الرسالة بطرس الثانية | 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة بطرس الثانية
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
التحيات العادية ع ١ و٢. وبيان إن كل البركات المختصة بالحياة والتقوى هي من الله وإنه تعالى قد وهب لهم مواعيد عظيمة ثمينة (ع ٣ و٤). وحثّ المؤمنين أن يتقدموا في الفضائل الروحية تدرجاً (ع ٥ – ٩). وأن يجعلوا دعوتهم واختيارهم ثابتين لكي يكون لهم بذلك سعة الدخول إلى ملكوت ربنا يسوع المسيح (ع ١٠ و١١). قصده أن يذكرهم دائماً الحقائق التي قبلوها منه لأنه شعر بقرب أجله وعدم فرصة إنبائهم بعد وشدة الخطر من أن يتزعزع إيمانهم (ع ١٢ – ١٥).
تصريح بأن التعاليم التي علّمها ليست خرافات بل حقائق (ع ١٦) لأنها ثبتت له مما سمعه على طور التجلي وهو أن يسوع هو ابن ومما وقف عليه من أقوال الأنبياء القديسين فكان عليهم أن يتمسكوا بها مهما قاومهم الكافرون (ع ١٦ – ٢١).
التحيات العادية ع ١ و٢
١ «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ، إِلَى ٱلَّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إِيمَاناً ثَمِيناً مُسَاوِياً لَنَا، بِبِرِّ إِلٰهِنَا وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١: ١ وفيلبي ١: ١ ويهوذا ١ ويعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١ ورومية ١: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ١٣ وتيطس ١: ٤ ورومية ٣: ٢١ – ٢٦ وع ١١ و٢: ٢٠ و٣: ١٨ وتيطس ٢: ١٣
سِمْعَانُ بُطْرُسُ قال في رسالته الأولى «بطرس الخ» وسمعان اسمه الذي سمّاه به والداه وأما بطرس أو صفا هو الاسم الذي سمّاه به المسيح (يوحنا ١: ٤٢ ومتّى ١٦: ١٨) وذكر الاسمين هنا كما ذُكرا في (لوقا ٥: ٨ ويوحنا ١٣: ٦ و٢٠: ٢ و٢١: ١٥) وأماكن أُخر.
عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ هذا كما قال بولس على نفسه في (رومية ١: ١ وتيطس ١: ١). وبهذا اللقب أظهر خضوعه للمسيح ووقف نفسه لخدمته واستعداده لأن يخدمه كما يشاء. ولعله أشار بذلك إلى عمله في الكنيسة من أن يكون معلماً ومبشراً بالمسيح. وفيه بيان أنه ليس بعبد للناس لكي يطيعهم في شأن إيمانه وسيرته لكنه مكلف بأن يخضع عقله وضميره لسلطة المسيح.
ٱلَّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إِيمَاناً ثَمِيناً مُسَاوِياً لَنَا يتضح من هذا أنه كتب هذه الرسالة إلى الذين كتب إليهم الرسالة الأولى (ص ٣: ١). وخاطبهم هنالك بالنسبة إلى البلاد التي هم ساكنوها وإلى اختيار الله إيّاهم. وخاطبهم هنا باعتبار أنهم مساوون سائر المسيحيين بالإيمان.
ولعله قصد «بالإيمان» الحق الذي هو موضوع إيمانهم بالمسيح (ع ١٢) كما قصد به في مجمع أورشليم (أعمال ١٥: ٩). أو لعله قصد نعمة الإيمان التي اختبرها في قلوبهم وهي هبة الله وكان يتوقع أن ينموا فيها وهذا هو الأرجح إذ قال إنهم نالوا ذلك. وهذا يفيد أن الإيمان هبة مجانية لم يستحقوها ولم يقتنوها بحكمتهم واجتهادهم. ووصف «الإيمان» بكونه «ثميناً» بياناً لقيمته بالنظر إلى مقتنيه كما أبان في الرسالة الأولى (١بطرس ١: ٧ و١٩ و٢: ٤ – ٧). وأراد بقوله «مساوياً لنا» إن لإيمانهم قيمة إيمانه عينها في نظر الله لأنه وهبه للجميع مجاناً لا إنه مساو لإيمانه في المقدار. وأشار بقوله «لنا» إلى أنهم آمنوا بالحقائق التي آمن بها المسيحيون والرسل أنفسهم عينها إذ لا دليل في الإنجيل على أن إيمان الرسل كان يختلف شيئاً عن إيمان سائر المؤمنين. وكان يصعب على مؤمني اليهود أن يسلموا أن مؤمني الأمم مساوون في الإيمان لمؤمني شعب الله القديم فأكدّ لهم هنا تلك المساواة.
بِبِرِّ إِلٰهِنَا وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق بقوله «نالوا» وهو يبين الوسائل التي بها نالوا الشركة في هذا الإيمان الثمين وهو طريق التبرير الذي أعدته النعمة الإلهية. ونسب هذا «البر» إلى أقنومين من أقانيم اللاهوت وهم الآب والابن لأنه لم يقصد أن يدعو المسيح وحده الإله والمخلص بل قصد بالإله الآب ويسوع المسيح الابن كما يتضح من الآية التالية. ولهذا أبان إن الآب والابن واحد في القصد والشرف والقدرة. ونسب هذا «البر» الذي به يتبرر المؤمن إلى الله الآب لأنه منشئه وإلى المسيح الابن لأنه واسطته إذ حصّله بطاعته وموته (انظر تفسير رومية ١: ١٧). وفسّر بعضهم «البر» هنا بعدل الله وكون الله بلا محاباة جعله لا يميّز بين مؤمني اليهود وبين مؤمني الأمم فأعطى الفريقين إيماناً متساوياً.
٢ «لِتَكْثُرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ بِمَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ وَيَسُوعَ رَبِّنَا».
رومية ١: ٧ وع ٣ و٨ وص ٢: ٢٠ و٣: ١٨ ويوحنا ١٧: ٣ وفيلبي ٣: ٨
لِتَكْثُرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ هذا كما في (١بطرس ١: ٢) فارجع إلى التفسير هناك.
بِمَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ وَيَسُوعَ رَبِّنَا هذا يبيّن الشرط الذي به ينال التقدم في النعمة وفي السلام. وهذه «المعرفة» ليست مجرد المعرفة العقلية بل هي قلبية أيضاً متحدة بالمحبة. وهي تتضمن الآب والابن على وفق قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا ١٧: ٣). لأننا لا نعرف الآب إلا بالابن فصرّح الرسول إن هذه المعرفة الروحية سرّ النعمة والإيمان بخلاف المعرفة التي ادّعاها المعلمون الكاذبون فاستغنوا بها عن الإنجيل وافتخروا بها وكانت وهميّة باطلة.
