الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 06 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السادس
تبرئة الرسول نفسه من تهمة أعدائه وإظهار كونه خادماً أميناً للمسيح بشدة طلبه خلاصهم واستقامة سيرته واحتماله المشقات والإهانات من أجل الإنجيل (ع ١ – ١٠). وبيان محبته لمؤمني كورنثوس ونصحه لهم بأن لا يخالطوا غير المؤمنين ولا يتدنسوا بهم.
أمانة الرسول ومحبته ع ١ إلى ١٨
ظل الرسول في هذا الأصحاح على ما كان عليه في الذي قبله من المحاماة عن نفسه وبيّن أنه طلب من الناس باعتبار كونه عاملاً مع الله أن يستفيدوا من نعمته تعالى (ع ١ و٢). وأنه اجتهد في أن لا يعثر أحدا في تبشيره (ع ٣). وثبت أمانته بالمشقات المتنوعة التي احتملها (ع ٤ و٥). وبإظهاره إثمار الروح (ع ٦ و٧) في الشدة والرخاء واللوم والمدح (ع ٨ – ١٠). وإنه فاتح قلبه للكورنثيين ليظهر وفرة حبه لهم (ع ١١ و١٢) وطلب إليهم أن يعاملوه كما عاملهم (ع ١٣). وأن يعتزلوا مخالطة الأشرار (ع ١٤ – ١٨).
١ «فَإِذْ نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ نَطْلُبُ أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ ٱللّٰهِ بَاطِلاً».
١كورنثوس ٣: ٩ ص ٥: ٢٠ عبرانيين ١٢: ١٥
قال في الأصحاح السابق أنه أتاهم كسفير للمسيح وسألهم أن يصالحوا الله. وقال هنا أنه أتاهم عاملاً مع الله وطلب إليهم أن لا يغفلوا عن نعمته.
نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ في المناداة بالإنجيل وحث الناس على قبول الخلاص بالمسيح. قال سابقاً أن الله طلب بواسطته المصالحة (ص ٥: ٢٠) وقال هنا أنه هو وسائر المبشرين يطلبون ذلك باعتبار أنهم عاملون مع الله عملاً واحداً. وسبق الرسول إلى مثل هذا في كلامه على نفسه وعلى أبلوس بقوله «نحن عاملان مع الله» (١كورنثوس ٣: ٩). وهذا يفيد أن لله تعالى عملاً يهتم به وهو تخليص العالم بالمسيح لأجل مجده هو ونفع العالم وسعادته الأبدية وأنه يسمح للناس في أن يعملوا معه في هذا الأمر العظيم. ولم يأت ذلك لأنه يحتاج إلى مساعدتهم لأن ذراعه القديرة لا تفتقر إلى مساعدة الناس الواهنة ولكنه يأذن لهم أن يشتركوا في شرف عمل الفداء ومجده والسعادة والثواب الناشئين عنه ولكي يصيروا مثل الآب الذي أنشأ طريقه والمسيح الذي أكمله.
نَطْلُبُ أنا بولس وسائر الرسل والمبشرين بالإنجيل بالاتفاق مع الله من غير المؤمنين أن لا يرفضوا المصالحة لله والخلاص المترتب عليها.
أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ ٱللّٰهِ بَاطِلاً نعمة الله هنا هي ما تكلم عليه في الأصحاح السابق وهو «جعل الله ابنه خطيئة لأجلنا لكي نصير بر الله فيه». وهذه نعمة فائقة الوصف تظهر بالكفارة التي يحتاج جميع الناس إليها وهي كافية ومناسبة لهم ومقدمة لهم في الإنجيل. وقبولها باطلاً هو رفض الخلاص العظيم المتوقف عليها. وهذا موافق لقوله للغلاطيين «لست أبطل نعمة الله» (غلاطية ٢: ٢١) أي أنه لا يتكل على أعمال الناموس للتبرير مجاناً ولقوله لهم أيضاً «لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ» (غلاطية ٢: ٢١) أي أنه لا يتكل على أعمال الناموس للتبرير وبذلك يرفض الطريق التي أنشأها الله للتبرير مجاناً ولقوله لهم أيضاً «قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٥: ٤). لأنهم رفضوا الخلاص مجاناً فاضطروا إلى حفظ الناموس كله. وقوله لأهل رومية «لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ» (رومية ٦: ١٤). ويتبين أن هذا معنى النعمة من الآية الآتية وهي قوله «هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص». فإذا لا شيء في هذه الآية يدل على إمكان أن يهلك الإنسان بعدما آمن بالمسيح ونال مغفرة خطاياه وتجديد قلبه بدليل صراحة قول الإنجيل «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ» (رومية ٥: ١٠). وقوله «لا شيء يفصلنا عن محبة الله» (رومية ٨: ٣٩). وقوله «ٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً» (رومية ٨: ٣٠).
وذهب بعضهم إلى أنه أراد بقوله «لا تقبلوا نعمة الله باطلاً» لا تقبلوا نعمة الله قبولاً بأن تقبلوا كفارة المسيح والمصالحة وتبقوا مع ذلك في الخطيئة. فذلك من أول صنوف المحال لأنه قطع الاتصال بين التبرير والتقديس. ولا يمكن الإنسان أن يحصل على المغفرة وهو يرفض التقديس فترك الإثم أول شروط المصالحة لله أبداً وكيف يبرأ المسموم وهو لا ينقطع عن شرب السمّ.
٢ «لأَنَّهُ يَقُولُ: فِي وَقْتٍ مَقْبُولٍ سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ. هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ».
إشعياء ٤٩: ٨
في هذه الآية بيان علة أن لا نهمل هذا الخلاص العظيم برفض المصالحة.
لأَنَّهُ يَقُولُ أي الله الآب للمسيح (إشعياء ٤٩: ٨).
ظن بعضهم أن الرسول ذكر هنا كلمات أن الله تكلم في العهد القديم على وقت مقبول ويوم خلاص ورأى أن تلك الكلمات مع كونها موجهة إلى المسيح أصلاً تتضمن وعد الرضى به والمعونة له ونجاة شعبه من مصائبهم وخلاص الأمم وأنها موافقة للتعبير عن مقصوده فاستعارها بإلهام الروح لينذر من قبول نعمة الله باطلاً وإهمال ذلك الخلاص العظيم ولذلك زاد عليها للإيضاح قوله «هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَص» وإنه جرى في ذلك كما جرى في أخذه قول داود «فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى ٱلْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ» (مزمور ١٩: ٤). وقصد به معنى غير الذي قصده داود فإن داود أشار به إلى شهادة السماوات المنظورة بوجود الله فاستعاره بولس لتبشير التلاميذ بالمسيح (رومية ١٠: ١٨). وذهب بعضهم ومذهبه هو الأرجح أن بولس اقتبس وعد الله للمسيح باعتبار كونه فادياً لأنه رآه أخذاً في التمام على توالي دعوة المسيح خطأة اليهود والأمم بواسطة تلاميذه إلى قبول الخلاص الذي أعده بدليل أنه جزء نبوءة منها قوله «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْداً لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُوراً لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٩: ٦). فرأى بولس أن الوقت الموعود به في هذه النبوءة قد حل فصرّح أن الله مستعد أن يظهر رحمته للجميع ويصالحهم.
