل وأرسله للمناداة به (ع ١٢ – ١٧). وبيان شأن وكالة تيموثاوس (ع ١٨ – ٢٠).
تحية ع ١ و٢
١ «بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، بِحَسَبِ أَمْرِ ٱللّٰهِ مُخَلِّصِنَا وَرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، رَجَائِنَا».
أعمال ٩: ١٥ وغلاطية ١: ١ و١١ ص ٢: ٣ و٤: ١ وتيطس ١: ٣ و٢: ١٠ ويهوذا ٢٥ وكولوسي ١: ٢٧
خاطب بولس تيموثاوس باعتبار كونه صديقاً له ومعلماً وأباً روحياً لكي يحثه على الأمانة والثبات وهو محاط بتجارب كثيرة في أفسس فخاطبه كمن وكله الله بتفنيد الضلال الذي نشأ في كنيستها.
بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ (انظر تفسير رومية ١: ١).
بِحَسَبِ أَمْرِ ٱللّٰهِ قال في رسالتيه إلى كورنثوس «بمشيئة الله» (١كورنثوس ١: ١ و٢كورنثوس ١: ١). وقوله هنا «أمر الله» يدل على سلطان أعظم مما يدل عليه قوله «مشيئة الله» ويفيد أنه مجبر على أن يعمل عمل الرسول لا مخير. وقصده من هذا أن يبين لتيموثاوس أن الوكالة المسلّمة له لتفنيد الضلال في أفسس أخذها ممن له سلطان من الله ليكون شجاعاً في إجراء عمله. فإن الله أمر بولس أن يكون رسولاً في وقت ظهور المسيح له على طريق دمشق (أعمال ٩: ١٥) وفي هيكل أورشليم (أعمال ٢٢: ٢١) وحين أمر الروح القدس بإفرازه لتبشير الأمم (أعمال ١٣: ٢).
مُخَلِّصِنَا دُعي هنا الأقنوم الأول من اللاهوت مخلصاً لأنه مصدر خلاص البشر. وهذا مثل ما جاء في (لوقا ١: ٤٧ و١تيموثاوس ٤: ١٠ وتيطس ٢: ١٠). ولأنه أرسل المسيح لكي ينشئ خلاص البشر بموته (يوحنا ٣: ١٦).
رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أخذ بولس رسوليته أيضاً من المسيح كما أبان في (غلاطية ١: ١ و١١ و١٢).
رَجَائِنَا أي أساس رجائنا الخلاص. والمسيح رجاؤنا لأنه مات على الصليب من أجلنا ويسكن فينا بالإيمان ويشفع فينا عند الآب ولأنه مركز كل ما نرجوه باعتبار كوننا مسيحيين من أمور حياتنا الروحية الآن وتعزيتنا عند الموت وسرورنا الأبدي في السماء. فكل رجاء الخلاص الذي أعده الله متوقف على المسيح (انظر تفسير كولوسي ١: ٢٧).
٢ «إِلَى تِيمُوثَاوُسَ، ٱلابْنِ ٱلصَّرِيحِ فِي ٱلإِيمَانِ. نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
أعمال ١٦: ١ و١كورنثوس ٤: ١٧ وفيلبي ٢: ١٩ و١تسالونيكي ٣: ٢ وتيطس ١: ٤ وغلاطية ١: ٣ و٢تيموثاوس ١: ٢ و١بطرس ١: ٢
تِيمُوثَاوُسَ انظر الفصل الأول من مقدمة الرسالة.
ٱلابْنِ ٱلصَّرِيحِ فِي ٱلإِيمَانِ آمن تيموثاوس بالمسيح وتجدد بواسطة إرشاد بولس فأحبه الرسول دائماً محبة الوالد لولده (انظر تفسير ١كورنثوس ٤: ١٤ – ١٧). وقال «في الإيمان» لأنهما شريكان فيه إذ آمنا بالمسيح إيماناً واحداً وهذا رباط أقوى من رباط القرابة الطبيعية. ولعله أراد بقوله «الابن الصريح» الإشارة إلى مشابهته القوية لبولس في السجايا مشابهة الابن لأبيه بدليل قوله فيه «لَيْسَ لِي أَحَدٌ آخَرُ نَظِيرُ نَفْسِي الخ» (فيلبي ٢: ٢٠).
نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَسَلاَمٌ الخ طلب النعمة والسلام لمؤمني رومية (رومية ١: ٧) والرحمة والسلام لمؤمني غلاطية (غلاطية ٦: ١٦). إن جودة الله على الأثمة نعمة وعلى المحتاجين رحمة وعلى المضطهدين سلام. ومعظم الفرق بين النعمة والرحمة أن النعمة يُنظر فيها غالباً إلى عدم استحقاق المحسَن إليه وأن الرحمة يُنظر فيها غالباً إلى احتياجه أو شقائه. واختبار بولس رحمة الله الآب التي حصل عليها في أثناء كل أتعابه ومشقاته وأخطاره التي احتملها كل مدة حياته حمله على أن يرغب في أن يكون لتيموثاوس مثل ما كان له. ورغب في ذلك له لأنه يُعده لخدمة الإنجيل (ع ١٣ و١٦ و٢كورنثوس ٤: ١).
بيان غاية تركه تيموثاوس في أفسس ع ٣ و٤
٣ «كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ، إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِباً إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، لِكَيْ تُوصِيَ قَوْماً أَنْ لاَ يُعَلِّمُوا تَعْلِيماً آخَرَ».