وجوب التقدّم في الفضائل الروحية ع ٣ و٤
٣ «كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ ٱلإِلٰهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ ٱلَّذِي دَعَانَا بِٱلْمَجْدِ وَٱلْفَضِيلَةِ».
١بطرس ١: ٥ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و٢تسالونيكي ٢: ١٤ و١بطرس ٥: ١٠
كما هذا ليس بمتعلّق بشيء سبق لأن ما سبق مستقل. فالظاهر إن ما في هذه الآية والتي تليها أساس ما في (ع ٥ – ١١). من الواجبات. وهذا الأساس وفرة النعمة التي نالها المؤمنون من الله فوصفها ببيان مصدرها وسعتها ووسائل نيلها ونتائجها. وبهاتين الآيتين وأبان فعل الله لأجل المؤمن. وما بعدهما إلى (ع ١١). بيان ما على الإنسان أن يعمله لكي ينتفع بعمل الله.
قُدْرَتَهُ ٱلإِلٰهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا أي قدرة الله الآب وقدرة الابن متحدين لأنه لو قصد قوة الآب وحدها لم يكن من داع إلى نعتها بكونها إلهية لكنه وصف قدرة المسيح بذلك «لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ لٰكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ١٣: ٤). وكون قدرة المسيح إلهية يؤكد للمؤمنين أنه قادر أن يهب لهم كل بركة روحية بغنىً.
كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى إن الله لم يمنح كل ما هو للحياة والتقوى للمؤمنين رأساً بلا اجتهادهم فإن تلك الحياة حياة النفس وقال المسيح إنها نتيجة معرفة الله الحقيقية ومعرفة الذي أرسله (يوحنا ١٧: ٣). فهي معرفة جديدة إلهية قديمة أبدية فقدها الإنسان بالسقوط وُردت إليه بالنعمة. والمراد «بالتقوى» هنا مخافة الله المذكورة في (١تيموثاوس ٢: ٢ و٣: ١٦ و٤: ٧ و٨). وتكلم فيها بطرس نفسه في (أعمال ٣: ١٢ وص ١: ٣ و٦ و٣: ١١) وهي مظهر الحياة ونتيجة الشعور بأن الله يراقب كل الأعمال.
وقوله «كل» ذو شأن وهو دليل على أنه لم يبق للإنسان من حاجة إلى شيء للحياة والتقوى لم يهبه الله له.
بِمَعْرِفَةِ ٱلَّذِي دَعَانَا أي معرفة الله لأن العهد الجديد نسب إليه كل الدعوة (انظر ١بطرس ٢: ٩). والمراد بمعرفة إدراك صفاته وكونه وهو الذي يدعو إلى الخلاص.
بِٱلْمَجْدِ وَٱلْفَضِيلَةِ معنى «المجد» مجموع الصفات الإلهية المعلنة و «الفضيلة» جودة الله إو إظهار صفاته فعلاً لنفع خليقته. ومعنى العبارة إن ما حصّلته القدرة الإلهية للمؤمنين مما هو نافع لحياتهم وتقواهم لا يكون لهم فعلاً إلا بمعرفته الذي أعلنه المسيح الذي دعاهم من الظلمة إلى النور ومن الموت إلى الحياة. وقال «الذي دعانا» بصيغة الماضي (لا الذي يدعوننا بصيغة المضارع) بياناً لأن الدعوة الإلهية هي مبتدأ نيل الخلاص.
٤ «ٱللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا ٱلْمَوَاعِيدَ ٱلْعُظْمَى وَٱلثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلإِلٰهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ ٱلْفَسَادِ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ بِٱلشَّهْوَةِ».
ص ٣: ٩ و١٣ وأفسس ٤: ١٣ و٢٤ وعبرانيين ١٢: ١٠ و١يوحنا ٣: ٢ وص ٢: ١٨ و١٩ و٢٠ ويعقوب ١: ٢٧
ٱللَّذَيْنِ بِهِمَا أي المجد والفضيلة.
قَدْ وَهَبَ لَنَا أي الله الذي دعانا.
ٱلْمَوَاعِيدَ ٱلْعُظْمَى وَٱلثَّمِينَةَ أي البركات الموعود بها لا المواعيد نفسها. وهذه البركات ليست بركات العهد القديم فقط بالنظر إلى مجيء المسيح بل مواعيد الإنجيل أيضاً وهي التي تكلم بها المسيح نفسه في بيان غاية مجيئه وموهبة الروح القدس التي وعد الآب بها ولا سيما مواعيده المتعلقة بمجيئه ثانية ليثيب عبيده ويعاقب الأشرار.
ووصف هذه المواعيد «بالعظمى» لأنه يتعلق بها كمال الحياة المسيحية وتوافق كل الأحوال التي يكون المؤمنون فيها ووصفها «بالثمينة» لأنها حقيقية مؤكدة لا مجرد أقوال ولأنها قادرة على تعزية نفس الإنسان وعلى أن تؤكد له كل الشرف والسعادة اللذين يقدر أن ينالهما. ومن ذلك مغفرة الخطيئة والأمن عند الموت والتبرير في يوم الدين والقيامة المجيدة والسعادة الأبدية. وكون هذه المواعيد مواعيد الله يؤكد أن لا بد من إنجازها وهي تتضمن كل ما يختص بسعادتنا في هذا العالم والعالم الآتي المجهول. وهو تُظهر عرض محبة الله وطولها وعمقها وعلوّها المحبة التي تفوق العلم فإذاً هي ثمينة إلى الغاية. وما هي إلا آنية ذهبية مملوءة بأفخر جواهر السماء.
لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا أي بواسطة هذه المواعيد. وهذا بيان غاية الله من إعطائها إذ أنها مقترنة بإعطائه المسيح والروح القدس. فقصد الله أن يبني المؤمنون كل رجائهم البركات المذكورة هنا على تلك المواعيد. وهذا القول يشبه قول بولس «إِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ٧: ١).
شُرَكَاءَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلإِلٰهِيَّةِ أي صفاتها الأدبية التي لله في الكمال ويمكن خليقته أن تشبهه فيها بعض الشبه مثل القداسة والمحبة والحق والبر والسلام والفرح والمسرّة بالإحسان وطول الأناة لا بالمعنى إن الطبيعة البشرية تصير إلهية. والخلاصة أن معناها أن الله الذي خلق الإنسان أصلاً على صورته تعالى قصد بتجسد المسيح وموهبة الروح القدس أن يجعلنا مثله في كل ما يمكن أن يكون الأولاد كأبيهم السماوي وذلك «تَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» (أفسس ٤: ٢٤). وهذا نتيجة الولادة الجديدة التي بها نصير أبناء الله (١بطرس ١: ٢٣) والبركات المتعلقة بالولادة الجديدة.
هَارِبِينَ مِنَ ٱلْفَسَادِ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ بِٱلشَّهْوَةِ أشار بقوله «بالشهوة» إلى أن علّة الفساد الذي في العالم ليست في مادّة العالم أو مادّة الإنسان التي خُلق منها بل الشهوة نفسها. وهذا «الفساد» دليل على قوة الخطيئة على إضرار النفس والجسد وإهلاكهما. والخطيئة تفسد كل أهل العالم إذا كانوا منفصلين عن الله وخاضعين لشهواتهم. والمؤمنون يجب «لكي يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية» أن ينالوا من الله نعمة النجاة من ذلك الفساد التي بدونها تستحيل قداستهم. وهنا التباين بين شركاء الطبيعة الإلهية الذين هربوا من فساد العالم وأهل فساد العالم بالشهوة.
حث المؤمنين أن يتقدموا في الفضائل الروحية تدرجاً وأن يجعلوا دعوتهم واختيارهم ثابتين ع ٥ إلى ١١
٥ «وَلِهٰذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ ٱجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي ٱلْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً».
كولوسي ٢: ٣ ع ٢
وَلِهٰذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ ٱجْتِهَادٍ هذا متعلق بالآية الثالثة وهو يبيّن أن نيل كل ما هو ضروري للحياة والتقوى ومشاركة الطبيعة الإلهية بمعرفة يستلزم وجوب الاجتهاد والتقدم. فعظمة النعمة أوجبت عليهم فرط الغيرة لكي ينتفعوا بهذه النعمة العظمى ويبلغوا الكمال.
قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً وصف عمل الله بأنه وُهب لنا (ع ٤) وعمل الإنسان تقديم الفضيلة بدليل قوله «قدّموا» فاعتبر الرسول أن الإيمان هو الأصل الذي تتفرغ منه الفضائل السبع الروحية المذكورة هنا فاعتبر الإيمان أُماً لها جميعاً. واعتبر الإيمان ثابتاً يُقدّم عنه ولا يقدّم لكونه موهبة من الله (ع ٣ وأفسس ٢: ٨). ولم يقصد أن يُظهروا هذه الفضائل على الترتيب المذكور هنا أي أن يظهروا الفضيلة أولاً والمعرفة ثانياً والتعفف ثالثاً الخ وإنه لا يجوز أن تكون المعرفة أو غيرها من الفضائل أولاً. ولم يبين النسبة بين كل فضيلة وما قبلها أو ما بعدها بل أوجب عليهم أن يجتهدوا لكي يقتنوا كل تلك الفضائل وأن لا يكتفوا بواحدة أو اثنتين منها لأن حياتهم المسيحية لا تكمل إلا بها كلها. وذكّرهم بوجوب الإيمان لأنه بمقتضى الإنجيل هو أساس كل الفضائل الروحية ولكي لا يتوهموا أن لهم إيماناً تبرروا به وأنهم لا يحتاجون إلى غيره من الفضائل قال لهم «قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة الخ». وهذا يوافق قول يعقوب الرسول «مَا ٱلْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَاناً وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ؟ هَلْ يَقْدِرُ ٱلإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ» (يعقوب ٢: ١٤). والمراد «بالفضيلة» هنا نشاط روحي وشجاعة النفس فهي مثل معنى قول بولس «كونوا رجالاً» (١كورنثوس ١٦: ١٣).
ونسب بطرس الفضيلة إلى الله في (ع ٣) «والفضيلة» هنا ما يجعل إيمان الإنسان مثمراً في أعمال صالحة دونها الإيمان ميّت.
وَفِي ٱلْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً المقصود «بالمعرفة» هنا قوة التمييز بين الحلال والحرام وأن يدرك المؤمن ما هي إرادة الله في كل الأمور لكي يعرف الغاية الصالحة والطريق الصالحة لنيل تلك الغاية في الوقت الموافق. والكلمة اليونانية المترجمة هنا «بالمعرفة» ليست هي الكلمة اليونانية المترجمة بها المعرفة في (ع ٢ و٣ و٨) التي تعني المعرفة التامّة.
٦ «وَفِي ٱلْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي ٱلتَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي ٱلصَّبْرِ تَقْوَى».
أعمال ٢٤: ٢٥ ولوقا ٢١: ١٩
تَعَفُّفاً التعفف امتناع النفس عن كل الأميال الشريرة والمشتهيات المحرمة. وقوة إخضاع الشهوات لإطاعة العقل والضمير فيصح أن نعتبر التعفف ثمر المعرفة المذكورة آنفاً لأن بها يتعلم المؤمن أن يعتزل الشر ويطلب الصلاح (١كورنثوس ٢٦: ١).
خاطب بولس فيلكس الوالي في وجوب التعفف (أعمال ٢٤: ٢٥). وذكر هذه الفضيلة آخر فضائل أعمال الروح (غلاطية ٥: ٢٣).
صَبْراً وهو القوة على احتمال المصائب والضيقات بلا تذمر فهو يؤكد ثبات المؤمن في وقت الهوان والفقر والأخطار والاضطهاد واحتمال تجارب هذا العالم بلا تزعزع. قال المسيح لتلاميذه «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا ٢١: ١٩). وقال يعقوب الرسول إن الصبر يؤدي إلى كمال المؤمن (يعقوب ١: ٣ و٤).
تَقْوَى هي مخافة الله التي تحمل الإنسان على تعظيم الله وإكرامه في كل أفكاره وأقواله وأعماله ويجعل رضاه تعالى غاية حياته ومصدر كل سعادته. وهذه التقوى أصل الصبر في الضيقات والتعفف واعتزال الشهوات الرديئة.
٧ «وَفِي ٱلتَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي ٱلْمَوَدَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً».