وعلة إلحاح الرسول على الناس بطلبه إليهم أن يقبلوا الإنجيل حالاً عدم وجود واسطة للخلاص غير التي نادى بها لأن الوقت الذي أعطيه الإنسان لقبول الخلاص محدودة بمدة الحياة ولا يتحقق من هذه المدة سوى زمن الحال ولأن الإنسان كلما أبطأ عن قبول المصالحة قسا قلبه ولأن الروح القدس الذي لا يمكن الخاطئ أن يتوب بدونه ربما حزن وتركه إلى الأبد.
ولا ريب في أن الله يهب لكل أمة وكنيسة وشخص فرصاً لقبول الخير فإن انتهزوها حصلوا على السعادة وإن أهملوها تمر ولا ترجع (عبرانيين ٣: ١٣ و لوقا ١٩: ٤٢).
٣ «وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ لِئَلاَّ تُلاَمَ ٱلْخِدْمَةُ».
رومية ١٤: ١٣ و١كورنثوس ٩: ١٢ و١٠: ٣٢ أعمال ١: ١٧ وص ٥: ١٨
هذه الآية متعلقة بقوله «نطلب» في الآية الأولى وفيها بيان تصرّفه في التبشير.
لَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً اجتهد أن يسير دائماً في طريق يعتزل فيها أن يجد أحد عليه حجة لرفض إنجيله ورغب في إظهار إخلاصه للجميع ومحبته لنفعهم وتجنب كل ما يحملهم على الشك في ذلك على وفق قول المسيح «كُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ» (متّى ١٠: ١٦). وقوله هو «إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْماً إِلَى ٱلأَبَدِ، لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي» (١كورنثوس ٨: ١٣) وقوله «أَنَا أَيْضاً أُرْضِي ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ طَالِبٍ مَا يُوافِقُ نَفْسِي، بَلِ ٱلْكَثِيرِينَ، لِكَيْ يَخْلُصُوا» (١كورنثوس ١٠: ٣٣ انظر أيضاً فيلبي ٢: ١٥ و١تسالونيكي ٢: ١٠).
ٱلْخِدْمَةُ أي خدمة التبشير. لم يخش اللوم الشخصي ولكنه لم يرد أن يضعف تأثير التبشير.
٤، ٥ «٤ بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ ٱللّٰهِ، فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، ٥ فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي ٱضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ»
ص ٤: ٢ و١كورنثوس ٤: ١ أعمال ١٦: ٢٣ وص ١١: ٢٣ الخ أعمال ١٣: ٥٠ و١٤: ٥ و١٩ و١٦: ٢٢ و١٧: ٥ و١٨: ١٢ و١٩: ٢٣ إلى ٤١
ذكر الرسول هنا بعض المصائب المتنوعة التي نزلت به وهو مثابر على استقامته واقتصر على تسع منها. ثم ذكر تسع فضائل أبداها في أثناء تلك النوازل امتُحن إخلاصه وثبت (ع ٦ و٧). ثم تسع مقابلات امتُحن بها ذلك الإخلاص وثبت أيضاً (ع ٨ – ١٠).
فِي كُلِّ شَيْءٍ أي في كل الأحوال التي يمكن أن نُمتحن بها.
نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ ٱللّٰهِ أو «نمدح أنفسنا كذلك» على ما يحتمله الأصل اليوناني وعلى ما ذُكر في حاشية الإنجيل ذي الشواهد. والمعنى على الاحتمالين إننا نبرهن إخلاصنا في خدمة الإنجيل.
فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ أي بوفرة الصبر في الأحوال التسع الآتية وبذلك أثبت أمانته لسيده. وهذه الأحوال قسمها الرسول إلى ثلاثة أقسام متساوية:
- الأول: عام لكل المسيحيين وهو الشدائد والضرورات والضيقات.
- الثاني: خاص بالرسول وهو الضربات والسجون والاضطرابات.
- الثالث: اختياري وهو الأتعاب والأسهار والأصوام.
شَدَائِدَ وهي مصائب يصعب احتمالها.
ضَرُورَاتٍ وهي نوازل لا مهرب منها ولا يُعرف وجه التصرف فيها.
ضِيقَاتٍ وهي نوائب تحيط بالإنسان من كل جانب ويعجر عن التخلص منها وعكسها الرحب في قول المرنم «أَخْرَجَنِي إِلَى ٱلرُّحْبِ» وقوله «عَرَفْتَ فِي ٱلشَّدَائِدِ نَفْسِي، وَلَمْ تَحْبِسْنِي فِي يَدِ ٱلْعَدُوِّ، بَلْ أَقَمْتَ فِي ٱلرُّحْبِ رِجْلِي» (مزمور ١٨: ١٩ و٣١: ٧ و٨). فالرسول أظهر الصبر والأناة في هذه الثلاث.
ضَرَبَاتٍ كان بولس حين كتب هذه الرسالة قد ضُرب ثماني مرات خمس منها من اليهود وثلاث من الرومانيين كما يتضح من (ص ١١: ٢٤ و٢٥).
سُجُونٍ لم نعلم كم مرة سُجن الرسول لأن لوقا لم يذكر في الأعمال إلا بعض تاريخه. فنعلم أنه سجن في فيلبي وفي أورشليم وفي قيصرية وفي رومية وكان مقيداً في بعضها بالسلاسل ورجلاه في المقطرة وكان الروح القدس يشهد له في كل مدينة قائلاً إن وثقاً وشدائد تنتظره (أعمال ٢٠: ٢٣).
ٱضْطِرَابَاتٍ أي هياجات وقلاقل عُرّض الرسول لها في أنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٥٠) ولسترة (أعمال ١٤: ١٩) وفيلبي (أعمال ١٦: ١٩) وتسالونيكي (أعمال ١٧: ٥) وكورنثوس (أعمال ١٨: ١٢) وأفسس (أعمال ١٩: ٢٩). وأورشليم (أعمال ٢١: ٣). ففي مثل هذه الأحوال تُمتحن شجاعة أشجع الناس فمقاومتها بمنزلة مقاومة الزوبعة وليس للمبشر فيها إلا الصبر والاتكال على الله. وهذه المصائب نزلت بالرسول على رغمه وحمل فوق ذلك بعض المصائب باختياره فكان أجلى برهان على إخلاصه.
أَتْعَابٍ هذه أول المصائب التي حملها الرسول باختياره وأشار بها إلى ما قاسى من المشقات وهو يعمل بيديه ليقوم بحاجاته وحاجات الذين معه حتى يبشر مجاناً وما احتمله في الأسفار والوعظ وخدمة المرضى والفقراء وسد احتياجات الكنائس.
أَسْهَارٍ قاساها في أسفاره ليلاً واعترته من شدة همومه وأتعابه (ص ١: ٢٧).
أَصْوَامٍ الصوم هنا الامتناع من الطعام لكثرة العمل أو لخشية إضاعة فرصة التبشير كما حدث للمسيح وتلاميذه (مرقس ٢: ٢٠ و٦: ٣١). ولا شيء في القرينة يدل على أن تلك الأسهار والأصوام من فروض الدين لأن الصوم الديني لا يُذكر في الإنجيل إلا مقترناً بالصلاة والأصوام هنا ذُكرت مقترنة بالأتعاب.
٦، ٧ «فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ، ٧ فِي كَلاَمِ ٱلْحَقِّ، فِي قُوَّةِ ٱللّٰهِ بِسِلاَحِ ٱلْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ».
١كورنثوس ١: ٥ و٢: ٦ و١٢: ٨ رومية ٨: ٥ و١تسالونيكي ١: ٥ رومية ١٢: ٩ ص ٤: ٢ و٦: ١٤ و كولوسي ١: ٥ و١كورنثوس ٢: ٤ وص ٤: ٧ ص ١٠: ٤ وأفسس ٦: ١١ و١٣ و٢تيموثاوس ٤: ٧
أبان الرسول بما سبق أمانته وإخلاصه في أثناء الشدائد التسع التي احتملها بالصبر وأخذ في هاتين الآيتين يبينهما أيضاً بما مارسه من الفضائل والمواهب التسع الآتي ذكرها.
طَهَارَةٍ هي نقاوة القلب والسيرة فهي تزيد على العفة بخلو النفس من الهوى (فيلبي ٤: ٨ و١تيموثاوس ٥: ٢٢ و١يوحنا ٣: ٣).
عِلْمٍ هو هنا معرفة أسرار ملكوت الله كما في قوله للأفسسيين «فَكَتَبْتُ بِٱلإِيجَازِ. ٱلَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٣: ٣ و٤). وقوله للغلاطيين «وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١١ و١٢ انظر أيضاً ١كورنثوس ٢: ٦).
أَنَاةٍ هي احتمال الظلم والاضطهاد بلا تذمر (١كورنثوس ١٣: ٤).
لُطْفٍ هي إظهار الحب للغير بفعل الخير حتى يشبه صاحبه الله الذي ينعم على غير الشاكرين والأشرار (لوقا ٦: ٣٥).
ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ظهور أنه حال في الرسول. وكان الروح القدس في تلك الأيام يعلن حضوره في المؤمنين بمواهب معتادة وغير معتادة فكان يهب للبعض نبوءة وللبعض حكمة وللبعض موهبة التعليم وللبعض صنع المعجزات وما أشبه ذلك (١كورنثوس ١٢: ٧ – ١١). وأشار بولس بياناً لكونه خادماً أميناً لله إلى الفضائل والمواهب التي أنعم الروح القدس بها عليه وإلى القوة الإلهية التي رافقت تبشيره فأمكنه أن يشير إلى المؤمنين بواسطته ويقول لهم «أَنْتُمْ خَتْمُ رِسَالَتِي فِي ٱلرَّبِّ» ١كورنثوس ٩: ٢).
مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ هي المحبة الأخوية المبنية على نسبة المؤمنين إلى المسيح ونسبة بعضهم إلى بعض.
كَلاَمِ ٱلْحَقِّ أي إعلان الحق بوعظه كقوله قبلاً في نفسه وسائر المبشرين «بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ ٱللّٰهِ» (ص ٤: ٢).
قُوَّةِ ٱللّٰهِ إن الله أظهر قوته بطرق متنوعة في خدمة بولس حسب قوله «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ» (غلاطية ٢: ٨). ومنها طريق تجديده ومنها طريق إعداده للتبشير ومنها طريق ممارسته خدمته بواسطة المعجزات التي صنعها.
سِلاَحِ ٱلْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ أي الاستقامة وما فوقها وهو بر المسيح المنسوب إليه للبسه إياه. وأشار إلى هذا السلاح بقوله للأفسسيين «ٱثْبُتُوا … لاَبِسِينَ دِرْعَ ٱلْبِرِّ» (أفسس ٦: ١٤). وأشار بقوله «لليمين ولليسار» إلى كمال سلاحه للهجوم والدفاع. فالذي له بر المسيح له كل شيء فله ترس الإيمان وخوذة الخلاص وسيف الروح.
٨ – ١٠ «٨ بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ. بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ. كَمُضِلِّينَ وَنَحْنُ صَادِقُونَ. ٩ كَمَجْهُولِينَ وَنَحْنُ مَعْرُوفُونَ. كَمَائِتِينَ وَهَا نَحْنُ نَحْيَا. كَمُؤَدَّبِينَ وَنَحْنُ غَيْرُ مَقْتُولِينَ. ١٠ كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ».
ص ٤: ٢ و٥: ١١ و١١: ٦ و١كورنثوس ٤: ٩ وص ١: ٩ و٤: ١٠ مزمور ١١٩: ١٨ و١كورنثوس ٣: ٢١ و٢٢
صرّح الرسول في هذه الآيات الثلاثة باستقامته في الأحوال المختلفة من أحوال الكرامة والهوان فإنه بقي على اختلاف أحواله سائراً في سنن تقواه غير منحرف عن صحة تعليمه موجباً على المؤمنين الواجبات عينها مدحه الناس أم لاموه فكان كشجاع بغيته الانتصار يسلك في الطريق المؤدية إليه ولا يبالي بما يعترضه من الموانع أو يلحقه من اللوم.
بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ أي سلك في سبيل الواجبات في كل من ذينك الأمرين وهذا أول المقابلات التسع. والمراد «بالمجد» هنا الإكرام الذي حصل عليه من محبي الله. و «بالهوان» الاستخفاف الذي وقع عليه من أعدائه وأعداء الله. والخلاصة أنه استمر في طريق ما وجب عليه غير ملتفت إلى ما يظن الناس فيه أو يقولونه (متى ٥: ١١ ولوقا ٦: ٢٢ و١بطرس ٢: ١٤).
بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ عنى أنه كان بعضهم ينسب إليه الرياء والإثم والبعض ينسب إليه البر والإخلاص لكنه لم يبال بذلك بل كان يهتم برضى الله ومدحه إياه.
كَمُضِلِّينَ أي كان البعض ينسب إليهم الإضلال. وهذا كقوله بعضهم في المسيح «تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي الخ» (متى ٢٧: ٦٣) فحسبوهم كمن ذُكروا في (١تيموثاوس ٤: ١ و٢ يوحنا ٧).
صَادِقُونَ محبون للحق ومنادون به وهذا شهادة من الرسول لنفسه ولإخوته المبشرين وهي على وفق شهادة المؤمنين لهم.
كَمَجْهُولِينَ أي حسبهم البعض أنهم ممن لا ذكر لهم في الناس ولا اعتبار وبنى على ذلك أنهم لا يستحقون أن يُلتفت إليهم.
مَعْرُوفُونَ عند المؤمنين الحقيقيين وممدوحون ومعتبرون.
كَمَائِتِينَ أي معرضين دائماً للموت كما شهد بولس لنفسه في (ص ٤: ١١ و١كورثوس ١٥: ٣١).
نَحْيَا أي أن الله نجاهم من الهلاك الذي أشرفوا عليه وقواهم على احتمال النوزل التي لولا وقاية الله قتلتهم. ولعل الرسول أشار بقوله «كمائتين» إلى ظن الأعداء أنه وإخوته المبشرين قربوا من الملاشاة فلا يخشى منهم بعد. وبقوله «ها نحن نحيا» إلى انتصارهم ونجاتهم من الخطر على خلاف توقع أولئك الأعداء.
كَمُؤَدَّبِينَ أي كمصابين يظهرون باحتمالهم المصائب بصبر وسرور وقوة نعمة الله فلم تكن قصاصاً لهم بل واسطة لتمجيد الله.
ظن بعضهم أن ذلك في اعتبار أعداء الرسول فإنهم حسبوا مصائبهم آية غضب الله كما قيل في المسيح «نَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً» (إشعياء ٥٣: ٤).
غَيْرُ مَقْتُولِينَ هذا كقول المرنم «تَأْدِيباً أَدَّبَنِي ٱلرَّبُّ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي» (مزمور ١١٨: ١٨). وهو قريب من قوله «مُضْطَهَدِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ» (ص ٤: ٩).
حَزَانَى أي حسبونا حزانى لأننا لم نشاركهم في لذاتهم الدنيوية وملاهيهم ولم ينكر الرسول أنه وسائر المبشرين حزانى لأنهم بشر يصيبهم ما يصيب الناس عموماً وأن لهم أسباباً إلى ذلك ليست لغيرهم كالاضطهاد والإهانة وشعور قلوبهم بخطاياهم.
وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ أي انهم يزرعون بالدموع ويحصدون بالابتهاج. فإن الدين المسيحي فضلاً عن أن يعزي المؤمن في الأحزان يملأ قلبه سروراً لتيقنه رضى الله به وتوقعه ثقل المجد الأدبي في العالم الآتي (قابل هذا بما في رومية ٥: ٣ و١٢: ١٢ وفيلبي ٤: ٤ و١تسالونيكي ١: ٦).
كَفُقَرَاءَ لا ريب في أن الرسل كانوا فقراء (أعمال ٣: ٦) فإنهم تركوا كل ما كان لهم يوم تبعوا المسيح وجالوا يبشرون بالإنجيل. ولعل الناس احتقروا بولس لأنه كان يصنع الخيام لتحصيل أسباب المعاش ولقبوله إحسان كنيسة فيلبي (ص ١١: ٨ و٩ وفيلبي ٤: ١٥). وهذا يصدق على أكثر شعب الله على الأرض لأنهم فقراء بالعالميات.
وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ لم يشر بذلك إلى ما جمعه من الإحسان لفقراء كنيسة أورشليم بل إلى ما وزعه على الناس من الغنى الروحي المشار إليه بقوله «غِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى» (أفسس ٣: ٨ انظر أيضاً ص ٨: ٩ وعبرانيين ١٠: ٣٤ و١١: ٢٦ ويعقوب ٢: ٥).
كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا من الكنوز الأرضية.
وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ حسب قول المسيح «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ» (متّى ٥: ٥) وقوله «كل شيء لكم» (١كورنثوس ٣: ٢١). فإن لهم «كَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ» (لوقا ١٢: ٣٣) وهم وارثون مع المسيح فلهم كل شيء (رومية ٨: ١٧).
١١ «فَمُنَا مَفْتُوحٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلْكُورِنْثِيُّونَ. قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ».
ما في هذه الآية واللتين تليانها حجة على ما سبق من مدح الرسول لنفسه ومقدمة للنصائح التي بعدها.
فَمُنَا مَفْتُوحٌ معناه أنه كلمهم جهاراً في شأن خدمته للإنجيل بينهم وأراد أن يتخذوا ذلك دليلاً على وفرة محبته لهم وأن تلك المحبة حملته على ما تكلم لأنه من فضل القلب يتكلم اللسان.
قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ يعني مودته لهم وافرة كمحبة الوالد للأولاد فهو كما في (إشعياء ٦٠: ٥). ويعبر أيضاً عن هذا في الكتاب «برحبة القلب» (١ملوك ٤: ٢٩ ومزمور ١١٩: ٣٢). ولعله قال ذلك خشية أن يتوهموا أن ضيقاته وتهم بعضهم له ضيقت قلبه وأغلقته عنهم.
١٢ «لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ».
ص ١٢: ١٥
لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا كأن ليس لكم سوى محل ضيق في قلوبنا لا يسعكم جميعاً فأبان أن قلبه واسع يمكنه أن يسعهم كلهم أجمعين وأنه لم يغلق أحشاءه عنهم لسبب نقصانهم وزلاتهم بل يعتذر عنهم ويثق بهم في كل حال.
بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ أي لم تُظهروا لي المحبة التي يحق لي أن أنتظرها منكم نظراً للخدمة التي خدمتكم إياها بالإنجيل والمحبة التي أحببتكم إياها. والدليل على قلة حبهم له نشوء الأحزاب بينهم حتى كان يقول البعض أنا لبولس والآخر أنا لأبلوس الخ وقبولهم المعلمين الكاذبين وإصغائهم إلى تهمهم له وعدم قبولهم نصائحه بما يجب من الفرح والطاعة. ونتج من تزوير بعضهم وظننهم وسوء فهمهم غايته فقدان ثقتهم به وتيقنهم محبته وخلوصه.
١٣ «فَجَزَاءً لِذٰلِكَ أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُتَّسِعِينَ!».
١كورنثوس ٤: ١٤
فَجَزَاءً لِذٰلِكَ أي لما سبق من محبته لهم وغيرته لنفعهم.
كَمَا لأَوْلاَدِي كان بولس أباً روحياً لهم (١كورنثوس ٤: ١٥) لأنهم بواسطته عرفوا المسيح ووُلدوا ثانية فحق له أن يحبوه محبة الأولاد للوالد.
كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُتَّسِعِينَ أي أحبوني كما أحببتكم وأظهروا محبتكم لي بحفظكم نصائحي. وهذا هو الثواب الوحيد الذي ابتغاه على محبته لهم وأتعابه وآلامه في سبيل خدمتهم. لم يرد منهم فضة أو ذهباً بل ثقة بخلوصه وتصديقاً لكلامه.
١٤ «لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟».
لاويين ١٩: ١٩ وتثنية ٧: ٢ و٣ و١كورنثوس ٥: ٩ و٨: ٣٩ و١صموئيل ٥: ٢ و٣ و١ملوك ١٨: ٢١ و١كورنثوس ١٠: ٢١ وأفسس ٥: ٨ و١١
في هذه الآية نصيحة لأولاده الروحيين سألهم قبولها إثابة له على محبته لهم.
لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ هذا مجاز مبني على ما يحدث أحياناً من أن الفلاّح يقرن حيوانين مختلفي الجنس تحت نير واحد للحراثة وهذا ممنوع في شريعة موسى بدليل قوله «لاَ تَحْرُثْ عَلَى ثَوْرٍ وَحِمَارٍ مَعاً» (تثنية ٢٢: ١٠). وكانت غاية الله من هذه الوصية وما شاكلها منع شعبه من مخالطة الشعوب الذين حوله. ومعناه «بغير المؤمنين» هنا من حولهم من الوثنيين الذين لم يؤمنوا بالإنجيل كما في (١كورنثوس ٦: ٦). فإنهم كانوا يدعون المؤمنين إلى ولائمهم في الهياكل إكراماً للأوثان (١كورنثوس ص ٨ وص ١٠: ١٤ – ٣٣). فحذرهم الرسول من مشاركتهم لمعارفهم الوثنيين في تلك الولائم. وقوله «لا تكونوا تحت نير الخ» نهي عن مشاركة الوثنيين في ولائمهم الدينية وعن التزوج منهم والتزويج لهم وعن كل مخالطة لهم وتكون وسيلة إلى التجربة والخطيئة.
وما صدق هنا من جهة العلاقات بين المسيحيين والوثنيين يصدق من جهة العلاقات الشديدة الاختيارية بين محبي الله وأعدائه فالمؤمن يزيد خطراً على قدر زيادة قرينه غير المؤمن شراً. وما أحسن قول بعضهم هنا:
واحذر معاشرة اللئيم فإنه يعدي كما يعدي السليم الأجرب
أوليس أفضل للمسيحي أن يختار أعز أصحابه من عبدة المسيح من أن ينتخبهم من عبدة الزهرة. والخلاصة أن الرسول في هذه العبارة نهى عن شدة التصاق المؤمن بالكافر والروحاني بالدنيوي والأخيار بالأشرار وأولاد الله بأولاد إبليس (أفسس ٥: ١١ و١تيموثاوس ٥: ٢٢ و٢يوحنا ١١).
أخذ الرسول على أثر ما ذُكر في خمس مسائل أبان بها مباينة مثل تلك العلاقات اثنتان منها تشيران إلى المنافاة بين الخلاص والهلاك والثالثة تشير إلى المنافاة بين المخلص والمهلك والاثنتنان الباقيتان تشيران إلى المنافاة بين المخلصين والهالكين.
أية خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْم وصف دين المسيحيين «بالبر» لأن غايته إنشاء القداسة في الإنسان وهي نتيجة اتحاد المؤمن بالمسيح القدوس ولأنه يتوقع من كل مسيحي أن يكون قديساً بدليل قوله «كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ وَٱلإِثْمِ لِلإِثْمِ، هٰكَذَا ٱلآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ» (رومية ٦: ١٩). ولأن البر هو الذي يمتاز به المسيحيون من الوثنيين. ووصف الوثنيين «بالإثم» وحق له ذلك بدليل ما جاء من صفاتهم في الأصحاح الأول من الرسالة إلى الرومانيين ويصح أن يوصف به أهل العالم الذين لم يختمروا بخميرة الإنجيل لما ظهر من الظلم والخداع والفساد. وهذا على وفق قول يوحنا الرسول «نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ، وَٱلْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي ٱلشِّرِّيرِ» (١يوحنا ٥: ١٩). والاستفهام في الآية إنكاري الغرض منه بيان استحالة خلطة الذين يجعلون شريعة الله قانون حياتهم للذين يعصون تلك الشريعة.
وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ يُستعار النور للمعرفة والقداسة والسعادة وعليه دُعي المسيحيون أولاد النور (لوقا ١٦: ٨ وأفسس ٥: ٧ و٨ و١تسالونيكي ٥: ٥ و١يوحنا ١: ٦ و٧). وأُرسل بولس «ليرجع الناس من الظلمات إلى النور» (أعمال ٢٦: ١٨). وتُستعار الظلمة للجهل والضلال والخطيئة والشقاء. وعلى ذلك سُمي ملكوت الشيطان ملكوت الظلام وأولاده أولاد الظلمة وسجن الهالكين «الظلمة الخارجية». والاستفهام لنفي الشركة وبيان استحالة أن يبقى المسيحيون في الطهارة والقداسة وهم باختيارهم يشاركون أهل العالم في أعمالهم فاستحالته كاستحالة اجتماع النور والظلمة والقداسة والخطيئة والسعادة والشقاء.
١٥ «وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيَّعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ؟».
