كورنثوس الثانية

الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 03 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث

أبان الرسول في هذا الأصحاح أن لا حاجة له إلى أن يمدح نفسه لهم أو أن يمدحوه لأن الله جعله أهلاً لأن يكون خادماً للعهد الجديد الذي يمتاز عن العهد القديم (ع ١ – ١١). وإنه يمارس خدمته بالنظر إلى مطاليب العهد الجديد (ع ١٢ – ١٨).

برهان أن الرسول أهل للتبشير وذكر مطاليب تلك الخدمة ع ١ إلى ١١

صرّح الرسول في نهاية الأصحاح السابق بإخلاصه وأمانته وأبان هنا أنه لم يقصد بذلك مدح نفسه لأنه لا يحتاج إلى أدنى مدح من البشر (ع ١). فإن مؤمني كورنثوس هم شهادة له بالإخلاص في عمله لأنهم ممن علّمهم ونصرّهم وهي شهادة ظاهرة لجميع الناس (ع ٢ و٣). وإن أهليته لعمله من الله لا منه وإنه تعالى منحه كل ما تقتضيه خدمته للعهد الجديد (ع ٤ – ٦). وإن العهد الجديد أفضل من العهد القديم لأن القديم عهد الموت والجديد عهد الحياة والأول للدينونة والثاني للتبرير ومجد الأول زائل ومجد الثاني باق (ع ٧ – ١١).

١ «أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا، أَمْ لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ إِلَيْكُمْ، أَوْ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ مِنْكُمْ؟»

ص ٥: ١٢ و١٠: ٨ و١٢ و١٢: ١١ أعمال ١٨: ٢٧

تمتاز هذه الرسالة عن سائر الرسائل التي كتبها بولس بأن أساليبها مختلفة باختلاف انفعالاته عند الكتابة فتارة يكتب مسروراً شاكراً لله لتأمله في محبة الكنيسة له وتوبتها وطاعتها وتارة يكتب وقلبه مملوء غيظاً لتذكره سيرة المعلمين الكاذبين فيها. فأخذ يعلن فرحه وشكره بالنظر إلى ما هو سار في كنيسة كورنثوس وعدل عن ذلك فجأة إذ خطر في باله إن في الكنيسة جماعة يتخذون كل ما كتبه على هذا الأسلوب وسيلة إلى الشكاية والتذمر عليه. وكان بولس لا يشك في أن يتخذ هؤلاء نبأ انتصاره بالمسيح في كل مكان وبيان إخلاصه وأمانته (ص ١: ١٥ – ١٧) وسيلة إلى شكايته «بأنه يمدح نفسه كعادته».

أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا قال «نمدح» بالجمع والقرينة تدل على أنه لم يقصد سوى نفسه وبهذا القول دفع تهمة أعدائه أنه اعتاد أن يمدح نفسه في رسائله وخطبه.

لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ الأرجح إن المعلمين المفسدين أتوا إلى كورنثوس بمكاتيب توصية ممن تنصروا من اليهود وهم أعداء لبولس وتعليمه كما صنع غيرهم من أصدقائه كأبلوس (أعمال ١٨: ٢٧) ويظهر من تواريخ الكنيسة الأولى أنه اعتاد الذين يجولون مبشرين والمنفيون من المؤمنين أن يأخذوا رسائل توصية من كنائسهم إلى الكنائس التي يأتون إليها فادعى أعداء بولس أنه لا يستحق ثقة أهل كورنثوس به لأنه لم يأتهم بمثل تلك الرسائل. فدفع بولس دعواهم بأنه ليس بغريب وأنه مشهور ومعروف عندهم بأنه رسول وإن أعماله بينهم تشهد له فلا يحتاج أن يأتيهم برسائل التوصية ولا أن يأخذها منهم إلى غيرهم.

٢ «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ».

١كورنثوس ٩: ٢

أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا لأنكم تنصرتم وآمنتم وتجددتم بواسطتنا. وما فعله المسيح فيكم يشهد لنا بأمانتنا في الخدمة ورضى المسيح بها فلا حاجة لنا إلى غير ذلك.

مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا إن محبة الأم لأبنها أفضل برهان على النسبة بينها وبينه فمحبة بولس لمؤمني كورنثوس برهان كاف على النسبة التي بينه وبينهم. فإنه تحقق محبته لهم من تفكيره فيهم وصلواته من أجلهم وأشواقه إليهم واهتمامه بهم فلم يحتج إلى دليل أقوى من ذلك. وقوله هنا كقوله «إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا لِنَمُوتَ مَعَكُمْ وَنَعِيشَ مَعَكُمْ» (ص ٧: ٣).

مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً الخ يستطيع كل الناس أن يروا التغير الناشئ فيهم بواسطة خدمة بولس لهم وأن يروا من ذلك دليلاً على أمانته وعلى أن الله رضي عمله وهذا موافق لقوله «أَنْتُمْ خَتْمُ رِسَالَتِي فِي ٱلرَّبِّ» (١كورنثوس ٩: ٢). فإن كورنثوس كانت من أشهر مدن العالم ولذلك كان ما يحدث فيها يشتهر في الآفاق.

٣ «ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ».

١كورنثوس ٣: ٥ خروج ٢٤: ١٢ و٣٤: ١ مزمور ٤٠: ٨ وإرميا ٣١: ٣٣ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٦ وعبرانيين ٨: ١٠

ظَاهِرِينَ هذا نتيجة كونهم رسالة معروفة ومقروءة من جميع الناس.

أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ أي تأليف المسيح فإنه اختار أن يُعرف في العالم بواسطة سيرة تلاميذه المقدسة فكثيراً ما جاء في الإنجيل أن الذين اشتراهم المسيح بدمه وقدسهم بروحه شهود له.

مَخْدُومَةً مِنَّا إن هداية مؤمني كورنثوس كانت عمل المسيح بواسطة خدمة بولس بمواعظه وآياته فإن حُسبوا رسالة فهم رسالة المسيح أملاها على بولس فكتبها.

مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ هذا بيان لفضل هذه الرسالة المجازية على الرسالة الحقيقية المكتوبة بحبر على ورق الحلفاء أو بالحفر في الحجر. والكتابة بالحبر يستطيعها كل كاتب وهي عرضة لأن تُنقض وأن تُحرّف وأن تُتلف.

بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ الكتابة بروح الله لا يستطيعها غير المسيح. ومعنى العبارة إن تجديد مؤمني كورنثوس عمل إلهي خارق العادة دائم مجيد. وفي هذا دليل واضح أن بولس الذي هو آلة ذلك العمل خادم المسيح ووكيله. ونعت روح الله «بالحي» إيماء إلى ما منحهم من الحياة الجديدة الروحية.

ٍلاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّة كألواح الوصايا العشر (خروج ٣١: ١٨).

بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ هذا علامة ثانية لفضل تلك الرسالة المجازية التي أملاها المسيح وكتبها ظاهراً. فإن كتابة الوصايا العشر بإصبع الله على ألواح حجرية أيدت صحة خدمة موسى الذي تسلمها ولكن عمل الله في قلوب الناس أعظم وأقوى تأييداً لصحة خدمة الرسول. وما قيل هنا موافق لقول إرمياء النبي «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ ٱلرَّبُّ. بَلْ هٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ ٱلَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ يَقُولُ ٱلرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ» (إرميا ٣١ – ٣٣). وقول حزقيال «أَجْعَلُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحاً جَدِيداً، وَأَنْزِعُ قَلْبَ ٱلْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ» (حزقيال ١١: ١٩). ولا يخفى ما في آية التفسير من الإشارة إلى التثليث ففيها الله والمسيح وروحه عاملين معاً في قلوب المؤمنين للخلاص.

٤ «وَلٰكِنْ لَنَا ثِقَةٌ مِثْلُ هٰذِهِ بِٱلْمَسِيحِ لَدَى ٱللّٰهِ».

ثِقَةٌ مِثْلُ هٰذِهِ أي كما ذُكر في (ع ٢ و٣ ومن ص ٢: ١٥ – ١٧). وهذه الثقة أقوى من الثقة الممكن تحصيلها من كتب التوصية لأنها شهادة الله بصحة رسوليته وبكونه أهلاً للقيام بفروض الخدمة التي أخذها من الرب يسوع ويمارسها بمراقبة الله. ولم تكن هذه الثقة مبنية على شيء في نفس بولس بل قدرة الله بدليل قوله «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ» (كولوسي ١: ١١) وقوله «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي ٤: ١٣).

بِٱلْمَسِيحِ أي إن الذي دعاه رسولاً هو المسيح وأنه هو الذي منحه نعمة للقيام بما أوجبه عليه من أمور الرسولية.

لَدَى ٱللّٰهِ أي في حضرته باعتبار كونه مراقباً له ليرى أمانته وغيرته.

٥ «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئاً كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰهِ».

يوحنا ١٥: ٥ وص ٢: ١٦ ١كورنثوس ١٥: ١٠ وفيلبي ٢: ١٣

صرّح قبلاً بأنه أهل لخدمة الإنجيل إذ قابل نفسه بالمعلمين الكاذبين الذين غشوا كلمة الله وأدّعوا أنه ليس أهلاً لتلك الخدمة وأبان هنا علة نسبته الأهلية إلى نفسه.

لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئاً نفى أنه أهل للخدمة في نفسه وأنه يستطيع أن يفتكر فكراً صالحاً فالأجدر أن لا قوة له على شيء من الأعمال الصالحة. فكونه أهلاً للرسولية لم يكن متوقفاً على معرفته واختباره وأمانته وغيرته أو غير ذلك من صفاته الشخصية.

ِكِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰه أي ما حصلنا عليه من معرفة الروحيات ومن القداسة والقوة على العمل كلها هبة من الله وهذا كقوله «ولكن بنعمة الله أنا ما أنا» (١كورنثوس ١٥: ١٠).

٦ «ٱلَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ ٱلْحَرْفِ بَلِ ٱلرُّوحِ. لأَنَّ ٱلْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ يُحْيِي».

١كورنثوس ٣: ٥ و١٥: ١٠ وص ٥: ١٨ وأفسس ٣: ٧ وكولوسي ١: ٢٥ و٢٩ و١تيموثاوس ١: ١١ و١٢ و٢تيموثاوس ١: ١١ إرميا ٣١: ٣١ ومتّى ٢٦: ٢٨ وعبرانيين ٨: ٦ و٨ رومية ٢: ٢٧ و٢٩ و٧: ٦ رومية ٣: ٢٠ و٤: ١٥ و٧: ٩ و١٠ وغلاطية ٣: ١٠ يوحنا ٦: ٦٣ ورؤيا ٨: ٢ و١كورنثوس ١٥: ٤٥

في هذه الآية بيان كون كفايته من الله.

ٱلَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً أي إن الله جعلنا كذلك. وهذا برهان قاطع على أنه أهل للخدمة الرسولية.

عَهْدٍ جَدِيدٍ أي الإنجيل أو الدين المسيحي الذي كان بولس يخدمه. ووُصف «بالجديد» تمييزاً له عن العهد القديم الذي هو الناموس الذي أعطاه الله بني إسرائيل في طور سينا على يد موسى. وأشار المسيح إلى ذلك التمييز بقوله في الكأس «هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ» (متى ٢٦: ٢٨). وورد في كلام بولس في غير هذا المكان كذلك (١كورنثوس ١١: ٢٥). وجاء في الرسالة إلى العبرانيين ما نصه «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً الخ» (عبرانيين ٨: ٨ – ١٠ و٩: ١٥). والفرق بين العهد القديم والعهد الجديد إن الأول عهد الأعمال والثاني عهد النعمة وإن شرط الأول الطاعة وشرط الثاني الإيمان وإن المحرك على الطاعة في الأول خوف العقاب على المعصية والمحرك عليها في الثاني المحبة.