رومية ١٢: ١٠ و١بطرس ١: ٢٢
مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً أي محبة أهل بيت الإيمان الذي هم شركاؤهم في «نعمة الحياة» (١بطرس ٣: ٧). إن المؤمن ليس منفرداً في هذا العالم فلا يليق أن يقصر النظر على ما هو لنفسه لكنه محاط بالإخوة ودين المسيح يوجب عليه أن يحب الله ويحب أخاه أيضاً (١يوحنا ٤: ٢٠ و٢١ ويوحنا ١٣: ٣٤ ورومية ١٢: ١٠ وغلاطية ٦: ١٠ و١تسالونيكي ٤: ٩ وعبرانيين ١٣: ١ وبطرس ١: ٢٢).
مَحَبَّةً هي المحبة الشاملة لكل البشر فتحمل المسيحي على أن يرغب في نفع الجميع لأنهم خُلقوا على صورة الله ولأن المسيح مات عن نفوس الجميع (متّى ٥: ٤٦ و٤٧ و١تسالونيكي ٣: ١٢). وأول هذه الفضائل الإيمان وآخرها على ترتيب ذكرها المحبة فهي إكليلها فيستحيل على المؤمن أن يزيد على هذا البيان. لأن «اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ» (١يوحنا ٤: ١٦). وبداءة بيان هذه الفضائل ونهايتها مثل البيان الذي ذكره بولس في (كولوسي ٣: ١٢ – ١٤). والآيات الثلاث التي ذُكرت فيه مختصر رسالة بطرس الأولى لأنه تكلم على الفضيلة فيها في (١: ١٣) والمعرفة في (٢: ١٥) والتعفف في (١: ١٥ و٢: ١١) والصبر في (١: ٦ و٢: ٢١) والتقوى في (١: ١٥ و١٦ و٣: ٤). والمودة الأخوية في (١: ٢٢ و٢: ١٧ و٣: ٨ و٤: ٨) والمحبة في (٤: ٨). وعلى هذه الصورة يجب على كل مؤمن أن يبني على أساس إيمانه مسكناً مقدساً للرب. فكل درجة في سلم هذه الفضائل تسهل الصعود إلى الدرجة التي فوقها.
٨ «لأَنَّ هٰذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ، تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
كولوسي ١: ١٠
في هذه الآية بيان علّة أمر الرسول بالتقدّم وبممارسة الفضائل المذكورة هنا.
لأَنَّ هٰذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ المراد «بهذه» الفضائل المذكورة آنفاً. فإن اقتنوها أي غُرست في قلوبهم بنعمة الله وكثرت باجتهادهم وبممارستهم إياها كل يوم (٢تسالونيكي ١: ٣).
تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لا يعتبر الرسول الحصول على هذه الفضائل السبع الغاية المطلوبة بالذات حتى يكتفي المؤمن بالحصول عليها فأوجب على المؤمن أن يعتبرها كنزاً وأن يجتهد أن يزيد مقدارها يوماً فيوماً ويحسبها وسائل لنيل شيء أعظم منها. فوجودها فيه دليل على أنه حي روحياً وكثرتها فيه بيّنة على أنه مثمر نافع. و «مصيرهم غير متكاسلين ولا غير مثمرين» يبرهن أنهم ليسوا كالفعلة الواقفين كل النهار في السوق بطالين (متّى ٢٠: ٣ – ١٦). ولا مثل الشجرة التي أمر صاحبها بأن تُقطع لأنها بلا ثمر (لوقا ١٣: ٧). وهذا يدل على أن الاجتهاد في التقدّم في الحياة الروحية ليس عبثاً بل يكلل بالنجاح كاجتهاد الناس في كسب المال أو الشرف أو العلم الدنيوي. ولعل بطرس قصد بهذه الكلمات وصف المعلمين الكاذبين الذين دخلوا بينهم ليخدعوهم وكانوا خالين من تلك الفضائل.
لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذه الغاية التي يجب أن يجتهدوا في نيلها. وهذه «المعرفة» ليست المعرفة التي ذُكرت في (ع ٥) وهي قابلة الزيادة لكنها المعرفة التامة للمسيح «المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم». قال بولس إن غايته نيل هذه المعرفة (فيلبي ٣: ١٠) وهي تُصيّر المسيحي مثل سيده (١يوحنا ٣: ٢).
٩ «لأَنَّ ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ هٰذِهِ هُوَ أَعْمَى قَصِيرُ ٱلْبَصَرِ، قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ ٱلسَّالِفَةِ».
١يوحنا ٢: ١١ وأفسس ٥: ٢٦ وتيطس ٢: ١٤
إن ما أنبأ به إيجاباً في (ع ٨) بقوله «إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ الخ» أنبأ به سلباً في هذه الآية بقوله «لأَنَّ ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ هٰذِهِ الخ». والمشار إليه بقوله «هذه» الفضائل المذكورة في (ع ٥ – ٧).
هُوَ أَعْمَى عمى روحياً فلا يرى قيمة هذه الفضائل ولا خلوه منها ولا يرى خطاياه ولا الخطر المحيط به (يوحنا ٩: ٤١ ورومية ٢: ١٩ و١كورنثوس ٨: ٢ ورؤيا ٣: ١٧).
قَصِيرُ ٱلْبَصَرِ لا يقدر أن يرى إلا الأمور الدنيوية العالمية القريبة إليه ولا يرى الأمور السماوية البعيدة الأبدية فهو خلاف المؤمنين الذين «لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين ١١: ١٣). وخلاف موسى الذي شهد له بأنه «تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى» (عبرانيين ١١: ٢٧). و «قصير البصر» لا يرى واجباته المعلنة بالإنجيل ولا غاية تعليمه.
قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ ٱلسَّالِفَةِ نسب إليه الرسول النسيان فوق العمى. لم يذكر أنه حين آمن انفصل عن الوثنية وسلوكه السابق ووعد أنه يموت للجسد ويحيا للقداسة فنسي ما أوجبت عليه مغفرة خطاياه وهو أن لا يرجع إلى الخطيئة وإنه يتقدم على قدر إمكانه في الفضائل المسيحية. فعدم قيامه بهذه الواجبات قاده إلى نسيانها وهذا النسيان ليس بعلة عماه وقصر بصره بل هو أحد أعراضهما.
١٠ «لِذٰلِكَ بِٱلأَكْثَرِ ٱجْتَهِدُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَٱخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذٰلِكَ لَنْ تَزِلُّوا أَبَداً».