أعمال ٢٠: ١ و٣ وفيلبي ٢: ٢٤ وغلاطية ١: ٦ و٧ وص ٦: ٣ و١٠
كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ هذا متعلق بمحذوف تقديره «أفعل». وقال «طلبت» ولم يقل أمرت تلطفاً. ويتضح من هذا أن بولس وتيموثاوس كانا يخدمان الإنجيل معاً في أفسس. وأما بولس فرأى أنه يجب أن يذهب إلى مكدونية وأن يُبقي تيموثاوس في أفسس. وذهب أكثر المفسرين أن ذلك كان بعد المدة التي كتب فيها لوقا سفر أعمال الرسل وبعد إطلاق بولس من سجن رومية. نعم أنهما كانا معاً في أفسس سنة ٥٨ ب. م. فاضطر بولس أن يهرب منها للسجس الذي أنشأه ديمتريوس فذهب إلى مكدونية وأرسل تيموثاوس إليها قبل ذهابه وأمره أن يذهب إلى كورنثوس لإصلاح الأمور هنالك (أعمال ١٩: ٢٢ و١كورنثوس ٤: ١٧ و٢٢). وهذا يمنع من أن يكون الكلام هنا والكلام في سفر الأعمال في حادثة واحدة. وقد سبق الكلام على أفسس في تفسير (أعمال ١٩: ١).
مَكِدُونِيَّةَ هي بلاد في الجنوب الشرقي من أوربا وهي الجزء الشمالي من القسمين اللذين قُسمت إليهما بلاد اليونان في زمن المملكة الرومانية ومن أعظم مدنها فيلبي وتسالونيكي.
لِكَيْ تُوصِيَ قَوْماً هذا بيان غاية مكثه هناك وهو يشير إلى عمل وقتي خاص لا إلى الراعوية الدائمة في كنيسة أفسس. ولم يبين الرسول من هم القوم المشار إليهم فلا بد من أن تيموثاوس عرفهم فلم يحتج إلى تعريفهم. ولعل بعضهم كان من شيوخ الكنيسة الذين قال فيهم بولس منذ نحو ست سنين قبل كلامه هنا «وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ» (أعمال ٢٠: ٣٠). ولم يقصد «توصي» إيصاء واحداً بسلطان بل تعليماً متوالياً ونصحاً ليردهم عن ضلالهم وبيين لهم الضرر الناتج من تعليمهم وحملهم على الرجوع إلى الطريق المستقيم أو على ترك مقاومتهم للحق على الأقل.
أَنْ لاَ يُعَلِّمُوا تَعْلِيماً آخَرَ غير تعليم الإنجيل الذي نادى بولس به. إن بولس حين مر بمليتوس وهو ذاهب إلى أورشليم اجتمع بمشائخ كنيسة أفسس وظن يومئذ أنهم لا يرون وجهه بعد وتنبأ بدخول معلمين مفسدين في كنيستهم وأن بعضهم يتبعهم (أعمال ٢٠: ٢٩ و٣٠). وكان ذلك قبل هذا الكلام بنحو خمس سنين أو ست سنين إذا اعتبرنا أن هذه الرسالة كُتبت بعد ما تقضى على بولس سنتان في سجن قيصرية سنتان في سجن رومية ومدة في إسبانيا وكريت وأسيا الصغرى. ويظهر من هذه الآية أن نبوّته وقتئذ (أعمال ٢٠: ٣٠) قد تمّت.
٤ «وَلاَ يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ وَأَنْسَابٍ لاَ حَدَّ لَـهَا، تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي فِي ٱلإِيمَانِ».
ص ٤: ٧ و٦: ٤ و٢٠ و٢تيموثاوس ٢: ١٤ و١٦ و٢٣ وتيطس ١: ١٤ و٣: ٩ ص ٦: ٤
وَلاَ يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ فيميلوا إليها ويعتقدوها بدلاً من تعليم الإنجيل. والمراد «بالخرافات» هنا أقوال الناس التي لا يمكن إثباتها وتوصف بأنها «الدنسة العجائزية» (ص ٤: ٧) وبأنها «يهودية» (تيطس ١: ١٤). والمرجّح أنها خليط من آراء يهودية وآراء الغنوسيين الذين نشأوا في أول القرن الثاني وانتشروا كثيراً وأفسدوا تعليم الإنجيل الصحيح. فإن ربّاني اليهود علموا الشعب تعاليم غير مكتوبة فوق المكتوب في الأسفار الإلهية وجُمعت بعد ذلك من أفواه الناس وكُتبت سفراً يُعرف اليوم «بالتلمود». وأشار المسيح إلى هذه الخرافات بقوله للفريسيين «أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ» (متّى ١٥: ٦).
وَأَنْسَابٍ لاَ حَدَّ لَـهَا كان بعض هذه الأسباب مبنياً على ما في سفر العدد من أسفار موسى الخمسة مضافاً إليها تفاسير وهمية وبعضها على جداول مدنيّة مشهورة بين اليهود وبعضها من آراء الغنوسيين في شأن كون الله أصلاً تفرغت منه الأرواح مختلفة النسب والرتب. وكانت نتيجة هذا التعليم مانعة تقدم الإنجيل بين الأمم وجاعلة الكنيسة المسيحية كأنها فرع من الكنيسة اليهودية وأنها قائمة برسوم ورموز بدلاً من أن تكون روحية حيّة.
مُبَاحَثَاتٍ باطلة تسبب خصومات وانشقاقات كقوله «بِمُبَاحَثَاتٍ وَمُمَاحَكَاتِ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ ٱلْحَسَدُ وَٱلْخِصَامُ وَٱلافْتِرَاءُ وَٱلظُّنُونُ ٱلرَّدِيَّةُ» (ص ٦: ٤ انظر أيضاً ٢تيموثاوس ٢: ١٤ و٢٣ وتيطس ٣: ٩) فهي مما لا يفيد عقلاً ولا أدباً.
دُونَ بُنْيَانِ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي فِي ٱلإِيمَانِ قصد الله أن يكون الإنجيل وسيلة إلى بنيان شعبه في المعرفة والبرّ لكي ينالوا الخلاص ومبدأ الإنجيل الجوهري هو الإيمان. فنتيجة تلك المباحثات هادمة للإيمان ومما يقود الخاطئ إلى الاتكال على نفسه لنيل الخلاص بدلاً من أن يتكل على المسيح.
بيان أن غاية الناموس المحبة والمنع من ارتكاب الإثم ع ٥ إلى ١١
٥ «وَأَمَّا غَايَةُ ٱلْوَصِيَّةِ فَهِيَ ٱلْمَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاءٍ».
يوحنا ١٣: ٨ و١٠ وغلاطية ٥: ١٤ و٢تيموثاوس ٢: ٢٢
أَمَّا غَايَةُ ٱلْوَصِيَّةِ فَهِيَ ٱلْمَحَبَّةُ المقصود «بالوصية» هنا تعليم الله العام وهو أعلنه في إنجيله وكُلف المبشرون به أن يعلنوه بتبشيرهم وغايته إنشاء المحبة الحقة لله وللناس وهي تُعلن بالأعمال اللائقة بها. وتلك المباحثات منافية لهذه الغاية. والمرجح أن المعلمين الكاذبين علموا أن غاية الوصية غير ذللك فأراد بولس من تيموثاوس أن يقاومهم بشجاعة وأن يبيّن قصد الوصية الحق وهو أنها ليست موضوع الجدال والخصام بل منشئة المحبة في القلب وأثمارها في المسيرة.
مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ جاء أن «المحبة رباط الكمال» أي أنها تشتمل على كل الفضائل لأنها تستلزمها ومركزها القلب الطاهر الخالي من كل كبرياء ورياء وحب الذات والشهوات الرديئة.
وَضَمِيرٍ صَالِحٍ وهذا من مراكز المحبة إذا كان مستنيراً بروح الله ومعرفة الحق ومنقّى من الخطيئة ومصالحاً لله بدم يسوع فيستحيل أن أحداً يحب الله حق المحبة ويخالف ضميره باستمراره على الخطيئة التي يعلم أنها خطيئة (ص ٣: ٩ و٢تيموثاوس ١: ٣).
وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاء هذا أصل المحبة السماوية التي هي غاية كل التعليم الإلهي وأثمار الإيمان تبيّن خلوصه من الرثاء وأنه غير قائم بمجرد أقوال واعترافات فارغة.
وفي هذه الآية سلسلة حلقات هي فضائل إلهية تربط الإنسان بالله تعالى. وأول هذه الحلقات حلقة الإيمان الحق فبدونه لا يمكن أن يكون الضمير صالحاً وبدون الضمير الصالح لا يمكن أن يكون القلب طاهراً وبدون القلب الطاهر لا يمكن أن تكون المحبة مسيحية. وأبان الرسول في موضع آخر التعلق بين الضمير الصالح والإيمان الحق وبين الضمير الشرير والإيمان الفاسد (ع ١٩ وص ٣: ٩ و٤: ١ و٢).
٦ «ٱلأُمُورُ ٱلَّتِي إِذْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْهَا ٱنْحَرَفُوا إِلَى كَلاَمٍ بَاطِلٍ».
ص ٦: ٤ و٢٠
ٱلأُمُورُ ٱلَّتِي إِذْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْهَا معنى الزيغ عنها القصور عن نيلها كما يخطئ سهم الرامي الغرض (ص ٦: ٢١ و٢تيموثاوس ٢: ١٨). فالذين زاغوا لم يحصلوا على المحبة التي هي غاية الوصية. وتلك «الأمور» هي المحبة والإيمان بلا رياء والضمير الصالح.
ٱنْحَرَفُوا إِلَى كَلاَمٍ بَاطِلٍ بدلاً من نيلهم الفضائل المسيحية المذكورة آنفاً والمناداة بها. والمراد «بالكلام الباطل» المباحثات التي للهدم لا للبنيان وهي تؤدي إلى الخصومات العنيفة (ص ٦: ٢٠ وتيطس ١: ١٠ و٣: ٩) وفسر مراده به في الآية السابقة. ومعنى هذا الانحراف العدول عن سنن الحق إلى مسالك الضلال (تيطس ١: ١٥) وقوله «انحرفوا» يشير إلى أنهم شرعوا يسلكون في سبيل الإنجيل الذي يؤدي إلى الخلاص ولكنهم وقعوا في التجربة وتركوا الإنجيل لخرافات يهودية وأمثالها من البدع المضلة.
٧ «يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي ٱلنَّامُوسِ، وَهُمْ لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ وَلاَ مَا يُقَرِّرُونَهُ».
ص ٦: ٤
يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي ٱلنَّامُوسِ أي أن يحسبهم الناس كذلك. فإن معلمي الناموس كانوا في تلك الأيام يُحسبون من أعظم من يستحقون الإكرام. فرغبوا في أن يحصلوا على الإكرام الذي كان لغمالائيل معلم بولس وهليل الشهير وأمثالهما وهم لا يستحقون شيئاً منه. والناموس الذي ادّعوا أنهم معلموه لا ريب في أنه هو الناموس اليهودي فأفسدوه بأن مزجوه بخرافات يهودية تقود إلى الفجور. وهؤلاء المعلمون لم يكونوا مثل اليهود الذين خاصمهم بولس في أول أمره في شأن حرية الدين المسيحي لأنهم طلبوا من المسيحيين أن يراعوا كل شريعة موسى بتدقيق. والمعلمون المذكورون هنا على ما تؤيده القرائن أفسدوا كل الناموس الأدبي بتفسيرهم الفاسد لشريعة موسى وزيادة عليها.
لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ فلم يكن تعليمهم ناتجاً عن تأملهم في مطاليب الناموس وتأثيره في قلوبهم فلم يعرفوا غاية الناموس ولا معناه الروحي فكانوا موسومي الضمير (تيطس ١: ١٤ و١٥). وفكان تعليمهم نتاج مقاصد نفسانية كما شهد يوحنا على أمثالهم بقوله «وَتَجْدِيفَ ٱلْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ ٱلشَّيْطَانِ» (رؤيا ٢: ٩).
وَلاَ مَا يُقَرِّرُونَهُ يدّعون أن تعاليمهم موافقة لمبادئ أصلية أزلية وهي منافية لها. ويدّعون أنهم يعرفون معاني خفية للناموس وهم يجهلونه. ويظهر من هذا أن صفة المعلم الحكيم الضرورية هي أن يعلم حقيقة ما يعلّمه ويتيقّن أن تعليمه حق.
٨ «وَلٰكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ صَالِحٌ، إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ نَامُوسِيّاً».