لاَ ٱلْحَرْفِ بَلِ ٱلرُّوحِ أي لسنا نحن خدم الحرف بل خدم الروح. والمراد «بالحرف»هنا الناموس و «بالروح» الإنجيل والدليل على ذلك أن الغاية من هذا الفصل مقابلة أحدهما بالآخر. وقد استعمل بولس كلاً منهما بمعناه هنا في مواضع أُخر منها (رومية ٢: ٢٢ و٢٧ – ٢٩ و٧: ٦). وعبر عن الناموس «بالحرف» لأنه كُتب بالحروف. ولم يقصد بذلك مجرد الوصايا العشر بل كل الشريعة الموسوية التي كثيراً ما تسمى «بالكتب» (يوحنا ٥: ٤٧ و٢تيموثاوس ٣: ١٥). والناموس شريعة خارجية عُرضت على الحواس فاستطاعت العين أن تبصرها والأذن أن تسمعها والعقل أن يدركها. ففيه للإنسان مقياس الواجبات لكن ليس فيه قوة على حفظه ولا إرادة لطاعته فلم يبق سوى حروف لا يصدر عنها شيء من الحياة. وأما الإنجيل مع كونه كُتب بحروف فهو روحي وقوة الله (رومية ١: ٦) والأداة التي بها يهب الروح القدس حياة للنفس. فإذا الفرق العظيم بين الناموس والإنجيل إن الأول خارجي والثاني داخلي روحي وإن الأول مجرد وصايا مكتوبة والثاني قوة محيية وإن الأول كُتب على حجر وورق والثاني كُتب على القلب.

ٱلْحَرْفَ يَقْتُلُ هذا تأثير الناموس ويصدق عليه أنه يقتل بثلاثة أمور:

  • الأول: إنه يوجب على الإنسان الطاعة الكاملة فيقول له «اعمل هذا فتحيا» (رومية ١٠: ٥ وغلاطية ٣: ١٢) و «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ» (غلاطية ٣: ١٠). وإذ لم يكن أحد من الناس يحفظ الناموس حفظاً تاماً كان الناموس يدين الإنسان ويحكم عليه بالموت.
  • الثاني: إنه يجعل الخاطئ يشعر بأنه محروم وعرضة لغضب الله والعقاب الذي يستحقه على خطاياه.
  • الثالث: إنه يضع تجاه الخاطئ قانوناً كاملاً للواجبات ولا يمنح شيئاً من القدرة على طاعته ولا شيئاً من الإرادة لها فلا ينشئ في النفس سوى الندم واليأس ويلزم من ذلك أنه يثمر موتاً. وأبان بولس أن الناموس يقتل في (رومية ٧: ٩ – ١١ و٨: ٢ و٣ وغلاطية ٣: ١٠ و٢١). ومن الواضح أن الرسول لم يرد هنا أن يعلم أن الناموس يقتل قتلاً جسدياً لأن ذلك القتل عاقبة الخطيئة حيث الناموس وحيث ليس ناموس.

ٱلرُّوحَ يُحْيِي هذا تأثير الإنجيل بدليل قول المسيح «اَلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا ٦: ٦٣). فالإنجيل يهب ما خلا منه الناموس وهو إرادة الطاعة والقدرة عليها وهو آلة الروح في تجديد القلب وتقديسه ولذلك سمى «خدمة الروح» (ع ٨) والإنجيل يحيي حيث يُبشر به فإنه أحيا آدم بعد سقوطه يوم بُشر بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية وأحيا إبراهيم يوم بُشر بأنه بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. وأحيا الذين بُشروا به بواسطة الرسوم الموسوية وبإعلانات الأنبياء. وإحياءه الناس بتبشير المسيح والرسل كان أعظم وأظهر من ذلك كثيراً وطرق إحياءه ثلاثة:

  • الأول: إعلانه لنا بر المسيح منسوباً إلينا بالإيمان وهذا كاف لتبريرنا ونجاتنا من الدينونة والموت.
  • الثاني: تأكيده لنا محبة الله وتوقع المجد بدلاً من خوف غضب الله وعقابه.
  • الثالث: قدرته بفعل الروح القدس على تجديد قلوبنا وخلقنا ثانية بصورة الله ونقلنا بذلك من الموت إلى الحياة. والخلاصة إن الإنجيل يهب لنا حياة أدبية في الدنيا وحياة أبدية في الآخرة ويؤيد كل ذلك بقوله «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ». وقوله «إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ» (رومية ٨: ٢ و١٠ انظر أيضاً رومية ٦: ٤ و١١).

٧، ٨ «٧ ثُمَّ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ ٱلْمَوْتِ، ٱلْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ، قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِ مُوسَى لِسَبَبِ مَجْدِ وَجْهِهِ ٱلزَّائِلِ، ٨ فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ بِٱلأَوْلَى خِدْمَةُ ٱلرُّوحِ فِي مَجْدٍ؟».

رومية ٧: ١٠ خروج ٣٤: ١ و٢٨ وتثنية ١٠: ١ الخ خروج ٣٤: ٢٩ و٣٠ و٣٥ غلاطية ٣: ٥

خِدْمَةُ ٱلْمَوْتِ أي الناموس. عبّر عنه بخدمة الموت لأنه يثبت على الإنسان إثمه ويوجب عليه العقاب الأبدي لأنه عاجز عن القيام بمطاليبه فيقع تحت دينونته وليس للناموس أن يغفر له إذ لا دم كفارة فيه ولا نعمة تقدره على إطاعة الأوامر وليس سوى أن يأمر وينهي ويعاقب المذنب ولكن الله جعله «مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِٱلإِيمَانِ» (غلاطية ٣: ٢٤).

ٱلْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ أشار بهذا إلى الوصايا العشر وأراد بها الناموس كله لأنها خلاصته. والمقصود أن الناموس خارجي معروض على حواس الإنسان الظاهرة وبذلك يمتاز عن الإنجيل لأن الإنجيل روحي يخاطب الروح ويحييها. وقد سبق بيان ذلك في الكلام على «الحرف» في تفسير الآية السادسة.

قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ الضمير في حصلت يرجع إلى «خدمة الموت» التي هي الناموس. ومجد الناموس قائم بأن مصدره الله وهو لائق بعدله تعالى وقداسته وفحواه إلا أن إرادته المقدسة وطريق إعلان الله له على طور سينا مجيدة فإنه أعلنه برعود وبروق وزلازل ونار ولعل معظم إشارة الرسول إلى هذا. فمجد الناموس كمجد الإنجيل إلا أنه أقل منه.

حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا هذا أحد الحوادث المقترنة بإعطاء الناموس الدالة على مجده.

وَجْهِ مُوسَى أخذ موسى الناموس من الله وكان وجهه شديد اللمعان حتى لم يستطع الشعب أن يحدق إليه فكان نوره يشبه ما ظهر من آيات حضور الله في قدس الأقداس. وكانت علة عجزهم عن النظر إلى ذلك الوجه الهيبة وشدة النور بدليل قوله «فَنَظَرَ هَارُونُ وَجَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَإِذَا جِلْدُ وَجْهِهِ يَلْمَعُ، فَخَافُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ» (خروج ٣٤: ٣٠).

