الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 07 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السابع
- نصيحة مبنية على ما سبق في (ص ٦ ع ١).
- تعزية الرسول بما سمعه من تأثير رسالته الأولى (ع ٢ – ١٦).
وجوب أن يعيش الكورنثيون كما يليق بهم نظراً إلى مواعيد الله التي ذكرها الرسول (ع ١). ووجوب أن يحبوا الرسول كما أحبهم (ع ٢ و٣). وأن لا مانع من جهته عن الاتفاق التام بينه وبينهم لأنه لم يضر أحداً ولم يأت شيئاً من أسباب الانفصال وإن أكثر همومه من أجلهم زال عند مجيء تيطس وشهادته لهم (ع ٤ – ٧). نعم إنه ندم أولاً على ما كتبه في شأن الإنسان الزاني للحزن الذي أنشأه لهم ولكنه فرح أخيراً بما حصل منه من النفع لأنه كان علة لتوبة ذلك الزاني (ع ٨ و٩). وإنه تحقق من نتيجة حزنهم أنه لم يكن من حزن العالم المنشئ موتاً بل من الحزن الذي هو بمشيئة الله (ع ١٠ – ١٢) وإنه سرّ بمسرة تيطس بزيارته كورنثوس وباختباره صدق شهادة بولس بمدح سجاياهم (ع ١٣ – ١٦).
١ «فَإِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ».
ص ٦: ١٧ و١٨ و١يوحنا ٣: ٣
كان يجب أن تكون هذه الآية من آيات الأصحاح السادس لأنها تتمة الكلام الذي فيه.
فَإِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ التي تؤكد لنا سكنى الله فينا واتحاده بنا ومحبته إيانا وإنا بنوه وبناته (ص ٦: ١٦ – ١٨).
لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا هذا الأمر يوجب علينا الاجتهاد في تطهير أنفسنا مما دنسناها بها لا علاوة حفظها طاهرة بتجنب التدنس من خارج. نعم إن الكتاب ينسب التطهير إلى الله (أعمال ١٥: ٩ وافسس ٥: ٢٦) ولكن ذلك لا يمنع وجوب عمل الإنسان فيه لأنه قيل «تمموا خلاصكم» مع قوله «لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا» (فيلبي ٢: ١٣). إن الله لا يطهرنا ونحن لا نشتهي القداسة ولا نجد في طلبها. وبرهان عمله فينا للقداسة هو رغبتنا فيها واتخاذنا الوسائل التي أمر بها.
دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ كل خطيئة تدنيس. وذكر هنا نوعين من الخطايا خطايا الجسد وخطايا الروح فمن الأولى السكر والزنا. وكان الكورنثيون عرضة لهذا النوع أكثر من غيره لاقترانه بالعبادة الوثنية في مدينتهم. ومن الثانية الكبرياء والبخل وحب المال والحسد والبغض. وعدّ الرسول هذين النوعين من أعمال الجسد في رسالته إلى الغلاطيين (غلاطية ٥: ١٩ – ٢١). وعدها من شهوات الجسد في رسالته إلى الأفسسيين (أفسس ٢: ٣). ولا منافاة بين قوله «ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلاطية ٥: ٢٤). وأمره هنا بالمواظبة على صلب الجسد كذلك لأن التقديس تدريجي فإن الإنسان متى صار خليقة جديدة في المسيح يشرع في إماتة الطبيعة الفاسدة ويبقى على ذلك ما دام حياً إلى أن يكمل قداسة على وفق قوله «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ… إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣). والتطهير هنا تقديس الإنسان كله وهو هيكل الروح القدس (١كورنثوس ٦: ١٩) أي خلوه من كل أدناس الأفكار والأعمال الشريرة وهذا غير التطهير الرمزي الذي أوجبته شريعة موسى فتلك الأدناس خارجية وربما كانت غير اختيارية وتطهر بوسائط خارجية والتطهير الداخلي هنا لا يكون إلا بواسطة دم يسوع المسيح (١يوحنا ١: ٧).
ومما يستحق الملاحظة هنا أن الرسول حذر المؤمنين قبلاً من التدنس بمخالطة غير المؤمنين (ص ٦: ١٤) وحذرهم في هذه الآية من دنس قلوبهم وأمرهم بالانفصال عن كل ما يدنسها.
مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰه في هذا إشارة إلى كيفية تطهير أنفسنا وهي طلب القداسة الكاملة وعدم الاكتفاء ببعضها. وهذا كقول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). وقول بطرس الرسول «بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (١بطرس ١: ١٥ و١٦). فيجب على المسيحي أن يطلب الكمال في محبته لله وللمسيح ولإخوته البشر وأن يطلب الكمال في أميال قلبه وأفكاره وعواطفه وأن يطلبه في كلامه ومقاصده وتصرفه بين الناس وأن يطلبه في صلواته وتسابيحه وطاعته لله وخضوعه لإرادته. وقوله «في خوف الله» يشير إلى أنه من أعظم وسائط التقديس أن نشعر بكوننا في حضرة الله القدوس الذي أعطانا شريعة مقدسة قانوناً لحياتنا وأن نتيقنه لأنه يراقب كل أعمالنا ولأننا سوف نقف أمام عرش دينونته. إن حضور إنسان ولو ولداً مع إنسان آخر يمنعه أحياناً من ارتكاب بعض الخطايا فكم بالأولى يمنعه الشعور بحضور الله العالم كل شيء.
٢ «اِقْبَلُونَا. لَمْ نَظْلِمْ أَحَداً. لَمْ نُفْسِدْ أَحَداً. لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ».
أعمال ٢٠: ٣٣ وص ١٢: ١٧
اِقْبَلُونَا رجع هنا إلى الموضوع الذي كان يتكلم فيه قبلاً بقوله «أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُتَّسِعِينَ» (ص ٦: ١٣). وقوله «اقبلونا» في الأصل اليوناني «وسعوا قلوبكم لنا» والمعنى أحببوني كما أحبكم. وذكر على أثر ذلك أن لا سبب إلى حرمانه من محبتهم.
لَمْ نَظْلِمْ أَحَداً حين كان بينكم. لا في الجسديات ولا في الروحيات. لعل بعضهم شكاه بأنه ظلم الزاني بما كتب إلى الكنيسة من أمر قطعه من شركتها وتسليمه للشيطان لهلاك الجسد (١كورنثوس ٥: ٥).
لَمْ نُفْسِدْ أَحَداً بسوء تعليم أو سيرة. ولعل هذا من جملة ما اتهمه أعداؤه به.
لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ أي لم نؤذ لأحد سبيلاً إلى أن ينسب إليه قصد الربح الدنيوي ممن بشّرهم ولذلك كان يعمل بيديه توصلاً إلى ما يقوم بحاجته وحاجات رفاقه (أعمال ٢٠: ٢٤). واحترس من أن يدع سبيلاً لأحد إلى أن يتهمه باختلاس شيء مما جمعه لفقراء أورشليم. ولا ريب في أن أعداءه كانوا مستعدين أن يشكوه بالطمع لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. ولعله أراد الإشارة إلى أن من رحبوا بهم من المعلمين الكاذبين وقد تظاهروا فيهم كأنهم ملائكة نور (ص ١١: ١٣) ظلموهم وطمعوا فيهم ويرجح ذلك قوله «لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ… إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ» (ص ١١: ٢٠).
٣ «لاَ أَقُولُ هٰذَا لأَجْلِ دَيْنُونَةٍ، لأَنِّي قَدْ قُلْتُ سَابِقاً إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا لِنَمُوتَ مَعَكُمْ وَنَعِيشَ مَعَكُمْ».
ص ٦: ١١ و١٢
لاَ أَقُولُ هٰذَا لأَجْلِ دَيْنُونَةٍ أي ليس غايتي من تبرئة نفسي أن أوقع اللوم عليكم ولم أعن أنكم اتهمتموني بالظلم والفساد والطمع وأن ذلك على عدم حبكم لي. ثم أبان الرسول على أثر هذا أن لا شيء في قلبه يحمله على تلك الدينونة.
قُلْتُ سَابِقاً في المعنى (ص ٦: ١٢) وهو مضمون كلامه في (ص ١: ١٤ و٢: ٤ و٣: ٢).
إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا الخ أي نحبكم كثيراً حتى لا شيء في الحياة ولا في الموت يستطيع أن يفصلنا عن محبتكم وإننا مستعدون بناء على تلك المحبة أن نعيش لخدمتكم ونموت من أجلكم. ويظهر من هذه العبارة وأمثالها أن بولس أحب مؤمني كورنثوس حباً غريباً أكثر مما نرى أنهم يستحقون وأكثر من حبهم له فصح قوله فيهم «كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ» (ص ١٢: ١٥).
٤ «لِي ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ بِكُمْ. لِي ٱفْتِخَارٌ كَثِيرٌ مِنْ جِهَتِكُمْ. قَدِ ٱمْتَلأْتُ تَعْزِيَةً وَٱزْدَدْتُ فَرَحاً جِدّاً فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا».
ص ٣: ١٢ و١كورنثوس ١: ٤ وص ١: ١٤ ص ١: ٤ وفيلبي ٢: ١٧ وكولوسي ١: ٢٤
في هذه الآية أربعة أدلة على أنه لم يقصد دينونتهم أي ملامتهم.
لِي ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ بِكُمْ هذا أول الأدلة على أنه لم يرد أن يدينهم.
