كورنثوس الثانية

الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 04 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الرابع

  • أمانة بولس وإفصاحه في تبشبره ع ١ إلى ٦
  • كون ضعفه وسيلة إلى أظهار قدرة الله التي جاءت بنتائج عظيمة بوسائط حقيرة (ع ٧ – ١٥)
  • قوة رجائه في المستقبل لرؤيته الأمور غير المنظورة منظورة (ع ١٦ – ١٨).

رجع الرسول في هذا الأصحاح إلى الكلام على الموضوع الذي تركه في (ص ٣: ١٢) وأبان أنه ليس جباناً ولا خادعاً في خدمة العهد الجديد المُعلن البر والحياة وإنه لم يشك في صدق كلامه ولا في نجاحه بين سامعيه ولذلك لم يمزج تعليم الإنجيل بغيره ولم يخف شيئاً من حقائقه (ع ١ و٢).

علة كتمان الإنجيل عن بعض الناس مع المناداة به بكل وضوح ليست إلا أن إله هذا العالم قد أعمى أذهانهم لأن موضوع الإنجيل المسيح وإعلان الإنجيل به واضح لصدور النور من الظلمة في بدء الخليقة (ع ٣ – ٦).

كون الإنجيل كنزاً في إناء خزفي وأنه مع كونه من الله وكون غايته إنارة العالم سُلم إلى أناس ليسوا بشيء بالنسبة إلى تأثيره لبيان أن قوة الإنجيل هي قوة الله لا قوة المبشرين به لأنهم كانوا مضطربين ومضطهدين وعرضة للموت أبداً ولكن يسوع المسيح كان يفعل بواسطتهم وكان نجاحهم برهاناً على كونه حياً مقتدراً (ع ٧ – ١٢) ولذلك كان إيمان الرسول وثيقاً كإيمان داود فأيقن إن الله الذي أقام المسيح من الموت يحفظه في العالم ويقيمه من الموت بعد وفاته. وكانت غايته من كل ما عمله وما احتمله نفع الكنيسة فتوقع أن يحمد الله كثيرون بواسطة خدمته (ع ١٣ – ١٥).

اتخاذه ما ذُكر على أنه لا يفشل «لأن إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً» (ع ١٦ – ١٨).

أمانة بولس وإفصاحه في تبشيره ع ١ إلى ١٦

١ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ، إِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةُ كَمَا رُحِمْنَا، لاَ نَفْشَلُ».

ص ٣: ٦ ١وكورنثوس ٧: ٢٥ و١تيموثاوس ١: ١٣

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي بناء على ما سبق من فضل خدمة العهد الجديد على خدمة العهد العتيق.

هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةُ أي خدمة الإنجيل التي هي خدمة «الروح لا الحرف» وخدمة «البر لا الدينونة» وخدمة «الحياة لا الموت» وخدمة المجد لا خدمة الظلال الزائلة ولذلك فاقت خدمة الناموس مجداً.

كَمَا رُحِمْنَا حسب بولس اشتراكه في تلك الخدمة المجيدة ورحمة منه تعالى وهذا كقوله «أَشْكُرُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا ٱلَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِيناً، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ، أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً» (١تيموثاوس ١: ١٢ و١٣ انظر ايضاً رومية ١٥: ١٥ و١٦ و١كورنثوس ١٥: ٩ و١٠ وأفسس ٣: ٨).

لاَ نَفْشَلُ من تعب أو هول أو يأس حتى نقصّر عن الأمانة والرغبة لأن عظمة تلك الخدمة ومجدها يمنعان الفشل.

٢ «بَلْ قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا ٱلْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ ٱللّٰهِ».

ص ٢: ١٧ و١تسالونيكي ٢: ٣ و ٥ ص ٦: ٤ و٧ و٧: ١٤ ص ٣: ١ و٥: ١١

في هذه الآية برهان على عدم فشله من تصرفه ولا ريب في أنه وصف بما نفاه عن نفسه المعلمين الكاذبين في كورنثوس.

رَفَضْنَا خَفَايَا ٱلْخِزْيِ أي الطرق الملتوية المستترة المؤدية إلى إدراك الغايات من تكثير الاتباع وتحصيل المدح من الناس وسائر ما يستحي الإنسان من الاعتراف به علناً. فصرّح الرسول بأنه اعتزل كتم الحق في الوعظ واستعمال مبهم الكلام للخداع.

غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ لتحصيل غايتنا فهذا تفسير لقوله «رفضنا خفايا الخزي». إن الشيطان سلك في المكر بغية خداع حوّاء (ص ١١: ٣) وسلك الكتبة فيه ليصطادوا المسيح بكلمة (لوقا ٢٠: ٢٠ و٢٣) وسلك كذلك المعلمون الكاذبون لإضلال الناس (أفسس ٤: ١٤).

لاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ بزيادة أو نقصان أو خلطها بتقاليد يهودية أو فلسفة يوناينة (ص ٢: ١٧). واعتبر الرسول الإنجيل «كلمة الله» لأن الله أوحى به ولأن سلطانه سلطان الله ولأنه تام مستوف. فغاشوا كلمة الله يقتصرون على المناداة بعقائد الإنجيل التي تُرضى الناس وتسكت عما تكرهه أو تستثقله طبيعة الإنسان الساقط.

بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ كله صافياً كما أعلنه الله في كتابه.

مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ لم يقصد أن يتوصل إلى ثقة الناس ومدحهم بالحيل أو تحريف الحق كما فعل المعلمون الكاذبون لأن الحق تجرد إظهاره شهادة له عند كل ذي ضمير صالح. قال المسيح «ٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا» (لوقا ٧: ٣٥). فتوقع بولس أن يبرره جميع بني الحكمة وإن الأشرار مع بغضهم للحق ومعلميه تشهد ضمائرهم له ولهم لأن الحق من الله وهو خالق الضمائر التي هي شهود داخلية به فتكون أصواتهم على معلمي الحق وضمائرهم معهم.

ِقُدَّامَ ٱللّٰه أثبت إخلاصه في غاياته وتصرفه بأنه أتى كل هذا كأنه في حضرة ذلك الذي سوف يقف أمامه للدينونة وهو الذي يعاقب الخادعين.

٣ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي ٱلْهَالِكِينَ»

١كورنثوس ١: ١٨ وص ٢: ١٥ و٣: ١٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٠

من الجلي أن الإنجيل مع كونه مجيداً وبُشر به بكل وضوح لم يزل مكتوماً عن بعض الناس فلم يقبلوه إعلاناً من الله. ولا علة لذلك إلا كونهم من الهالكين كما أنه من البيّن أن الذي لا يرى الشمس عند الظهيرة والجو صاف هو أعمى وذلك على وفق قوله «إِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ» (١كورنثوس ١: ١٨). إن الإنسان الذي يرفض الإنجيل يحكم على نفسه بأنه ميت بالذنوب والخطايا وإنه من جملة الذين دينونتهم محققة وهلاكهم مؤكد. إن الكتاب المقدس أوضح لنا أنه يستحيل على الإنسان أن يدخل السماء بعد أن عُرض الإنجيل عليه ورفضه. قال السيد نفسه «الذي لا يؤمن يدان» (مرقس ١٦: ١٦). وهو ممن قال المسيح لهم «لا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة» (يوحنا ٤: ٤٠). كأن أهل العالم بأسرهم في حال الدينونة عرضة للهلاك بسبب خطاياهم فأعطاهم الله إنجيله ليعلن لهم طريق الخلاص فالذين كُتم عنهم ذلك الإعلان يهلكون بخطاياهم لا محالة.