ٱلزَّائِلِ الوقتي كسائر الظواهر المجيدة المقترنة بإعطاء الناموس.

بِٱلأَوْلَى خِدْمَةُ ٱلرُّوحِ فِي مَجْدٍ يتوقع القارئ أن يقول في الإنجيل هنا «خدمة الحياة» مقابلة لقوله في الناموس «خدمة الموت» لكنه دعاه «خدمة الروح» لأن الروح علة الحياة للذين يقبلونه. والدليل على أن المراد بخدمة الروح الإنجيل إنها جاءت بهذا المعنى في الآية السادسة وإن غاية الرسول هنا كغايته هناك وهي مقابلة الناموس الحرفي بالإنجيل الروحي.

رأى بعضهم أن المراد بالروح هنا الروح القدس ونحن رأينا أن المراد به الإنجيل كما في ع ٦ والمعنى واحد لأن الروح القدس هو الذي أنشأ الإنجيل وجعله آلة فعّالة للخلاص.

وأثبت الرسول أن الإنجيل أولى من الناموس بالمجد بأن الناموس خارجي لأن وصاياه «منقوشة بأحرف في حجارة» وسائر أموره المتعلقة بالخدمة الموسوية محسوس كما في الخيمة والهيكل والرسوم المختلفة وبأن الإنجيل داخلي وبواسطته يسكن الله نفس الإنسان ويُظهر فيها حضوره ونعمته ويكتب تعاليمه على القلب وبأن خدمة الناموس زائلة وأن كل ظواهر الشريعة الموسيّة رمزية وقتيه وأن خدمة الإنجيل باقية إذ لم يبق محل لغيره. وإن الناموس لا يستطيع أن يمنح الحياة للإنسان الساقط بل يوجب عليه الموت وأن الإنجيل يقدر أن يهب للإنسان الحياة المقدسة السعيدة الأبدية.

٩ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ ٱلدَّيْنُونَةِ مَجْداً، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً تَزِيدُ خِدْمَةُ ٱلْبِرِّ فِي مَجْدٍ».

رومية ١: ١٧ و٣: ٢١

هذه الآية إثبات لما سبق من أن خدمة الإنجيل أولى بالمجد من خدمة الناموس لأن خدمة البر أمجد من خدمة الدينونة.

خِدْمَةُ ٱلدَّيْنُونَةِ أي الناموس وسُمي بذلك لأنه يدين الإنسان على خطاياه كما سمي خدمة الموت في الآية السابعة ويأمر الإنسان بالبر الكامل ويحكم عليه بالدينونة لعصيانه فهو قادر على العقاب وعاجز عن الغفران.

مَجْداً لإظهارها قداسة الله وعدله وكرهه للخطيئة وإن كل ظواهر إعلانها في طور سيناء كانت مجيدة.

فَبِٱلأَوْلَى… خِدْمَةُ ٱلْبِرِّ فِي مَجْدٍ عبّر عن الإنجيل بخدمة البر لأنه يُعلن الله الذي به نتبرر وننجو من كل دينونة. فالإنجيل أفضل من الناموس بمقدار ما التصريح بالبر أفضل للإنسان من التصريح بالدينونة أي الحكم عليه بالموت الأبدي. والبر هنا ما يطلبه الناموس من القداسة لا التبرير بل أساسه لأنه بر المسيح الذي يُنسب إلى المؤمن. ومجد الإنجيل إعلان ذلك البر الكامل.

١٠ «فَإِنَّ ٱلْمُمَجَّدَ أَيْضاً لَمْ يُمَجَّدْ مِنْ هٰذَا ٱلْقَبِيلِ لِسَبَبِ ٱلْمَجْدِ ٱلْفَائِقِ».

ع ٩

فَإِنَّ ٱلْمُمَجَّدَ أي الشيء الممّجد والمراد به خدمة موسى والناموس الذي هو خادمه. وقد سبق الكلام على مجده في تفسير (ع ٧ – ٩).

لَمْ يُمَجَّدْ… لِسَبَبِ ٱلْمَجْدِ ٱلْفَائِقِ أي أن مجد الناموس حُجب بزيادة مجد الإنجيل كما أن القمر يفقد ضوءه ويبطل مجده بظهور الشمس.

ظهر موسى وإيليا بالمجد على جبل التجلي نواباً عن الناموس والأنبياء وأما المجد الذي ظهر به ابن الإنسان ففاق مجدهما (قابل ما في متّى ١٦: ١ – ٤ بما في رؤيا ١: ١٣ – ١٦). ومجد الإنجيل قائم بأنه إعلان يسوع المسيح من جهة تجسده واتضاعه وتعليمه ومعجزاته وموته على الصليب والآيات المتعلقة بذلك وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الله وسيطاً. نعم إن الناموس يُعلن مجد الله من جهة كونه قدوساً عادلاً والإنجيل يُعلن مجده من جهة كونه فوق ذلك إله الرحمة والمحبة. ففي الناموس نرى عرش الدينونة وفي الإنجيل نرى عرش النعمة والناموس ينادي بدينونة الخاطئ والإنجيل بالتبرير. والناموس يوجب على الخاطئ العقاب الأبدي والإنجيل يعد المؤمن بالحياة الأبدية.

١١ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلزَّائِلُ فِي مَجْدٍ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً يَكُونُ ٱلدَّائِمُ فِي مَجْدٍ».

في هذه الآية بيان فضل الإنجيل على الناموس بأن الأول دائم والثاني زائل.

ٱلزَّائِلُ اي النظام الموسوي وكل ما يتعلق به فإنه كان استعدادياً رمزياً ناقصاً لم يقصد الله دوامه. وغاية الرسالة إلى الغلاطيين والرسالة إلى العبرانيين بيان زوال الذبائح اليهودية والرسوم الموسوية لأنها كانت تشير إلى المسيح فبطل المشير لما جاء المشار إليه. فجاء في الرسالة إلى العبرانيين في الكلام على مقابلة الإنجيل بالناموس «فَإِذْ قَالَ «جَدِيداً» عَتَّقَ ٱلأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ ٱلٱضْمِحْلاَلِ» (عبرانيين ٨: ١٣).