رومية ١١: ٢٩ وع ٣ ومتّى ٢٢: ١٤ و١تسالونيكي ١: ٤ ويهوذا ٢٤ وص ٣: ١٧ ويعقوب ٢: ١٠
كرّر الرسول في هذه الآية أمره في الآية الخامسة وهو قوله «قدموا في إيمانكم فضيلة» نظراً لما يتوقف على إطاعته من المنافع العظمى.
لِذٰلِكَ أي للأسباب المذكورة في (ع ٨ و٩).
ٱجْتَهِدُوا يعلمنا الإنجيل افتقارنا إلى الروح القدس لكي نتقدس ونخلص ولكنه يصرّح لنا إن الروح القدس لا يفعل دون استعمال الوسائل فيحث المؤمنين على استعمالها واستعمال إرادتهم ونيتهم وعقولهم في إجراء إرادة الروح ومقاومة الشر والسهر للصلاة ويؤكد لهم أنهم بسعيهم في خلاصهم يعمل الله معهم لكي يريدوا ويعملوا حسب المسرّة (فيلبي ٢: ١٣).
أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَٱخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ سبق الكلام على دعوة الله للمؤمنين في تفسير (أفسس ٤: ١) وعلى الاختيار في تفسير (رومية ٩: ١١ و١تسالونيكي ١: ٤) وكلاهما عمل الله فإنه يدعو المخلَّصين ويختارهم للخلاص كما في (ع ٣ و١بطرس ١: ٢). ولا يمكن أن يكون ريب في دعوة المختارين واختيارهم بالنظر إلى علم الله السابق وقصده ولكن لا طريق لنا إلى تأكيد أنه من هم المدعوون والمختارون إلا بالطريق المعلنة هنا لأنه لا صوت من السماء ينبئ بأنه من هم المختارون ولا رؤيا تُعلن ذلك ولا أحد يقدر أن يقرأ الأسماء المكتوبة في سفر حياة الخروف. والإمارة الوحيدة التي نقدر أن نحكم بها في ذلك هي الحياة المقدسة وممارسة الفضائل المذكورة في (ع ٥ – ٧).
دعانا الله إلى الخلاص في الإنجيل واختارنا من العالم وحثّنا على قبول الدعوة إلى أن نؤمن بالمسيح ونسير كما يليق بالمختارين. فالذي يحب يمكنه أن يتحقق أن الله أحبه أولاً ومن اختار الله نصيباً له وسيداً وإلهاً أمكنه أن يتحقق أن الله اختاره لكي يكون له إلى الأبد.
لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذٰلِكَ أي ما ذُكر في (ع ٥) وما بعده إلى (ع ٧). والمعنى أنكم إذا اجتهدتم في التقدم وممارسة تلك الفضائل.
لَنْ تَزِلُّوا أَبَداً فلا تهلكوا. والتأييد للنفي لا للزلة. وهذا تأكيد للخلاص قال يعقوب الرسول «إِنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا» (يعقوب ٣: ٢). ولكن نعمة الله تقدّر المؤمن أن يقوم متى عثر (مزمور ٣٧: ٢٤ وأمثال ٢٤: ١٦).
١١ «لأَنَّهُ هٰكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ».
رومية ٢: ٤ و١تيموثاوس ٦: ١٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٨ وص ٢: ٢ و٣: ١٨
لأَنَّهُ هٰكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ أي إذا تقدمتم أنتم في الفضائل المذكورة في (ع ٥) وأكثرتم من ممارستها (ع ٨) قدّم الله لكم بسعة الدخول إلى ملكوته.
دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا الخ فيكون دخولكم كدخول الابن المحبوب المكرّم إلى بيت أبيه فلا تكونوا كالذين «يخلصون كما بنار» (١كورنثوس ٣: ١٥) أو الذين بالجهد يخلصون عند انكسار السفينة (١بطرس ٤: ١٨) بل تُفتح لكم أبواب المدينة السماوية على سعتها وتكللكم كل الفضائل المذكورة كمن في موكب المنتصرين (يوحنا ١٤: ٢ وغلاطية ٦: ٨). ويظهر أننا على قدر ما نستفيد من نعمة الله في هذا العالم نكسب مجداً وسعادة في العالم الآتي. وصف ملكوت المسيح بأنه أبديٌّ بمقتضى النبوءة به في (دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤).
التصريح بغاية هذه الرسالة ع ١٢ إلى ١٥
١٢ «لِذٰلِكَ لاَ أُهْمِلُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ دَائِماً بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَالِمِينَ وَمُثَبَّتِينَ فِي ٱلْحَقِّ ٱلْحَاضِرِ».
يهوذا ٥ وفيلبي ٣: ١ و١يوحنا ٢: ٢١ وكولوسي ١: ٥ و٢يوحنا ٢
لِذٰلِكَ أي لأن القيام بما ذُكر من الواجبات شرط نيل بركات ذلك الملكوت وأمجاده.
لاَ أُهْمِلُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ دَائِماً بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ أي بكتابته فيها كما فعل هنا. والمراد بقوله «هذه الأمور» الحقائق المذكورة آنفاً.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَالِمِينَ أظهر مثل هذا التلطف بولس (رومية ١٥: ١٤ و١٥) ويوحنا (١يوحنا ٢: ٢١). إن الذين سمعوا الإنجيل واعترفوا به يحتاجون إلى أن يذكرهم معلموهم الروحيون بما هو أهم لأن من نتائج هموم هذا العالم وملاهيه وأحزانه وتجاربه أن تجعل الناس ينسون ذلك الأهم أو يستخفون به حتى لا يؤثر في قلوبهم وضمائرهم كما يجب.
وَمُثَبَّتِينَ فِي ٱلْحَقِّ ٱلْحَاضِرِ هذا مثل قوله في رسالته الأولى (١بطرس ٥: ١٠) وعلى وفق قول المسيح له «وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا ٢٢: ٣٢). وأراد «بالحق الحاضر» الحق الذي عرفوه بتبشير الإنجيل. وهذا كقول بولس «ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ قَبْلاً فِي كَلِمَةِ حَقِّ ٱلإِنْجِيلِ، ٱلَّذِي قَدْ حَضَرَ إِلَيْكُمْ» (كولوسي ١: ٥ و٦) وهو «ٱلإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهوذا ٣). وهذا الحق اجتهد المعلمون الكاذبون أن يفسدوه ويحرموهم إياه.
١٣ «وَلٰكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقّاً مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ».
فيلبي ١: ٧ و٢كورنثوس ٥: ١ و٤ وع ١٤ وص ٣: ١
أَحْسِبُهُ حَقّاً أي أعتبره واجباً عليّ بالنظر إلى كوني رسولاً أمره المسيح بقوله «ارع غنمي» (يوحنا ٢١: ١٦) فلم يتطفل على ذلك.
مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أي ما بقيت حياً. اعتبر الرسول جسده مسكناً وقتياً لنفسه (انظر تفسير ٢كورنثوس ٥: ١ و٢). وفي هذا القول تصريح بخلود النفس وقصر الوقت الذي فيه تسكن الجسد وسهولة انتقال المؤمن إلى مسكنه السماوي.
أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ كأن نفوسهم نائمة تحتاج إلى من يوقظها (ص ٣: ١ ومرقس ٤: ٣٨ و٣٩ ولوقا ٨: ٢٤). ويظهر من ذلك أنه حسبهم في خطر غير منتبهين لتلك الحقائق ذات الشأن وأعداؤهم مستعدون لانتهاز فرصة غفلتهم ليسبوهم. والمراد «بالتذكرة» ما أتاه في هذه الرسالة.
١٤ «عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً».
٢تيموثاوس ٤: ٦ و٢كورنثوس ٥: ١ ويوحنا ١٣: ٣٦ و٢١: ١٩
عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ هذا يدل على أنه تيقن قرب وفاته وأن فرَصهُ لتعليمهم وإنذارهم صارت قليلة وهذا حمله على أن يكتب إليهم حالاً بالحرارة والغيرة.
كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وهو على شاطئ بحر الجليل على أثر قيامه إذ قال له «متى شخت الخ» (يوحنا ٢١: ١٨) وهو الآن قد شاخ فعرف من ذلك أنه على وشك أن يموت وأن موته سيكون على رغمه أو أنه يموت بالصلب. نعم إن شيخوخته وحدها تنبئ بقرب موته وأنبأ المسيح إياه بذلك زيادة على إنباء الشيخوخة. وطعن الإنسان في السن وتيقنه قرب الأجل مما يحمله على الاجتهاد في إتمام كل ما وضعه الله عليه من الواجبات.
١٥ «فَأَجْتَهِدُ أَيْضاً أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ».
لوقا ١٩: ٣١
قصد الرسول بهذه الآية أن رسائله تشهد بعد موته بالحقائق التي بشر بها في حياته. لا نعلم يقيناً إلى مَ أشار إليه بهذا القول ولكن المرجّح أنه أشار به إلى هذه الرسالة عينها. وظن بعضهم أنه أشار إلى الإنجيل الذي كتبه مرقس بإرشاده أو كان على وشك أن يكتبه أيضاً وظن غيرهم أنه أشار إلى قصده أن يكتب مثل هاتين الرسالتين إن بقي حياً. ولا دليل على صحة قول بعض التقليديين أنه أشار بذلك إلى أنه يسوس الكنيسة دائماً وأنه يشفع فيها في السماء. وتعبيره هنا عن موته «بالخروج» كتعبيره عن موت المسيح (لوقا ٩: ٣١).
إثبات تعليم الرسل ع ١٦ إلى ١٩
١٦ «لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ».
١تيموثاوس ١: ٤ وص ٢: ٣ ومرقس ١٣: ٢٦ و١٤: ٦٢ و١تسالونيكي ٢: ١٩ ومتّى ١٧: ١ الخ ومرقس ٩: ٢ الخ ولوقا ٩: ٢٨ الخ
لأَنَّنَا أي نحن الرسل. ذكر هنا علّة اجتهاده في أن يذكّرهم بالحقائق الإنجيلية.
لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً أي نحن الرسل لم نتبع ذلك لا في وعظنا ولا في كتابتنا. وأشار «بالخرافات المصنعة» إلى أمثال الخرافات الوثنية في شأن الآلهة الكاذبة والخرافات التي اعتقدها بعض اليهود وهي مسطرة في الأسفار غير القانونية المعروفة بالأبوكريفا. وما في أقوال الغنوسيين من التخيلات التي أشار إليها بولس (١تيموثاوس ١: ٤ و٢تيموثاوس ٤: ٤ وتيطس ١: ١٤). فإن غاية تلك الخرافات كلها خداع البسطاء وصرفهم عن التمسك بالحق.
إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ظن بعضهم أنه قصد بذلك ما شهد به لهم في رسالته الأولى (١بطرس ١: ٥ و١٣ و٤: ١٣). وظن آخرون أنه قصد به وعظ كل الرسل الذين شهدوا به بتعليم المسيح ومعجزاته وهو على الأرض. وظن آخرون أنه قصد به إنجيل مرقس الذي كُتب بإرشاده أو نصه والأرجح هو الأول.
بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بإعلان قوته والشهادة بها التي أظهرها بمعجزاته وأعلنها بأقواله ولا سيما تجليه وقيامته.
وَمَجِيئِهِ ليدين العالم (ص ٣: ٤ ومتّى ٢٤: ٣ و٢٧ و١كورنثوس ١٥: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٦ فانظر تفسير أعمال ١: ١١). ولعله قصد «بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِه» شيئاً واحداً وهو إتيانه ثانية للدينونة الذي به يُظهر قدرته العظيمة حسب قوله «حِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ… وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متّى ٢٤: ٣٠ انظر أيضاً مرقس ٣: ٩ ولوقا ٢٢: ٦٩). ويُظهر المسيح حينئذ قوته بإقامة الموتى وجمعهم للدينونة وفصل بعضهم عن بعض وتعيين نصيب كل منهم.
أنكر بعض من كتب بطرس إليهم هذه الرسالة مجيء المسيح ثانية لأنهم لم يروا علامات تدل على ذلك فقالوا إن كل شيء باقٍ كما كان (ص ٣: ٤) وكان غيرهم في خطر من السقوط «من ثباتهم» (ص ٣: ١٧). ولذلك أورد أسباب الثقة به.
بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ على طور التجلّي (متّى ١٧: ١ – ٥). وكان الرسل المشاهدين لذلك ثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا. وكان تجلي المسيح برهاناً على مجيئه ثانية.
إنه أكد لهم أنه المسيح فإذاً دعواه كلها حق.
إنهم سمعوا حينئذ صوتاً من السماء قائلاً أنه ابن الله المحبوب.