٤ «ٱلَّذِينَ فِيهِمْ إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ».

يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ و١٦: ١١ وأفسس ٦: ١٢ إشعياء ٦: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ وص ٢: ١٤ ص ٣: ٨ و٩ و١١ و١٨ وع ٦ يوحنا ١: ١٨ و١٢: ٤٥ و١٤: ٩ وفيلبي ٢: ٦ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣

في هذه الآية بيان علة أن الهالكين لا يرون حق الإنجيل ومجده فهي ليست عدم وضوح الإنجيل ولا عجز عقولهم عن إدراكه بل إعماء الشيطان لأذهانهم.

ٱلَّذِينَ أي الهالكين.

إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ لقب الشيطان بإله هذا الدهر لسلطته على أهل العالم وخضوعهم الاختياري له فجعله بمنزلة إله لهم وإن لم يقصدوا عبادته أو يعرفوا وجوده قال بولس في عبدة الأوثان أنهم يعبدون الشياطين (١كورنثوس ١٠: ٢٠). فالذين يتبعون شهواتهم يعملون إرادة الشيطان كما أن الصالحين يعملون إرادة الله. إن عدم خدمة إله السماء خدمة لإله هذا الدهر فإن لم نختر الله إلهاً لنا اخترنا الشيطان كذلك وبهذا دُعي الشيطان «رئيس هذا العالم» (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠). وادعى هذه السلطة حين جرب المسيح «وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ… وَقَالَ «لَكَ أُعْطِي هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ» (لوقا ٤: ٥ و٦).

احتج بهذه الآية أتباع ماني على قولهم بإلهين أزليين أحدهما إله الخير والآخر إله الشر ولا تعني إلا أن بعض الناس أنزل الشيطان منزلة الله كما قيل في بعضهم إن «آلهتهم بطونهم» (فيلبي ٣: ١٩ و١٦: ١٨). وفي الصيدونيين إن عشتروت إلههم. وفي المؤآبيين أن كموش إلههم. وفي بني عمون أن ملكوم إلههم (١ملوك ١١: ٣٣). وفي عقرون أن بعلزبوب إلهها (٢ملوك ١: ٢). وفي ملك أشور أن نسروخ إلهه (٢ملوك ١٩: ٣٧). فاتخاذ أولئك الناس الأوثان آلهة لا يثبت منه أنهم آلهة أزلية واجبة الوجود.

قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ للشيطان من السلطة على عقول هؤلاء ما يتمكن به من أن يمنعهم عن أن يروا مجد إنجيل المسيح وهو لا يفتأ يبذل الجهد في رد الناس من نور الحق إلى ظلمة الباطل ولا عجب مما ذُكر لأن لأشرار الناس سلطة عظيمة على أن يقودوا غيرهم إلى الضلال فبالأولى أن تكون «لجنود الشر الروحية» (أفسس ٦: ١٢). وليس في ذلك ما ينفي حرية «عُمي الأذهان» ومسؤوليتهم بل ما يوجب على كل إنسان من مقاومة الحق لئلا «يسلمه ٱللّٰهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ» (رومية ١: ٢٤ و٢٨). و «غير المؤمنين» في هذه الآية هم «الهالكون» في الآية التي قبلها. ولنا من ذلك أن علة هلاكهم عدم إيمانهم وعلة عدم إيمانهم إعماء الشيطان لأذهانهم. فإن قيل ما علة تسلط الشيطان عليهم قلنا إنها رفضهم النور كما في قول الرسول «أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ» (رومية ١: ٢١). وما في قول المسيح «ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ» (يوحنا ٣: ١٩).

لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ هذا غرض الشيطان من إعماء أذهانهم ونتيجة ذلك الإعماء أيضاً.

إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ دُعي كذلك لأنه يُعلن مجد المسيح الذي هو كل الكمال الإلهي والإنساني. وهذا مثل قوله «مجد الله في وجه يسوع المسيح» (ع ٦). فمجد المسيح قائم بأنه هو الذي يُعلن الله لخلائقه وهو مركز عبادة القديسين في السماوات والأرض وموضوع محبتهم وتسبيحهم. والذين يرون ذلك المجد هم الذين يخلصون لأنهم برؤيتهم إياه يتغيرون إلى صورته (ص ٣: ١٨). فغاية الإنجيل ٰإعلان مجده للناس فيبذل الشيطان كل ما في وسعه لمنع إنارة الإنجيل لأذهانهم لئلا يروا مجد المسيح. فكما لا يرى العميان حقيقة الشمس وهي تضيء بقوتها كذلك لا يستطيع الذين أعمى الشيطان أذهانهم أن يروا مجد المسيح المشرق في إنجيله وعلى هذا قال المسيح في مثَل الزارع «َٱلَّذِينَ عَلَى ٱلطَّرِيقِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا» (لوقا ٨: ١٢). ولأن المسيح أتى لينقض أعمال إبليس قال لبولس «أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ (أي الأمم) لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٦: ١٧ و١٨).

ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ أي مظهره لكونه هو الله وقد جاء لهذه الغاية فيصح أن يُقال «من رأى الابن فقد رأى الآب» (يوحنا ١٤: ٩). وهو بالنظر إلى طبيعته الإلهية «بهاء مجد الله ورسم جوهره» (عبرانيين ١: ٣) و «في صورة الله ومعادل له» (فيلبي ٢: ٦). وباعتبار كونه إلهاً متجسداً قيل في هذه الآية إنه هو صورة الله إذ فيه «يحل كل ملء اللاهوت جسدياً» (كولوسي ٢: ٩). ولا يخفى على القارئ ما في قوله من المقابلة بين مجد وجه موسى من مشاهدته الله على الجبل ومجد وجه المسيح الناشئ عن كونه إلهاً وإنساناً معاً وإنارة قلوب المؤمنين بمشاهدتهم مجد المسيح في إنجيله.

٥ «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ».

١كورنثوس ١: ١٣ و٢٣ و١٠: ٣٣ و١كورنثوس ٩: ١٩ وص ١: ٢٤

فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا الفاء سببية فكأنه قال إنجيلنا إنجيل مجد المسيح لأننا نكرز بالمسيح لا بأنفسنا. إن الذين يبشرون بأنفسهم غايتهم من التبشير نفع أنفسهم من مالٍ أو مدح من الناس ليعجبوا بهم ويتبعوهم فهم عرضة لأن يمزجوا آراءهم أو آراء غيرهم من الناس بكلام الله أو يخفوا بعض تعاليم الوحي. فنفى بولس ذلك عن نفسه كل النفي إذ ليس له من غرض شخصي بل كان سفيراً للمسيح وشاهداً بما رأى وسمع من أمره.

بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً صرّح بولس إن غاية كرازته أن يقنع الناس أن يسوع الناصري هو مسيح الله (متّى ١: ١) الذي أنبأ به موسى وسائر الأنبياء وإنه قد أكمل كل ما قيل في النبوءات إنه يكمله وإنه «الرب» الذي سيعترف باسمه كل من في السماء والأرض (مزمور ٢: ٦ وإشعياء ٩: ٦ و٧ ومتّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ١٧: ٢ وأفسس ١: ٢٠ وعبرانيين ٢: ٨).

إن الذي كان غاية بولس من التبشير يجب أن يكون غاية سائر المبشرين منه وغير ذلك التبشير «لا ينفع الناس لا دينا ولا أدباً» وهو الواسطة الوحيدة إلى صلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

زعم فلاسفة اليونان أنه بتعليمهم الناس مبادئ الحكمة والأدب يجعلونهم حكماء وأتقياء واعتبر بولس حكمتهم جهالة وتعبهم عبثاً فبذل الجهد في أن يحملهم على أن يتخذوا المسيح رباً ويحبوه ويطيعوه ويتكلوا عليه ليكونوا مثله ويخلصوا بواسطته.

إن الذين يحتاج الناس إليه اليوم ليس التعليم بل المعلم السماوي ولا النبوءة بل النبي ولا الشريعة بل الشارع ولا الذبائح بل الذي هو كاهن وذبيحة معاً ولا الخلاص بل المخلص ولا بار من الناس والملائكة بل المبرر الذي هو الإله المتجسد الساكن في قلوبنا والشافع فينا أمام العرش الأعلى والمالك الآن والذي سيملك حتى يضع كل شيء تحت قدميه.

بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ اعتبر بولس يسوع رباً ولكنه لم يعتبر نفسه إلا عبداً. فالعبد لا يتعب لنفع نفسه بل لنفع غيره فإنه لم يسع في خير نفسه بل في خير مؤمني كورنثوس وهذا مثل قوله «فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرّاً مِنَ ٱلْجَمِيعِ، ٱسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ ٱلأَكْثَرِينَ» (١كورنثوس ٩: ١٩).

مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ محبة الرسول للمسيح حملته على وقف نفسه لخدمة مؤمني كورنثوس نعم إن حبه لهم ورغبته في نفعهم مال به إلى ذلك لكن معظم المحرّك له إلى ذلك محبته للمسيح ورغبته في إرضائه وتمجيده. ونحن يجب علينا أن نقف أنفسنا لخدمة إخوتنا في كنيسة المسيح رأسها وسيدها.

٦ «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

تكوين ١: ٣ و٢بطرس ١: ١٩ ع ٤ و١بطرس ٢: ٩

هذه الآية متعلقة بالجملة الأولى من الآية الخامسة وهي بيان على تبشير الرسول بالمسيح فقط فإن غاية الله في إنارة قلوبنا أن نرى مجد المسيح ونعلنه لغيرنا. وفيها خلاف ما في الآية الرابعة وهو منافاة غاية الله لغاية الشيطان فإن غاية الله إنارة القلوب لترى نور مجد المسيح وغاية الشيطان إعماء الأذهان لئلا ترى ذلك النور.

ٱلَّذِي قَالَ… مِنْ ظُلْمَةٍ في هذا إشارة إلى عمل الله في أول أيام الخليقة إذ كانت الظلمة مستولية على كل العالم ولم يكن قد أشرقت شمس أو طلع قمر أو بزغ نجم ثم قال الله «ليكن نور فكان نور» (تكوين ١: ٣). وكانت الأرض خربة خالية فحين ظهر النور ابتدأت الحياة والترتيب والنمو والجمال والمعرفة والسعادة وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله. وهو لم يأت في خلقه إلا أن «قال فكان وأمر فصار» (مزمور ٣٣: ٩).

هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا كان خلق النور الظاهر لإنارة العين رمزاً إلى إنارة النفس بالنور الباطن. وكانت الظلمة التي استولت على العالم رمزاً إلى ظلمة قلوب الناس الخطأة لأن نور الله في النفس أطفأ عندما خطئت. إن عمل الله الأول في اليوم الأول انفصال النور عن الظلمة وأول فعل النعمة في القلب إنارته من العلى وكلاهما عمل الله وكلاهما يحتاج إلى قوة إلهية فالإنسان عاجز بالطبع عن معرفة الله وما يجب عليه والطريق المؤدية إلى السماء كعجزه عن خلق الشمس. لم يكلف الله إيجاد النور الحقيقي في عالم الظلمة سوى كلمة ولكن إيجاد نور الحياة في نفوس الناس كلفه إتيان ابنه إلى العالم وتجسده وموته على الصليب.

كان خلق النور المحسوس إعداداً لما بعده من الترتيب والنمو والجمال وإيجاد النور المعقول في النفس حين تجديدها إعداداً لتبريرها وتقديسها ونموها في المعرفة والمحبة والإيمان والرجاء.

لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ إن الله ينير عقولنا لندرك معرفة مجده الأسنى ونسبحه ونعظمه ونمجده وكل الفضل في ذلك له.

إنه لا ينزع حرية النفس في جذبها إليه إنما يشرق بنوره عليها لترى خطيئتها وخطرها وطريق الخلاص وجمال المرشد السماوي وجودته وإحسانه فإنه هو المنجي من الهلاك الأبدي.

فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لا نستطيع أن نرى وجه الله ونحيا (خروج ٣٣: ٢٠) فيعلن الله نفسه لنا بواسطة ابنه متجسداً وهذا على وفق قوله «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨ انظر أيضاً متّى ١١: ٢٧). وبدون المسيح لا نقدر أن نعرف الله حق معرفته لأنه «كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ ٱلٱبْنَ لَيْسَ لَهُ ٱلآبُ أَيْضاً» (١يوحنا ٢: ٢٣). ولأن يسوع «نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢). وكما أننا لا نستطيع معرفة الله بالمسيح بمجرد عقولنا كذلك لا نقدر أن نعلنه لغيرنا لأن ذلك مما يختص بالله فنحتاج إلى أنه هو يشرق في قلوبنا لمنحنا تلك المعرفة كما هو واضح في هذه الآية وفي (متّى ١٦: ١٧ و٢كورنثوس ١٠: ١٥ وغلاطية ١: ١٦) وفي الآية إشارة إلى مجد الله الذي أشرق من وجه موسى حين نزل من الطور ولم يستطع بنو إسرائيل النظر إليه ولكن ذلك المجد أشرق بأعظم بهاء من وجه يسوع المسيح ولم نحتج إلى برقع بيننا وبينه وإنه فوق هذا لم يكن زائلاً كذلك فهو باق إلى الأبد.

ابتدأ إشراق هذا النور من شخص المسيح وهو طفل في بيت لحم وظل مشرقاً ثلاثاً وثلاثين سنة للذين قدرهم الروح على أن يروه ابناً لله والآن يشرق لنا بإنجيله بمعونة ذلك الروح نفسه.

كون ضعف بولس وسيلة إلى إظهار قدرة الله التي جاءت بنتائج عظيمة بوسائط حقيرة ع ٧ إلى ١٥

٧ «وَلٰكِنْ لَنَا هٰذَا ٱلْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ ٱلْقُوَّةِ لِلّٰهِ لاَ مِنَّا».

ص ٥: ١ و١كورنثوس ٢: ٥ وص ١٢: ٩

هٰذَا ٱلْكَنْزُ لم يُعن بالكنز «إنارة معرفة مجد الله» بل خدمة الإنجيل الذي هو موضوع تعليمه في هذا الفصل ودعاها كنزاً لأنها خدمة الحياة والقوة والمجد وبها تظهر قوة الروح القدس وحياة المسيح. وهي تُعلن أعظم الحقائق وتنتج نتائج غريبة فتحرر الناس من سلطة الخطيئة والدينونة. وبها يتغير الناس إلى صورة المسيح. ويُعتقون من عبودية هذا العالم ويصيرون شركاء الحياة الأبدية. واستحقت أن تُدعى كنزاً بالنظر إلى عظمة قيمة الحقائق التي هي تتضمنها فتنير الكنيسة بها في كل العصور وتُبنى وتُغنى.

فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ أي من الفخار. المرجح أن الرسول اختار هذا التشبيه لأن الملوك والأغنياء القدماء اعتادوا أن يخبأوا كنوزهم من الفضة والذهب والجواهر في آنية من الخزف (انظر إرميا ٣٢: ١٣ و١٤) أو أنه اختاره بياناً لعدم المناسبة بين الجواهر الكريمة والأواني الخزفية التي تُكنز فيها. والمشبه هنا الرسول نفسه وسائر الرسل والمبشرين لأنهم ليسوا ملائكة أطهاراً مقتدرين قوة لكنهم بشر ضعفاء عرضة للآلام والموت. ولم يعنِ أنهم ضعفاء الأجسام فقط بل ضعفاء الأرواح أيضاً وعنى ذلك بياناً لعدم أهليتهم لأن يكونوا آلات لبثّ بشرى الخلاص ووسائل إلى فاعليتها العجيبة. والغاية من كل ذلك إثبات أن قوة الإنجيل من الله لا من الناس.

لِيَكُونَ فَضْلُ ٱلْقُوَّةِ لِلّٰهِ الخ أي ليعرف كل الناس ويعترفوا أن قوة الإنجيل العجيبة من الله لا من الناس المبشرين به. وما قاله بولس في هذا الفصل في ضعف المبشرين يصدق على كل مبشر في كل عصر. ولكن لا ريب في أنه أشار بكلامه إلى نفسه خاصة لأنه عظم في ما مر خدمته للإنجيل وفضلها على خدمة موسى فأبان هنا أنه في نفسه ليس سوى إنسان ضعيف محتقر مضطهد إظهاراً لنعمة الله وقدرته على حفظه إياه من المخاطر المحيطة به وعضده له في آلامه وضعفه ولا سيما وفرة نجاحه في توزيع البشارة بالإنجيل وتقديس الناس وتنويرهم بواسطته.

٨، ٩ «٨ مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لٰكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. ٩ مُضْطَهَدِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ».

ص ٧: ٥ مزمور ٣٧: ٢٤

مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لٰكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ قوله «في كل شيء» قيد للاكتئاب وفي الأصل اليوناني قيد لكل ما ذُكر في الآيتين. والمعنى أن ما ذكره من النوازل كان ملازماً له في كل الأحوال والجهات. وفي «الاكتئاب والضيقة» إشارة إلى ما يحدث في الملاعب اليونانية المشهورة من تزاحم المتصارعين فأحدهما يضغط الآخر في موضع ضيق لا يستطيع فيه الدوران أو التقلب ولا أن يحرك يديه ورجليه. وعنى بذلك الاضطهادات والمصائب التي زحمته لكنها لم تستطع أن تمنعه من الخدمة بالكلية إذ أنها لم تغلبه كما يغلب أحد المتصارعين الآخر فكان قادراً على أن يبشر ويتخذ الوسائل إلى دعوة الناس إلى المسيح.

مُتَحَيِّرِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ كان بولس كثيراً ما يحدث له أنه لا يعرف كيف ينجو من الخطر المحيط به وأي الوسائل إلى تبليغ الناس شهادته بالإنجيل. وكانت علة حيرته عجزه عن دفع الموانع التي صادفها باطناً وظاهراً ومع هذا كله لم يقطع الرجاء والثقة بأن الله يرشده وينجيه ويفتح باباً للإنجيل بواسطته.

مُضْطَهَدِينَ من الناس.

لٰكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ من الله. إن الله أذن للناس أن يضطهدوا رسوله لكنه لم يسلمه إلى مقصدهم فيمنعوه من الخدمة أو ينزعوا حياته.

مَطْرُوحِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ كثيراً ما كان يحدث للمتصارعين عن الناس في الملعب أو للمصارعين الوحوش فيه أن يُطرحوا على الأرض ثم يهلكوا أما بولس فأبان أن أعداءه لم يغلبوه إلى حد لا يقدر أن يقوم عنده بعد طرحه ويجدد الجهاد وأنه لم يزل يشهد للمسيح بقوله وكتابته وسلوكه.

١٠ «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا».

١كورنثوس ١٥: ٣١ وص ١: ٥ و٩ وغلاطية ٦: ١٧ وفيلبي ٣: ١٠ رومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢ و١بطرس ٤: ١٣

أوضح بولس في هذه الآية كثرة ضيقاته وأنها كانت مثل ضيقات المسيح في الشدّة.

حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يعني أن الناس عاملوه معاملتهم للمسيح يوم كان على الأرض وكان عرضة لأن يميتوه كما أماتوا سيده كما يتبين مما حدث له في أورشليم وأفسس وفيلبي وكورنثوس وغيرها من اليهود والأمم. وهذا كقوله «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ» (رومية ٨: ٣٦). وقوله «أني أموت كل يوم» (١كورنثوس ١٥: ٣١ انظر أيضاً ١كورنثوس ٤: ١٠ و٢كورنثوس ١١: ٢٣). إنه كان على جسده آثار الجراح التي اعترته من جلد وضرب ورجم وقيد بدليل قوله «أَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (غلاطية ٦: ١٧). فاحتمل كل النوازل من أجل المسيح وآثاره في جسده إمارة على أنه جندي للرب وشريك له في آلامه.

لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً هذا بيان مقصد الله من سماحه للناس باضطهاد الرسول من أن يكون عرضة للموت دائماً. وعلة أنه لم يكل التبشير بالإنجيل إلى ملاك بدلاً من أن يكله إلى إنسان مكتئب متحير مضطهد مطروح وهي أن يتضح بواسطة إنقاذه من الأرزاء وعظمة نجاحه في التبشير أن يسوع المسيح حي وأنه يعتني بعبيده ويرشدهم وينقذهم من الاخطار ويجعل تبشيرهم مؤثراً فعالاً. وهذا مثل قوله «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ» (غلاطية ٢: ٨).

إن حياة المؤمنين الروحية دليل على حياة المسيح ونتيجتها كما يظهر من قوله «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (غلاطية ٢: ٢٠). وكذا حياتهم الجسدية حين يظهر أنهم لا يمكنهم النجاة من أعدائهم إلا بقوة إلهية. حسب بولس أن نجاته في أفسس ليست بأقل من قيامة من الموت (ص ٥: ١٤). فكانت نجاته بواسطة المسيح برهاناً له على قيامة المسيح وحياته.

وبقاء بولس في الحياة كونه عرضة للموت دائماً كان دليلاً قاطعاً على أن المسيح حي وعلى أنه مساعد له وأنه سيحيا معه إلى الأبد بدليل قوله «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١١ انظر أيضاً روحية ٦: ٨ و٩ و٨: ١٧ و١بطرس ٤: ١٣ و١٤).

فِي جَسَدِنَا خص الجسد بالذكر لأن موضوع كلامه الآلام الجسدية وتعرضه للموت الجسدي. على أنه من الواضح أن ظهور حياة المسيح لم يُقصر على الجسد لأن الحياة الجديدة التي يشترك المؤمنون فيها يوم القيامة تكون برهاناً أيضاً على أن المسيح حي.

١١ «لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ٱلْمَائِتِ».

مزمور ٤٤: ٢٢ ورومية ٨: ٣٦ و١كورنثوس ١٥: ٣١ و٤٩ وص ١: ٨ و٩

هذه الآية تثبيت وإيضاح لما سبق من أنه حمل كل حين إماتة الرب يسوع لأنه كان عرضة للموت من أجل المسيح دائماً فحسب أنه حُكم عليه بالقتل فتوقع الموت كل ساعة. وهذا كقوله «أَبْرَزَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِٱلْمَوْتِ» (١كورنثوس ٤: ٩).

نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ الذي يقتضيه الطبع أن الموتى وحدهم تحت سلطة الموت وقيل إن الأحياء كذلك فكأن الموت والحياة مع تنافيهما اجتمعا في واحد.

لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ الخ هذه العبارة كعبارته في آخر الآية السابقة إلا أنه زاد هنا وصف الجسد بالمائت لأن غايته أن يشير إلى ضعفه وتعرضه للموت وذلك لا يلزم من لفظة الجسد لأن القديسين بعد القيامة تكون لهم أجساد ولا يكونون ضعفاء ولا مائتين. فقوله «جسدنا المائت» كقوله «لحم ودم» ويقتضي ذلك أنه ضعيف مائت كما شعر من نفسه ولكنه شعر أيضاً أنه يستطيع كل شيء بواسطة يسوع المسيح. فضعف الرسول برهان على قوة المسيح العامل به.

١٢ «إِذاً ٱلْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلٰكِنِ ٱلْحَيَاةُ فِيكُمْ».

ص ١٣: ٩

إِذاً أي ينتج مما سبق من (ع ٧ – ١١).

ٱلْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا الخ الموت والحياة هنا بمعناهما في (ع ١٠ و١١) فحسب بولس ضيقاته وتعرضه للقتل كالموت كل يوم فكأنه قال علي أنا بولس الخسارة ولكم الربح وأنا أموت دائماً لكن حياة المسيح التي تظهر فيّ تعمل لنفعكم. والمراد «بالحياة» في الآية الحياة الروحية أي حياة يسوع التي يحصلون عليها بتعرض رسوله للأتعاب والآلام والموت وطريق ذلك أنهم يرون قوة المسيح بتقويته إياه وبركة الله على أتعابه فيقوى بهذا إيمانهم ويزيد حبهم للمسيح ويرسخ رجاؤهم للخلاص الذي كان غاية تبشيره. وقد ذكر الرسول ما يُفهم منه أن أعظم نتائج أعماله وآلامه نفع مؤمني كورنثوس ولكن لا يلزم من هذا أنه لم يفرح بأن الله سرّ بعمله وجعله مثمراً.

١٣ «فَإِذْ لَنَا رُوحُ ٱلإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ ٱلْمَكْتُوبِ «آمَنْتُ لِذٰلِكَ تَكَلَّمْتُ» نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذٰلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضاً» .

رومية ١: ١٢ و٢بطرس ١: ١ مزمور ١١٦: ١٠

إن مقتضى الطبع أن تكون عاقبة ضيقات الرسول وأخطاره ضعف رجائه حتى ييأس ولكنه صرّح أنه لم يقنط قط وكانت ثقته بالله كثقة داود النبي.

رُوحُ ٱلإِيمَانِ عَيْنُهُ أي إيمان داود نفسه حين قال ما قاله والمراد «بروح الإيمان» الإيمان بعينه الذي أنشأه الروح القدس فيه.

حَسَبَ ٱلْمَكْتُوبِ في (مزمور ١١٦: ١٠).

آمَنْتُ لِذٰلِكَ تَكَلَّمْتُ تذلل داود جداً واكتنفته حبال الموت وأصابته شدائد الهاوية وقاسى الضيق والحزن ودعا الرب فاستجابه وخلّصه من ضيقاته وأنقذ نفسه من الموت وعينه من الدمع ورجليه من الزلق فآمن مع اكتئابه وصرّح بثقته بالله. وكان اختبار بولس كاختباره فمع كل شدائده لم يفتأ يتكل على الله وعلى مواعيده.

نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذٰلِكَ نَتَكَلَّمُ كانت نتيجة إيمان الرسول كنتيجة إيمان النبي فإنه جعله ينادي بأمانة الله وجودته. فإن تبشيره بالإنجيل عرضه لشديد البلايا ومع هذا ما برح ينادي به بكل يقين لحقه الجلي ونفعه الوافر ورأى فيه أن الله أبوه وأن المسيح مخلّصه وأن السماء موطنه وأن قيامته من الموت ونيله الحياة الأبدية حق فآمن بكل تلك الحقائق ومن فضل قلبه تكلم لسانه.

إن قوة الإيمان تقوي الشهادة دائماً وتجعل الإنسان راسخاً غير متزعزع وتقدّره على أن يتكلم بكل مجاهرة حتى يقنع السامعين بصدق شهادته فلا يسوغ لأحد أن يبشر بالإنجيل ما لم يكن مؤمناً به من كل قلبه وراسخاً فيه.

١٤ «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلَّذِي أَقَامَ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ».

رومية ٨: ١١ و١كورنثوس ٦: ١٤ وأفسس ٢: ٦ وكولوسي ٣: ١ و١تسالونيكي ٥: ١٠ ص ١: ١٤ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٢٠

كانت نجاة الرسول من أخطار كثيرة وميتات متوالية قد حملته على شدة الاطمئنان وتوقعه الانتصار على الموت والقيامة في اليوم الأخير كما ذكر لهم في الأصحاح الخامس عشر من الرسالة الأولى. ولم يشر هنا إلى القيامة الروحية التي حصل عليها (أفسس ٢: ٦) ولا إلى نجاته مراراً من الضيقات حتى كانت كأنها قيامة كما في (ص ١: ٩ و١٠) لكنه أشار إلى قيامته يوم الدين.

عَالِمِينَ أي متيقينين التيقن الكامل كما جاء في (رومية ٥: ٣ و١كورنثوس ١٥: ٥٨).

أَنَّ ٱلَّذِي أَقَامَ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ اتخذ قيامة الله ليسوع من الموت قضية مسلمة عند كل المسيحيين.

سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الذي تيقنه بولس هو أن الله يقيمه بيسوع بمقتضى قول يسوع نفسه «مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ… أَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنا ٦: ٤٠). وقول الرسول «ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ» (١كورنثوس ١٥: ٢٠ و٢١). وهذا نتيجة اتحاد المؤمن بالمسيح أي كونه عضواً من أعضائه يحيا بحياته (رومية ٨: ٨ – ١١ و١كورنثوس ٦: ١٣ – ٢٠ و٥١: ٢١ و٢٢٩. ويتفرع على ذلك أن جسد المسيحي يكون يوم القيامة نظير جسد المسيح المجيد (فيلبي ٣: ٢) ويحصل على «حرية مجد أولاد الله» (رومية ٨: ٢١) وحينئذ يتم فداؤه. ولهذا كانت القيامة موضوع أشواق المسيحيين الأولين وأحاديثهم ويجب أن تكون كذلك لنا.

وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ على وفق قوله «ٱلْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي ٱلٱبْتِهَاجِ» (يهوذا ٢٤). فالرسول تحقق مع كونه مضطهداً ومهاناً أن الله الذي أقام يسوع سيقيمه في اليوم الآخر مع سائر المؤمنين ويوقفه في حضرته المجيدة بابتهاج عظيم. وهذا اليقين ملأ قلبه سلاماً وسروراً في أثناء الضيقات وشدده في المواظبة على أتعابه.

ولم يشر الرسول هنا إلى الوقوف في حضرة الله للحساب والجزاء لكنه أتى ذلك في (ص ٥: ١٠). ومما يستحق الملاحظة أن قيامة المسيح اعتُبرت هنا كما اعتُبرت في أماكن أُخر عربوناً لقيامة كل شعبه من ذلك قوله «إِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ» (رومية ٨: ١١ انظر أيضاً يوحنا ١١: ٢٥ و١كورنثوس ٦: ١٤ و١٥: ١٩ – ٢٢ وأفسس ٢: ٦ وكولوسي ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ١٤). فبناء على اتحاد المؤمنين بالمسيح ومواعيد الكتاب الإلهي لنا أن نتيقن أنه كما قام المسيح وظهر لتلاميذه حتى شاهدوه ولمسوه هكذا نتيقن أنه متى جاء المسيح ثانية نقوم نحن أيضاً ونشاركه في الحياة الأبدية. فيجب أن يجعلنا هذا التيقن أمناء في الأتعاب ومسرورين بالشدائد كما جعل الرسول كذلك.

١٥ «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ ٱلنِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِٱلأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ ٱلشُّكْرَ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ».

١كورنثوس ٣: ٢١ وص ١: ٦ وكولوسي ١: ٢٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٠ ص ١: ١١ و٨: ١٩ و٩: ١١ و١٢

لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ تدل القرينة على أنه عنى هنا «بجميع الأشياء» ما ذكره سابقاً من الخسارة والضيقة والنجاة والثبوت وتيقن صحة الإنجيل والمجاهرة بالوعظ. وتوضح بقية الآية أي كيف تكون كل الأشياء من أجلهم وذلك أنها تحمل الكثيرين على الصلاة من أجله واتفاقهم على الشكر لله لإجابته صلواتهم.

لِكَيْ تَكُونَ ٱلنِّعْمَةُ التي أظهرها الله له بحفظ حياته ونجاته من ضيقاته وتقويته على أتعابه وختم ذلك بالنجاح.

وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِٱلأَكْثَرِينَ اعتقد بولس أن نعمة الله عليه قد زادت كثيراً بواسطة صلوات شعب الله من أجله كما في قوله لمؤمني كورنثوس «وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لأَجْلِنَا» (ص ١: ١١). وقوله لأهل فيلبي «لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ» (فيليي ١: ١٩). قال «بالاكثرين» ولم يقل بالجميع لمعرفته بغض بعضهم له وأنهم لم يصلوا من أجله.

تَزِيدُ ٱلشُّكْرَ الخ اتفق كثيرون على الصلاة من أجل نجاته وتقويته ولذلك اشتركوا في الشكر على النعمة الموهوبة له. إن شكر المؤمنين أفضل التقدمات لله بدليل قوله «ذابح الحمد يمجدني» (مزمور ٥٠: ٢٣). كانت وفرة مصائب الرسول علة وفرة صلوات الشعب لنجاتهم ووفرة الصلوات علة وفرة النعمة التي ظهرت بنجاتهم ووفرة النعمة علة وفرة الشكر وكل ذلك لمجد الله المنعم.

قوة رجاء بولس في المستقبل لرؤيته الأمور غير المنظورة منظورة ع ١٦ إلى ١٨

١٦ «لِذٰلِكَ لاَ نَفْشَلُ. بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى، فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً».

ع ١ رومية ٧: ٢٢ وأفسس ٣: ١٦ وكولوسي ٣: ١٠ و١بطرس ٣: ٤

لِذٰلِكَ أي لتيقنه القيامة المجيدة (ع ١٤) وأن أتعابه وآلامه في الدنيا تؤول لمجد الله (ع ١٥).

لاَ نَفْشَلُ أي لا يضعف رجاؤنا حتى نيأس ونترك العمل. افتتح بهذه العبارة هذا الأصحاح ثم ذكر الأسباب المؤدية إلى الفشل وهي ضعفه وعظمة الخدمة يوماً فيوماً شجاعة وقوة ونشاطاً لأسباب سيبينها.

بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى أي إن كانت قوانا الجسدية تضعف وتقرب من الانحلال نظراً لشدة الأوجاع والأتعاب المشار إليها بقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ» (ع ١٠) وقوله «نسلم دائماً للموت» (ع ١١). ولا يعجب أحد من أن يفنى جسد بولس عندما عرف جدول مصائبه وأتعابه وهي المذكورة في (ص ١١: ٢٤ – ٢٨).

فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً أي أن القوى الروحية تزيد قوة يوماً فيوماً وتلك القوى هي الإيمان والرجاء والغيرة والمحبة والشجاعة والفرح بالرب وتيقن نجاح الإنجيل. وذلك التجدد نتيجة النعمة التي وهبها الروح القدس لنفسه على توالي الأيام واتحاده بالمسيح. فكما أن الجسد يحتاج إلى القوت كل يوم كذلك النفس تحتاج يومياً إلى النعمة والله يهبها لها.

١٧ «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً».

متّى ٥: ١٢ ورومية ٨: ١٨ و١بطرس ١: ٦ و٥: ١٠

لأَنَّ هذا تعليل لعدم فشله وهو حسبانه مصائبه خفيفة وقتية تنشئ مجداً أبدياً.

خِفَّةَ ضِيقَتِنَا أي ضيقتنا الخفيفة. يختلف الناس في قياس مصائبهم فأكثرهم يرى مصائب بولس ثقيلة جداً وهو يحسبها خفيفة فإنه كان فقيراً يحتاج إلى الكفاف من القوت والكسوة والمأوى وكان ضعيفاً وأعداؤه كثيرين أقوياء. جُلد مراراً ورُجم وسُجن وانكسرت به السفينة وحُسب نفاية وسافر أسفاراً طويلة شاقة لخدمة الإنجيل وكان عليه هموم كثيرة إذ كان يعتني بكل ما أسسه من الكنائس التي كان كذبة المعلمين يحاولون إفساد إيمانها وبقي يقاسي تلك المصائب سنين كثيرة وهي أكثر سني حياته (١كورنثوس ٤: ٩ – ١٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٣ – ٢٩). وبولس نفسه حين كان ينظر إلى تلك الضيقات مجردة يراها في غاية الثقل بدليل قوله «أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً» (ص ١: ٨) لأن إحساسه كإحساس غيره من الناس فكان جسده يتألم مثلهم من الجوع والعطش والبرد والحر ونفسه من الإهانة والكفر بالنعمة من الذين خدمهم لكنه قابل تلك الأرزاء «بالمجد العتيد أن يُستعلن» فرآها كلا شيء.

ٱلْوَقْتِيَّة لأن زمنها كلحظة بالنسبة إلى الأبدية ولكنها بالنسبة إلى حياته ليست كذلك لأن تلك الضيقات أحاطت به منذ إيمانه بالمسيح إلى يوم موته شهيداً وذلك معظم زمن عمله. وكان في تلك المدة «يموت كل يوم».

تُنْشِئُ… ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً هذا علة ثالثة لعدم فشله ولتعزيته بأن تلك الضيقات فوق كونها خفيفة ووقتية يعقبها سعادة السماء التي لا حد لعظمتها ولا نهاية لها. وتنشئ تلك البلايا ذلك المجد لا لكونها تستحقه كأجرة بل لأن الله بنعمته وعد أنه يثيب المؤمنين على أتعابهم بأفراح السماء (متى ١٩: ٢٩ ورومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١٣ و١بطرس ١: ٦ و٤: ١٣ ورؤيا ٧: ١٤). والمراد «بالمجد» هنا بهاء السماء وسمو السعادة والقداسة ووفرة المسرات. وتنشئ الضيقات ذلك لأنها تزكينا وتعدنا لذلك المجد وتجعلنا نتوق إليه ونسر به أكثر مما نسر بالحصول عليه بلا تعب ولا ألم. وأضاف الثقل إلى المجد للمقابلة بخفة الضيقات ولبيان أهميته وعظمته وإذ لم يبلغ كنه مراده بقوله «ثقل مجدٍ» زاد قبله قوله «أكثر فأكثر». ولا شيء في ما ذُكر منافٍ لكون التبرير بمجرد بر المسيح لأنه بيان لمقدار سعادة المتبررين ببر المسيح. فإن الله سرّ بنعمته أن تكون سعادته السماوية على قدر أتعابهم وآلامهم على الأرض. ولا يلزم من ذلك أن كل ألم ينشئ مجداً فليس من الآلام المنشئة للمجد ما نجنيه منها على أنفسنا لجهل او خطإ ولا ما يكون قصاصاً على الإثم بل هي ما نقاسيه في سبيل المسيح وما ينزلها الله بنا امتحاناً لإيماننا فنحتملها بصبر وتسليم لإرادته تعالى.

وفي هذه الآية عدة مقابلات وهي مقابلة الضيقة بالمجد وخفة الأولى بثقل الثاني والوقتية بالأبدي.

١٨ «وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى ٱلَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ ٱلَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ».

رومية ٨: ٢٤ وص ٥: ٧ وعبرانيين ١١: ١

وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي تُرَى هذا شرط التعزية والتقوية في أثناء الضيقات أن لا نقتصر على التأمل فيها والكلام عليها والحزن بها. وما اشترط في الضيقات يشترط في الأفراح الدنيوية. فلا يحق لنا أن نتوقع «ثقل مجد أبدياً» ونحن نتهافت إلى اللذات العالمية. والمراد «بالنظر» هنا اهتمام القلب لا نظر العين. والمراد «بالأشياء التي تُرى» ما يتعلق بحياتنا الأرضية ويظهر لحواسنا. ومعظم المراد بها هنا الضيقات كالفقر والعوز والعناء والاضطهاد والمرض. ويصح أن نحسب أيضاً من الأشياء التي ترى غنى العالم ولذته ومجده الأوثان الثلاثة التي يعبدها أكثر الناس.

ٱلَّتِي لاَ تُرَى وهي ما يتعلق بالعالم الآتي ولا يُنظر هنا إلا بعين الإيمان وإنما ينظر في السماء ومنها آيات رضى الله ومشاهدة المسيح ومرافقته والرفقاء السماويون من قديسين وملائكة وأفراح السماء وإكليل المجد وميراث القديسين.

ٱلَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ تزول بزوال حياة المتألم والمسرور فإن بلايا لعازر انتهت حين حملت الملائكة نفسه إلى السماء وأفراح الغني الذي كان لعازر جالساً عند باب بيته انتهت عند موته. فبعد مئة سنة لا يهم الإنسان أغنياً كان على الأرض أم فقيراً أو مكرماً أو مهاناً أو مسرواً أم حزيناً. ويصح أن يُقال على كل ما يرى بالباصرة هنا أنه وقتي لأنه يزول بزوال العالم عند مجي المسيح ثانية.

وَأَمَّا ٱلَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ لأن الله أبدي وملكوته وكل ما يتعلق به كذلك. وهي ما ذُكر في تفسير قوله «التي لا تُرى» وما يصدق على أفراح الأبرار في العالم الآتي يصدق أيضاً على أحزان الأشرار فيه. وكل ما يرغبنا في نيل تلك الأفراح يرغبنا في الهرب من تلك الأحزان.