رومية ٧: ١٢
لٰكِنَّنَا نَعْلَمُ قدر بولس على هذا القول لأن الروح القدس علّمه وكان له سلطان رسول على تعليم ما تعلّمه من العُلى.
أَنَّ ٱلنَّامُوسَ صَالِحٌ هذه شهادة رسول ملهم بصلاح الناموس وهي تدفع تُهمة أعدائه أنه عدّو للناموس.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ نَامُوسِيّاً أي إن استعمله المعلم حسب قصد الله أن يُستعمل لإعلان قداسته وبيان واجبات الإنسان وإثبات أن الإنسان مجرم في عيني الله بمخالفته لأوامره تعالى وأنه مستوجب العقاب (انظر تفسير رومية ٧: ١٢). فإذاً لم يوضع الناموس للمباحثات الباطلة والمجادلات الضارة ولا لكي يكون حجة لمن يحفظ رسومه الخارجية على أنه غير مكلف بحفظ مبادئ القداسة الأزلية التي بُنى عليها ولا علة لتبرير الخاطئ أمام الله. والقرينة تدل على أن بولس أراد أن استعماله الجائز هو ما كان لمنع ارتكاب الخطايا التي يذكرها في الآيات الآتية وهي التي أباحها أولئك المعلمون الكاذبون المحرّفون.
٩ «عَالِماً هٰذَا: أَنَّ ٱلنَّامُوسَ لَمْ يُوضَعْ لِلْبَارِّ، بَلْ لِلأَثَمَةِ وَٱلْمُتَمَرِّدِينَ، لِلْفُجَّارِ وَٱلْخُطَاةِ، لِلدَّنِسِينَ وَٱلْمُسْتَبِيحِينَ، لِقَاتِلِي ٱلآبَاءِ وَقَاتِلِي ٱلأُمَّهَاتِ، لِقَاتِلِي ٱلنَّاسِ».
غلاطية ٣: ١٩ و٥: ٢٣ لاويين ١٠: ١٠
عَالِماً هٰذَا أي حال كون معلم الناموس المذكور عالماً هذا.
أَنَّ ٱلنَّامُوسَ أي الشريعة الأدبية التي خلاصتها الوصايا العشر كما يتضح في هذه الآية من الأمور التي نهى الناموس عنها.
لَمْ يُوضَعْ لِلْبَارِّ أي للمؤمن الذي تبرر بالإيمان بالمسيح وتقدس بالروح القدس. وسلك في سبيل مشيئة الله بمحبة القلب لا خوفاً من العقاب على مخالفته. فلم يوضع للبار لأنه لا يفتقر إليه إذ هو يرغب في أن يعمل ما يطلبه الناموس ويكره ما ينهي عنه. وكونه ممن يقودهم الروح القدس أغناه عن إرشاد الناموس (رومية ٦: ١٤ وغلاطية ٤: ١٨ و٢٣). فليس للناموس قوة على أن يدين المؤمن لتعدياته السالفة لأن المسيح أكمل الناموس عنه (رومية ١٠: ٤). وحرية الإنجيل لا تبيح للإنسان أن يفعل ما يشاء بل تحمله على القيام بما يوجبه الناموس شكراً لله وحباً له. وتحرره من ناموس الخطية والموت لأنه لا يميل البتة إلى مخالفة وإلى تعريض نفسه لعقابه. وأكثر الذين خدمهم تيموثاوس في كنيسة أفسس بسطاء مؤمنون بالمسيح أبرار بالمعنى الذي ذُكر في هذا التفسير.
بَلْ لِلأَثَمَةِ وَٱلْمُتَمَرِّدِينَ ذكر الرسول هنا الذين وُضع الناموس لهم وقدم بالذكر ستة أنواع منهم ذكرهم أزواجاً فالأثمة هم الذين لا يبالون بالناموس والمتمردون هم الذين أبوا طاعته.
لِلْفُجَّارِ وَٱلْخُطَاةِ الذين ليس في قلوبهم خوف الله ويظهرون ذلك بأعمالهم القبيحة التي تقودهم إليها شهواتهم النجسة.
لِلدَّنِسِينَ وَٱلْمُسْتَبِيحِينَ وهم من لا طهارة في قلوبهم ويُظهرون ذلك بسيرتهم المخالفة لكل قوانين الأدب. فهؤلاء الأنواع الستة من الخطأة الذين وُضع الناموس لهم ممن خالفوا الوصايا الأربع الأولى من وصايا الله العشر. وجمعهم الرسول معاً لتعديهم حقوق الله فيها. ومن ذكره بعدهم هم الذين تعدوا على حقوق الناس وهي موضوع الوصية الخامسة وما بعدها حتى التاسعة.
لِقَاتِلِي ٱلآبَاءِ وَقَاتِلِي ٱلأُمَّهَاتِ أي المتعدين الوصية الخامسة.
لِقَاتِلِي ٱلنَّاسِ أي المتعدّين الوصية السادسة.
١٠ «لِلزُّنَاةِ، لِمُضَاجِعِي ٱلذُّكُورِ، لِسَارِقِي ٱلنَّاسِ، لِلْكَذَّابِينَ، لِلْحَانِثِينَ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ يُقَاوِمُ ٱلتَّعْلِيمَ ٱلصَّحِيحَ».
ص ٦: ٣ و٢تيموثاوس ٤: ٣ وتيطس ١: ٩ و٢: ١
لِلزُّنَاةِ، لِمُضَاجِعِي ٱلذُّكُورِ أي المتعدّين الوصية السابعة.
لِسَارِقِي ٱلنَّاسِ أي المتعدّين الوصية الثامنة. وكانت هذه الخطيئة مشهورة في عصر بولس الرسول وكانوا يسرقون الناس ليستعبدوهم أو يبيعوهم عبيداً. وهذا نُهي عنه أيضاً في (خروج ٢١: ١٦ وتثنية ٢٤: ٧).