فِي مَجْدٍ حين أعطاه الله في طور سينا وحين خدمته في الخيمة والهيكل وترتيبها بمقتضى أمر الله على يد موسى وهرون والكهنة وكانت مدة مجده نحو ١٥٠٠ سنة.

ٱلدَّائِمُ أي الإنجيل لأن مدة خدمته منذ مجيء المسيح إلى نهاية العالم فلا محل بينهما لنظام ثالث ولا لمسيح آخر ولا لإعلان آخر لطريق الخلاص لأن أيام الإنجيل هي «الأيام الأخيرة» بمقتضى كتاب الله. وتأثيرات خدمة الإنجيل لا تزول بل تبقى أبداً في الأرض والسماء لمجد الله وسعادة المخلَّصين. وقد سُمي الإنجيل «البشارة الأبدية» (رؤيا ١٤: ٦).

إن الإنجيل الذي بشر بولس به يمتاز عن الناموس بوضوحه وتحريره ع ١٢ إلى ١٨

أشار الرسول آنفاً إلى أن المجد الزائل الذي ظهر في وجه موسى كان رمزاً إلى وقتية مجد خدمته واتخذ هنا تبرقع موسى رمزاً إلى أمرين:

الأول: غموض الإعلان في الناموس الموسوي لأن الحقائق الروحية المقصودة به كانت مستترة برموز العهد القديم وظلاله.

الثاني: غلاظة عقول اليهود التي منعتهم من إدراك المعاني الصحيحة لرسوم ديانتهم (ع ١٢ – ١٥). على أن موسى حين رجع ووقف أمام الرب رفع البرقع عن وجهه كذلك متى رجع اليهود إلى المسيح يزول غموض الناموس عليهم والعماية عن قلوبهم لأن مشاهدة مجد المسيح تجعل المشاهد مثله (ع ١٦ – ١٨).

١٢ «فَإِذْ لَنَا رَجَاءٌ مِثْلُ هٰذَا نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً».

ص ٧: ٤ وأفسس ٦: ١٩

رَجَاءٌ مِثْلُ هٰذَا وهو ما ذُكر في الآية الرابعة من أهمية الإنجيل وخدمته وفضله على الناموس وخدمته. والرسول يتوقع أن يرى الناس كلهم ذلك كما رآه هو. وأشار بقوله «مثل هذا» إلى أن خدمة الإنجيل خدمة الروح (ع ٨) وأن تلك الخدمة تعلن طريق التبرير (ع ٩) وإنها دائمة إلى الأبد (ع ١١).

نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً أي أنه يبشر بالإنجيل كله بكل وضوح وبلا خوف وأتى ذلك لتيقنه أن الإنجيل الذي بشر به هو من الله وأنه الحق وأنه مجيد وهذا مثل قوله لشيوخ أفسس «لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً» وقوله «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ» (أعمال ٢٠: ٢٠ و٢٧). وفعل ذلك مع أن بشارة الإنجيل لليونانيين جهالة ولليهود عثرة. كان من علامات العقائد الفاسدة أن معلميها يخفون كثيراً منها عمداً فإن لرباني اليهود وفلاسفة اليونان أسراراً كثيرة كتموها بحرص عن العامة وكشفوها لبعض مختاريهم. ومجد المبشرين بالإنجيل اليوم لا يزال كما كان في أيام بولس وهو أن ينادوا بكل الحق على أحسن إيضاح لتيقنهم أنه بجملته من الله وأنه مجيد في نفسه وموافق لكل الناس وضروري لخلاصهم. وخلاصة قول بولس هنا أنه لا محل في خدمة الإنجيل لوضع البرقع كما كان لموسى في خدمة الناموس.

١٣ «وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ ٱلزَّائِلِ».

خروج ٣٤: ٣٣ و٣٥ ع ٧ و١١

لَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى أتى موسى ذلك بمقتضى الخدمة التي وكلها الله إليه فإنها كانت قائمة بأمثال ورموز وعوائد ونبوءات تشير بها إلى عمل الفداء. وهذا خلاف ما قام به المسيح ورسله في العهد الجديد لأنه بعد ما أتى المسيح المرموز إليه حق أن تزول الرموز والإشارات إليه. مثل قوله في سر المسيح «ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ» (أفسس ٣: ٥) ولم يقصد بولس أن يلوم موسى لأنه لم يجاهر مثله في التعليم لأن موسى تصرف كما أمره الله والله قضى بأن يُعلن طريق الفداء تدريجاً من أول وعده بالمخلص لأبوينا الأولين إلى إتمام ذلك الوعد بمجيء المسيح وصلبه وموته وقيامته وارتفاعه فأعلن لإبراهيم أن الفادي يكون من نسله ولموسى أنه يكون نبياً مثله وأن كهنة العهد القديم وذبائحها رموز إلى المسيح وفدائه ولكن ذلك الإعلان التدريجي كان كافياً لخلاص الذين قبلوه مع أنه لم يكن كافياً لأن يدركوا به كل أمور الخلاص. وما قيل هنا موافق لقول المسيح لتلاميذه «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِٱلأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ» (مرقس ٤: ١١).

يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ ليضعف به نور وجهه اللامع لا ليحجبه كل الحجب عن الشعب فاتخذ بولس ذلك رمزاً إلى تعليم موسى الحقائق الروحية فإنه لم يوضحها إلا بعد الإيضاح. ولا يلزم من ذلك أن موسى قصد بوضع البرقع الإشارة إلى إبهام تعليمه وكونه بعض الحق.

لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ… إِلَى نِهَايَةِ ٱلزَّائِلِ المراد «بالزائل» هنا هو المجد الذي علا وجه موسى وقتياً. و «بالنهاية» زوال ذلك المجد شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى. إن موسى لم يذكر في سفر الخروج لماذا وضع البرقع على وجهه ولكنّا نستدل من سياق الكلام أنه أتى ذلك ليخفف رهبة الشعب فإن الشعب خاف أن يقترب إليه وينظر نور وجهه بدليل قوله «فَنَظَرَ هَارُونُ وَجَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَإِذَا جِلْدُ وَجْهِهِ يَلْمَعُ، فَخَافُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ… فَإِذَا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ وَجْهَ مُوسَى أَنَّ جِلْدَهُ يَلْمَعُ كَانَ مُوسَى يَرُدُّ ٱلْبُرْقُعَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يَدْخُلَ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ» (خروج ٣٤: ٣٠ و٣٥). وبولس قال إنه كان لموسى غاية أخرى من وضع البرقع وهي ما ذكره في هذه الآية أي أن لا يرى الإسرائيليون بأي سرعة يزول ذلك المجد فيستنتجوا أن خدمة الناموس التي ذلك المجد رمز إليها زائلة أيضاً. ويؤيد هذا قوله في سفر الخروج «لَمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنَ ٱلْكَلاَمِ مَعَهُمْ جَعَلَ عَلَى وَجْهِهِ بُرْقُعاً. وَكَانَ مُوسَى عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ يَنْزِعُ ٱلْبُرْقُعَ حَتَّى يَخْرُجَ» (خروج ٣٤: ٣٣ و٣٤). ونستدل من ذلك على أن وجه موسى كان مكشوفاً دائماً وهو يتكلم مع الله مكشوفاً تارة ومبرقعاً أخرى وهو يتكلم مع الشعب وأن غايته من وضع البرقع كان فوق تخفيف رهبة الشعب منعه من مشاهدة زواله. وصرّح بولس بأنه لا يخاف أن يزول مجد الإنجيل حتى يضع برقعاً يستر نهاية زواله.

١٤ «بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى ٱلْيَوْمِ ذٰلِكَ ٱلْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ ٱلْعَهْدِ ٱلْعَتِيقِ بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ».

إشعياء ٦: ١٠ ومتّى ١٣: ١١ و١٤ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٦ ورومية ١١: ٧ و٨ و٢٥ وص ٤: ٤

محور كلام الرسول من أول هذا الأصحاح إلى هنا خدمته للإنجيل واستمر عليه في الأصحاح الرابع. وهذه الآية وما بعدها إلى نهاية هذا الأصحاح كلام معترض موضوعه العماية التي ألمت بأذهان اليهود في ما سبق.

بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ صرّح الرسول في ما سبق أنه بذل جهده في إيضاح ما بشر به (ع ١٢). وبيّن هنا علة عدم فهم اليهود كلامه وهي غلاظة أذهانهم. والأذهان جمع ذهن وهو العقل والمراد به هنا كل قوى الإنسان الباطنة وأفكاره وعواطفه والمعنى أن اليهود لم يدركوا فحوى أسفارهم ولم يشعروا بقوتها الروحية ولا بالميل إلى قبولها وهذا كقول المسيح فيهم في (مرقس ٦: ٥٢ و٨: ١٧).

كانت غاية رسوم العهد القديم الإشارة إلى المسيح لكن لظلمة قلوب اليهود وقساوتها لم يدركوا المشار إليه.

حَتَّى ٱلْيَوْمِ أي منذ ١٥٠٠ سنة إلى وقت تسطيره هذه الرسالة.

ذٰلِكَ ٱلْبُرْقُعُ نَفْسُهُ كان وقتئذ على وجه موسى فصار منذ عصره إلى عصر كتابة هذه الرسالة على قلوب اليهود. والمعنى أن المانع واحد فالذي منعهم من رؤية المجد في وجه موسى منعهم من إدراك المعنى في أسفاره. فإن الإسرائيليين في أيام موسى لم يفهموا المعنى الروحي من الناموس الذي أتاهم به. وأولادهم في أيام بولس لم يكونوا أفهم منهم فاكتفوا جميعاً بالرسوم الخارجية في دينهم بدون التفات إلى المشار إليه بها. ولم يعرفوا أن مجد الناموس زائل لأنه تمهيد لإتيان الدائم أي الإنجيل.

عِنْدَ قِرَاءَةِ ٱلْعَهْدِ ٱلْعَتِيقِ أي كتابه الذي سطر هو فيه. والذي كتم معناه عن اليهود هو تعصبهم وكبرياؤهم وتحاملهم واستنادهم على تقاليدهم.

بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ أي لم يُرفع فحسب الرسول بقاء البرقع وغلاطة القلب شيئاً واحداً لوحدة النتيجة.

ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ ولا يبطل إلا به فاليهود رفضوا المسيح فبقوا على ما كانوا عليه من الغلاظة والعماية. فالعهد القديم كتاب ألغاز وأسرار ورموز لا معنى لها لكل من لا يرى أنها إشارات إلى المسيح لأن «غاية الناموس هي المسيح» (رومية ١٠: ٤).

فما يحير العقول السليمة إن كتب اليهود تدل على المسيح أوضح دلالة فكانت ذبائحهم التي لا تحصى تشير إلى ذبيحته الوحيدة على الصليب. وكان أنبياؤهم جميعاً يتنبأون عنه بأجلى بيان. وقد أتى في ملء الزمان وصنع معجزات تفوق كل معجزات رؤسائهم وأنبيائهم ومع ذلك كله «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا ١: ١١).

١٥ «لٰكِنْ حَتَّى ٱلْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، ٱلْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ».

لٰكِنْ أي بدل أن يُرفع البرقع.

حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى أي أسفاره الخمسة. ومثل هذا قوله «لأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَالٍ قَدِيمَةٍ لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي ٱلْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ» (أعمال ١٥: ٢١).

حَتَّى ٱلْيَوْمِ أي بعد نحو ثمان وثلاثين سنة لموت المسيح وقيامته وصعوده إلى السماء والمناداة به بينهم.

ٱلْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ علة عجزهم عن أن يروا في أسفار موسى الإعلان بالمسيح هي غلاظة قلوبهم لا إبهام أقوالها بدليل قول المسيح «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ» (لوقا ٢٤: ٢٥ انظر أيضاً أعمال ١٣: ٢٧ – ٢٩). نعم إن الإعلان بالمسيح في العهد القديم غير ظاهر كظهوره في بشائر العهد الجديد ورسائله لكنه كان كافياً لأن يدركه اليهود لو صفت أذهانهم.

١٦ «وَلٰكِنْ عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ يُرْفَعُ ٱلْبُرْقُعُ».

خروج ٣٤: ٣٤ ورومية ١١: ٢٣ و٢٦ إشعياء ٢٥: ٧

عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ قلب الشعب أو الشعب نفسه.

يُرْفَعُ ٱلْبُرْقُعُ جاء في سفر الخروج ما نصه «وَكَانَ مُوسَى عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ يَنْزِعُ ٱلْبُرْقُعَ» (خروج ٣٤: ٣٤). وقال بولس مثل ذلك من جهة اليهود وهو أنهم حين يرجعون إلى الرب يسوع يُرفع البرقع الذي يمنعهم من أن يروا أنه هو المسيح الموعود به وحينئذ يفهمون معنى كل الرموز والنبوءات وأنها تشير إلى ابن الله متجسداً وحين يرى بالإيمان الذي رآه موسى وجهاً لوجه في طور سينا ويضيء على اليهود نور الخلاص. وفي هذه الآية إشارة إلى أنه سيأتي وقت يقبل فيه اليهود الدين المسيحي وهذا ما يفيده قوله «يرجع إلى الرب» وفي إشارة إلى أنهم يرجعون أفواجاً لا أفراداً فقط وأنهم يفهمون معنى أسفارهم الصحيح وأن نبوءاتها متفقة في الدليل على أن يسوع هو المسيح.

١٧ «وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَهُوَ ٱلرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ».

ع ١٦ و١كورنثوس ١٥: ٤٥ وع ٦ رومية ٨: ١٥ وغلاطية ٤: ٧

في هذه الآية نتيجة أخرى من رجوع اليهود إلى الرب غير رفع البرقع وهي نيلهم الحرية.

أَمَّا ٱلرَّبُّ الرب هنا يسوع المسيح وهو متمجد بدليل قوله «ٱلْبُرْقُعُ ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ» (ع ١٤) وقيل أيضاً أنه يُرفع حين يرجع اليهود إلى الرب (ع ١٦). وغاية احتجاج الرسول في هذا الفصل إثبات أن يسوع المسيح هو الرب يهوه المشار إليه في كل معلنات العهد القديم وهو المرموز إليه بكل رسومها ورموزها وأن كل ما كان غامضاً أو مبهماً قبل اعترافهم به يصير واضحاً بيّناً عند معرفتهم إياه واعترافهم به.

فَهُوَ ٱلرُّوحُ أي أن المسيح هو الروح القدس بمعنى قوله «أنا والآب واحد» (يوحنا ١٠: ٣٠). وهذه الوحدة ليست بوحدة أقنومية بل وحدة جوهرية ووحدة قوة وتأثر فحيث يسوع المسيح هناك الروح القدس وحيث هذا الروح هناك المسيح. كثيراً ما جاء في الكتاب أن الروح القدس مصدر كل حياة وحق وقوة وقداسة وسعادة ومجد وما قيل فيه يصدق على المسيح لأنه هو والروح واحد وحيث يعمل الواحد يعمل الآخر أيضاً والدليل على أن الروح هنا هو الروح القدس تفسيره بروح الرب في بقية الآية.

حَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ أي أن الذين يرجعون إلى الرب يحصلون على الروح المحيي وحينئذ يتحررون من عبودية الناموس ويصيرون أولاد الله.

إن روح الرب هو الروح القدس ونسبته إلى الابن كنسبته إلى الآب. وقد دُعي «روح المسيح» (رومية ٨: ١٠). و «روح الابن» (غلاطية ٤: ٦) وكما قيل إن الآب يرسل الروح كذلك قيل إن المسيح يرسله (يوحنا ١٦: ٧). والحرية المذكورة هنا هي نتيجة سكنى الروح القدس في قلب المؤمن ونيله الفداء الذي اشتراه المسيح بدمه فهي «حرية مجد أولاد الله» (رومية ٨: ٢١) وهي التي «حرّرنا المسيح بها» (غلاطية ٥: ١). وهي تتضمن ثلاثة أشياء:

  • الأول: التحرير من الناموس الرمزي والأدبي باعتبار كونه واسطة التبرير أي التحرير من عبوديته ودينونته (رومية ٦: ١١٤ و٧: ٤).
  • الثاني: التحرير من سلطة الخطيئة والشيطان (رومية ٧: ٦ وعبرانيين ٦: ١٤ و١٥).
  • الثالث: التحرير من عبودية الفساد الجسدي والروحي (رومية ٨: ٢١ – ٢٣).

١٨ «وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ».

ص ٤: ٤ و٦ و١تيموثاوس ١: ١١ و١كورنثوس ١٣: ١٢ رومية ٨: ٢٩ و١كورنثوس ١٥: ٤٩ وكولوسي ٣: ١٠

وَنَحْنُ جَمِيعاً أي المؤمنون الذين قد تحررنا من رسل وغيرهم.

نَاظِرِينَ بعين الإيمان.

مَجْدَ ٱلرَّبِّ أي مجد يسوع المسيح وهو عظمته باعتبار كونه ابن الله وقوته وجمال طبيعته وأنه حل فيه ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي ٢: ٩).

بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ لأنه بإيمانهم بالمسيح يُنزع البرقع ويتبدد كل الظلمة الناتجة عن الجهالة والضلال والكبرياء فأمكنهم أن يروا جلياً ما أعلنه الله لهم فصاروا كموسى حين تكلم مع الله وهذا خلاف حال غير المؤمنين.

كَمَا فِي مِرْآةٍ كانت مرايا القدماء من المعدن المصقول إلى الغاية فأمكنهم أن يروا فيها صور كل الأشياء الموضوعة أمامها فأنزل بولس هنا الإنجيل منزلة المرآة فإنه بقراءته ينظر المؤمن مجد المسيح بمعونة الروح القدس. وأتى بولس مثل هذا التشبيه في (١كورنثوس ١٣: ١٢) بياناً أن ما يُرى بالمرآة إنما يُرى جزئياً لا كلياً لكنه لم يقصد به هنا مثل هذا البيان إنما أراد إننا لم نره رأساً كالذين رأوه حين كان على الأرض ولا كما سنراه في السماء إنما رأيناه بواسطة إنجيله.

نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا أي صورة المسيح فلا ريب أنه في هذا تشبيه بما حدث لموسى حين شاهد مجد الله في الجبل فصار جلد وجهه منيراً بتلك المشاهدة لكن ذلك التغير كان ظاهراً وقتياً ولكن المؤمنين يشاهدون مجد المسيح في الإنجيل فيتغيرون في الباطن أبداً فينتقلون من حال الخطيئة إلى حال القداسة بدليل قوله «إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وتلقبهم بالمسيحيين يشير إلى أنهم صاروا مثل المسيح. وهذا التغيّر العظيم لم يقصر على مجرد نفوسهم بل حدث في أجسادهم أيضاً بدليل قوله «كَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٩). وقوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١).

مما اختبرناه في هذا العالم إننا نتشبّه بالذين نعاشرهم ونعجب بآرائهم وأفكارهم ونحب ما يحبونه ونكره ما يكرهونه فبالأولى إننا متى أحببنا المسيح وتأملنا في صفاته وكلماته وأعماله واقتربنا إليه في الصلاة صرنا مثله لأن الروح القدس يطبع صورته على قلوبنا كما يتبيّن مما في آخر هذه الآية.

مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ هذا يشير إلى التقدم التدريجي في القداسة والمحبة والغيرة والمماثلة للمسيح. وهذا مثل قول المرنم «يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ فِي صِهْيَوْنَ» (مزمور ٨٤: ٧). أما مشابهة المؤمن للمسيح فتكون في أول إيمانه قليلة ولكنه بتكرار مشاهدته إياه يوماً فيوماً تزيد مشابهته له حتى يراه في السماء ويكون كاملاً في القداسة ويقف قدام العرش بلا عيب. وهذا أفضل من نتيجة مشاهدة موسى وجه الرب لأنها لم تكن سوى وقتية ولكن نتيجة مشاهدة مجد المسيح باطنة تزيد كل يوم وتبقى إلى الأبد.

كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ أي كما يتوقع من الرب الذي هو الروح القدس فإنه هو المغيّر والنتيجة تليق بذلك الفاعل المجيد. والقول هنا في (ع ١٧) والمعنى هنا كما هنالك أي أن الرب الذي هو والروح واحد متساويان في القوة والمجد لأنه حيث روح الرب هناك الرب نفسه وما يفعله هو يفعله الروح القدس. فالتغير الذي به نصير مثل المسيح هو فعله.

فوائد

  1. إن من أجلى البينات على دعوة الله إنساناً إلى خدمة الإنجيل بركته الإلهية على أتعابه. نعم قد يكون المراؤون أو المخدوعون واسطة خير ولكن ذلك نادر جداً كما كان من تنبوء بلعام (ع ١ و٢).
  2. إنه يحث للمبشر أن يستدل من تأثير تعليمه على أنه من الله. فإن بولس أثبت صحة تعليمه بتأثيره في كورنثوس فصار حيث علّم السكّير عائفاً والزاني عفيفاً والخادع مخلصاً والمجدّف مصلياً. والأثمار دليل على شجرتها (ع ٢ و٣).
  3. إنه يجب أن يكون سلوك الراعي دليلاً على إخلاصه حتى لا يحتاج إلى دليل آخر عليه. فالذي يجتهد في عمل إرادة الله وتخليص النفوس لا يضطر إلى العناية بصيت نفسه بل يتركه لعنايته تعالى (ع ١ و٢).
  4. إن الكنيسة المسيحية بمنزلة رسالة كتبها يسوع المسيح ليُري العالم صفاته وإرادته وإنها نائبته على الأرض وشاهدة بحقه ومجتهدة في أن تكون متمثلة به وغايتها غايته من بث بشرى الخلاص (ع ٣).
  5. إن مركز الديانة في القلب فلا يكفي أن تكون مسطرة في الكتب بالحبر أو منقوشة على ألواح من الحجر فيجب أن تُطبع على صفحات القلب بروح الله وإلا فلا نفع لصاحبها منها (ع ٣).
  6. إنه علينا أن نشعر بافتقارنا إلى الله في كل شيء ولا سيما الإعلان بما يجب من العقائد والأعمال والنجاح في التبشير إذ لا قدرة لأحد غير الله أن يغيّر القلب وإدراك أسرار الوحي والتعبير عنها والحفظ من الأوهام والضلالات الدينية (ع ٥).
  7. إن الإنجيل حياة وقوة وهو قائم «بالروح» لا «بالحرف» وبالحقائق لا بالرسوم. فمهما تظاهر الإنسان بشعائر الدين وقلبه خال منها لم ينتفع شيئاً (ع ٦).
  8. إن خدمة الإنجيل خدمة شريفة أشرف من خدمة موسى بقدر الإنجيل أمجد من الناموس. فكانت خدمة موسى «خدمة الموت والدينونة» وخدمة الإنجيل خدمة التبرير والتقديس ونتائجها لا تزول كنتائج خدمة الناموس (ع ٧ و٨).
  9. إن ما قيل في هذا الأصحاح يبيّن جهل من يطلب التبرير بالناموس وقد أثبت الرسول أن الناموس خدمة الدينونة لأنه يطلب من الإنسان الطاعة الكاملة لله ولا يعد بالمغفرة وليس أحد من البشر قام بكل مطاليب الناموس. فإذاً الناموس لا يصرّح بسوى دينونة كل الناس ولا يخلص أحد من الخطأة إلا بإنجيل المسيح لأنه عهد الفداء (ع ٧ و٩).
  10. إن الاستخفاف بالإنجيل إثم عظيم وخطر جسيم إذ ليس في سواه طريق إعلان للخلاص وهو خدمة الروح القدس فمن رفض الإنجيل أحزن ذلك الروح. إنه أُعلنت فيه رأفة الله وصفاته الحسنى أعظم مما أُعلنت في شريعة موسى. فمن استخف به استخف بتجسد المسيح وآلامه وموته التي هي أخص مواضيعه (ع ٨ – ١٠).
  11. إنه يتأكد مما قيل في هذا الأصحاح أن اليهود سيرجعون إلى المسيح ويُزال البرقع الذي هو على عيونهم الآن فعلينا أن نؤمن بذلك ونبذل الجهد في طلبه في الصلاة وأن لا نتأخر عن اتخاذ كل الوسائل إلى تنويرهم وإرشادهم إلى النور (ع ١٦).
  12. إنه علينا أن نقرأ العهد القديم بنور العهد الجديد لمعرفتنا الغاية من رسومه وذبائحه فيجب أن نعتبر أسفار العهدين سفراً واحداً وأن كلاً منها يوضح ويفسر الآخر وإلا حجبت عنا فوائده كما حجبت عن اليهود (ع ٤ و١٤).
  13. إنه يمكن الإنسان أن يحصل على الكتاب المقدس ويقرأه كثيراً ولا يفهمه ولا ينتفع به كما كان من أمر اليهود قديماً. فإن لم نتأمل في حقائقه ونطلب إرشاد الروح القدس إلى معرفته كان ككتاب مختوم (ع ١٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى