الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 08 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثامن
سخاء كنائس مكدونية (ع ١ – ٦). وحث كنيسة كورنثوس على الاقتداء بهم (ع ٧ – ١٥). مدح تيطس والإخوة الذين معه لاجتهادهم في جمع الإحسان لفقراء كنيسة أورشليم عدد ١٦ – ٢٤.
وجوب السخاء على الفقراء
هذا الموضوع يشغل هذا الأصحاح وما يليه. أخذ الرسول أولاً في مدح كنائس مكدونية على سخائها مع ضيقاتها الشديدة وفقرها المدقع فإنها بذلت ما فوق طاقتها في مساعدة فقراء المؤمنين في أورشليم (ع ١ – ٣). وإنها لم تفعل ذلك كرهاً ولا طوعاً لإلحاح الرسول بل هي ألحت عليه أن يقبل إحسانها ويبعث به إلى أولئك الفقراء (ع ٤). وما اكتفوه بإعطاء الرب أموالهم فأعطوه أنفسهم أيضاً (ع ٥). وسأل تيطس أن يحث الكورنثيين على الاقتداء بإخوتهم المكدونيين في السخاء وأن يكملوا الجمع الذي ابتدأوه (ع ٦). ثم سأل مؤمني كورنثوس وسألهم ذلك بطريق النصح لا الأمر لأنه رغب في أن يظهروا خلوص محبتهم وأن يتمثلوا بالمسيح في إنكار نفسه لنفع غيره (ع ٨ و٩). ولأنه تيقن أن السخاء ينفعهم (ع ١٠ و١١). وأبان أن الأمر الجوهري نشاط المعطي لا وفرة العطية (ع ١٢). وكان غرض الرسول من ذلك أن يكون في المؤمنين شيء من المساواة في الماديات وهو أن يسد فضل الغني عوز الفقير (ع ١٣ – ١٥). وشكر الله في هذا على أنه أنشأ في تيطس رغبة واجتهاداً في هذا الأمر (ع ١٦ و١٧). وأرسل مع تيطس أخاً ممدوحاً من كل الكنائس عُيّن مساعداً للرسول بأن يتسلم مال الإحسان (ع ١٨ و١٩). وهذا كان على وفق سؤاله أن يُقام آخرون معه وكلاء على الحسنات (ع ٢٠ و٢١). وأرسل أخاً آخر مع تيطس وذاك وكان هذا مشهوراً بحسن الصيت والاجتهاد (ع ٢٢). وأوصى بتيطس ورفيقيه وسأل الكنيسة أن تظهر محبتها لهم وصحة افتخاره بها (ع ٢٣ و٢٤).
١ «ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ».
ثم من العلامات التي اعتادها الرسول في الانتقال من موضوع إلى آخر.
نُعَرِّفُكُمْ… نِعْمَةَ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ سألهم الرسول في رسالته الأولى أن يجمعوا الإحسان للقديسين (١كورنثوس ١٦: ١). وزاد هنا على ذلك بيان ما فعلته كنائس مكدونية في هذا الشأن ترغيباً لهم في السخاء. ونسب سخاء المكدونيين إلى الله الذي هو منشئ كل فضيلة في نفس الإنسان لا إلى كرم طبيعتهم ولا إلى رغبتهم في إرضاء الرسول. ونعمة الله هذه لم تنف حريتهم ولا نسبة السخاء إليه ولا استحقاقهم الإثابة عليه فكانوا يقادون بروح الله ولا يشعرون به لموافقة إرادتهم لإرادته.
ومكدونية هي القسم الشمالي من قسمي بلاد اليونان في عصر الرومانيين ومن أشهر كنائسها التي أسسها بولس كنيسة فيلبي وتسالونيكي وبيرية. ومدح الرسول في موضع آخر سخاء بعضهم (ص ١١: ٥ وفيلبي ٢: ٢٥ و٤: ١٥ و١٨). ولعل من جملة ما حمله على نسبته سخاء المكدونيين إلى الله خشيته أن يلحق أهل كورنثوس الحسد من مدحه كنائس مكدونية بالعطاء أكثر منهم وبيان على تلك الفضيلة لكي يطلبوها من الله وينالوها. وهذا موافق لقول داود الملك في المال الذي جمعه لبناء الهيكل «مَنْ أَنَا وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَبَرَّعَ هٰكَذَا، لأَنَّ مِنْكَ ٱلْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (١أيام ٢٩: ١٤).
٢ «أَنَّهُ فِي ٱخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ ٱلْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ».
مرقس ١٢: ٤٤ رومية ١٢: ٨ وص ٩: ١١
ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ الأرجح أن هذه الضيقة نتيجة الاضطهاد الذي وقع عليهم من أجل الإنجيل. ونستنتج مما اختبره بولس في مكدونية من المقاومة (أعمال ١٦: ١٩ و٢٠ و١٧: ٥ و٦ و١٣) ما كان يصيب التلاميذ منها. وذكر الرسول في رسالته إلى أهل تسالونيكي الاضطهادات والضيقات التي أصابتهم في سبيل الدين المسيحي (١تسالونيكي ٢: ١٤ و٢تسالونيكي ١: ٤).
وُفُورُ فَرَحِهِمْ بتعزية مواعيد الإنجيل وشعورهم بمغفرة خطاياهم ورضى الله عنهم. ومثل هذا الفرح يسمى في الإنجيل «بفرح الروح القدس» (١تسالونيكي ١: ٦). وهذا الفرح زاد على حزنهم من ضيقهم وجعلهم يسخون على إخوتهم إعلاناً لشكرهم الله على ما منحهم من البركات الروحية.
فَقْرِهِمِ ٱلْعَمِيقِ من علل هذا الفقر اضطهاد الناس وبغضهم إياهم ومنعهم لهم من وسائل المعاش لأجل دينهم وأحوال بلاد مكدونية فإن كان أهل مكدونية صاروا يومئذ أسرى الفقر لأن بلادهم أخذت تخرب منذ استولى عليها الرومانيون ولم تتخلص من ذلك. وكانت قد مر عليها ثلاث حروب شديدة الأولى بين يوليوس قيصر وبمبيوس والثانية بين الدولة الرومانية وبروتس وكاشيوس. والثالثة بين أوغسطس وأنطونيوس. فهبطت البلاد إلى هاوية الفقر حتى سألت أرباب الحكومة الرومانية أن يرفعوا عنهم بعض الجزية فرأى أولئك الحكام أن طلبها في محله فأجابوها إلى ما سألت فما كان يستغرب أن يعتذر أهل كنائس مكدونية بعميق فقرهم عن الإحسان على فقراء أورشليم لكنهم لم يتعذروا شيئاً.
لِغِنَى سَخَائِهِمْ أي لكثرة عطائهم وهذا متعلق بقوله «فاض». وفاض وفور فرحهم لغنى سخائهم لأن وفور فرح المسيحي حملهم على كثرة العطاء. وفاض وفور فقرهم لغنى ذلك السخاء بمقابلة الأول بالثاني ولهذا السبب عينه مدح المسيح الأرملة الفقيرة التي ألقت الفلسين في الحزانة وقال أنها أعطت أكثر من الأغنياء الذين ألقوا فيها من فضلاتهم تقدمات ثمينة لأنها أعطت من إعوازها. والخلاصة أن من نظر إلى عمق فقر المكدونيين وكثرة عطائهم تحقق أنهم من أول الأسخياء.