لِلْكَذَّابِينَ، لِلْحَانِثِينَ أي المتعدّين الوصية التاسعة والحانثون هم الكاذبون في القسم. وهؤلاء ممن صرّح الإنجيل بأنه يمتنع عليهم أن يدخلوا المدينة السماوية (رؤيا ٢٢: ١٥).
وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ الخ لا ريب في أن الرسول قصد أن يضمن في هذا الشهوة الرديئة التي نهت عنها وصية الله العاشرة استيفاء لكل التعديّات لمطاليب الناموس التي وُضع هو للمنع من ارتكابها. وتفسير بولس هنا للناموس مخالف كل المخالفة لتفسير المعلمين الكاذبين له إذ جعلوه قائماً بالمباحثات والكلام الباطل في أمور لا تتعلق بحياة الإنسان الروحية وسيرته الطاهرة.
١١ «حَسَبَ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْمُبَارَكِ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيْهِ».
١كورنثوس ٩: ١٧ وغلاطية ٢: ٧ وكولوسي ١: ٢٥ و١تسالونيكي ٢: ٤ وص ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١ و١تيموثاوس ١: ٣
حَسَبَ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْمُبَارَكِ مراد الرسول أن ما قاله في الناموس في الآيتين التاسعة والعاشرة ليس مجرد رأي منه بل أنه مما قرّره الإنجيل الذي وكله إليه الرب يسوع. لأن الإنجيل أعلن صريحاً أن غاية الناموس إيجاب الدينونة على الخطأة المصرين على إثمهم الذين أبوا أن يحملوا نير المسيح الهين وحمله الخفيف. ونُسب الإنجيل إلى «مجد الله» لأنه أعلن للعالم مجد الله بالمسيح فموضوعه الخاص مجده تعالى (٢كورنثوس ٤: ٤). وبه يتمجد المسيح لإعلانه كيف يبرر الله الخاطئ بفداء ابنه بدون الناموس ولأن غايته إنقاذ الخطأة لا دينونتهم. ونعت الله «بالمبارك» لكماله وأزليته وعدم تغيّره ولأنه وهب المغفرة المباركة للخطأة الذين يقبلونها.
ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيْهِ أحب بولس أن يذكر النعمة الفائقة التي حصل عليها بائتمانه على الإنجيل (رومية ١٥: ١٦ وأفسس ٣: ٨ وكولوسي ١: ٢٥) فحسبها أعظم نعمة يمكنه نيلها.
شكر بولس لله لإعلانه الإنجيل له وائتمانه عليه ع ١٢ إلى ١٧
١٢ «وَأَنَا أَشْكُرُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا ٱلَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِيناً، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ».
٢كورنثوس ١٢: ٩ و١كورنثوس ٧: ٢٥ و٢كورنثوس ٣: ٥ و٦ و٤: ١ وكولوسي ١: ٢٥
أَشْكُرُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ اختبار بولس أجلى برهان له على أن النعمة المعلنة بالإنجيل تفوق النعمة المعلنة للناموس. فكان قلبه يفيض شكراً للمسيح كلما ذكر بغضه ومقاومته له في الماضي وحسب خدمة الإنجيل أعظم كرامة له مع أنها كلفته المشقات وإنكار الذات والفقر والعار والاضطهاد لأنه بتلك الخدمة أمكنه أن يُظهر حبه للمسيح وشكره له واستطاع بها أن ينفع العالم ولأنه وجد بها مواعيد السعادة الأبدية لكل خادم أمين.
ٱلَّذِي قَوَّانِي لكي أستطيع القيام بالمناداة بالإنجيل وبذلك قصد أن ينسب إلى نعمة المسيح إنارة عقله وقدرته على إقناع الناس وحملهم على قبول المسيح بتعليمه والقوة الجسدية على احتمال أتعابه المتنوعة ومصائبه العديدة والصبر والثبات وكل قواه الجسدية والعقلية التي احتاج إليها لإتمام عمله السامي.
أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِيناً الأمانة هي الصفة الضرورية للوكلاء (١كورنثوس ٤: ١ و٢). إن المسيح عرفه أميناً منذ اختاره ودعاه ليكون إناء مختاراً لحمل اسمه إلى الأمم وعرف أنه يكون أميناً إلى النهاية. وحسب بولس تلك الأمانة من مواهب النعمة لا من فضائله كما يظهر من قوله «أُعْطِي رَأْياً كَمَنْ رَحِمَهُ ٱلرَّبُّ أَنْ يَكُونَ أَمِيناً» (١كورنثوس ٧: ٢٥). وقوله أيضاً «وَلٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ ٱلْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلٰكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي مَعِي» (١كورنثوس ١٥: ١٠).
إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ هذا برهان أن الله حسبه أميناً في الخدمة إذ اختاره لها ودعاه إليها (١تسالونيكي ٥: ٩). ووصف هذه الخدمة في (أعمال ٢٠: ٢٤).
١٣ «أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلٰكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ».
أعمال ٨: ٣ و٩: ١ و١كورنثوس ١٥: ٩ وفيلبي ٣: ٦ ولوقا ٢٣: ٣٤ ويوحنا ٩: ٣٩ و٤١ وأعمال ٦: ١٧ و٢٦: ٩
أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً أي قبل أن آمنت بالمسيح. في هذه الآية تعنيف بولس نفسه بوصفه ما كان عليه وهو شاول الفريسي اليهودي الغيور لديانة اليهود وأمتهم. وأتى بهذا التعنيف بياناً لعلة شكره في الآية السابقة.
مُجَدِّفاً كان تجديفه أنه أنكر دعوة يسوع المسيح أنه ابن الله وقاومه قولاً وفعلاً على أنه لم يقصد يومئذ التجديف بل كان يظن أنه يقدم لله خدمة (أعمال ٢٦: ٩).
وَمُضْطَهِداً قولاً وفعلاً (أعمال ٢٢: ٤ وغلاطية ١: ١٣).
مُفْتَرِياً على المؤمنين بالمسيح لأنه حسبهم ضالين ومضلين وهذا إهانة لهم فوق الاضطهاد وهو ناتج عن الكبرياء وحب الظلم.