١صموئيل ٢: ١٢
أَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيَّعَالَ وهما رئيسا مملكتين متضادتين لا يمكن أن تتفقا وبالضرورة يستحيل الاتفاق بين جنود إحداهما وجنود الأخرى. ومعنى «بليعال» في الكتاب البطالون والأشرار (٢ صموئيل ٢٣: ٦). وسُمي الشيطان بليعال لأنه شر الأرواح النجسة.
ومفاد السؤال هنا كمفاد قوله «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ ٱلرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ» (١كورنثوس ١٠: ٢١). وغايته إظهار استحالة الاتفاق بين خدمة المسيح وخدمة الشيطان.
وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ من تأثير الإيمان الصحيح أن يغير طبيعة المؤمن كل التغيير حتى تختلف إحساساته وغاياته ومبادئه عنها في غير المؤمن ويستحيل اتحاد أحدهما بالآخر استحالة اتحاد النور بالظلمة والمسيح ببليعال. نعم إن للمؤمن نصيباً مع غير المؤمن في بعض الأمور مثل وحدة الوطن والنسب والمهنة والأهواء الطبيعية لكن حياتهما الباطنة على غاية الخلاف لأن غاية حياة المؤمن رضى المسيح وتمجيده وهذا لا يبالي به الآخر.
١٦ «وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ ٱللّٰهِ مَعَ ٱلأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، كَمَا قَالَ ٱللّٰهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً».
١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ وأفسس ٢: ٢١ و٢٢ وعبرانيين ٣: ٦ خروج ٢٩: ٤٥ ولاويين ٢٥: ١٢ وإرميا ٣١: ٣٣ و٣٢: ٢٨ وحزقيال ١١: ٢٠ و٣٦: ٢٧ و٣٧: ٢٦ الخ وزكريا ٨: ٨ و١٣: ٩
في هذه الآية والتي بعدها خمسة أمور ذات شأن:
- الاول: مباينة هيكل الله للأوثان.
- الثاني: علة تلك المباينة وهي أن المؤمنين هيكل الله.
- الثالث: برهان أن المؤمنين هيكله تعالى.
- الرابع: ما الذي يوجب ما ذُكر عليهم.
- الخامس: ما وُعد به الذين هم هيكل الله.
أَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ ٱللّٰهِ مَعَ ٱلأَوْثَانِ الاستفهام إنكاري والمعنى أن المحل الموقوف لعبادة الله ليس بمحل للأوثان لاستحالة اجتماع عبادة الله وعبادة الأوثان. والكتاب المقدس يبيّن أن أشد الإهانات لله عبادة الأوثان. وأرادأ أنواع تلك العبادة أن يُدخل إلى بيت الله الأوثان التي هي مكرهته.
والكورنثيين الذين ادعوا أنهم مسيحيون أهانوا الله بمشاركتهم الوثنيين في عبادتهم. ولا يخلو أهل الله من مثل تلك الإهانة حين يشاركون أهل العالم كل المشاركة في ملاهيهم ولذاتهم وأباطيلهم وإظهارهم مثل رغبتهم فيها.
أَنْتُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ سبق وصف المسيحيين بمثل هذا في (١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩). فراجع التفسير هناك.
إن هيكل الله هو المحل الموقوف له وموضع سكناه وعلى ذلك سكن هيكل أورشليم قديماً وأظهر مجده فيه. وجماعة المؤمنين أي كنيسة المسيح هي هيكل الله لأن الروح القدس ساكن فيها بدليل قوله «أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ» (أفسس ٢: ٢٢). وكل مؤمن هيكل له كذلك بدليل قوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ» (١كورنثوس ٦: ١٩) وبرهن الرسول أن المؤمنين هيكل الله بما يفهم منه أنه ساكن فيهم.
كَمَا قَالَ ٱللّٰهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ هذا مضمون ما في (لاويين ٢٦: ١١ و١٢ ومزمور ٦٨: ١٨ وخروج ٣٧: ٢٧). ومثل قوله هنا وعد المسيح لتلاميذه وهو قوله «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا ١٤: ٢٣). ومثل قوله هو «وَإِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ الخ» (رومية ٨: ١ و١١).
وَأَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً كثيراً ما كُرر مثل هذا الوعد في الكتاب ومن مواضعه (تكوين ١٧: ٨ وتثنية ٢٩: ١٣ وإرميا ٣١: ٣٣ وعبرانيين ٨: ١٠). وكونه تعالى إلهاً لهم يتضمن حماية الله للمؤمنين وعنايته بهم ومحبته لهم وأنه يجددهم ليكونوا على صورته في المعرفة والقداسة ويملأهم بملئه. وتسميته إياهم شعباً له بيان أنه يعتبره مقتناه الخاص وأنهم ممتازون بقبولهم نعمه. وكل ذلك يثبت جلياً المباينة العظمى بين المؤمن وغيره ووجوب انفصال الواحد عن الآخر.
١٧ «لِذٰلِكَ ٱخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَٱعْتَزِلُوا، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِساً فَأَقْبَلَكُمْ».
إشعياء ٥٢: ١١ وص ٧: ١ ورؤيا ١٨: ٤
هذه الآية سوى الكلمة الأخيرة منها مقتبسة من إشعياء (إشعياء ٥٢: ١١ و١٢). وهي على وفق العبراني معنى وعلى وفقه إلا قليلاً لفظاً. وغاية القول في العهد الجديد كغايته في العهد القديم وهي حث شعب الله على الانفصال عن الأشرار ولا سيما أشرار الوثنيين. وأما قوله «فأقبلكم» ليس في نبوءة إشعياء إلا أن يكون ترجمة قوله «الرب سائر أمامكم» في الآية الثانية عشرة من الآيتين المقتبستين ولعله مقتبس من نبوءة حزقيال (حزقيال ٢٠: ٣٤) على ما في ترجمة السبعين.
لِذٰلِكَ أي لما سبق من أن الله ألهمهم وأنه هيكله يسكن فيهم فينبغي أنهم يحفظون أنفسهم بلا دنس من العالم.
ٱخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ… وَلاَ تَمَسُّوا نَجِساً وُجه هذا القول أصلاً إلى اللاويين والكهنة لكي يتركوا بابل التي سبوا إليها ويرجعوا إلى أورشليم. والنجس الذي نُهوا عن مسه هو كل ما يتعلق بأوثان تلك البلاد. فاقتبسه بولس لكي ينهي الكورنثيين عن كل ما يتعلق بعبادة الأوثان في مدينتهم وفيه نهي لكل مؤمن عن محبة العالم وشهواته ومخالطته التي تضر بتقواه وخدمته للمسيح. ويستحيل أن يكون المسيحيون هياكل يسكن فيهم الله ويعتبرهم شعبه ما لم ينفصلوا عن العالم لأنه قيل «لاَ تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ وَلاَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ» (١يوحنا ٢: ١٥). ونصح الرسول مؤمني كورنثوس بنص كتاب الله ليروا أن تعليمه تعليم الله. والوصايا الثلاث في الكلام المقتبس وهي «أخرجوا» و «اعتزلوا» و «لا تمسوا» تشير إلى بداءة انفصال المؤمن عن الأشرار وإلى استمرار هذا الانفصال مع كره الإثم واتقائه والحذر من أدنى اقتراب منه.
إن كل إثم نجس يبغضه الله ويمنع مرتكبه من حضرته القدسية ومن مرافقة الملائكة القديسين ومن السماء المقدسة.
فَأَقْبَلَكُمْ أي أتخذكم أصدقاء وأولاداً. وهذا مقتبس من نبوءة حزقيال (حزقيال ٢٠: ٣٤) على ما في ترجمة السبعين وهو في الأصل العبراني «أجمعكم».
١٨ «وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ. يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ».
إرميا ٣١: ١ و٩ ورؤيا ٢١: ٧
إن فحوى الآية في آيات كثيرة من كتاب الله ولا نعلم يقيناً أيها اقتبس الرسول منها. ظن بعضهم أنها من قوله تعالى لداود في نسله «أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً» (٢صموئيل ٧: ١٤). وظن غيره أنها من قول إشعياء «أَقُولُ لِلشِّمَالِ: أَعْطِ وَلِلْجَنُوبِ: لاَ تَمْنَعْ. اِيتِ بِبَنِيَّ مِنْ بَعِيدٍ وَبِبَنَاتِي مِنْ أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٣: ٦). وقول إرميا «لأَنِّي صِرْتُ لإِسْرَائِيلَ أَباً وَأَفْرَايِمُ هُوَ بِكْرِي» (إرميا ٣١: ٩). وقوله «رب الجنود» في العبراني (٢صموئيل ٧: ٨) تُرجم في نسخة السبعين «بالرب القادر على كل شيء».
أَكُونَ لَكُمْ أَباً هذا وعد الله للذين ينفصلون عن العالم والإثم ويتحدون به ومعناه أنه لا ينظر إليهم نظر السيد إلى عبيده بل نظر الآب إلى بنيه وبناته. وفي هذا جواب للقائلين أن الأمر بخروجنا من بين غير ا لمؤمنين والانفصال عنهم ربما اقتضى الانفصال عن أحب أصحابنا حتى آبائنا وأمهاتنا فهو يحقق لهم أنهم إن فقدوا كل مصاحبة وعناية بشرية فالله يعوضهم من ذلك بقيامه بكل ما يحتاجون إليه. وهذا يذكرنا قول المرنم «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وهو كجواب المسيح لبطرس حين قال له «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ» وذلك قوله «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً… إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ… وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (مرقس ١٠: ٢٨ – ٣٠). والوعد نفسه يؤكد للمؤمنين الحماية والإرشاد والعناية بهم وتعزيتهم في الضيقات في هذه الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
وَتَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ هذا يستلزم أنهم يكونون مشابهين لله في صفاتهم وأن يكونوا ورثة غناه وأمجاد ملكوته فلا يمكن أن يكون للبشر شرف أعظم من أن يُدعوا بنين وبنات للرب القادر على كل شيء لأنهم بذلك يكونون أولاد ملك الملوك و «ملوكاً وكهنة لله وسيملكون معه إلى الأبد».
فوائد
- إن ليس من إنسان غير مؤمن أو مؤمن لا يحتاج إلى أن يُحث أحياناً على أن لا يقبل نعمة الله باطلاً فيحث غير المؤمن على ذلك خوفاً من الهلاك الأبدي ويحث عليه المؤمن خشية من أن لا يستفيد كما ينبغي من تلك النعمة ولا يفيد غيره. فعلى كل مسيحي أن يستفيد على قدر الطاقة من النعم ويرتقي إلى أعظم ما يمكنه من درجات التقوى والقداسة (ع ١).
- إن كل فوائد الخلاص تأتينا بشفاعة الرب يسوع المسيح لأن كل رجائنا المغفرة مبني على أن الله يسر بأن يسمع المسيح ولأن المسيح يشفع فينا في وقت مقبول فلو عدل عن الشفاعة فينا كانت صلواتنا كلها عبثاً ومنعت كل مواعيد الخلاص وهلك كل الجنس البشري (ع ٢).
- إن الله من رحمته وهب للعالم فرصة الخلاص وفتح أبواب السماء لقبول كل من تاب ورجع إليه من الخطأة وهو مستعد لقبول الراجعين وتقبيلهم قبلة المغفرة وإلباسهم ثوب البر وخاتم البنوة (ع ٢).
- إن الوقت الحاضر عظيم الأهمية للخطأة لأنه لا يعلم أحد علم اليقين أنه يحصل على دقيقة أخرى لنيل المغفرة ويتوقف عليه نتائج مهمة أبدية. إن الخاطئ يمكنه أن يُقبل الآن ويحتمل أن تفوت الفرصة في الدقيقة التالية. الآن معروض عليه السماء والسعادة الدائمة ولعله يُقطع نصيبه في الدقيقة التالية (ع ٢).
- إنه على المبشرين بالإنجيل أن يحذروا من أن يعثروا أحداً فإنه بمقتضى سيرتهم تكرم خدمة البشارة أو تهان وكذا اعتبار المسيح بين الناس. فما أعظم مسؤوليتهم وكم يجب أن يكونوا قديسين وبلا لوم (ع ٢).
- إن على كل المسيحيين مبشرين وغيرهم الاستعداد لاحتمال المشقات من أجل المسيح فكان على المسيحيين في أول عصور الكنيسة أن يحتملوا أضرار السجون والضربات في سبيل الإنجيل فلماذا لا نتأهب نحن إلى مثل هذا (ع ٤ و٥).
- إن الديانة المسيحية لم تصل إلينا إلا بعد نفقات جسيمة ممن سلفونا من أهلها إنها كلفتهم تعباً وأنات ودموعاً واستشهاداً وأفضل رجال العالم سُجنوا وجُلدوا وعُذبوا حتى نحصل على تلك الديانة فعلينا أن نعزها لوفرة نفقتها وأن نبذل الجهد في إيصالها إلى الخلف كما أوصلها إلينا السلف (ع ٤ و٥).
- إن الله كثيراً ما يمتحن المؤمنين بالنوازل لنفع غيرهم فصدق فيهم قول الشاعر «مصائب قوم عند قوم فوائد» فإن كثيرين من المؤمنين آمنوا بالمسيح بمشاهدتهم ثبوت الشهداء وسرورهم في أثناء العذاب والقتل. فلولا مصائب أيوب لربما ما سمعنا شيئاً من أمره وخسرنا كل فوائد سفره. وكم من رسالة كتبها بولس وهو في السجن. وعندنا كثير من الكتب المفيدة التي كتبها المؤمنون وهم مسجونون من أجل اسم يسوع ومنها سياحة المسيحي الذي ألفه يوحنا بنيان. واختيار المسيحيين أثبت أن «دم الشهداء بذار الكنيسة» فالشيطان الذي هيّج الناس على اضطهاد الكيسة ضرّ مملكته بذلك (ع ٣ – ٥).
- إن المبشرين لا يستطيعون أن يفيدوا الناس ما لم يكونوا أتقياء فيجب أن يمتازوا عن غيرهم بالطهارة والعلم وكلام الحق وأسلحة البر فإن تأثير السيرة الحسنة كتأثير الشمس والندى والخصوم يعجزون عن دفع شهادتها. نعم أنهم يمكنهم أن يهزئوا بوعظ المبشرين ويضحكوا بإنذارهم ويحرقوا الكتب السماوية ولكنهم لا يمكنهم أن يبطلوا تأثير تلك السيرة كما أنهم لا يستطيعون أن يبطلوا تأثر الشمس من إحياء وإنارة (ع ٦ و٧).
- إنه يجب على المسيحيين ولا سيما المبشرين أن يتوقعوا الهوان والشتم والخسارة فيلزم من ذلك أنه على الإنسان قبل أن يعترف بالدين المسيحي وقبل أن يتقدم إلى رتبة التبشير أن يحسب النفقة ويرى هل هو مستعد لأحتمال العار والفقر والاضطهاد حتى الموت في سبيل الرب (ع ٨ – ١٠).
- إن للدين المسيحي قوة على تعزية المؤمن وتشجيعه في أشد الضيقات فلماذا يحزن وأسباب الفرح دائمة. ولماذا يرى أنه فقير وهو قادر أن يغني كثيرين. ولماذا يكتئب بأن لا شيء له والمسيح نصيبه وهو وارث لكل شيء. فله كنز في السماء يفوق كل كنوز الأرض وله هناك ميراث لا يضمحل وإن كان ماله هنا يُسلب منه ويفنى. ولا ريب في أن لفقراء العالم الأغنياء في الإيمان فرحاً لا يعرفه أرباب الثراء في قصورهم. وكثيراً ما يسبّح المسجونون من أجل المسيح في سجونهم ويترنمون فرحاً كبولس وسيلا في سجن فيلبي والذي سجنوهم في اضطراب (ع ١٠).
- إن أفضل ثواب ينتظره المبشر الأمين على الأرض أن يحبه الذين يخدمهم ويسمعوا كلامه وعلى هذا قال يوحنا الرسول «ليس لي فرح أعظم من هذا أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق» (ع ١٣).
- إن شرط نجاح الدين المسيحي في الأرض أن ينفصل المسيحيون عن العالم الشرير عالم اللهو والأباطيل والشرور فإن المسيح قصد أن ينشئ مملكة تختلف عن كل ممالك الأرض ومبادئها وأعمالها تختلف عن مبادئ وأعمال الدنيا. فالذين لا يرضون ذلك الشرط ولا ينفصلون عن رفقائهم الأشرار وعن أباطيل هذه الحياة لا يمكنهم تحقق أنه مسيحيون. ولا يليق بالمسيحي ادعاء الفريسي أنه أقدس من غيره حتى أنه لا يستطيع أن يفيد غيره ولكنه يجب أن يعامله معاملة الجار لجاره والوطني لوطنيه بدون مخالفته مبادئه الروحية لأنه يقدر أن يخالط العالم لأجل إفادته وإصلاحه مع اختياره أحب الأصدقاء إليه من أصدقاء المسيح (ع ١٤ و١٥).
- إن من جملة الممنوعات بمقتضى هذا الأصحاح ثلاثة أمور:
- الأول: التساهل بمشاركة الغير في ما نهى الله عنه من رسوم العبادة. إن ألوفاً من المؤمنين في عصور الكنيسة الأولى سلموا نفوسهم للموت ولم يسلّموا بأن يوقدوا شيئاً قليلاً جداً من البخور أمام الوثن.
- الثاني: مشاركة غيره في تجارة محرمة أو فيها شيء من الحرام كالكذب والغش والعمل في يوم الرب لغير ضرورة وعمل المسكرات أو بيعها وإيجاز بيت للمقامرة أو الدعارة بدليل قول الكتاب «لا تشترك في خطايا الآخرين» (١تيموثاوس ٥: ٢٢).
- الثالث: كل الملاهي المحرمة والتي ليست محرمة في نفسها ولكنها تقود اللاهي نفسه أو مشاهده إلى الإثم. فلا يجوز للمسيحي أن يدخل منتزهاً لا يدخله المسيح لو كان على الأرض وكل مكان مناظره تمنعه من اللذة بقراءة كتاب الله والصلاة الانفرادية واجتماعات الإخوة الدينية وكل مكان يمتنع عنه الإنسان لو علم أنه يخرج منه إلى الوقوف أمام عرش الديان. وأما مشاركة المؤمن لغير المؤمن في الزواج فكلام الكتاب عليها أوضح من أن يبين (ع ١٤ و١٥).
- إن المسيحيين هيكل الله القدوس فعليهم أن يحترسوا من تدنيس الخطيئة ويحرصوا على الطهارة ويحفطوا ضمائرهم دائماً بلا عثرة (ع ١٦).
-
إن للمسيحي أن يكون الله أباه وهذا أعظم ما يمكن تصوره من الشرف فإن تركه الناس فالله لا يتركه وإن طردوه فالله يحبه ويعتني به كما يعتني الآب بابنه وابنته. افتخر بعض الناس بكونهم من الأسرة الملكية ولكن للمسيحي فخراً أعظم من هذا لأن شرفه يبقى بعد زوال كل شرف أرضي. والشرف الدنيوي مقصور على قليلين ولكن الشرف السماوي مباح لكل من يريد فيقدر أن يحصل عليه كل إنسان. فكم يرغب الناس في أن يصاهروا الملوك وأن يدخلوا صروحهم ويجلسوا على موائدهم ولكن ما شرف هذا كله بالنسبة إلى أن يكونوا أولاد الله العظيم الأزلي (ع ١٨).