لِي ٱفْتِخَارٌ كَثِيرٌ مِنْ جِهَتِكُمْ هذا ثاني الأدلة على عدم قصده دينونتهم. ومعناه أنه يميل إلى مدحهم أمام الناس على تصرفهم الحسن من جهته واستعدادهم لقبول نصائحه في الرسالة الأولى وتأثير نعمة الله فيهم ونموهم الروحي.
ٱمْتَلأْتُ تَعْزِيَةً هذا ثالث الأدلة على أنه لم يشأ دينونتهم. وفرط تعزيته نتيجة تفريج غمه بالأنباء التي أتى بها تيطس من عندهم لأنه قبل ذلك لم تكن له راحة في روحه فكان مضطراً لاضطرابه أن يترك ترواس ويذهب إلى مكدونية (ص ٢: ١٢).
وَٱزْدَدْتُ فَرَحاً جِدّاً فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا الدليل الرابع على أنه لم يقصد دينونتهم وفرة سروره مع كثرة أسباب قلقه إذ زالت همومه من جهتهم لكن نزلت به هموم أخر (ع ٥) إلا أنها لم تكن كافية لمنع ابتهاجه بهم. ولا بدع أن يجتمع الفرح والحزن في قلب واحد لأنه كثيراً ما حدث أن الشهداء وهم يُعذبون في النار رنموا فرحاً من فرط تعزية الله لهم وتوقعهم سعادة السماء.
٥ «لأَنَّنَا لَمَّا أَتَيْنَا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيْءٌ مِنَ ٱلرَّاحَةِ بَلْ كُنَّا مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ. مِنْ دَاخِلٍ مَخَاوِفُ».
ص ٢: ١٣ ص ٤: ٨ تثنية ٣٢: ٢٥
في هذه الآية تفسير لقوله «ضيقاتنا».
مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كان بولس متعباً في ترواس فتركها وأتى إلى مكدونية لكنه لم يستطع أن يهرب من أتعابه فيها. ولا دليل على أنه أشار بذلك إلى أوجاع وأمراض جسدية لكن هموم قلبه كانت عظيمة جداً حتى أثرت في كل جسده كما يحدث للناس أحياناً.
مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ مقاومات اليهود والأمم واضطهادات هيجوها وأخطار أنشأوها.
مِنْ دَاخِلٍ مَخَاوِفُ أكثرها من جهة قبولهم رسالته وبعضها من جهة سائر الكنائس في مكدونية ومنها أضرار المعلمين الكاذبين لهم ديناً وأدباً.
٦ «لٰكِنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي يُعَزِّي ٱلْمُتَّضِعِينَ عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ».
لوقا ١: ٢٥ وص ١: ٤ ص ٢: ١٣
ٱللّٰهَ ٱلَّذِي يُعَزِّي ٱلْمُتَّضِعِينَ أي المصابين الذين تدعو أحوالهم إلى الشفقة عليهم (لوقا ١: ٥٢ ويعقوب ١: ٩). وفي هذه العبارة وصف الله بأن أعظم سروره تعزية المتضعين ومثل ذلك قوله في الله «أبو الرأفة وإله كل تعزية» (ص ١: ٣).
عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ كان بولس قد أرسل تيطس إلى كورنثوس لينبئه بأحوال الكنيسة فتعزى بمجيئه وإنبائه ولم ينس في أثناء فرحه وتعزيته أن يشكر الله الذي هو مصدر كل ذلك.
٧ «وَلَيْسَ بِمَجِيئِهِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً بِٱلتَّعْزِيَةِ ٱلَّتِي تَعَزَّى بِهَا بِسَبَبِكُمْ وَهُوَ يُخْبِرُنَا بِشَوْقِكُمْ وَنَوْحِكُمْ وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي، حَتَّى إِنِّي فَرِحْتُ أَكْثَرَ».
ع ١٣
لَيْسَ بِمَجِيئِهِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً تعزى بمشاهدة تيطس لأنه كان محبوباً إليه وسماه «الابن الصريح بالإيمان» (تيطس ١: ٤). لكنه تعزى أكثر بالبشارة التي أتاه بها وبتعزية تيطس بها. ولنا من ذلك أن تيطس كان مشاركاً لبولس في اضطراباته من جهة أحوال كنيسة كورنثوس وأنه فُرج همه بما شاهده في تلك الكنيسة وسرّ بأن حمل البشارة إلى بولس فكان فرحه كفرحه.
وَهُوَ يُخْبِرُنَا بِشَوْقِكُمْ إلى مشاهدتي والحصول على رضاي.
وَنَوْحِكُمْ على خطاياكم وعلى ما سمعتموه من حزني على تصرفكم وكثرة همومي.
وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي أي لمشاهدتي وتطييب قلبي المجروح وإصلاح ما سبق منكم من الخطإ وتقوية سلطتي في الكنيسة وإعراضكم عن المفسدين وإقبالكم إليّ وإبائكم أن تصدقوا ما افتروه عليّ. ومعظم سروره بتلك الغيرة كونها تشتمل على الغيرة للحق والقداسة أيضاً.
حَتَّى إِنِّي فَرِحْتُ أَكْثَرَ من مشاهدته بأنبائه أو أن فرحه زاد بالنسبة إلى فرط حزنه السابق.
٨ «لأَنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُمْ بِٱلرِّسَالَةِ لَسْتُ أَنْدَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فَإِنِّي أَرَى أَنَّ تِلْكَ ٱلرِّسَالَةَ أَحْزَنَتْكُمْ وَلَوْ إِلَى سَاعَةٍ».
ص ٢: ٤
في هذه الآية وما بعدها بيان أسباب فرحه وخلاصة هذه الأسباب أنهم استفادوا من رسالته مع أنها كانت علة حزن وقتي لهم.
وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُمْ أي مع أني أحزنتكم.
بِٱلرِّسَالَةِ أي رسالته الأولى التي كتب فيها الأصحاح الخامس منها ما يتعلق بأمر الزاني.
لَسْتُ أَنْدَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ بلغه أولاً أنهم حزنوا جداً من تلك الرسالة قبل ما بلغه أنهم انتفعوا بها فرق لهم وندم على أنه كتب إليهم بأسلوب محزن لهم ولما بلغه انتفاعهم بها عدل عن الندم. فإن قيل كيف يمكن أن يندم الرسول على ما كتبه بالوحي قلنا أن الروح القدس ألهمه أن يتكلم ويكتب باعتبار أنه رسول الله وهذا لا يمنع من أن يكون الإعلان علة حزن وندم له. فبلعام أوحي إليه أن يتنبأ بما لم يرده وكذا يونان النبي. ولعل بولس كان يتكلم أحياناً بالوحي وهو لا يعلم فيظن أنه يتكلم من نفسه ويندم على ما تكلم وقتياً. ويحتمل أنه ندم على الأسلوب الذي أعلن به فكر الرب إذ خشي من أن يكون فيه شيء من الشدة. فالوحي عصمه من الخطإ في التعليم لكنه لم ينزع منه الحاسات البشرية ولعل وفرة حبه لكنيسة كورنثوس حمله على الندم وقتاً قصيراً على ما تكلم به من الوحي لأنه لم يكن إلا بشراً.
٩ «اَلآنَ أَنَا أَفْرَحُ، لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ. لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ لِكَيْ لاَ تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ».
رومية ٨: ٢٧
اَلآنَ أَنَا أَفْرَحُ بخلاف ما شعرب به من الندم سابقاً.
لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ علة فرحه منفعة حزنهم لا الحزن عينه فكان مثله مثل الوالد التقي حين يرى ولده يبكي على ذنبه لا يريد أنه يتألم بالحزن ويفرح بما يعلمه من الخير الناتج عن ذلك. والتوبة تأتي أحياناً بمعنى تغيير القصد ومن ذلك قوله في عيسو «لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ ٱلْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَاناً» (عبرانيين ١٢: ١٧). لكنه يغلب مجيئها في الإنجيل بمعنى تثير إحساسات الإنسان ومبادئه تغيراً كلياً كاملاً في كل النفس والحياة ولا سيما من جهة الخطيئة فيحمله على كره الإثم وتركه. وعلة التوبة الحقة شعور الخاطئ بأن إثمه تعدّ على الله القدوس الذي تجب الطاعة له كما كان من داود حين شعر بخطيئته فقال «لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِماً. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور ٥١: ٣ و٤ انظر أيضاً متّى ٣: ٨ ولوقا ٥: ٣٢ وأعمال ٥: ٣١).
حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ الدليل على أن حزنهم كان للتوبة قبول الله إياه واستحسانه له فإنه تعالى يعلم علة مثل ذلك الحزن أعن الشعور بالخطيئة هو أم عن مجرد خوف العقاب. والحزن بحسب مشيئة الله يجذب الحزين إلى الله لينال منه المغفرة والتعزية والسلام وهو أفضل استعداد للإتيان إلى المسيح وقبوله إياه رباً ومخلصاً. وكذا كان حزن مؤمني كورنثوس.
لِكَيْ لاَ تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ أي لكي لا يكون ما أحزنكم من رسالتي علة خسارة لشيء لكم. فإنه بدل من أن يكون علة خسارة وضرر كان علة أفضل ربح وخير روحي.
١٠ «لأَنَّ ٱلْحُزْنَ ٱلَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ ٱلْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتاً».