وَلٰكِنَّنِي رُحِمْتُ بدليل أن الله غفر خطيئتي ودعاني رسولاً وحسبني أميناً (ع ١٢).
لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ لم ينكر أنه كان مخطئاً بعدم إيمانه بالمسيح وأنه استحق العقاب لكن جهله خفف جرم إثمه وقد قال «فَأَنَا ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُوراً كَثِيرَةً مُضَادَّةً لاسْمِ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ» (أعمال ٢٦: ٩). ولو عرف أن يسوع هو المسيح وقاومه على علم وخلاف لضميره لكان ارتكب التجديف على الروح القدس الذي هو خطيئة لا تُغفر (لوقا ١٢: ٤٥ وعبرانيين ١٠: ٢٦ و١يوحنا ٥: ١٦ و١٧). ولم يستحق الغفران لسبب جهله لكن جهله جعل الله يغفر له بدون أن يخالف قداسته. فعلّة المغفرة له إنما هي النعمة الإلهية (ع ١٤ وتيطس ٣: ٥). وهذا يذكرنا صلاة المسيح من أجل قاتليه «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا ٢٣: ٣٤).
فِي عَدَمِ إِيمَانٍ هذا وصف حالة قلبه وكان سبب جهله صحة دعوى المسيح.
١٤ «وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدّاً مَعَ ٱلإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوع».
رومية ٥: ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ١٠ و٢تيموثاوس ١: ١٢ لوقا ٧: ٤٧
وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدّاً هذا تفسير لقوله «رُحمت» فإنه حين تكلم على خطيئة البشر قال «كثرت الخطيئة» (رومية ٥: ٢٠) وإذ تكلم في النعمة هنا قال «تفاضلت جداً».
مَعَ ٱلإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ وهما عطيتا الله بدلاً من عدم الإيمان والبغض الذي كان في قلبه قبلاً.
ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ الإيمان بالمسبح باعتبار كونه سيداً ورباً كان مقترناً بالمحبة له باعتبار كونه مخلصاً وصديقاً فكان المسيح أعظم مواضيع إيمانه ومحبته (كولوسي ١: ٤) وبواسطتهما نال التمتع التام برحمة الرب.
١٥ «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا».
ص ٣: ١ و٤: ٩ و٢تيموثاوس ٢: ١١ وتيطس ٣: ٨ ومتّى ٩: ١٣ ومرقس ٢: ١٧ ولوقا ٥: ٣٢ و١٩: ١٠ ورومية ٥: ٨ و١يوحنا ٣: ٥
صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ لأن الله هو المتكلم بها وهو صادق في كل كلامه (١كورنثوس ١: ٩ و١تسالونيكي ٥: ٢٤ و٢تسالونيكي ٣: ٣ ورؤيا ٢١: ٥ و٢٢: ٦). وهذه الجملة جاءت مقدمة أقوال كثيرة في رسائل بولس الخاصة ولعلها كانت تتداولها ألسنة المسيحيين الأولين باعتبار كونها من قواعد الإيمان المختصرة (انظر ص ٤: ٩ و١تيموثاوس ٢: ١١ وتيطس ٣: ٨).
وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ من كل البشر بكل عواطف القلب والنفس بدون أدنى ريب. وذلك لأنها صادقة ولأن البشر كلهم خطأة محتاجون إلى مخلص ولأن المسيح مات من أجل خطأة محتاجون إلى مخلص ولأن المسيح مات من أجل الجميع ولأن الخلاص بالمسيح يستحق أن يُقبل لأنه لائق بالله ومستطاع للإنسان ولأن الخلاص نفسه عظيم جداً.
أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ هذه خلاصة تعليم المسيح والرسل كما أُعلن في الإنجيل وهو على وفق ما قيل في (يوحنا ٣: ١٦ و١يوحنا ٤: ٩ و١٠). ويتضمن أن يسوع هو المسيح الموعود به وأنه أعلن للناس باسمه يسوع أي مخلص. ومجيئه إلى العالم يستلزم وجوده قبل مجيئه أي أزليته (يوحنا ١٦: ٢٨ و١٧: ٥ وأفسس ١: ٣ و٤). وأن العالم حين جاء إليه كان مملوءاً خطايا وعرضة للهلاك من أجل الخطيئة (يوحنا ١: ٢٩ و١٦: ٢٨ ورومية ٥: ١٢ و١يوحنا ٢: ٢). وإن غاية مجيئه خلاص الهالكين. وأن الخلاص الذي أتى به غير محدود البتة فهو معروض على كل خاطئ من اليهود الشعب المختار ومن الأمم الذين كانوا بلا إله ولا رجاء بدليل قول المسيح نفسه «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا ١٩: ١٠). فليتأكد الشاعرون بأنهم خطأة أن المسيح جاء لكي يخلّصهم.
ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا هذا الإقرار ناشئ عن تواضع الرسول العميق وشهد على نفسه بهذا باختياره لكنه لم يشهد على غيره بمثله لأنه لا يعرف قلوب الآخرين. وهذا يوافق قوله على نفسه في (١كورنثوس ١٥: ٩ وفيلبي ٢: ٣ وأفسس ٣: ٨). وعظمة محبته للمسيح ومعرفته بأنه ابن الله ومخلّص العالم جعلتاه يعتبر خطيئته بمقاومته للمسيح وقتل أتباعه فظيعة جداً. وإذا قطعنا النظر عن مقاومته للمسيح لم يبق لنا ما نحكم به على أنه أخطأ من غيره ويؤيد ذلك ما قاله على نفسه في (أعمال ٢٣: ١ و٢٤: ١٦ و١كورنثوس ١٥: ٩ وفيلبي ٣: ٦).
١٦ «لٰكِنَّنِي لِهٰذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ».
٢كورنثوس ٤: ١ وأعمال ١٣: ٣٩
لٰكِنَّنِي لِهٰذَا رُحِمْتُ ما ذكره بولس هنا هو أحد أسباب نيله الرحمة فمن الواضح أنه ليس هو العلة الوحيدة.
لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ لم يقل أولاً باعتبار الزمان بل باعتبار مقدار الرحمة الإلهية الظاهرة فيه لأنه حسب افتداءه بالمسيح أعظم براهين الرحمة وأوضحها. والمراد «بكل أناة» أكثر ما يكن تصوره. وذلك لأن الله لم يقطعه من الأحياء وهو في أثناء خطيئته مقاوماً له ومضطهداً لشعبه بل ترك له فرصة للتوبة وأعلن المسيح نفسه له بكل لطف وكشف له خطيئته وغفر له مجاناً وجعله رسوله المختار لينادي بإنجيله.
مِثَالاً أعظم مثال يمكن إيراده لطول أناة الله واستعداده لغفران الخطايا وأعظم تعزية للخطأة ليرجوا القبول بعد رجوعهم إلى الله وينجوا من اليأس. نعم إن في تاريخ داود وبطرس دليل على أن الله يغفر الخطيئة لكن برهان ذلك على ما في سيرة شاول الطرسوسي أعظم من كل ما سواه فلا داعي لأحد إلى أن ييأس من رحمة الله إذ نال ذلك المضطهد والمجدف المغفرة والخلاص.
لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ الخ أي مثالاً لسائر الخطأة منذ نال بولس الرحمة إلى نهاية العالم. والإيمان بالمسيح شرط نيل الرحمة والاتكال عليه شرط الحصول على الحياة الأبدية لأنه أتى ليهبها ومات ليشتريها. والذي أظهر الرحمة لأول الخطأة مستعد أن يظهرها لكل من سواه. ونيل الخطأة الحياة الأبدية المذكورة في هذه الآية بالمسيح إثبات لصحة قوله «أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (ع ١٥).
١٧ «وَمَلِكُ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى وَلاَ يُرَى، ٱلإِلٰهُ ٱلْحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ ٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ».
مزمور ١٠: ١٦ و١٤٥: ١٣ ودانيال ٧: ١٤ وص ٦: ١٥ و١٦ ورومية ١: ٢٣ ويوحنا ١: ١٨ وعبرانيين ١١: ٢٧ و١يوحنا ٤: ١٢ ورومية ١٦: ٢٧ ويهوذا ٢٥ و١أيام ٢٩: ١١
الكلام في هذه الآية معترض وهو تمجيد الرسول لله على رحمته العظيمة له بناء على ما كان عليه قبل الإيمان وما كان عليه بعده. وجاء مثل ذلك في (رومية ١: ٢٥ و١١: ٣٦ و١٦: ٢٧ و٢كورنثوس ١١: ٣١). وهذا التمجيد هو لله الواحد المثلث الأقانيم.
مَلِكُ ٱلدُّهُورِ أي الملك منذ الأزل بخلاف ملوك الأرض القصار الحياة وهو متسلط في كل الأزمنة على كل البرايا والحوادث (خروج ١٥: ١٨ ومزمور ١٤٥: ١٣).
لاَ يَفْنَى أي أنه أبدي فلا يزول.
وَلاَ يُرَى كالخليقة المادية وأوثان الأمم (ص ٦: ١٦ وخروج ٣٣: ٢٠ ويوحنا ١: ١٨ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١١: ٢٧).
ٱلْحَكِيمُ وَحْدَهُ (تُركت لفظة «الحكيم» في بعض النسخ). نُعت الله بهاتين الصفتين في (رومية ١٦: ٢٧ ويهوذا ٢٥) ونُعت «بالوحدة» في (ص ٦: ٢٥ ومزمور ٨٦: ١٠ ويوحنا ٥: ٤٤). وهذا ما لا يصح على أحد من الخليقة من الملائكة والناس (١كورنثوس ٨: ٥ و٦).
لَهُ ٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ هذا مثل ما في (رومية ٥: ١٣).
إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ أي أبداً أو في كل المستقبل.
بيان شأن وكالة تيموثاوس ع ١٨ إلى ٢٠
١٨ «هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ أَيُّهَا ٱلابْنُ تِيمُوثَاوُسُ أَسْتَوْدِعُكَ إِيَّاهَا حَسَبَ ٱلنُّبُوَّاتِ ٱلَّتِي سَبَقَتْ عَلَيْكَ، لِكَيْ تُحَارِبَ فِيهَا ٱلْمُحَارَبَةَ ٱلْحَسَنَةَ».
ص ٦: ١٣ و١٤ و٢٠ و٢تيطس ٢: ٢ وص ٤: ١٤ وص ٦: ١٢ و٢تيموثاوس ٢: ٣ و٤: ٧
رجع الرسول هنا إلى موضوعه الذي كان يتكلم فيه قبل التمجيد المعترض.
هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ المتضمنة في الكلمة الصادقة وهي «أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ» (ع ١٥) وأنه يجب على الجميع أن يتكلوا عليه لنيل الحياة الأبدية (ع ١٦).
أَسْتَوْدِعُكَ إِيَّاهَا حسب المناداة بهذا التعليم وديعة وكلت إليه (٢تيموثاوس ١: ١٤).
ٱلنُّبُوَّاتِ ٱلَّتِي سَبَقَتْ عَلَيْكَ أشار بهذا إلى حادثة لم تُذكر. إن الروح القدس وهب لبعض المؤمنين قوة النبوءة في عصور الكنيسة الأولى وحدث ذلك في أورشليم (أعمال ١١: ٢٧ و٢٨). وأنطاكية (أعمال ١٣: ١ و٢) وكورنثوس (١كورنثوس ص ١٤) وقيصرية (أعمال ٢١: ٨ – ١٠). ويحتمل أن تيموثاوس تُنبئ ببعض أموره عند معموديته أو رسامته (١تيموثاوس ١: ١٤ و٢تيموثاوس ١: ٦). ولعل أحد الأنبياء الذين نطقوا بها كان سيلا. ولعل تلك النبوءات كانت مما يتعلق بعمله التبشيري كما تنبأ حنانيا بعمل بولس (أعمال ٩: ١٨) فذكره بولس بهذه النبوءات لتعلقها بخدمته المستقبلة للكنيسة وللإنجيل لكي يكون ثابتاً أميناً شجاعاً (ص ٦: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ٧).