إنه قصد أن يكون تجلّيه عربون مجيئه ثانية وبيان الطريق التي يظهر فيها حينئذ على وفق قوله «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ» (متّى ١٦: ٢٨ انظر أيضاً مرقس ٩: ١ و٩ ولوقا ٩: ٢٧ و٢٨) ورأى بطرس فضلاً عما رآه في التجلي إقامة المسيح للموتى إذ قال لمرثا في إقامة لعازر «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١١: ٤٠ – ٤٤). ومثل شهادة بطرس باعتبار كونه شاهد عيان بعظمة مجد المسيح شهادة يوحنا (يوحنا ١: ١٤).
١٧ «لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهٰذَا مِنَ ٱلْمَجْدِ ٱلأَسْنَى: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ».
متّى ١٧: ٥ ومرقس ٩: ٧ ولوقا ٩: ٣٥ وعبرانيين ١: ٣
لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً ظن بعضهم أنه أشار «بالكرامة» إلى الصوت «وبالمجد» إلى النور الذي ضاء حوله ولكن لا داعي إلى هذا التفصيل بل الضروري أن نعتبر كل المظاهر إثباتاً لعظمة المسيح ولاهوته وسرور الآب به وبعمله. ودعا الرسول هنا الله «الآب» لأن الشهادة التي شهد بها للمسيح هي أنه ابنه.
صَوْتٌ كَهٰذَا الذي سأذكره.
مِنَ ٱلْمَجْدِ ٱلأَسْنَى قال هذا بياناً لجلال الله أو إشارة إلى السحابة المنيرة التي خرج الصوت منها. وكانت تلك السحابة مثل السحابة النارية التي كانت تسير قدام بني إسرائيل في البرية وكانت لهم علامة محسوسة على وجود الله. قال متّى «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى ١٧: ٥ انظر أيضاً مرقس ٩: ٧ ولوقا ٩: ٣٥).
١٨ «وَنَحْنُ سَمِعْنَا هٰذَا ٱلصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي ٱلْجَبَلِ ٱلْمُقَدَّسِ».
خروج ٣: ٥ ويشوع ٥: ١٥
يثبت هنا صحة الحادثة بذكر الشهود المعروفين.
نَحْنُ سَمِعْنَا أي أنا بطرس ويوحنا ويعقوب شهود العيان المذكورون سابقاً (ع ١٦). فإن كلا منهم نظر بعينيه وسمع بأذنيه فلا يمكن أن يكون التجلّي صورة خياليّة أو رؤيا.
فِي ٱلْجَبَلِ ٱلْمُقَدَّسِ صار مقدساً بظهور مجد الله فيه كالمكان الذي ظهر الله فيه لموسى إذ قال له «ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (خروج ٣: ٥ انظر أيضاً يشوع ٥: ١٥). ولم يكن لطور التجلي ذلك الوصف قبلاً لكنه اعتبره مقدساً الذين سمعوا نبأ ما كان فيه.
إثبات مجيء المسيح من أقوال العهد القديم ع ١٩ إلى ٢١
١٩ «وَعِنْدَنَا ٱلْكَلِمَةُ ٱلنَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، ٱلَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ ٱنْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ ٱلنَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ».
١بطرس ١: ١٠ وعبرانيين ٢: ٢ ومزمور ١١٩: ١٥ ولوقا ١: ٧٨ ورؤيا ٢٢: ١٦ و٢كورنثوس ٤: ٦
عِنْدَنَا ٱلْكَلِمَةُ ٱلنَّبَوِيَّةُ تثبّت تعليمنا في شأن مجيء المسيح الثاني ومجده المستقبل وأشار «بالكلمة النبوية» إلى شهادة كل الأنبياء بذلك ولم يشر إلى نبي بعينه.
وَهِيَ أَثْبَتُ يستحيل أن يكون المراد بهذا أن بطرس عنى إن شهادة الأنبياء بمجيء المسيح المستقبل أثبت من صوت الآب من السماء ومن أقوال الرسل في هذا الأمر لأنه قال في الأنبياء سابقاً «ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا» (١بطرس ١: ١٠ و١١). وقال أيضاً بطرس في المسيح في وعظه في الهيكل «ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ٱلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا ٱللّٰهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ» (أعمال ٣: ٢١). فإذاً معناه إن شهادة الأنبياء أثبت من شهادة الرسل بالنظر إلى كثرتهم لأن شهود التجلّي المعاينين ليسوا سوى ثلاثة والأنبياء أكثر وشهادتهم متعددة وشهادة الرسل واحدة وشهادة الأنبياء مكتوبة يمكن النظر فيها ومقابلة بعضها ببعض وكُتبت قبل التجلي بزمن طويل وعلى توالي المدد لا يمكن أن يكون اتفاق بينهم مع ما بينهم من المدد المختلفة على خداع الناس. وأما ذلك الاتفاق فيمكن أن يكون بين ثلاثة في آن واحد. فشهادة الأنبياء كانت أثبت لما ذُكر ولأنها ثبتت بأن نجزت حتى إن كل من أراد أن يتحقق ذلك أمكنه بتوجيه النظر إلى إتمام النبوءة.
ٱلَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ ٱنْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا هذا تصريح بعظمة النبوءات التي في كتاب الله ووجوب أن يدرسها الناس.
كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ وجود السراج في الظلام يظهر الخفيات التي لا تُرى بدونه ويوضح ما يكون بدونه مبهماً غير محقق. ومثله النبوءة فإنها تقوّينا كثيراً على إدراك الحق وكشفه فيجب أن نستعملها كما نستعمل السراج فإن السراج وإن لم يعط نوراً كنور الشمن ينفع كثيراً والنبوءة لا تُعطي نوراً كاملاً ولا تزيل كل ريب ومع ذلك يصدق عليها قول النبي «سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مزمور ١١٩: ١٠٥). وصف إشعياء الظلام بقوله «هَا هِيَ ٱلظُّلْمَةُ تُغَطِّي ٱلأَرْضَ وَٱلظَّلاَمُ ٱلدَّامِسُ ٱلأُمَمَ» (إشعياء ٦٠: ٢). وهذا وصف لمن معرفتهم الروحية قليلة واختبارهم زهيد بالنسبة إلى الذين لهم نور الإنجيل الجليّ. والظلام حال العالم بلا المسيح والروح القدس.
إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ ٱلنَّهَارُ دلّ الرسول بهذا على النور الساطع الذي يشرق على كل الأمور بمجيء المسيح ثانية مع أنها مبهمة للذين ليس لهم سوى سراج نبوآت العهد القديم ومجهولة لمن ليس لهم تلك النبوآت (انظر رؤيا ٢١: ٢٣ – ٢٥). فالخطأة قبل تجديد قلوبهم هم ظلمة ولكنهم بالولادة الجديدة صاروا أنواراً في الرب (أفسس ٥: ٨). والمؤمنون قبل مجيء المسيح ثانية في ظلمة بالنسبة إلى أنفسهم بعد ذلك من جهة معرفتهم وقداستهم وسرورهم بدليل قول بولس «لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّؤِ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ» (١كورنثوس ١٣: ٩ و١٠). و «النهار» هنا وقت إنجاز النبوءة.
وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ كوكب الصبح يسبق الشمس وينبئ بقرب طلوع النهار (رؤيا ٢: ٢٨ و٢٢: ١٦). وكان يوحنا المعمدان بمنزلة ذلك الكوكب قبل استعلان المسيح بدليل قول المسيح «كَانَ هُوَ ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ ٱلْمُنِيرَ» (يوحنا ٥: ٣٥). وأشار بقوله «في قلوبكم» إلى أن تلك القلوب كانت مظلمة قبلاً. وإن النور الذي يشرق هو نور روحي ينير القلوب لا العيون الجسدية. وما قيل هنا في كون تعليم الأنبياء للمؤمنين يومئذ استعداداً لمعرفتهم وهم قديسين في السماء بعد إتيان المسيح في المجد يصدق على كل تعاليم الكتاب المقدس وحينئذ يتم قول النبي «اَلْمَلِكَ بِبَهَائِهِ تَنْظُرُ عَيْنَاكَ. تَرَيَانِ أَرْضاً بَعِيدَةً» (إشعياء ٣٣: ١٧). وقول يوحنا الرسول «وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى سِرَاجٍ أَوْ نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ» (رؤيا ٢٢: ٥).
٢٠ «عَالِمِينَ هٰذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ ٱلْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ».
ص ٣: ٣ ورومية ١٢: ٦
عَالِمِينَ هٰذَا أَوَّلاً إنه علاوة على وجوب الانتباه لكلام النبوءة يجب عليهم أن يعلموا ما سيذكره وينتبهوا له لكي يدركوا معناه.
أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ ٱلْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ لا يظهر جلياً من النص أنه هل قصد تفسير الأنبياء أنفسهم أو تفسير قراء النبوءة لكن الآية الآتية تعيّن الأول وهي قوله ما معناه أن النبوءات ليست من الأنبياء أنفسهم بل من الروح القدس. والمراد «بالتفسير» هنا إدراك الإنسان تمام معنى النبوءة حتى يندر أن يوضحه لغيره. كما يظهر من قول الإنجيلي في المسيح «وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى ٱنْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ» (مرقس ٤: ٣٤). ومعنى الجملة أن الأنبياء لم يتنبأوا لأنهم عرفوا قبلاً ما تنبأوا به ثم تكلموا بما عرفوا لأنه لا قوة لهم على علم ما في المستقبل حتى تكون نبوّتهم تفسير علمهم الخاص.
وليس المعنى هنا كما ظن بعض التقليديين أنه يستحيل أن أفراد المؤمنين يفهمون معنى الكتاب المقدس بل هم مفتقرون إلى تفسير الكنيسة كلها. وليس المعنى أنه لا يحسن أن نفسّر النبوءة على حدة بل يجب أن نأخذ معاني كل النبوءات معاً ولا أن النبوءة لا يمكن أن تُفهم بنفسها بل بإنجازها ولعل هذا صحيح ولكنه ليس بالمراد هنا وليس قصد الرسول تكرير قوله السابق أن الأنبياء لا يفهمون نبوآتهم (١بطرس ١: ١٠ – ١٢). ولا أن قرّاء النبوآت لا يقدرون أن يدركوا المعنى بأنفسهم بل يفتقرون إلى تعليم الروح القدس لكي يستطعيوا تفسيرها فهذا صحيح لكنه ليس المقصود هنا كما تدل القرينة. فالمراد التصريح بأن النبوءة ليست بمقتضى أفكار النبي خاصة أو تصوّرات عقله بل إنها تختلف عن ذلك كثيراً في أصلها وحقيقتها.
٢١ «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
إرميا ٢٣: ٢٦ و٢تيموثاوس ٣: ١٦ و١بطرس ١: ١١ و٢صموئيل ٢٣: ٢ ولوقا ١: ٧ وأعمال ١: ١٦ و٣: ١٨
لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ هذا علّة ما قيل في الآية السابقة وهو نص على أن أصل النبوءة ليس من الإنسان سواء كانت من نبوءات العهد القديم أم من نبوءات العهد الجديد. وهذا يصدق على كل ما في كتاب الله فكل ما في الكتاب لإنجاز غاية إلهية وكل كاتب من كتبته الملهمين مرسل من الله. والمراد بقوله «مشيئة إنسان» الإنسان نفسه فينفي أن أصل النبوءة بشريّ ويثبت أن النبي لم يتنبأ بما له بل بما لله وأن نبوءته ليست من قوة ذاتية فيه.
بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ أي الناس الذين ألهمهم الله وهذا حملهم على التكلم فلم يتكلموا من مشيئتهم بل بحمل الروح القدس وإعلانه وهذا على وفق قوله في يوم الخمسين في أحدهم «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ ٱلَّذِي سَبَقَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ» (أعمال ١: ١٦).
مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ كما تُساق السفينة من الريح (أعمال ٢٧: ١٥ و١٧). كان الأنبياء كسائر الناس وصاروا أنبياء بتأثير الروح وقوته فهو الذي جعلهم يتكلمون وهم إذا كانوا ممتلئين بالروح لم يعلنوا مشيئتهم بل مشيئة الله. وما قيل هنا في النبوءة يوافق ما قيل في (متّى ١: ٢٢ و٢: ١٥ وأعمال ١: ١٦ و٣: ١٨) وما قيل في العهد القديم (عدد ١١: ١٧ و٢٥ – ٢٩ و١صموئيل ١٠: ٦ و١٠ و١٩: ٢٠ و٢٣ وإرميا ١: ٥ – ٧).
إن أصل الكتاب المقدس إلهي ولكن البشر كانوا آلات الروح لإعلانه وهو مكتوب بلغات الناس لكن كلماته كلمات الذي «تكلم من السماء».
السابق |
التالي |