٢صموئيل ١٢: ١٣ ومتّى ٢٦: ٧٥ أمثال ١٧: ٢٢
لأَنَّ تعليل بيان أنهم لم يخسروا بحزنهم.
ٱلْحُزْنَ… يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ الحزن نفسه ليس هو توبة وإلا كان حزن إخوة يوسف توبة وهو لم يكن كذلك لأنه لم يمنعهم عن مداومة خداعهم لأبيهم. والندامة نفسها ليست توبة وإلا كانت ندامة يهوذا كذلك فنفعته (متّى ٢٧: ٤ و٥) ومجرد الاعتراف بالخطيئة ولوم النفس كما كان من شاول الملك (١صموئيل ٥: ٢٤) ليس توبة. وكذا إصلاح السيرة ظاهراً كما كان من هيرودس قاتل يوحنا (مرقس ٦: ٢٠). فالحزن المنشئ التوبة هو ما نتج عن كره الخطيئة وتركها وإدراك الخلاص فهو ليس علة الخلاص ولكن لا خلاص بدونه. فلا أحد من الخالصين لم يتب ولا أحد يتوب توبة حقة ويهلك.
بِلاَ نَدَامَةٍ أي الذي يتوب لا يندم وإن كانت توبته علة حزن شديد لأن مثل هذا الحزن يقوده إلى المسيح لنيل المغفرة وراحة الضمير والسلام الأبدي. فالتوبة مثل دواء مرّ يأخذه المريض باختياره لتوقعه النفع العظيم منه.
حُزْنُ ٱلْعَالَمِ أي حزن الدنيويين كما جاء في (يوحنا ٧: ٧ و١٤: ٧ و١كورنثوس ١: ٢٠ وغلاطية ٤: ٣).
فَيُنْشِئُ مَوْتاً أي هلاكاً أبدياً مقابلاً للخلاص الناشئ عن الحزن بحسب مشيئة الله. إن الدنيويين يحزنون على آثامهم لشعورهم بالألم الناتج عنها فينظرون إلى المصاب ولا ينظرون إلى الله الذي أدبهم فيزيدون عصياناً وبغضاً ومناواة لله كما كان من الملك آحاز فإنه «فِي ضِيقِهِ زَادَ خِيَانَةً لِلرَّبِّ» (٢أيام ٢٨: ٢٢). فأخطأ الذين ذهبوا إلى أن نفس الألم والحزن ينفعان النفس لأنهما لا ينفعان ما لم يفعل روح الله معهما لينشئا توبة صحيحة وتسليماً وتواضعاً وصبراً وإيماناً فإن الشرير كلما زاد شقاء زاد شراً بدليل أن الأشرار «كَانُوا يَعَضُّونَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ ٱلْوَجَعِ. وَجَدَّفُوا عَلَى إِلٰهِ ٱلسَّمَاءِ مِنْ أَوْجَاعِهِمْ وَمِنْ قُرُوحِهِمْ، وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ» (رؤيا ١٦: ١٠ و١١).
١١ «فَإِنَّهُ هُوَذَا حُزْنُكُمْ هٰذَا عَيْنُهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ مِنَ ٱلٱجْتِهَادِ، بَلْ مِنَ ٱلٱحْتِجَاجِ، بَلْ مِنَ ٱلْغَيْظِ، بَلْ مِنَ ٱلْخَوْفِ، بَلْ مِنَ ٱلشَّوْقِ، بَلْ مِنَ ٱلْغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ ٱلٱنْتِقَامِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ».
وصف الرسول في هذه الآية نتائج حزن الكورنثيين الذي تبيّن أنه كان بحسب مشيئة الله وصار سبباً لفرح الرسول.
هُوَذَا حُزْنُكُمْ هٰذَا عَيْنُهُ أي انتبهوا لهذا الحزن لتعرفوا فوائده.
بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ كما ظهر من نتائجه.
كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ مِنَ ٱلٱجْتِهَادِ أي أحدث فيكم اجتهاداً كثيراً. والاجتهاد استفراغ الطاقة في تحصيل المطلوب الصعب. إن كنيسة كورنثوس في أول أمرها لم تبال بتأديب الزاني من أعضائها فكأنهم حسبوا ما فعله أمراً زهيداً. فأول حزنهم بحسب مشيئة الله كان الاهتمام بهذا الأمر واستفراغ الوسع في إصلاح الخلل وهذا من تأثير التوبة الحقيقية في كل خاطئ فيعتبر ما كان يحسبه زللاً زهيداً خطيئة عظيمة كافية أن تجلب عليه غضب الله.
بَلْ مِنَ ٱلٱحْتِجَاجِ المراد بالاحتجاج هنا تسليمهم بنقائصهم وإظهار أنهم عدلوا عن سلوكهم السابق وأن أكثر أعضاء الكنيسة لم يستحسنوا ما أساءه ولم يشتركوا فيه وأن من اشترك فيه لا يعود إليه. نعم أن الاحتجاج يكون غالباً للنفس على الغير وأما هنا فكان للغير على النفس.
بَلْ مِنَ ٱلْغَيْظِ أي من غيظهم على أنفسهم لما أتوه من الإساءة إلى الرسول ولما أهملوه من الواجبات فإنهم كانوا غافلين عن سوء تصرفهم في الماضي فانتبهوا حينئذ له. ولعل ذلك الغيظ يشمل الغيظ على وقوع الخطيئة التي سبق الكلام عليها وعلى المذنب وعلى سكوتهم عنه.
بَلْ مِنَ ٱلْخَوْفِ لم يتبيّن أَمن الله هذا الخوف أو من بولس أن يستعمل سلطانه الرسولي بأن يقاصهم على وفق قوله «أبعصا آتي إليكم» (١كورنثوس ٤: ٢١) ولا يبعد من أن يكون من الاثنين.
بَلْ مِنَ ٱلشَّوْقِ إلى إصلاح الخلل أو الحصول على رضى الرسول عنهم وحضوره إليهم. وقد سبقت شهادة تيطس بهذا الشوق (ع ٧).
بَلْ مِنَ ٱلْغَيْرَةِ لله بتطهير الكنيسة مما دنسها بإهمال تأديب الزاني وبإصلاحه إذا أمكن أو بعقابه.
بَلْ مِنَ ٱلٱنْتِقَامِ أي قصد إجراء التأديب اللازم على وفق شريعة الحق والعدل وهو قطع الزاني من شركة الكنيسة.
فِي كُلِّ شَيْءٍ أي في كل جهة نظر منها إلى الأمر المذكور.
أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ الخ أي بينتم أنكم سالكون السلوك الواجب في إصلاح الخطإ وهذا لا يستلزم أنهم لم يستحسنوا اللوم على ما مضى لأن معظم غاية الرسالة الأولى توبيخهم على خطإهم في هذا الأمر لكنه صرّح هنا أن سلوكهم الحاضر هو المرضي وأنه رفع عنهم كل أسباب اللوم.
١٢ «إِذاً وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَيْسَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنِبِ وَلاَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنَبِ إِلَيْهِ، بَلْ لِكَيْ يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ ٱللّٰهِ ٱجْتِهَادُنَا لأَجْلِكُمْ».
١كورنثوس ٥: ١ ص ٢: ٤
غاية هذه الآية بيان مقصوده مما كتبه في الرسالة الأولى وهو حصول النتائج المذكورة في الآية السابقة.
إِذاً أي فالرسالة الأولى أنشأت هذه النتائج.
وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أي مع أني كتبت.
فَلَيْسَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنِبِ أي لم يكن معظم قصدي من الرسالة الأولى تأديب الزاني.
وَلاَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنَبِ إِلَيْهِ أي الأب الذي أغرى ابنه امرأته وتزوجها (١كورنثوس ٥: ١). وهذا يثبت أن ذلك الأب كان عند كتابة هذه الرسالة حياً.
بَلْ لِكَيْ يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ ٱللّٰهِ الخ صرّح الرسول أن معظم غايته من تلك الرسالة إثبات عنايته بكل الكنيسة لا بشخص أو شخصين منها ولم يرد أن تُضر الكنيسة كلها لخطايا بعضها بامتناعهم عن التأديب اللازم كما أصيبت جماعة إسرائيل كلها بخطيئة عاخان. ووصف اجتهاده بظهوره أمام الله لثقته أنه مما يستحسنه الله الناظر إلى كل شيء والديان للجميع.
١٣ «مِنْ أَجْلِ هٰذَا قَدْ تَعَزَّيْنَا بِتَعْزِيَتِكُمْ. وَلٰكِنْ فَرِحْنَا أَكْثَرَ جِدّاً بِسَبَبِ فَرَحِ تِيطُسَ، لأَنَّ رُوحَهُ قَدِ ٱسْتَرَاحَتْ بِكُمْ جَمِيعاً».
رومية ١٥: ٣٢
بِتَعْزِيَتِكُمْ إياي بتوبتكم وغيرتكم وطاعتكم إلى آخر ما ذُكر في (ع ١١). قال في الآية السادسة أنه تعزّى بمجيء تيطس وقال هنا أنه تعزى بما أتاه به من أخبارهم.
وَلٰكِنْ فَرِحْنَا أَكْثَرَ الخ لا ريب في أنه سرّ لما رأى تيطس مسروراً لأنه صديقه. ومعظم علة فرحه تأكده من مسرّة تيطس حسن تأثير رسالته وتيقنه أن تعزيته بُنيت على أساس متين لما نظره بعينه من تأثيراتها الحسنة كما أبان في (ع ٧).
١٤ «فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ ٱفْتَخَرْتُ شَيْئاً لَدَيْهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَمْ أُخْجَلْ، بَلْ كَمَا كَلَّمْنَاكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ بِٱلصِّدْقِ، كَذٰلِكَ ٱفْتِخَارُنَا أَيْضاً لَدَى تِيطُسَ صَارَ صَادِقاً».
إِنْ كُنْتُ ٱفْتَخَرْتُ أي مع أني افتخرت وذلك الافتخار مدحه إياهم لتيطس قبل ذهابه إليه فإنه كان قد حقق له أنه يجدهم محبين له (أي لبولس نفسه) مستعدين لإطاعة أمره ولإصلاح الخلل الذي أمرهم بإصلاحه فلو أبوا ذلك لخجل بولس وخاب أمله لعدم صحة افتخاره بهم. لكن تيطس وجد مدح بولس لهم في محله ولما رجع وأخبر بولس بما رأى سر سروراً عظيماً.
كَلَّمْنَاكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ بِٱلصِّدْقِ هذا يشير إلى تبشيره إياهم بالإنجيل مدة إقامته عندهم. وهذا تصريح بأن كل تعليمه الإنجيلي حقّ.
كَذٰلِكَ ٱفْتِخَارُنَا… صَادِقاً لعل ما ألجأه إلى هذه العبارة تهمة أعدائه إياه بأنه لم يعلم الحق. ولذلك قال أنه تكلم بالحق في المسيح وهو بينهم وبالحق فيهم وهو غائب عنهم يشهد لهم أمام غيرهم. فمن مدح غيره في غيبته أثبت بذلك خلوص حبه له وإبانته هذا للكورنثيين معظم الغاية من هذه الرسالة.
١٥ «وَأَحْشَاؤُهُ هِيَ نَحْوَكُمْ بِٱلزِّيَادَةِ، مُتَذَكِّراً طَاعَةَ جَمِيعِكُمْ، كَيْفَ قَبِلْتُمُوهُ بِخَوْفٍ وَرَعْدَةٍ».
ص ٦: ١٢ ص ٢: ٩ وفيلبي ٢: ١٢
أَحْشَاؤُهُ هِيَ نَحْوَكُمْ بِٱلزِّيَادَةِ، مُتَذَكِّراً أكد الرسول لهم أن حب تيطس إياهم زاد كثيراً بزيارته لهم وأنه يزيد على توالي ذكره إحسانهم إليه وحسن تصرفهم.
طَاعَةَ جَمِيعِكُمْ أي طاعتكم لأوامري التي حملها تيطس إليكم.
كَيْفَ قَبِلْتُمُوهُ بِخَوْفٍ وَرَعْدَةٍ دل قبولهم إياه كذلك على رغبة شديدة في رضى الرسول وفي إصلاحهم خطأهم وكان خوفهم ورعدتهم من أن يقصروا عن الطاعة الواجبة عليهم للرسول والإكرام الواجب عليهم لمرسله تيطس. ولعل تيطس كان قد خشي من أن لا يقبلوه كذلك ومن أن يقابلوه بالعناد والمقاومة.
١٦ «أَنَا أَفْرَحُ إِذاً أَنِّي أَثِقُ بِكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ».
٢تسالونيكي ٣: ٤ وفليمون ٨ و٢١
هذه الآية خلاصة معظم الكلام في ما مرّ من هذه الرسالة وهو سبعة أصحاحات. كانت أفكاره قبل ذلك مضطربة كثيراً وكان يخشى عدم ثبوت مؤمني كورنثوس في الإيمان والطاعة له ومن تعليم المعلمين الكاذبين ولكن زالت خشيته وتوطدت ثقته بمحبتهم وطاعتهم له وإيمانهم بالله وتقواهم في سبيله.
فوائد
- إنه على كل مؤمن أن يجتهد في تحصيل طهارة القلب والسيرة على وفق قول المسيح «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متّى ٥: ٨). فلا يجوز لأحد أن يتخذ مواعيد الله سبيلاً إلى الاستمرار على الخطيئة لأنها تؤكد نيله المغفرة متى طلبها فيجب أن تجعله بالحري أن يبذل الوسع في سنن القداسة بناء على ما تضمنته من محبة الله. فالذي يأمل قبول الله إياه وهو غير مجتهد في أن يطهر نفسه كما أن الرب طاهر فأمله باطل (ع ١).
- إنه على كل مسيحي أن يسعى وراء الكمال ويتم له ذلك باستعمال وسائط النعمة ولا سيما الصلاة وتلاوة كتابه تعالى وأن لا يفتر عن ذلك ما بقي في قيد الحياة لأنه ما دام على الأرض لا يقدر أن يقول آمناً «إني بلغت الكمال فلا أحتاج إلى السعي بعد» فإن بولس نفسه لم يدع مثل ذلك بل قال «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلٰكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي ٣: ١٢) (ع ١).
- إنه يجب على كل خدم الدين أن يسلكوا بالاستقامة حتى يمكنهم أن يقولوا قول بولس في هذا الأصحاح «لم نظلم أحداً .لم نفسد أحداً. لم نطمع في أحد» وقوله «أُشْهِدُكُمُ ٱلْيَوْمَ هٰذَا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ ٱلْجَمِيعِ» (أعمال ٢٠: ٢٦). وعلى الرعية أن يقبلوا بالمحبة الإكرام كل خدم الدين الذين سيرتهم وتعليمهم على وفق الإنجيل لئلا يغيظوا الذي أرسلهم (ع ٢).
- إنه يجب علينا أن نرى يد الرب في تعزيتنا في ضيقاتنا وإن استخدم وسائط بشرية لها كمحادثة الأتقياء أو كتابتهم وما يحصل من الأحزان من النتائج النافعة (ع ٦).
- إن ملائكة السماء تفرح بتوبة خاطئ واحد وكذا شعب الله يفرح ولا سيما المبشرون بالإنجيل متى رجع الخطأة عن طرقهم الرديئة معترفين بخطاياهم بالصلاة والدموع سائلين الرحمة الإلهية. والأتقياء لا يسرون بما يرونها من إمارات حزن هؤلاء وآلامهم بل بتوقعهم أثمار التوبة التي يعرفون أنها مباركة (ع ٨).
- إنه من أصعب الأشياء على الإنسان أن يوبخ على خطيئته إذا خطئ إلينا واغتظنا منه لكن التوبيخ يندر أن يفيد إذا كان بالخشونة والغيظ وكثيراً ما يزيد التمادي في الإثم. وكان بولس مثالاً لنا في أنه مع أمانته في توبيخ الكورنثيين على خطاياهم لم يوبخهم إلا بكل رقة ورأفة وكلفه ذلك كثير من الآلام (ع ٨).
- إنه إذا أردنا أن نحمل الخطأة على التوبة والالتجاء إلى المسيح لم يكف أن نُعلن عموماً شر الخطيئة التي ورثناها من آدم واشترك فيها كل الجنس البشري بل يجب فوق ذلك أن نذكر الخطايا الخاصة التي ارتكبها المخاطب وكيف يكرهها الله ويعاقب عليها لأن الاعتراف بخطيئة آدم وخطايا كل نسله ليس بالتوبة الكاملة الواجبة على كل خاطئ (ع ٨ و٩).
- إنه إذا أردنا تحقق صحة توبتنا فلنقابلها بعلامات التوبة المذكورة في الآية الحادية عشرة. وأفضل تلك العلامات ترك الخطيئة والتمسك بالمسيح للغفران والنعمة للثبوت في القداسة (ع ١١).
- إنه من رحمة الله جعل أحزان الناس وسيلة إلى إصلاحهم حتى خلاصهم فلولا تعليم الدين المسيحي أن الله يحول الشر خيراً لكان هذا العالم عالم الظلام والخوف واليأس لأن الخطيئة لا تأثير لها إلى شفاء مرتكبها حين ينتبه الضمير لما يستحقه الأثيم على إثمه لكن مواعيد كتاب الله للتائبين المنسحقي القلوب بلسم لجراح قلوبهم وترنيم في ليالي بلائهم (ع ١٠ و١١).
- إن المقصود من التأديب الكنسي هو نفع الكنيسة كلها حفظاً لطهارتها وصيتها لا مجرد إثبات خطيئة هذا وبر ذاك فلذلك يجب أن يُراعي في إجرائه تمجيد المسيح. فلا يقدم أحد للكنيسة شكاية إلى أخيه لغاية شخصية إثباتاً لحقه أو شفاء لغيظه. إن السكوت عما يضر طهارة الكنيسة وحسن صيتها خطاء وقد يكون التكلم فيه خطاء إذا كانت الغاية منه نفعاً شخصياً وانتقاماً (ع ١٢).
-
إنه يجب علينا أن نتخذ أحزاننا آلة امتحان لمعرفة أحوالنا أمام الله وأن نبحث عن معظم علل تلك الأحزان لنعلم أعلى خسائرنا المالية أم على وقوعنا في الخطيئة أو لأضرار أصابتنا أم لأضرار وقعت على الكنيسة أو لعدم إكرام الناس إيانا أم لعدم إكرامهم للمسيح. وبمثل هذه المسائل نقدر أن نعلم هل نحن دنيويون من الذين أحزانهم تنشئ موتاً أو روحيون ممن أحزانهم تنشئ خلاصاً (ع ١١).
السابق |
التالي |