لِكَيْ تُحَارِبَ فِيهَا ٱلْمُحَارَبَةَ ٱلْحَسَنَةَ أي تجارب الخطيئة والضلال. وذكره بالنبوءات التي سبقت عليه وبالمواهب الروحية المقترنة بها يومئذ كأنها أسلحة له إذا تسلح بها لا يكون عرضة لليأس أو الخوف (انظر تفسير أفسس ٦: ١٠ – ١٧). و «المحاربة الحسنة» هي جهاد الإيمان (ص ٦: ١٢). وهي ليست واقعة واحدة لكنها وقائع متوالية في الحياة كلها. ونُعتت «بالحسن» لأن غايتها حسنة وهي المحاماة عن الحق ومقاومة الضلال ولأن قائد جنودها حسن. والضمير في قوله «فيها» يعود إلى «النبوّات» ومعناه أنه يتقوى بذكرها وبالرجاء الناشئ عنها على «الجهاد الحسن».
١٩ «وَلَكَ إِيمَانٌ وَضَمِيرٌ صَالِحٌ، ٱلَّذِي إِذْ رَفَضَهُ قَوْمٌ ٱنْكَسَرَتْ بِهِمِ ٱلسَّفِينَةُ مِنْ جِهَةِ ٱلإِيمَانِ أَيْضاً».
ص ٣: ٩ ص ٦: ٩
وَلَكَ إِيمَانٌ وَضَمِيرٌ صَالِحٌ وجود هذين الأمرين شرط ضروري «للمحاربة الحسنة» فيجب أن يقترنا (كما في ع ٥) لأنه بدون الاتكال القلبي على الله يستحيل أن يكون الإنسان أميناً لربه وله ضمير صالح.
ٱلَّذِي إِذْ رَفَضَهُ قَوْمٌ أراد «بالقوم» المعلمين الكاذبين الذين ظهروا في كنيسة أفسس وضلوا عن حق الإنجيل واجتهدوا في إنشاء بدع الضلال وحذر بولس تيموثاوس منهم (ع ٦ وغيره). والذي رفضه هؤلاء هو الإيمان كأنهم كرهوه وعصوا الضمير الصالح لاستثقالهم تعنيفاته. وقول بولس ذلك يستلزم أنه حسبهما بمنزلة معدل السفينة المعروف عند النوتية بالصابورة وهو ثقل يوضع في قعر السفينة لتعتدل أي تستقيم فلا تقلبها الريح وتدفعها إلى حيث تشاء. «فالإيمان والضمير الصالح» ضروريان للنفس كالمعدل المذكور بشهواتهم الرديئة يرفضون بالطبع الإنجيل سريعاً لأنه مضاد لسيرتهم ومُبكت عليها. وقصد «بالإيمان» هنا ما أعلنه الإنجيل موضوعاً لإيمان الناس. واعتبره في أول هذه الآية صفة من صفات القلب وهبة من الله. وان لبولس اختبار انكسار السفينة الحقيقية أربع مرات فشبه أحوال رافض الإيمان بأحوال من انكسرت به السفينة. وفي ذلك إيماء إلى أن الذين انكسرت سفينة إيمانهم قلما يُرجى أنهم يبلغون المرفأ السماوي.
٢٠ «ٱلَّذِينَ مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَٱلإِسْكَنْدَرُ، ٱللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ لِكَيْ يُؤَدَّبَا حَتَّى لاَ يُجَدِّفَا».
٢تيموثاوس ٢: ١٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٤ و١كورنثوس ٥: ٥ أعمال ١٣: ٤٥
مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَٱلإِسْكَنْدَرُ هما اثنان من القوم الذين انكسرت سفينتهم من جهة «الإيمان والضمير الصالح» ولا ريب في أن تيموثاوس كان يعرفهم وأنهم كانوا من أعضاء كنيسة أفسس. والمرجّح أن هيمنايس هو الذي ذُكر في (٢تيموثاوس ٢: ١٧). وإن الضلال الذي علمه هو أنه قد مضى زمن القيامة أي أن القيامة ليست سوى كلمة مجازية تشير إلى حياة القداسة بعد الموت للخطيئة. والمرجّح أن الاسكندر هو اسكندر النحاس الذي أظهر لبولس شروراً كثيرة (٢تيموثاوس ٤: ١٤). وذهب بعضهم أنه هو الذي أقامه اليهود وكيلاً عنهم في مشهد أفسس (أعمال ١٩: ٣٣) ولكن ليس لذلك ما يحققه لأن اسم اسكندر كان شائعاً يومئذ كما هو شائع اليوم.
ٱللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ المرجّح أنه فعل هذا يوم كان في أفسس أخر مرة. فإذا قابلنا ما قيل هنا بما قيل في (١كورنثوس ٥: ٥) فهمنا أن معنى «التسليم للشيطان» لكي يفعل بهما عدو البشر هذا ما يرغب في أن يفعله دائماً من الضرب بالأمراض والآلام الجسدية. وهذا موافق لما عرفناه من أضرار الشيطان لأيوب ما نسبه المسيح إلى قوة الشياطين (لوقا ١٣: ١٦). وما قاله بولس في نفسه (٢كورنثوس ١١: ٧). والمرجّح أن مثله ما جاء في (١تسالونيكي ٢: ١٨).
لِكَيْ يُؤَدَّبَا حَتَّى لاَ يُجَدِّفَا هذا يدل على أن الغاية من تسليمهما للشيطان هي تأديبهما وإصلاحهما لا انتقاماً لإهلاكهما. لم يتوقع بولس أن الشيطان يعلمهما التقوى بل توقع أنهما يستفيدان من المصائب التي تأتي عليهما بواسطة الشيطان. والظاهر أنهما لم يقتصرا على الضلال في العقائد بل زادا على ذلك التجديف. أو لعل بولس اعتبر الضلال في أمر القيامة بمنزلة التجديف أو لعله اعتبر كل ضلال يفسد الإيمان والضمير الصلاح كذلك.
السابق |
التالي |