٣ – ٥ «٣ لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ ٱلطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، ٤ مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ ٱلنِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ ٱلْخِدْمَةِ ٱلَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ. ٥ وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ».
أعمال ١١: ٢٩ و٢٤: ١٧ ورومية ١٥: ٢٥ و٢٦ و١كورنثوس ١٦: ١ – ٤ وص ٩: ١
لأَنَّهُمْ اللام للتعليل وما بعدها إثبات لما سبق في الآية الثانية من الكلام على سخاء الكنائس المكدونية.
أَعْطَوْا ما أعطوه هو ما جمعوه إحساناً إلى فقراء المؤمنين في أورشليم. وذكر الرسول أربعة أمور من متعلقات ذلك العطاء:
- الأول: إنه كان فوق طاقتهم.
- الثاني: إنه كان تبرعاً.
- الثالث: إنهم استأذنوا في أن يعطوا.
- الرابع: إنهم فوق إعطائهم أعطوا ما لم يتوقعه الرسول وهو أنفسهم.
فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ هذا أول برهان على غنى سخائهم. وقال الرسول هذا عن اختبار لأنه جال بينهم وعرف عمق فقرهم.
مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فكانوا بذلك مثلاً لمؤمني كورنثوس فإن هؤلاء لم يجمعوا شيئاً من مال الإحسان إلا بعد أن سألهم إياه في الرسالة الأولى. ومع الرسالة الثانية أرسل إليهم أناساً يلحون عليه بذلك. ولم يكن لهم عذر في الإمساك كما كان لمؤمني مكدونية لو أرادوا الاعتذار لأن كورنثوس كانت في أحسن حال من الأحوال. وقوله «من تلقاء أنفسهم» تلميح إلى مثل كان شائعاً وهو «المعطي تبرعاً يعطي مضاعفاً». وإلى قول الوحي «ٱلْمُعْطِيَ ٱلْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ ٱللّٰهُ» (ص ٩: ٧). ولا منافاة بين قوله هنا وقوله «لأَنِّي أَعْلَمُ نَشَاطَكُمُ ٱلَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى ٱلْمَكِدُونِيِّينَ… وَغَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ» (ص ٩: ٢ و٣). لأن مدحه سخاء الكورنثيين للمكدونيين لم يتضمن شيئاً من طلب الإحسان منهم أو حثهم عليه مع أن المكدونيين اتخذوه حثاً على ذلك.
مُلْتَمِسِينَ… ٱلنِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ ٱلْخِدْمَةِ الخ أي أنهم ألحوا على الرسول بأن يأذن لهم في مشاركة سائر الكنائس في مساعدة إخوتهم المحتاجين. ولفظتا «أن نقبل» ليستا في الأصل اليوناني فإن أضفناهما إلى الأصل كان معنى «النعمة» العطية أو المال المجموع» وإن قطعنا النظر عنهما كان معنى «النعمة» المنة كما تُرجمت في (أعمال ٢٥: ٣). والمراد بها منة الاشتراك في الإحسان. ولا بد لاضطرارهم إلى التماس ذلك من بولس من علة والمرجح أنها شفقته عليهم لفقرهم لأنهم أعطوا ما فوق طاقتهم.
لَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا توقع بولس من المكدونيين تقدمة مالية على قدر طاقتهم.
بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ وَلَنَا فإنهم وقفوا أنفسهم وكل مالهم للرب بدون استثناء وللرسول أيضاً في ما يليق به كالامتثال له بالقيام بما يجب عليهم من الإيمان والعمل. والرسول لم يعجب من وقفهم أنفسهم للمسيح لأن ذلك مما يجب على كل مؤمن لكن الذي عجب منه شمول ذلك الوقف لأموالهم وأوقاتهم وأفكارهم وأقوالهم وأعمالهم واقترانه بسخائهم في العطاء. والأولية في قوله «أولاً» الأولية في الأهمية لا في الزمان. وهذه الآية دليل قاطع على نفع السخاء في سبيل المسيح فإنه يجعل المؤمن مشابهاً لله المعطي الكريم وللمسيح الذي بذل نفسه مجاناً عن جميع البشر. فكان هيناً على المسيح أن يعطي المال لكنه لم يلتفت إلى ذلك بل أعطى نفسه. فمتى ابتدأنا نذوق لذة العطاء في سبيل المسيح حباً له لم ننته إلا وقد أعطيناه أنفسنا وكل مالنا.
بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ أي أنهم وقفوا أنفسهم لله وذلك ما اقتضته مشيئته فإنه هو الذي وهب لهم نعمة مكنتهم من أن يشاءوا ما يشاء.
٦ «حَتَّى إِنَّنَا طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فَٱبْتَدَأَ، كَذٰلِكَ يُتَمِّمُ لَكُمْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةَ أَيْضاً».
ع ١٧ وص ١٢: ١٨
حَتَّى أي بناء على ما رأينا من سخاء كنائس مكدونية الوافر. وهذا رغب بولس في أن يحث كنيسة كورنثوس على مثله.
طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ كتب بولس إلى مؤمني كورنثوس في رسالته الأولى أن يجمعوا الإحسان لفقراء أورشليم ويظهر أن تيطس لما ذهب إلى كورنثوس بعد كتابة تلك الرسالة شرع في جمع ذلك الإحسان ونجح بعض النجاح ووقف عنه حين ذهب إلى مكدونية للقاء الرسول وبعدما سمع الرسول منه ما أتاه من ذلك في كورنثوس سأله أن يرجع سريعاً ويتمم الجمع.
كَمَا سَبَقَ فَٱبْتَدَأَ قبل أن ترك كورنثوس لملاقاة بولس في مكدونية. ولعل المراد أنه أخذ يجمع الإحسان في كورنثوس قبل أن شرع المكدونيين في الجمع.
هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةَ أي فعل النعمة وهو جمع الصدقات كما جاء في (ع ١). فحسب الرسول السخاء المسيحي من جملة الفضائل والنعم كالإيمان والمحبة.
وجوب السخاء المسيحي ع ٧ إلى ١٥
موضوع الرسول في هذا الفصل إثبات وجوب السخاء وأثبت ذلك بخمسة أدلة:
- الأول: إنه ضروري لكمال الفضائل المسيحية.
- الثاني: علامة أن المعطي مخلص الإيمان المسيحي.
- الثالث: الاقتداء بالمسيح الذي افتقر لأجلنا وهو الغني.
- الرابع: إنه يؤول إلى نفع المعطي.
- الخامس: إن ما طُلب منهم من السخاء كان لائقاً بهم.
٧ «لٰكِنْ كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فِي ٱلإِيمَانِ وَٱلْكَلاَمِ وَٱلْعِلْمِ وَكُلِّ ٱجْتِهَادٍ وَمَحَبَّتِكُمْ لَنَا، لَيْتَكُمْ تَزْدَادُونَ فِي هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ أَيْضاً».
مدحهم بولس على ما أدركوه من الفضائل ترغيباً لهم في ممارسة غيرها.
كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ الكاف متعلقة بتزدادون بعد قوله «ليتكم». وقوله «كل شيء» مقيد بالقرينة وبما يأتي. وسبق مثل هذا المدح لهم في الرسالة الأولى (١كورنثوس ١: ٥ – ٧). ويجب أن نعتبر هنا أن هذا الكلام موجه إلى أكثر أعضاء كنيسة كورنثوس لا جميعهم لأننا نرى من بعض كلامه أن بعض أولئك الأعضاء ولا سيا بعض المعلمين كانوا مستحقين شديد الملام.
فِي ٱلإِيمَانِ بدل من قوله «في كل شيء» بإعادة الجار. والإيمان هنا كما في (ص ١: ٢٤) الثقة التامة بصدق الإنجيل والتمسك به على الدوام. ووُضع في أول قائمة الفضائل لأن الازدياد فيه يؤكد النشاط والاجتهاد والثبات في الحياة الروحية.
ٱلْكَلاَمِ وَٱلْعِلْمِ (١كورنثوس ١: ٥). المراد «بالكلام» هنا الحق المعلن به للإنسان لإفادة غيره «والعلم» الحق الذي أدركه لإفادة نفسه.
كُلِّ ٱجْتِهَادٍ أي بذل كل ما في الطاقة في القيام بالواجبات وممارسة الفضائل المسيحية.
مَحَبَّتِكُمْ لَنَا ذكر محبتهم له لأنها عزيزة عنده ولأنه مزمع أن يمتحنها بقبولهم نصحه في جمع الإحسان.
فِي هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ أي السخاء. عبّر عنه بالنعمة لا بالفضيلة دلالة على أنه هبة من الله لا من الصفات البشرية.
٨ «لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ ٱلأَمْرِ، بَلْ بِٱجْتِهَادِ آخَرِينَ، مُخْتَبِراً إِخْلاَصَ مَحَبَّتِكُمْ أَيْضاً».
١كورنثوس ٧: ٦
لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ ٱلأَمْرِ أبان الرسول مراده بطريق السلب أولاً كعادته وهو أنه لا يريد أن يعطوا الصدقات لمجرد طلبه لأن العطاء إطاعة للأمر ليس بسخاء فشرط السخاء الحق أن يكون تبرعاً. وهذا لا يمنع من إيراد الأسباب الموجبة للعطاء كاحتياج المتصدق عليه ومدح الأسخياء للاقتداء بهم. وقوله «لست أقول» الخ لا يفيد أنه لم ينطق به عن الوحي لأنه يمكن الروح أن يوحي بالنصح كما يوحي بالأمر.
بَلْ بِٱجْتِهَادِ آخَرِينَ أي أنه عدل عن الأمر بالعطاء إلى ذكر اجتهاد المكدونيين في السخاء.
مُخْتَبِراً إِخْلاَصَ مَحَبَّتِكُمْ إخلاص المحبة لا يختبر بالأقوال بل بالأعمال فبرهان إخلاص المحبة لله هو إطاعة أوامره وبرهان المحبة للإخوة هو مساعدتهم في ضيقاتهم وبرهان محبتهم للرسول قبولهم نصح لهم أن يعطوا بسخاء.
إن المحبة جوهر الدين المسيحي فمن أول مطاليبه أن نعمل الخير لجميع الناس بقدر ما لنا من الفرص فنظهر إخلاص محبتنا للمسيح ولكنيسته بأن ننكر نفوسنا ونبذل مالنا وخدمتنا في سبيل إسعاد غيرنا وإنقاذهم الأبدي.
٩ «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ».
متى ٨: ٢٠ ولوقا ٩: ٥٨ وفيلبي ٢: ٦ و٧
هذه الآية معترضة بين (ع ٨ و١٠) غايتها البيان مما فعله المسيح أن إنكار النفس برهان المحبة وإننا مكلفون بالإحسان إلى غيرنا شكراً للمسيح واقتداء به. ذكر لهم المكدونيين أولاً مثالاً في عمل الخير وذكر لهم هنا مثالاً أعظم منهم جداً في ذلك.
تَعْرِفُونَ ذكرهم الرسول بمحبة المسيح التي عرفوها قبلاً لكي ينتبهوا كل الانتباه لها ولما توجبه علينا تلك المحبة.
نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي محبته الخالصة التي لا يستحقها الإنسان وهي غير محدودة. ودعا المسيح رباً إشارة إلى عظمته ومجده وأنه ملك نحن وكل ما لنا له. وأظهر أدلة هذه النعمة في باقي الآية. وقال إنه «ربنا» إشارة إلى كونه مستعداً أن يتخذ قدرته العظيمة للاعتناء بنا.
وذكر أنه «يسوع المسيح» ليدل على أن ذلك الرب القدير هو مخلصنا أيضاً وأن الله مسحه لعمل الفداء وأعطاه كل سلطان في السماء وعلى الأرض. والمجد الذي له من حقوقه باعتبار كونه الأقنوم الثاني في اللاهوت. وقال الإنجيل «قد أعطي المجد باعتبار كونه إلهاً متجسداً» (فيلبي ٢: ٩ – ١١ وعبرانيين ١: ٢).
أَجْلِكُمُ أي حباً لكم. قال ذلك للكورنثيين لكي يجعلهم يشعرون بما عليهم من الشكر للمسيح والمحبة له. نعم إن المسيح مات عن كل الناس لكن هذا لا يؤثر فينا مثل أن يقال مات عنا. وقد مات عنا ونحن خطأة وأعداء (رومية ٥: ٨ و١٠) لأنه رآنا تحت سلطة الخطيئة (رومية ٧: ٤) وتحت الدينونة (رومية ٥: ١٨) و «اللعنة» (غلاطية ٣: ١٣) وعرضة للهلاك (يوحنا ٣: ١٦).
ٱفْتَقَرَ بتجسده لأنه مع كونه «مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ» (فيلبي ٢: ٦ و٧). وترك مجد لاهوته الأسنى وظهر «في شبه جسد الخطية» (رومية ٨: ٣). وتخلى عن استعمال معظم قدرته الإلهية وعن كل استعمال لها في ما يختص بنفسه وعاش عيشة فقير بين الناس. وخدم الناس كعبد كما أنه أخذ صورة عبد. فكان بالنسبة إلى أموال العالم وأملاكه فقيراً إذ وًُضع في مذود وربي في بيت نجار. وقال في شأن نفسه «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متى ٨: ٢٠). وحين مات مات موت عبد مجرم ودُفن في قبر غيره. وافتقر في الأصدقاء إذ لم يكن منهم سوى اثني عشر تلميذاً خانه واحد منهم وأنكره آخر وكلهم تركوه وهربوا عند ضيقته. وأبوه السماوي صرف وجهه عنه حتى صرخ قائلاً «إلهي إلهي لماذا تركتني» (متى ٢٧: ٤٦). وافتقر في الصيت إذ أبى الناس أن يدعوه ابن الله فدعوه ابن النجار وخليل العشارين والخطأة وبعلزبول. وكان «مجرباً في كل شيء مثلنا» (عبرانيين ٤: ١٥) حتى أنه عُرض لتجربة الروح النجس وما أثقل ذلك على طبيعته المقدسة. ومن أعظم أمور فقره أنه وُضع عليه دين كل العالم فإنه كان «رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ… لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا… وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا… وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٣ – ٦). ففقر المسيح لا نظير له ونتبين عظمته بمقابلته بغناه قبل تجسده. وكان ذلك الفقر الشديد اختيارياً بدليل قوله «أَضَعُ نَفْسِي… لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا ١٠: ١٧ و١٨).
وَهُوَ غَنِيٌّ كان غنياً قبل أن أتى إلى هذا العالم فادياً. وكان غناه قائماً بأن له كل الصفات الإلهية وكان غنياً في المجد الذي كان له عند الآب قبل كون العالم (يوحنا ١٧: ٥). وكان غنياً في محبة الآب إياه وعبادة جنود السموات له وفي كمال السعادة. وظهرت وفرة نعمته على الناس بأنه مع هذا الغنى العظيم افتقر شديد الافتقار اختياراً من أجلنا.
لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ هذا غاية اتضاع المسيح. اقتنى المؤمنين به كل الغنى الذي كان له في السماء وأخلى نفسه منه حين نزل إلى الأرض فادياً لأنهم نالوا الفداء بدمه ومغفرة خطاياهم والسلام مع الله وجدة الحياة والانتصار على العالم والشهوات والشيطان فيحصلون على المجد الذي له (يوحنا ١٧: ٢٢). وصاروا شركاء الطبيعة الإلهية (٢بطرس ١: ٤). وسيملكون مع المسيح (رؤيا ٥: ١٠). وورثة الله وارثين مع المسيح (رومية ٨: ١٧) وكل شيء لهم (١كورنثوس ٣: ٢٢ و٢٣). وكل هذا الغنى حصلوا عليه بفقر المسيح. فلو لم يُخضع نفسه لاتضاع التجسد والألم والإهانة والموت بقينا فقراء إلى الأبد خالين من القداسة والسعادة والمجد.
وأورد بولس ذلك بياناً لوجوب أن ننكر أنفسنا ونسخو بأموالنا لنفع غيرنا فهو كقول يوحنا «مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ ٱلْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِيهِ» (١يوحنا ٣: ١٧). وأبان عظمة نعمة ربنا يسوع المسيح بأربعة أشياء:
- الأول: سمو شأن المنعم.
- الثاني: دناءة المنعم عليهم.
- الثالث: ما تكلفه المنعم من النفقة العظيمة ليرفع المنعم عليهم من دناءتهم إلى شركة عظمته.
- الرابع: نفاسة الفوائد التي حصلوا عليها.
١٠ «أُعْطِي رَأْياً فِي هٰذَا أَيْضاً، لأَنَّ هٰذَا يَنْفَعُكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ سَبَقْتُمْ فَٱبْتَدَأْتُمْ مُنْذُ ٱلْعَامِ ٱلْمَاضِي، لَيْسَ أَنْ تَفْعَلُوا فَقَطْ بَلْ أَنْ تُرِيدُوا أَيْضاً».
١كورنثوس ٧: ٢٥ أمثال ١٩: ١٧ ومتّى ١٠: ٤٢ و١تيموثاوس ٦: ١٨ و١٩ وعبرانيين ١٣: ١٦ ص ٩: ٢
هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة.
أُعْطِي رَأْياً فِي هٰذَا أي في الذي لم يستحسن أن يأمر به وهو جمع الإحسان. ،هذا يشبه قوله في (١كورنثوس ٧: ٦).
لأَنَّ هٰذَا يَنْفَعُكُمْ هذا علة نصحه لهم أن يجمعوا الإحسان. ومعناه أن فعل الخير ينفع فاعله لأنه يؤول إلى النمو في الفضيلة وهو مما يجب على المسيحي فإنه إذا عزم على عمل صالح وشرع فيه ثم عدل عنه لغير علة كافية كان ذلك مما يضره.
سَبَقْتُمْ فَٱبْتَدَأْتُمْ الخ أي أنكم أيها الكرونثيون قد سبقتم المكدونيين في الجمع (ع ٦) وقصدكم إياه. والمعنى أنهم افتكروا فيه قبل أن خطر على بال المكدونيين فغار المكدونيين منهم بدليل قوله «غَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ» (ص ٩: ٢) فذكرهم لهم ذلك لكي لا ينثنوا عنه قبل إكماله. وقوله «منذ العام الماضي» لا يستلزم أنه مر على ذلك سنة كاملة فإن حساب بولس كان حساب اليهود طبعاً وأول السنة عندهم شهر تشرين الأول فإذا حسبنا أنه كتب الرسالة الأولى التي أخبرهم فيها بجمع الإحسان في الربيع وأنه كتب الرسالة الثانية في الخريف حق له أن يعبر عن وقت الأولى بالعام الماضي مع أنه لم يكن بين الكتابتين سوى نحو ستة أشهر.
١١ «وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَمِّمُوا ٱلْعَمَلَ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلنَّشَاطَ لِلإِرَادَةِ، كَذٰلِكَ يَكُونُ ٱلتَّتْمِيمُ أَيْضاً حَسَبَ مَا لَكُمْ».
تَمِّمُوا ٱلْعَمَلَ أي جمع الإحسان كما ابتدأتم فيه عملاً وعزماً.
حَتَّى إِنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلنَّشَاطَ… يَكُونُ ٱلتَّتْمِيمُ بنى هذا على أن اللياقة توجب عليهم أن يتمموا ما قصدوه وأعلنوه لغيرهم دفعاً لضرر صيتهم وضمائرهم فإن اقتدارهم لم يتغير وكذلك احتياج فقراء أورشليم فلم يبق من حجة لهم على عدم التتميم أي جمع الإحسان وإن كان ذلك وجب قبلاً فلم يزل واجباً أخيراً.
حَسَبَ مَا لَكُمْ أي على قدر استطاعتكم. لم يُرد أن يعطوا على خلاف إرادتهم وفوق وسعهم بل أن يعطوا تبرعاً بالنسبة إلى طاقتهم.
١٢ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلنَّشَاطُ مَوْجُوداً فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى حَسَبِ مَا لِلإِنْسَانِ، لاَ عَلَى حَسَبِ مَا لَيْسَ لَهُ».
مرقس ١٢: ٤٣ و٤٤ ولوقا ٢١: ٣
هذه الآية متعلقة بالكلمتين اللتين في آخر الآية الحادية عشرة وهي بيان لقياس العطاء وهو أن يكون على قدر الإمكان وهذا موافق لتعليم المسيح في (مرقس ١٢: ٤٢ – ٤٤ ولوقا ٢١: ١ – ٤ انظر أيضاً خروج ٢٥: ٢ و٣٥: ٥ و١أيام ٢٩: ٩). وخلاصة هذه الآية أن الله ينظر إلى ميل المعطي لا إلى مقدار العطية ويدين كل إنسان بمقتضى مكنته من العطاء فكثيراً ما تكون العطية القليلة من إنسان دلالة على كونه أسخى من ذي العطية الكثيرة. فإذا وُجد النشاط للعطاء ولم يكن الإمكان كان ذلك عند الله كالعطية ولكن إذا وُجد الإمكان لا تُقبل دعوى النشاط مجردة عن العطاء.
١٣ «فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَيْ يَكُونَ لِلآخَرِينَ رَاحَةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ».
في هذه الآية علة أن الرسول لم يرد أنهم يعطون فوق ما يستطيعون. وما جاء هنا على طريق السلب جاء في الآية التالية على طريق الإيجاب فقال هنا أنه لم يرد أن يثقل على أهل كنيسة كورنثوس ويخفف عن غيرهم وليس هذا الغير أهل كنائس مكدونية أو غيرها من الكنائس المسيحية التي كانوا يجمعون الإحسان منها بل هو على ما تقتضي القرينة فقراء المسيحين في أورشليم الذين جمعوه لهم. فإنه ما ابتغى أن يرفع عن كنيسة أورشليم حمل الفقر ويضعه على كنيسة كورنثوس بإعطائها إياهم أكثر مما تستطيع حتى أنها تفتقر. فالله لم يطلب من الأغنياء أن يجعلوا أنفسهم فقراء لكي يكون الفقراء أغنياء.
١٤ «بَلْ بِحَسَبِ ٱلْمُسَاوَاةِ. لِكَيْ تَكُونَ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ لإِعْوَازِكُمْ، حَتَّى تَحْصُلَ ٱلْمُسَاوَاةُ».
بِحَسَبِ ٱلْمُسَاوَاةِ يحمل ثقل الفقر. فالرسول لم يعلم هنا أن يشترك المسيحيون في المقتنيات حتى أنه يجب على كل منهم أن يقسم ماله على الذين أفقر منه فإن الإحسان بمقتضى الإنجيل يجب أن يكون بحسب الاختيار ومال كل إنسان له فله أن يحفظه وأن يوزعه حسب ما يرشده إليه ضميره (أعمال ٥: ٤). فالذي يعطي الفقير بعطيه حباً لله ولقريبه والذي يأبى أن يعطي الفقير من ماله يدل على عدم محبته لله ولقريبه (١يوحنا ٣: ١٧). فرغب الرسول إلى مؤمني كورنثوس أن يحملوا بعض أثقال إخوتهم فقراء أورشليم حتى لا يكون حمل الفقر أثقل على هذا من ذاك.
لِكَيْ تَكُونَ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ أي فضلتكم يا أهل كورنثوس لحاجة مؤمني أورشليم. رأى الرسول كنيسة كورنثوس حين كتب هذا بالنسبة إلى غيرها من الكنائس في غنى ويسر في الأمور الدنيوية. يفضلان عنهم وعلم أن الكنائس اليهودية في فقر وعسر وعوز فرغب في أن أولئك يسدون من فضالتهم إعواز هؤلاء.
فُضَالَتُهُمْ لإِعْوَازِكُمْ أي فضلة مؤمني أورشليم لحاجتكم يا مؤمني كورنثوس وقال هذا لأنه حسب ضيقة مؤمني أورشليم وقتية ورأى احتمال تغير الأحوال في المستقبل حتى تفتقر كنيسة كورنثوس الغنية وتستغني كنيسة أورشليم الفقيرة وحينئذ تساعد هذه تلك.
حَتَّى تَحْصُلَ ٱلْمُسَاوَاةُ في الدنيويات أي لكي لا يكون كل الفقر على قوم في مدينة وكل الغنى لقوم في أخرى بل يكون ثقل الفقر مشتركاً بسخاء المنعمين وهذا قريب من قوله «فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ» (غلاطية ٦: ١٠).
ولا شيء في ها مما يغري بالكسل والتسوّل لقوله في موضع آخر «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» وقوله «نُوصِيهِمْ… أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ» (٢تسالونيكي ٣: ١٠ و١٢). ولا شيء فيه من الدلالة على أنه يمكن أن يؤخذ في الروحيات من فضلات بعض المسيحيين لسد نقصان غيره لأنه ليس لأحد فضل قدام الله وأفضلهم ليس سوى عبد بطال (لوقا ١٧: ١٠).
١٥ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: ٱلَّذِي جَمَعَ كَثِيراً لَمْ يُفْضِلْ، وَٱلَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ».
خروج ١٦: ١٨
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في (خروج ١٦: ١٨) على ما في ترجمة السبعين. وقيل هذا في المن الذي كان يقع حول محلة الإسرائيليين ويشتركون في جمعه صباحاً فيتفق أن القوي يجمع أكثر من المفروض والضعيف يجمع أثفل منه ولكن كل واحد كان يأخذ من المجموع المفروض كاملاً وهو كيل يُعرف عندهم بالعمر كان كفافاً للشخص الواحد فلا يستفيد شيئاً مما زاد عليه لأنه لا يقدر أن يأكله وإذا خزنه فسد في يومه. وضرب بولس هذا مثلاً لبيان أنه يجب على الأقوياء أن يشاركوا الضعفاء في مقومات المعاش. والمعنى أنه يجب على الكورنثيين الأغنياء أن يشاركوا إخوتهم الفقراء كما شارك أقوياء الإسرائيليين ضعفاءهم في المن لأن الغنى كالمن في كونه عطية الله وكذلك الصحة والفرصة لتحصيل المال. وكما أن المن إذا خُزن ولم يؤكل فسد وأضر خازنه (خروج ١٦: ٢٠) كذلك المال إذا لم يُنفق في وقت الحاجة أضر خازنه بدليل قول الحكيم «يُوجَدُ مَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ» (أمثال ١١: ٢٤). وقول الرسول «غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا ٱلْعُثُّ. ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ» (يعقوب ٥: ٢ و٤).
توصية بتيطس والأخوين اللذين معه ع ٢٦ إلى ٢٤
١٦ «وَلٰكِنْ شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي جَعَلَ هٰذَا ٱلٱجْتِهَادَ عَيْنَهُ لأَجْلِكُمْ فِي قَلْبِ تِيطُسَ».
في هذه الآية وما يليها إلى آخر الأصحاح توصية بتيطس والأخوين اللذين أرسلهما بولس معه في رجوعه إلى كورنثوس لكي يكمّلوا جمع الإحسان لفقراء أورشليم.
شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي جَعَلَ هٰذَا ٱلٱجْتِهَادَ اعتبر أن الله مصدر كل شفقة على المحتاجين وكل رغبة وسعي في نفعهم نفساً وجسداً وأنه وضع في قلب تيطس شديد الرغبة في إفادتهم فشكره على ذلك مع أنه اعتبر حاسات تيطس اختيارية وأنه مستحق المدح والإثابة عليها. وهذا من أسرار الحياة المسيحية فإن الله بروحه يقدر أن يجعلهم يقصدون ويعملون أعمالاً مقدسة دون معارضة اختيارهم ومسؤوليتهم.
عَيْنَهُ أي نفس الاجتهاد الذي كان لبولس في طلب منفعتهم الروحية ونموهم في النعمة وفي كل الفضائل المسيحية. ويتضح من ذلك أن بولس وتيطس كليهما عدا جمع الإحسان لإخوتهما في أورشليم بركة للكورنثيين فضلاً عن كونه إسعاداً للإخوة المحتاجين. وهذا على وفق قول الكتاب «ٱلنَّفْسُ ٱلسَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَٱلْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى» (أمثال ١١: ٢٥). وقوله «مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال ٢٠: ٢٥) وأنهما منّا على الكورنثيين بأن أعطياهم فرصة للإحسان. فيجب علينا أن نكون ممنونين لمن يرشدوننا إلى وسائل عمل الخير.
١٧ «لأَنَّهُ قَبِلَ ٱلطِّلْبَةَ. وَإِذْ كَانَ أَكْثَرَ ٱجْتِهَاداً مَضَى إِلَيْكُمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ».
ع ٦
ٱلطِّلْبَةَ المذكورة في (ع ٦) وهي أن يذهب إلى كورنثوس ويتمم جمع الإحسان. طلبها بولس وقبلها تيطس.
إِذْ كَانَ أَكْثَرَ ٱجْتِهَاداً لم يقل تيطس لبولس «ارسلني» لأن تواضعه منعه من ذلك ولكنه لما سُئل الذهاب أظهر أنه لم يحتج إلى إلحاح بل كان أكثر غيرة في الخدمة من بولس في سؤاله إياها.
مَضَى إِلَيْكُمْ أي عزم على المضي عزماً شديداً حتى كأنه مضى. والأرجح أن تيطس هو الذي حمل هذه الرسالة إلى كورنثوس فيكون عند إبلاغهم إياها وتلاوتهم لها قد مضى إليهم حقيقة.
مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أي حين سألته وجدته مستعداً لذلك تبرعاً.
١٨ «وَأَرْسَلْنَا مَعَهُ ٱلأَخَ ٱلَّذِي مَدْحُهُ فِي ٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ».
أعمال ٢٠: ٤ وص ١٢: ١٨
وَأَرْسَلْنَا مَعَهُ ٱلأَخَ لم نعلم من هو ولا يهمنا أن نعلم لكن ذهب بعضهم إلى أنه لوقا وبعضهم إلى أنه مرقس وغيرهما إلى أنه تروفيموس أو غايوس ولكن الأرجح أنه لوقا لأن وصفه يدل على كونه مبشراً بالإنجيل في أنطاكية وترواس وفيلبي وأنه كان مع بولس في فيلبي قرب الزمان الذي كُتبت فيه هذه الرسالة (أعمال ١٦: ١٠ و١١ و١٥ و٢٠: ٥). وإنه ذهب مع بولس إلى أورشليم بالصدقات إلى الفقراء بدليل أن لوقا استعمل ضمير المتكلمين في نبإ هذا السفر (أعمال ٢٠: ٦ و٢١: ١ و١٥).
مَدْحُهُ فِي ٱلإِنْجِيلِ على غيرته في بث البشرى.
فِي جَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ الأرجح أن بولس عنى كنائس مكدونية التي كان فيها. وذكر ثقة غيرها من الكنائس بهذا الأخ بغية أن يثق الكورنثيون به.
١٩ «وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ مُنْتَخَبٌ أَيْضاً مِنَ ٱلْكَنَائِسِ رَفِيقاً لَنَا فِي ٱلسَّفَرِ، مَعَ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا لِمَجْدِ ذَاتِ ٱلرَّبِّ ٱلْوَاحِدِ، وَلِنَشَاطِكُمْ».
١كورنثوس ١٦: ٣ و٤ وع ١ ع ٤ و٦ و٧ وص ٩: ٨ ص ٤: ١٥
أبان في هذه الآية أن ذلك الأخ مستحق أن يثقوا به وأن يسلموه المال بكل اطمئنان لأنه منتخب من كل الكنائس شريكاً لبولس في تسليم تلك الصدقات فضلاً على ما ذكره من صيته الحسن في الآية السابقة.
مِنَ ٱلْكَنَائِسِ أي كنائس مكدونية على الأرجح.
هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ الصدقات المجموعة وسماها «نعمة» لأنها علامة محبة المتصدقين.
ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا أي المتكفل بحملها أنا ورفقائي من مؤمني الأمم إلى مؤمني اليهود (١كورنثوس ١٦: ٣ و٤).
لِمَجْدِ ذَاتِ ٱلرَّبِّ الخ هذا متعلق «بالنعمة» لا «بالمخدومة» والمعنى أن تلك الصدقات كانت مؤدية إلى تمجيد الرب لأنها أثمار دينه وشاهدة بغيرة المؤمنين في عمل الخير لإخوتهم الفقراء.
٢٠ «مُتَجَنِّبِينَ هٰذَا أَنْ يَلُومَنَا أَحَدٌ فِي جَسَامَةِ هٰذِهِ ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا».
ذكر هنا علة إرسال هذا الأخ مع تيطس للقيام بهذه الخدمة وعلة رغبته في تعيينه من الكنائس رفيقاً له لأجل حمل الإحسان وتوزيعه.
مُتَجَنِّبِينَ هٰذَا أي محترسين منه كل الاحتراس.
أَنْ يَلُومَنَا أَحَدٌ هذا بيان لقوله «هذا» والمعنى أنه لم يرد أن يترك لأحد سبيلاً إلى أن يتهمه باختلاس شيء من المال وإنفاقه على نفسه.
فِي جَسَامَةِ هٰذِهِ ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا نستدل من قوله «جسامة» على وفرة ما جُمع من إحسان الكنائس. فاحتراس الرسول من تهمة الاختلاس في ذلك كان في محله لعلمه أن أعداءه لا يتأخرون عن أن يتهموه بالخيانة أو الطمع في ما ذُكر لأقل سبب (بدليل قوله في ص ١٢: ١٧ و١٨) ولعلمه أيضاً أن الريبة في استقامته ضرر لاسم المسيح والدين الذي بشر به وأنه لا يستطيع أن ينفع الناس بالروحيات وهم يظنونه غير أمين في الجسديات. ومثل هذا الاحتراس يجب على كل خدم الدين اليوم.
٢١ «مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ، لَيْسَ قُدَّامَ ٱلرَّبِّ فَقَطْ، بَلْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَيْضاً».
رومية ١٢: ١٧ وفيلبي ٤: ٨ و١بطرس ٢: ١٢
هذا مبدأه العام في كل أموره فإنه كان يسير في طريق يستحسنها الله الذي يرى القلب ويعلم كل شيء ويتحقق الناس استقامته بها. ولم يكتف بعمل الصلاح بل رغب أيضاً في إظهاره للناس. وهذا مثل قوله للرومانيين «مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (رومية ١٢: ١٧). ولو أراد أن يرضي الله وضميره فقط كان يمكنه الانفراد بحمل ذلك المال إلى أورشليم وتوزيعه حسبما يشاء لكنه أبى ذلك دفعاً للشك.
مُعْتَنِينَ أو لأننا نعتني (كما في حاشية الإنجيل ذي الشواهد).
بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ أي ممدوحة. إن المؤمنين ولا سيما خدم الدين بمنزلة مدينة موضوعة على جبل يراقبهم الناس دائماً ويتوقعون الفرصة للقدح فيهم فوجب عليهم فوق احتراسهم من الشر أن يحترسوا من كل شبه شر.
٢٢ «وَأَرْسَلْنَا مَعَهُمَا أَخَانَا، ٱلَّذِي ٱخْتَبَرْنَا مِرَاراً فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ أَشَدُّ ٱجْتِهَاداً كَثِيراً بِٱلثِّقَةِ ٱلْكَثِيرَةِ بِكُمْ».
أعمال ٢٠: ٤
أَخَانَا في المسيح. لا نعلم من هو هذا الأخ الذي أرسله بولس ليرافق تيطس ورفيقه إلى كورنثوس إذ لا دليل على تعيينه سوى الظن أنه من رفقائه السبعة في سفره إلى أورشليم على ما ذُكر في (أعمال ٢٠: ٤). وظن بعضهم أنه تيخيكس لأنه من أولئك السبعة ولأنه مدحه هنا كما مدح تيخيكس في (أفسس ٦: ٢١ وكولوسي ٤: ٧). ولأنه ممن أرسلهم بولس إلى الكنائس بعد هذا (٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢).
ٱلَّذِي ٱخْتَبَرْنَا… أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ هذه شهادة قوية بأمانته وبيان أنه كان رفيقاً لبولس في أسفاره وعاملاً معه في الإنجيل وأنه وثق به كل الثقة.
ٱلآنَ أَشَدُّ ٱجْتِهَاداً كَثِيراً بِٱلثِّقَةِ الخ كانت ثقته بسخاء الكورنثيين وبنجاح عمله بينهم وثيقة جداً بناء على شهادة تيطس لهم حتى رغب في المداخلة في تلك الخدمة أكثر مما رغب في سواها.
٢٣ «أَمَّا مِنْ جِهَةِ تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي وَعَامِلٌ مَعِي لأَجْلِكُمْ. وَأَمَّا أَخَوَانَا فَهُمَا رَسُولاَ ٱلْكَنَائِسِ، وَمَجْدُ ٱلْمَسِيحِ».
أعمال ١٤: ١٤ وفيلبي ٢: ٢٥ و١تسالونيكي ٢: ٦
هذه الآية خلاصة كل ما قاله في تيطس ورفيقيه.
تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي ذكره هنا باعتبار نسبته إليه لأنه كان رفيقاً في التبشير بالإنجيل ومعيناً له على تأسيس الكنائس وتنظيمها كما جاء في (تيطس ١: ٥).
وَعَامِلٌ مَعِي لأَجْلِكُمْ هذا باعتبار نسبته إلى الكورنثيين.
وَأَمَّا أَخَوَانَا الاثنان اللذان رافقا تيطس إلى كورنثوس.
فَهُمَا رَسُولاَ ٱلْكَنَائِسِ أي مرسلان انتخبتهما الكنائس لتلك الخدمة وكذا سُمي أبفروديتس الذي أرسلته كنيسة فيلبي إلى رومية ليخدم بولس رسولاً (فيلبي ٢: ٢٥). فليس معنى الرسول هنا من له رتبة أحد الرسل الاثني عشر فإن هؤلاء رسل اختارهم المسيح لتأسيس الكنائس لكن أولئك رسل اختارتهم الكنائس لحمل الإحسان وتوزيعه.
وَمَجْدُ ٱلْمَسِيحِ أي معلناً مجده لأن كل عبيد المسيح الأمناء يمجدونه بأن يروا العالم جودة سيدهم وحسن دينه. وكانت تقوى هذين الأخوين وغيرتهما للإنجيل وللكنيسة شهادة بمجد المسيح لا يستطيع أحد إنكارها. واستحقاقها لهذا المدح العظيم دليل قاطع على استحقاقهما المحبة والكرامة والثقة من كنيسة كورنثوس.
٢٤ «فَبَيِّنُوا لَهُمْ، وَقُدَّامَ ٱلْكَنَائِسِ، بَيِّنَةَ مَحَبَّتِكُمْ، وَٱفْتِخَارِنَا مِنْ جِهَتِكُمْ».
ص ٧: ١٤ و٩: ٢
بَيِّنُوا بوفرة سخائكم.
لَهُمْ، وَقُدَّامَ ٱلْكَنَائِسِ لأنهم وكلاء الكنائس المكدونية ولأن هذه الكنائس كانت تراقبهم ليروا ماذا يُعطون.
بَيِّنَةَ مَحَبَّتِكُمْ لهؤلاء المرسلين الذين مدحتهم وأبنت استحقاقهم لذلك ولي أنا رسولكم الذي أرغب في إظهار سخائكم لإخوتكم المحتاجين في أورشليم وللمسيح الذي افتقر لأجلكم وهو غني.
وَٱفْتِخَارِنَا مِنْ جِهَتِكُمْ هذا معطوف على «محبتكم» فإن بولس كان قد مدح سخاءهم (ص ٧: ١٤) فرجا أنهم يبرهنون بعطاياهم استحقاقهم لمدحه.
فوائد
- إن أنفاق المال موضوع أصحاحين كاملين من هذه الرسالة وهذا يدل على أهمية ذلك الإنفاق عند الرسول. وكل كتاب الله يشهد بأهميته عنده تعالى. فالعطاء جزءٌ من العبادة كالصلاة والترنم بالأغاني الروحية. فيجب أن نعتبر أن ذاك الذي جلس منظوراً تجاه الخزانة في هيكل أورشليم ينظر إلى المحسنين من أغنياء وفقراء لم يزل ينظر إلى المحسنين اليوم غير منظور وهو يراقب ما يعطونه فيحكم بكرمهم أو بخلهم ويجازي كل واحد حسب أمانته (ع ١).
- إن السخاء هبة من الله فقلب البشر يميل طبعاً إلى حب الذات ويكره الإحسان إلى غيره. ونعمة الله تغلب الطمع البشري وتحث على السخاء. فعلينا أن نطلب تلك النعمة في الصلاة كما نطلب غيرها من النعم. فوجود السخاء في الكنيسة من أعظم البركات والأدلة على حلول روح الله وعلى توطيد المبادئ المسيحية (ع ١).
- إننا كثيراً ما نرى أن الأسخياء في الكنيسة غير الممتازين بالثروة والمسرّات. فإن النجاح في العالميات يحمل صاحبه على الالتفات إلى نفعه الذاتي وعدم الشعور بأحزان المحتاجين ولكن الذي اختبر الضيقة والحزن تعلم أن يواسي غيره من الفقراء والمصابين وأن يفتح يده وقلبه لإعانتهم (ع ٢).
- إن أول الممكنات من السخاء الحق وقف الإنسان نفسه لله فإن من فعل ذلك يجد ألف علة للإحسان والمسرّة به فلو وقف كل مدّع أنه مسيحي نفسه لله ما احتجنا أن نحث أحداً على إعانة الفقراء أو بذل بعض ماله في سبيل بشرى الخلاص في الوطن أو في الخارج. فيندر أن ترى من يعطون على قدر طاقتهم لأنهم لا يقتصدون في النفقات على أنفسهم ليبقوا شيئاً للفقراء. وأندر منهم هم الذين يعطون فوق طاقتهم وأندر من هؤلاء الذين يعطون أنفسهم مع إعطائهم ما فوق طاقتهم. قال بعض القدماء «يفرح الناس حين يرون الأغنياء يحسنون إلى الفقراء ولكن يفرح الملائكة حين يرون فقيراً يحسن إلى أفقر منه» (ع ٥).
- إنه يحسن بنا أن نتخذ كنائس مكدونية مثالاً في العطاء فإن مؤمني تلك الكنائس كانوا فقراء ومتضايقين ومع ذلك أعطوا حسب الطاقة وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم فمن منا يقتدي بهم (٢ ٢ – ٥).
- إنه يمتنع أن نقبل جزءاً من الدين المسيحي ونترك الباقي كأن نقبل ما أوضحه من العقائد ونرفض ما أوجبه من الأعمال وأن نمارس بعض فضائله ونهمل بعضها وأن نقف أنفسنا لله ونبقى أموالنا لنا (ع ٧).
- إن قياس محبتنا لغيرنا ما نأتيه بغية نفعه من إنكار أنفسنا وهو قياس محبة الله لنا بدليل قوله تعالى «هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الحبيب الخ» وقياس محبة المسيح لنا أيضاً بدليل قول الرسول «أحبنا وبذل نفسه لأجلنا». فلا نستيطع أن نبين محبتا لله أو للناس إلا بما نعطي من مالنا وننكر من أنفسنا (ع ٨).
- إنه يجب أن نقتدي بيسوع المسيح فإنه لم يكن أحد أغنى منه وهو في السماء وقليلون كانوا أفقر منه وهو على الأرض. وكان ذلك التنازل العجيب باختياره لأجلنا فالاقتداء به يجعلنا مثله في السعادة ونفع الغير. فالذي يكون في أعظم منصب على الأرض مكلف بأن يضع نفسه لأصغر إخوته من البشر بغية خلاص نفسه امتثالاً بربه (ع ٩).
- إن ما يناسب قول الرسول هنا قول يوحنا فم الذهب «إنك تذهب إلى بيت الله لكي تنال الرحمة فعليك أولاً أن تظهر الرحمة. وبدل أن تضع مالك في يد الصراف بغية الرباء ضعه في يد الله بناء على قوله «من يرحم الفقير يقرض الرب وعن معروفه يجازيه». فباطلاً ترفعون أيديكم إلى السماء تلتمسون البركات من العلى إن لم تمدوها قبلاً إلى من حولكم من الفقراء فإنكم وأنتم تمدون أيديكم إلى المساكين تبلغ قبة السماء حيث يسوع الذي قال «بما أنكم فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» (ع ٨).
- إن شروط العطاء المذكورة هنا ثلاثة:
- الأول: أن يكون اختيارياً إجابة لدعوة الشفقة وامتثالاً بفعل المسيح وشكراً له بدون التفات إلى داعي البخل الطبيعي.
- الثاني: أن يكون حسب الطاقة والله قد ترك المسؤولية في ذلك على كل نفس وهو يحاسبها في اليوم الآخر.
- الثالث: أن يكون لأجل المسيح لا لغاية شخصية أو لمجرد الشفقة على المسكين أو لحياء من الناس أو للاقتداء بالغير أو لمقتضى المقام (ع ٩ – ١٢).
- إن الله يحكم بالعدل فلا يمكن أن يكون قانون أكثر عدلاً من هذا وأن يطالب الإنسان على حسب ما له. فأي عاقل يستطيع أن يعترض على هذا الحكم. فإن الله لم يقصر عمل الخير على بعض الناس دون بعض حتى أن الواحد يقدر أن يكنز كنزاً في السماء دون الآخر. إنما يطلب أمراً واحداً من ملك وعبد وغني وفقير وفيلسوف وولد وهو أن يكون له نشاط الإرادة لخدمته تعالى ونفع قريبه وتتميم ذلك حسب ما له (ع ١١ و١٢).
- إن حسد الفقراء للأغنياء كثير وكثيراً ما يحملهم على بغضهم وعلى التذمر عليه تعالى عندما يرون الاختلاف بين أحوالهم وأحوال أولئك ويزال كثير من ذلك بأن يقتصد أغنياء المؤمنين في النفقات على بيوتهم وملبوساتهم وينفقوا ما فضل عنهم على فقراء الكنيسة وغيرهم إظهاراً لمحبتهم إخوتهم البشر وشفقتهم عليهم لمصائبهم واقتداء بسيدهم الذي أتى ليس ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه دون الجميع (ع ١٣ و١٤).
- إن الفقر في نفسه ليس بفضيلة ولا دليل في الإنجيل على أن نذر الفقر الاختياري يرضي الله وأن الذي يعيش بصدقات الناس يُحب في السماء وأن له حقوقاً ممتازة هناك يستطيع أن يهبها لمن أحسن إليه. إن المسيح لم يفتقر لأنه رأى حال الفقر أقدس من حال الغنى بل لإرادته أن يتضع إلى أدنى البشر ليرفعه إلى مجده الأصلي في السماء ولم يستطع ذلك إلا بأن افتقر. ولم نقرأ قط أن المسيح تسوّل فالذين يدعون أنهم مثل المسيح لمعيشتهم اختياراً بصدقات الناس يخدعون أنفسهم بشبه التقوى لا بحقيقتها. وأما الذين يحتملون بالصبر الفقر والمصيبة اللذين يرسلهما الله ويقعان عليهم في سبيل بشرى الخلاص سوف يثابون. وأما الفقر الاختياري والإماتة الجسدية فيؤديان إلى الكبرياء الروحية والاتكال على الأعمال الصالحة دون الاتكال على بر المسيح (ع ١٤).
- إن المساواة التي يوجبها الإنجيل ليست في المقام ولا في الأموال لأن ذلك من المحال فلو تساوينا اليوم اختلفنا غداً. وليست هي إجبارية بأمر الحكام بتقسيم الأموال على السواء. ولا باغتصاب الفقراء أموال الأعنياء. بل أن تُقسم اختياراً الأحمال التي وضعها الله على الناس وجعلها لهذه الغاية وهي أن يتعلم بعضهم الرحمة بتخفيف أثقال بعض (ع ١٤).
- إن الله أوجب على الكنائس المسيحية أن تنفق النفس والنفيس على خدمته تعالى وهي القيام بحاجات خدَمها والمبشرين المرسلين وطبع الكتب المقدسة وتوزيعها وفتح المدارس وإعانة الأرامل واليتامى والمصابين دون أن تستثقل ذلك بل تحسبه مما يجب عليها كمن يعطي الخبز لأولاده (ع ١٣ – ١٥).
- إن الاعتناء بأوقاف الكنيسة وتسلم تقدماتها وتوزيعها مما يقتضي حكمة عظيمة وأمانة كاملة ممن وكلت إليهم لكي لا يدينهم الله بأنهم سلبوه واحتراساً شديداً من أن يظهر الأمناء على ذلك خائنين ويهان بذلك اسم المسيح ويمتنع الناس من الإعطاء لله لريبهم في المؤتمنين عليها (ع ٢٠ و ٢١).
-
إنه يجب على كل مسيحي أن يكون مجد المسيح قولاً وفعلاً ويكون كذلك متى حل المسيح في قلبه وأتى كل أعماله طوعاً لأمره. فإذا كان الضوء داخل البيت ظهرت أشعته من النوافذ (ع ٢٣).
السابق |
التالي |