فوائد

  1. إنه لا داعي لخدم الإنجيل أن ييأسوا وإن طردهم الناس ورفضوا تعليمهم فلهم العزاء بأن ما بشروا به هو الحق وأنهم أطاعوا أمر الرب بتبشيرهم وأنه يسر بهم إن كانوا أمناء وأنهم إذا طردوهم فقد طردوا ربهم قبلاً وأنهم على قدر ما شاركوه في المشقات يشاركونه في الأفراح (ع ١).
  2. إنه يجب على كل الناس أن يسلكوا بموجب ضمائرهم وأن تكون ضمائرهم مستنيرة بنور كلام الله بلا التفات إلى آراء البشر فلا يمكنهم أن يحصلوا على الراحة هنا والسعادة هنالك إلا بإطاعة الضمير والإنجيل معاً (ع ٢).
  3. إن هذا العالم عالم الغرور فإن الشيطان خدع أهله وأعمى قلوبهم فرأوا الأشياء على خلاف حقائقها فرغّبهم في الغنى بأن غلّى قيمته وعظمته وفي الرتب الرفيعة كذلك وحسن لهم الشهوات ووعدهم بلذات لم يحصلوا عليها فآثروا الفاني العاجل على الباقي الآجل. وكثيراً ما غش الإنسان من جهة نفسه فصور له أنه صالح وهو شرير وأن التعاليم المتعلقة بالموت والقيامة والسماء وجهنم خرافات لا يقبلها العقلاء (ع ٤).
  4. إن معظم جهد الشيطان مبذول في منع الإنجيل من إنارة قلوب الناس لأنه يكره النور وانتشاره في العالم. ومن احتياله على ذلك أنه يُعمي أذهان بعضهم لكي لا يتلفتوا إلى الإنجيل أبداً ويحمل غيرهم على مزج تعاليم الوحي بالبدع القبيحة. ويحوّل أنظار الناس عن الإنجيل بترغيبه إياهم في مطالعة الروايات العشقية والقصص الباطلة والملاعب المجونبة والمراقص المعيبة فيشغل أفكارهم عن كل ما يتعلق بخلاص النفس ليقودهم إلى السجن الأبدي عمياناً (ع ٤).
  5. إنه لا حق للأثيم الهالك أن يجعل كل اللوم على الشيطان بأنه خدعه وأضله لأنه هو انخدع بإرادته ولو فتش عن الحق لوجده وأنه غير مجبر على الذهاب إلى الملاهي المحرمة وتفضيل الربح الدنيويي على الربح الروحي. فالشيطان لا يستطيع أن يهلك الناس على رغمهم فمن هلك فهو علة هلاك نفسه بإطاعته العدو الخادع وللشهوات الجسدية (ع ٤).
  6. إنه يجب أن تكون غاية المبشرين المناداة بيسوع المسيح لا ربح الاشتهار بالعلم أو الفصاحة أو التأليف فلا يجوز لهم أن يدعوا حب الراحة أو اللذة أو جمع المال يعيقهم عن التبشير الذي دعاهم الله إليه إلى أن تدركهم الوفاة (ع ٥).
  7. إنه لولا نور الوحي وإنارة الروح القدس للقلوب لكان الإنسان في شر حال. ودليل ذلك حال البلاد الوثنية التي لم تزل في ظلمة الجهل والضلال. وما أعظم نعمة الله بأنه أمر بإشراق ضوء الإنجيل علينا و «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (ع ٦).
  8. إن الله قصد أن يكون أسلوب نشر بشارته وسيلة إلى تمجيد اسمه ولذلك لم يكلف الملائكة ولا ملوك العالم أو علماءه التبشير بالإنجيل بل وكله إلى أناس هم عرضة للمرض والموت وأكثرهم من وضيعي العامة منزلة ومعرفة لكنهم أقوياء الإيمان فكان كل النجاح بواسطتهم ظاهراً كل الظهور أنه لم يكن إلا من نعمة الله وقدرته (ع ٧).
  9. إنه يتبين هنا ما تكلفه دعاة الدين المسيحي في نشره فتكلف المسيح أتعاباً وأحزاناً وإنكاراً للنفس واضطهادات وآلاماً وموتاً لإدخاله العالم وانتشر بواسطة مشقات الرسل وآلامهم وأُثبت بدم الشهداء وحُفظ وامتد بأتعاب المصلحين وصلواتهم واحتمالهم شديد الاضطهاد وهو الآن يمتد بأتعاب الذين يتركون أوطانهم ويقطعون بروراً وبحوراً ويقاسون حر الأقاليم وبردها وتعديات البرابرة لينادوا لهم بالخلاص فإذا نظرنا إلى ما اقتضاه نشر هذا الدين مما نزل برئيسه وأتباعه رأيناه أثمن الأديان كلها ولا يستطيع أحد من المخلوقات أن يثمنه. وهو يستحق كل تلك النفقة. وأحسن طرق بيان اعتبارنا لقيمته وشكرنا عليه لواضعه وخاتمه بدمه وتذكرنا ما تكلفه الرسل والأنبياء والشهداء أن نبذل الجهد في بث بشرى الإنجيل في العالم (ع ٨ و٩).
  10. أنه لو لم يكن الله مع إنجيله والمنادين به لم يثبت ولم يمتد لأن أعداءه كانوا كثيرين وأتباعه قليلين فقاسوا الفقر والجلد والسجن والميتات المختلفة حتى توقع الأعداء ملاشاته. وقد ظن بعضهم أنه أبطله إلى الأبد ولكن الله لم يتركهم بل أعانهم على الجهاد ونصرهم (ع ٨ و٩).
  11. إنه على المبشرين الذين أعمالهم كأعمال بولس وأتعابهم كأتعابه أن يتشجعوا ويتعزوا بما تشجع هو به وتعزى ومن ذلك ثلاثة أمور ذكرها هنا:
    • الأول: تيقنه صدق الإنجيل الذي بشر به (ع ١٣).
    • الثاني: تيقنه أن الذي أقام الرب يسوع من الموت يقيمه أيضاً لأن رجاء القيامة كان من أعظم مشجعات بولس ومعزياته في أتعابه ومشقاته (ع ١٤).
    • الثالث: شدة رغبته في زيادة مجد الله وإرشاد الناس إلى تمجيده والاشتراك في نعمته (ع ١٥).
  12. إنه يجب على المسيحيين أن يكونوا مستعدين أن يتكلموا في الإنجيل ويشهدوا بحقه وافتقارهم إليه ولا يسطيعون ذلك ما لم يؤمنوا به ويحبوه ويشفقوا على الذين في خطر الهلاك ليرشدوهم إلى خلاصه (ع ١٣).
  13. إننا نعلم من هذا الأصحاح كيف نحتمل المصائب ونتعزى في أثنائها فإنه لا بد من أن الإنسان الخارج يفنى لأن الجسد يضعف ويمرض ويتألم إلى أن ينحل والنفس تحل بها الاكتئابات والأحزان وتحتمل الإهانات والاضطهادات لكنا لا نكترث بشيء من ذلك إذا كان الإنسان الداخل يتجدد يوماً فيوماً وإيماننا ورجاءونا يتقويان ونتحول إلى صورة الله ونحن نقابل ما ينزل بنا من خفة الضيقة الوقتية بثقل المجد العتيد أن يستعلن فينا.إن الإنسان البالغ قلما يذكر أحزانه في الصغر كذلك نحن ننسى في العالم الآتي كل ما نزل بنا من نوازل هذا العالم (ع ١٦ – ١٨).
  14. إنه يجب أن نقيس كل شيء بمقياس الإنجيل ونزنه بميزان السماء وبذلك تظهر لنا أمور العالم زائلة وقتية لا يعبأ بها وأن الأمور ذات الشأن وراء القبر. وكل شيء في الأبدية ثابت باق عظيم. ولا ريب في أن مقياس الأرض غير مقياس السماء ومقياس الناس غير مقياس الله والعاقل لا يحتاج إلى من ينبئه أي الاثنين يُفضل على الآخر (ع ١٧ و١٨).
  15. إنه لا سبيل إلى أحد أن يظن كل ضيقة خفيفة وقتية تنشئ لصاحبها ثقل مجد أبدي لأن بعد الموت لبعض الناس أحزاناً ونوازل لا تعد بلايا هذا العالم شيئاً بالنسبة إليها وهي أبدية لا نهاية لها لأن الكتاب يشهد بأن بعض حزن العالم ينشئ موتاً (ص ٧: ١٠) من أنواع الحزن المنشئ الموت ما لا يخضع فيه المحزون لإرادة الله بل يتذمر على عنايته ويزيد قسوة وعصياناً ويلجأ إلى تعزية الفسلفة بدلاً من أن يلجأ إلى تعزية الإنجيل ويجتهد في أن ينسى حزنه بمرافقة الدنيويين والتهافت على الملاهي وكثرة الأعمال وغررو الغنى (ع ١٧).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى