الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 02 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثاني
علة عدول الرسول عن الذهاب رأساً إلى كورنثوس (ع ١ – ٤). ما يتعلق بتأديب الكنيسة للزاني المذكور في الرسالة الأولى (ع ٥ – ١١). علة عدم مكثه في ترواس (ع ١٢ و١٣). شكره لله على نجاح الإنجيل (ع ١٤ – ١٧).
موضوع هذا الأصحاح كموضوع الأصحاح الأول ففيه حامى عن نفسه ودفع تهمة الخفة ببيانه أنه تأخر لئلا يأتيهم موبخاً وقاضياً. وزاد على ذلك هنا أنه عزم أن لا يذهب إلى كورنثوس ما دامت أحوال الكنيسة توجب الكدر له ولهم (ع ١ – ٤). وقال إن ذنب الزاني الذي كتب إليهم فيه ليس بعلة حزن له وحده بل للكنيسة أيضاً وأنه راق له تأديب الكنيسة لذلك الزاني وأنه يروق له الآن أن تقبله ثانية في شركة الكنيسة لما أظهره من علامات التوبة (ع ٥ – ١١). وإن شدة رغبته في سمع أخبارهم منعته من البقاء في ترواس لأنه تركها وأتى إلى مكدونية رغبة في أن يتقبل تيطس ويأخذ منه رسائلهم (ع ١٢ و١٣). وأن خبر الكنيسة الذي أتى تيطس به كان ساراً جداً حتى حمله على الشكر والتسبيح (ع ١٤ – ١٧).
علة تغيير قصده ع ١ إلى ٤
١ «وَلٰكِنِّي جَزَمْتُ بِهٰذَا فِي نَفْسِي أَنْ لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضاً فِي حُزْنٍ».
ص ١: ٢٣ و١٢: ٢٠ و٢١ و ١٣: ١٠
لٰكِنِّي جَزَمْتُ بِهٰذَا فِي نَفْسِي سبق قوله أنه أبطأ عن المجيء إليهم من أجلهم لكي لا يحزنهم ويخجلهم ولئلا يظهر أنه يسود على إيمانهم وزاد على ذلك هنا أن علة إبطائه أيضاً من أجل نفسه (انظر الحاشية في الإنجيل ذي الشواهد) فلو جاء إليهم لحزن هو أيضاً فوق حزنهم فعزم أن لا يأتي إليهم إلا متى استطاع الإتيان مسروراً.
لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضاً فِي حُزْنٍ أي محزوناً ومحزناً وقوله «أيضاً في حزن» يشير إلى أنه أتى إليهم قبلاً بالحزن. وهذا الإتيان لا يمكن أن يكون الإتيان الأول إليهم المذكور في (أعمال ١٨: ١). لأن ذلك الوقت كان وقت أول تبشيرهم وإنشاء كنيستهم فلم يكن من سبيل إلى تشويش النظام الموجب الحزن والتوبيخ والتأديب. فنستنتج من ذلك أنه زارهم زيارة أخرى لم يذكرها لوقا في سفر الأعمال. والدليل على هذه الزيارة واضح وهو قوله «هُوَذَا ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ أَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ» (ص ١٢: ١٤). وقوله «هذه المرة الثالثة أتى إليكم» (ص ١٣: ١).
٢ «لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا، فَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُفَرِّحُنِي إِلاَّ ٱلَّذِي أَحْزَنْتُهُ؟».
في هذه الآية بيان إباءته أن يأتي إليهم في حزن.
إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا بإتياني إليكم معنفاً ومؤدباً.
فَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُفَرِّحُنِي الخ أي يستحيل أن أتوقع التفريح ممن كنت لهم علة حزن لأن زارع الحزن لغيره لا يحصد الفرح منه. و «مَن» في قوله عامة لكل من أفراد الكنيسة لا الزاني المعهود. وخلاصة قوله أنه لا يمكن أن يكن سعيداً ما لم يكونوا هم سعداء.
٣ «وَكَتَبْتُ لَكُمْ هٰذَا عَيْنَهُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ، وَاثِقاً بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ».
١كورنثوس ١٦: ٧ وع ١ ص ١٢: ٢١ ص ٧: ١٦ و٨: ٢٢ وغلاطية ٥: ١٠
وَكَتَبْتُ لَكُمْ هٰذَا عَيْنَهُ وهو ما كتبه إليهم في رسالته الأولى في أمر الرجل الزاني أي قوله «ٱعْزِلُوا ٱلْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ» (١كورنثوس ٥: ١٣). فإن بولس لم يذهب يومئذ بنفسه ليصلح الخلل بل أمر الكنيسة في الرسالة أن تصلحه لكي لا يكون مجيئه إليها إلا مجيء سرور له ولهم.
لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ أي كتبت ما كتبته لكي لا يكون لي منكم حزن بدل الفرح الذي أرغب فيه. والخلاصة أنه أراد صرف الأمور المكدرة قبل أن يأتي إليهم.
وَاثِقاً بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ لم يرغب في اعتزال أسباب الخلاف لمجرد راحة فكره كأنه لا يسأل إلا عنها بل لراحتهم أيضاً ولهذا قال «إن فرحي هو فرح جميعكم» أي ما يسركم هو ما يسرني. ومقصوده من ذلك أنه رغب في طاعتهم لأمره وحفظهم طهارة الكنيسة لتيقنه أن ذلك يؤول إلى نجاح الكنيسة وسعادتها. قال «واثقاً بجميعكم» لأن أكثر أعضاء الكنيسة أصدقاؤه فأنزل مبغضيه وهم قليلون منزلة العدم.
٤ «لأَنِّي مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا، بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي عِنْدِي وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ».
ص ٧: ٨ و٩ و١٢
أبان لهم في هذه الآية أن الحامل له على بعض ما كتبه من التوبيخ في الرسالة الأولى إنما هو ابتغاء نفعهم وسعادتهم ودليل ذلك ما اعتراه بتلك الكتابة من الألم القلبي.
مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ لم يكن هذا الحزن من أحواله الخارجية بل من اضطراب أفكاره من جهتهم. ولعل بعضهم ظن أنه سهل عليه أن يكتب مثل ذلك التوبيخ الشديد فدفع هذا الظن بذكر ما عراه عند كتابته من الحزن والبكاء وكان له أن يقول في الوقت الذي أنفقه في كورنثوس ما قاله في الوقت الذي أنفقه في أفسس «أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ» (أعمال ٢٠: ٣١).
بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ كأب حنون يحب ابنه ومع ذلك يؤدبه لكي يكون أميناً لله وله. فيجب على الكنيسة أن تجري تأديبها للمذنبين فيها إجراء الأب الحنون تأديبه لابنه أي أن يأتوه بغية نفع المؤدَّبين لا تخجيلهم وإحزانهم فلا يزالوا يحبون المذنب ويلتمسوا توبته وهم يعاقبونه على ذنبه.
لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا أي إحزانكم ليس غايتي مما كتبته.
بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي عِنْدِي هذا إحدى غاياته مما كتب ومنها أيضاً أن يقود المذنب إلى الحزن على إثمه (ع ٧) وأن يمتحن طاعتهم له كما في (ع ٩). فذكره هنا كون غايته المحبة لا ينفي أن تكون له غاية أخرى. ودليل أن كتابته لإظهار محبته كون ما أمرهم به ضرورياً لصلاح الكنيسة.
وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ أي محبتي الخاصة لكم. فصرّح بها أن محبته لكنيسة كورنثوس أعظم من محبته لغيرها من الكنائس. ويسهل علينا أن نرى دلائل أُخر على هذا في الرسالتين اللتين كتبهما إلى هذه الكنيسة.
ما يتعلق بتأديب الكنيسة للزاني المذكور في الرسالة الأولى ع ٥ إلى ١١
٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَحْزَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْزِنِّي، بَلْ أَحْزَنَ جَمِيعَكُمْ بَعْضَ ٱلْحُزْنِ لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ».
١كورنثوس ٥: ١ غلاطية ٤: ١٢
ما جاء في هذه الآية وما بعدها إلى الآية الحادية عشرة يختص بالزاني المذكور في (١كورنثوس ص ٥). ومعنى الآية غير واضح كل الوضوح والمرجح أن قصد بولس منها أن يخفف اللوم على المذنب التائب.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لم يذكر اسمه هنا ولا في الآية السابعة فعبّر عنه فيها بلفظة «هذا» وعبّر عنه في الرسالة الأولى «بإنسان»
قَدْ أَحْزَنَ لم يذكر ذنبه الذي كان على الحزن لكن المعروف أنه الزناء «باتخاذه امرأة أبيه زوجة» (١كورنثوس ٥: ١).
لَمْ يُحْزِنِّي أنا وحدي حتى يأسف على ما ضرّني به خصوصاً.
بَلْ أَحْزَنَ جَمِيعَكُمْ أي الكنيسة كلها وأحزنني كواحد منها.
بَعْضَ ٱلْحُزْنِ إذ بقي لكم أمل أن يتوب سريعاً. ولعل معنى ذلك أن بعض الأفراد لم يحزنوا إما لكونهم أقرباء المذنب وإما لكونهم أعداء لبولس.
لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ كما كنت أثقل لو قلت أنه أحزنني خاصة وأنه أحزن جميع الكنيسة كل الحزن. وشاء أن يخفف عن المذنب لتيقنه أنه تاب أو لأنه عرف أن ندم المذنب جاوز الحد.
٦ «مِثْلُ هٰذَا يَكْفِيهِ هٰذَا ٱلْقِصَاصُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلأَكْثَرِينَ».
١كورنثوس ٥: ٤ و٥ و١تيموثاوس ٥: ٢٠
مِثْلُ هٰذَا أي المذنب. ومعنى سائر الآية حكم بولس أن القصاص الذي أجرته الكنيسة على المذنب بأكثرية الأصوات كان كافياً لأنه أنفذ قصده. وكان بولس قد أمر الكنيسة بأن تقطعه من شركتها وهو المراد من قوله «أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ ٱلرُّوحُ» (١كورنثوس ٥: ٤ و٥). ويتبين من الآية التاسعة من هذا الأصحاح أن الكنيسة أطاعت أمره وقطعته من شركتها. ومفاد ما كتبه هنا أنه مقتنع بصحة توبة المذنب فنصح للكنيسة أن تعيده إلى شركتها وما له من الحقوق الأخوية وأن الكنيسة بررت نفسها من مشاركتها له في ذنبه بحكمها عليه وغيرتها على حفظ طهارة الكنيسة والشريعة الإلهية وربحت توبة المذنب.
استنتج بعضهم من قوله «من الأكثرين» إن أعضاء الكنيسة لم تُجمع على تأديبه. وقال آخرون أن الإشارة ليست إلا إلى إعلان قطعه وكثرة معلنيه. وهذا على وفق قوله في إجراء التأديب «بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ… يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا» (١كورنثوس ٥: ٤ و٥).
٧ «حَتَّى تَكُونُوا بِٱلْعَكْسِ تُسَامِحُونَهُ بِٱلْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هٰذَا مِنَ ٱلْحُزْنِ ٱلْمُفْرِطِ».
غلاطية ٦: ١
حَتَّى تَكُونُوا بِٱلْعَكْسِ أي ترفعوا عن المذنب القصاص بدلاً من إدامة تأديبه ومنعه من شركة الكنيسة ومخالطة الإخوة.
تُسَامِحُونَهُ بِٱلْحَرِيِّ أي تفضلون المسامحة والتعزية على إدامة التأديب لأن كل الفوائد المقصودة من إجراء التأديب قد حصلت وآن للكنيسة أن تظهر للمذنب أنها اعتبرت توبته حقيقية وأنها صدقت أن الله غفر له إثمه وسامحته بكل الحزن والعار اللذين كان سبباً لهما.
وَتُعَزُّونَهُ أي تذكرون له مواعيد الله للتائبين وتعاملونه معاملة أخ وصديق وتعتزلون عتابه.
لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ الخ أي لكي لا ييأس لفرط الحزن والخجل والأسف ويعدل عن كل وسائط النعمة فينتج من ذلك ضرره جسداً وعقلاً ونفساً.
يظهر من هذه الآية أن الرسول جمع الأمانة واللطف إذ لم يذكر اسم المذنب ولا ذنبه فشدد الأمر بتأديبه ما دام عاصياً مستمراً على الذنب وأوجب أن يُغفر له متى اعترف بذنبه وتركه فكان بذلك مقتدياً بسيده الذي قيل فيه «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ» (متى ١٢: ٢٠).
٨ «لِذٰلِكَ أَطْلُبُ أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ ٱلْمَحَبَّةَ».
لِذٰلِكَ أي لكي لا يبتلع من الحزن المفرط.
أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ ٱلْمَحَبَّةَ أي تثبتوا المحبة له بحكم الكنيسة قانونياً برده إلى شركة الكنيسة وحقوق الإخاء علانية كما كان قطعه علانية.
٩ «لأَنِّي لِهٰذَا كَتَبْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟».
١كورنثوس ٥ ص ٧: ١٥ و١٠: ٦
لِهٰذَا أي للغاية المذكورة في تتمة الآية وبقي غايات أُخر لم يذكرها هنا.
كَتَبْتُ دون أن آتي. والمراد بما كتبه ما جاء في الرسالة الأولى من الكلام في تأديب الزاني ١كورنثوس ٥: ٧).
لِكَيْ أَعْرِفَ… هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ الخ أمر الكنيسة سابقاً أن تقطع المذنب من شركتها امتحاناً لها ليعرف هل هي طائعة للسلطان الذي أخذه المسيح باعتبار أنه هو رسوله (علاوة على رغبته في إزالة العثرة من الكنيسة بتأديب المذنب وفي نفعه بالإتيان إلى التوبة).
إن الطاعة لمن تجب له الطاعة آية التقوى وبعض أثمار الإيمان القلبي وفعل الروح القدس. وأما العصيان والاستبداد والعناد فعلامة عدم الإيمان وعدم تأثير ذلك الروح. إن كنيسة كورنثوس سلمت بسلطانه الرسولي والمذنب تاب فلم يبق من حاجة إلى إدامة التأديب فطلب من الكنيسة أن تُظهر طاعتها له بمسامحتها المذنب كما أظهرتها قبلاً بتأديبه.
١٠ «وَٱلَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضاً. لأَنِّي أَنَا مَا سَامَحْتُ بِهِ إِنْ كُنْتُ قَدْ سَامَحْتُ بِشَيْءٍ فَمِنْ أَجْلِكُمْ بِحَضْرَةِ ٱلْمَسِيحِ»
ٱلَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضاً هذا الكلام مطلق يدل على أن الرسول مستعد أن يسامح كل من تسامحه الكنيسة ولكن القرينة تدل على أنه مقيّد بمسامحة الزاني التائب لأنها مدار الكلام.
وحث الكنيسة على مسامحة التائب فقال أنه مستعد أن يشاركهم في مسامحته ورده إلى شركة الكنيسة لأنه كان متيقناً طاعة الكنيسة له وتوبة المذنب.
لأَنِّي أَنَا مَا سَامَحْتُ بِهِ جعل مسامحته للمذنب متوقفة على مسامحتهم له. وما كتبه في أمر المسامحة هنا وفي (ع ٧) إنما كتبه لأجلهم ولم يأخذ على نفسه شيئاً في رد المذنب التائب إلى شركة الكنيسة ما لم تكن هي راضية ذلك من نفسها.
إِنْ كُنْتُ قَدْ سَامَحْتُ بِشَيْءٍ فَمِنْ أَجْلِكُمْ أي إن قال أحد أني سامحت المذنب دون مشورتكم قلت إنما أتيت ذلك من أجلكم. وأكد أن ليس له غاية شخصية في ما كتبه قبلاً في أمر تأديبه ولا في ما كتبه هنا في شأن مسامحته وأنه لا غاية له سوى نفع الكنيسة وصلاحها بحفظ طهارتها ونظامها. وقوله «من أجلكم» لا ينفي قصده نفع المذنب إنما اقتصر على ذكره لكون نفع الكنيسة كلها أفضل من نفع الشخص.
بِحَضْرَةِ ٱلْمَسِيحِ باعتبار كونه حاضراً وناظراً إلينا فمن يحاكم وهو يعتبر أن المسيح الحنون حاضر في المحاكمة فلا بد من أن يكون رفيقاً في حكمه.
من الواضح أن بولس اعتبر أن المذنب بتوبته قد سأل مغفرة الله ونالها وبقي عليه أن يطلب المسامحة من الذين أضرهم بأن كان سبب حزن وعار لهم. ولا حاجة إلى بيان أن ليس لبولس ولا للكنيسة سلطان على مغفرة خطيئة الزناء لأن المغفرة مختصة بالله.
١١ «لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا ٱلشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ».
لِئَلاَّ متعلق بقوله سامحت أي شاركتكم في المسامحة.
يَطْمَعَ فِينَا ٱلشَّيْطَانُ لم يذكر جهة طمعه فيهم والمعنى المرجّح أنهم إن عدلوا عن المسامحة للمذنب التائب قاده ذلك إلى اليأس والهلاك وكان علة انشقاق في الكنيسة فذكر ذلك بياناً لوجوب المبادرة إلى تلك المسامحة.
كتب لهم في الرسالة الأولى «أن يسلموا مثل هذا للشيطان بتأديبهم إياه لكي تخلص روحه» وكتب إليهم هنا أن يرفعوا عنه التأديب لئلا يكون للشيطان سبيلاً إلى إهلاك نفسه.
لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ أي نوع أفكاره مثل أنها خبيثة وهي معروفة أنها كذلك بشهادة كتاب الله واختبار أعمال الشيطان في العالم. وما قيل هنا دليل واضح على أن الشيطان شخص حقيقي وأن له تأثيراً عظيماً في قلوب الناس وأعمالهم وأنه بكثرة جنوده يقدر أن يجرب كل البشر وأنه لا يفتأ يجتهد في خداع الجميع وإهلاكهم ولذلك وجب على الأفراد والكنائس أن تنتبه لحيله وقوته وتحذرهما.
ولا يبعد عن التسليم أن الشيطان حمل الكنيسة في أول الأمر على إهمال تأديب المذنب ثم أغراها عندما أخذت في التأديب بالقسوة لكي لا يترك سبيلاً لرجوع المذنب بالتوبة.
علة عدم مكثه في ترواس ع ١٢ و١٣
١٢، ١٣ «١٢ وَلٰكِنْ لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاسَ، لأَجْلِ إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ وَٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي ٱلرَّبِّ، ١٣ لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي. لٰكِنْ وَدَّعْتُهُمْ فَخَرَجْتُ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ».
أعمال ١٦: ٨ و٢٠: ١ و٢ و٦ و١كورنثوس ١٦: ٥ – ٩ ١كورنثوس ١٦: ٩ ص ٧: ٥ و٦
علة عدم مكثه في ترواس ع ١٢ و١٣
وَلٰكِنْ هذا الاستدراك لتعليق ما قيل هنا بما قيل في الآية الرابعة. والآية الخامسة وما بعدها إلى نهاية الحادية عشرة كلام معترض. فإنه بيّن لهم في الآية الرابعة أن الحزن وكآبة القلب اللذين بهما كتب الرسالة الأولى كانا دليلين على محبته لهم وبيّن هنا دليلاً آخر على تلك المحبة وهو فعله المذكور في هاتين الآيتين.
لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاس جاء إليها بمروره من أفسس إلى مكدونية. وترواس فرضة ميسيا على البوسفور قرب رسوم مدينة تروادة المشهورة بالحرب التي التظت بينها وبين اليونانيين في العصور القديمة وبقصيدة هوميروس في تلك الحرب. وجعلها أوغسطس قيصر كولونية رومانية وكان لها تجارة واسعة بين مكدونية وأسيا الصغرى. وزارها بولس مرة قبل هذا وفيها رأى حينئذ الرؤيا وهي أنه رأى رجلاً مكدونياً يقول له «اعبر إلينا وأعنا» (أعمال ١٦: ٨) ومكث فيها أسبوعاً وهو راجع من مكدونية (أعمال ٢٠: ٦ – ٣). والأرجح أنه زارها أيضاً قرب نهاية خدمته بعد سجنه الأول في رومية (٢تيموثاوس ٤: ١٣).
لأَجْلِ إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ أي التبشير بالإنجيل. قصد بولس أن يمكث في ترواس وقتاً للمناداة بكلمة الله في المدينة وضواحيها ولم يقصد مجرد المرور بها بسرعة ليصل إلى مكدونية بأقصر ما يمكنه من الوقت ونسب الإنجيل إلى المسيح لأن المسيح مؤلفه وموضوعه ولهذا عينه سمي أيضاً «إنجيل الله» (رومية ١٥: ١٦). وسمي إنجيل ملكوت الله لأن غايته إنشاء ذلك الملكوت (متى ٤: ٢٣). وإنجيل الخلاص وإنجيل السلام لتأثيره في قلوب المؤمنين (أفسس ١: ١٣ و٦: ١٥). وسماه بولس إنجيله لأنها نادى به (رومية ٢: ٢ و ١٦).
ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي ٱلرَّبِّ أي وجدت فرصة مناسبة للتبشير إذ كان الناس مائلين إلى سمع الحق وقبوله. وقال مثل هذا في مدينة أفسس (١كورنثوس ١٦: ٩). وقال «في الرب» إشارة إلى كون عمله هنالك روحياً الغاية منه خدمة الرب يسوع.
لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي أي كنت حزيناً مضطرباً جداً.
لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي سماه أخاً لكونه مؤمناً مثله وعاملاً معه في المناداة بالإنجيل. وأول ما سمعنا من أمره أنه كان رفيق بولس وبرنابا في أنطاكية (غلاطية ٢: ١). وأنه ممن آمنوا من الوثنيين ولم يستحسن بولس أن يختنه كما ختن تيموثاوس (غلاطية ٢: ٣). كان بولس قد أرسله إلى كورنثوس والأرجح أنه هو الذي حمل رسالته الأولى إليها وتوقع أن يلتقي به في ترواس وهو راجع من كورنثوس ليخبره بصفة قبول الكنيسة لتلك الرسالة. وذكر أنه ممن سعوا في جمع الإحسان لفقراء أورشليم (ص ٧: ٦ و١٦ وص ١٢: ١٨). وكان بعد ذلك مع بولس في كريت (تيطس ١: ٥) والأرجح أن ذلك كان بعد إطلاق بولس من سجنه الأول في رومية. وأقامه بولس قسيساً في كريت ليرتب الأمور التي تركها بولس قبل ترتيبها وكتب إليه رسالة بيّن له فيها واجباته. وأرسله يوم كان في رومية للتبشير في دلماطية (٢تيموثاوس ٤: ١٠). وسأله أن يلاقيه في نيكوبوليس إذ قصد أن يشتي فيها (تيطس ٣: ١٢). ولا نعلم هل تم قصده أو لا إذ الأرجح أنه قُبض عليه في ذلك الوقت وسيق إلى رومية للموت.
وَدَّعْتُهُمْ أي ودع المؤمنين والأصدقاء في ترواس.
فَخَرَجْتُ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي عبر البوصفور. وهذا السفر شغل به مرة يومين (أعمال ١٦: ١١) ومرة أخرى خمسة أيام وهو راجع من كورنثوس في هذه الطريق (أعمال ٢٠: ٦). وغايته من هذا الخروج المبادرة إلى الالتقاء بتيطس وهو عائد من كورنثوس. ولم يذكر أي مدن مكدونية سار إليها والمظنون أنه ذهب إلى فيلبي كما ذهب إليها في أول مرات ذهابه إلى مكدونية (أعمال ١٦: ١٢) وأنه التقى بتيطس هناك.
شكره الله على نجاح الإنجيل ع ١٤ إلى ١٧
١٤ «وَلٰكِنْ شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ».
كولوسي ٢: ١٥ نشيد الأناشيد ١: ٣
كان المنتظر من بولس هنا أن يخبر بالتقائه بتيطس وبالأنباء التي سمعها منه لكنه انتهز بدلاً من ذلك الفرصة لتقديم الشكر لله على نعمته وبركته ونجاحه في المناداة بالإنجيل. وهذا حمله على مقابلة خدمة الإنجيل بخدمة الشريعة الموسوية. هذا شغل أفكاره وقلمه حتى لم يرجع إلى الموضوع الذي كان يتكلم فيه إلا في الأصحاح السابع وحينئذ أخبر بالتقائه بتيطس وبأفكاره وانفعالاته قبل ذلك وبعده.
والأمر بيّن أن الذي حمل بولس على الشكر لله لنجاحه في التبشير وغلبته على كل الموانع والمقاومات هو السرور بالأخبار السارة التي أتى بها تيطس.
مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ هنا استعارة تمثيلية قابل الرسول بها الانتصار الروحي على نفوسهم بالانتصار الدنيوي على أجسادهم والمستعار منه هو الاحتفال الذي اعتاد القواد الرومانيون إجراءه في رومية عند رجوعهم من الحرب ظافرين محاطين بالجنود المنتصرة وبالأسرى والغنائم. والمراد «بموكب نصرته» في هذه الآية هم جماعة المحتفلين الذين رئيسهم الله وقوادهم الرسل ورفقاؤهم الذين جاهدوا بأمر ذلك الرئيس العظيم.
كان لبولس أعداء مقاومون من اليهود والأمم والإخوة الكذبة في كل مكان دخله للتبشير فتعب كثيراً من كثرتهم وقساوتهم لكن الله أراه انتصار الإنجيل على كل أولئك المقاومين وكان شديد الخوف من الانكسار في كورنثوس لشدة المقاومة فحوّل الله يأسه رجاء وحزنه فرحاً ونوحه ترنيمة شكر فأعطى كل المجد لله.
فِي ٱلْمَسِيحِ نسب نصره إلى المسيح لأنه ظفر بالاتحاد به وهذا يدل على نوع من أنواع النصر وهو نصر المجاهد في سبيل الحق.
رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ في هذا إشارة إلى البخور الذي كان يوقد في الاحتفال بالقواد الرومانيين المنتصرين ولعله شبّه نفسه بحامل بخور في موكب الله القائد الأزلي. وفي قوله «رائحة معرفته» استعارة مكنية شبّه في نفسه معرفة المسيح بالبخور وأثبت لها الرائحة دلالة على ذلك التشبيه. وكانت غاية الرسل والمبشرين نشر هذه الرائحة بأسفارهم وتبشيرهم وآلامهم ومصائبهم وهي رائحة طيبة سارة لله وللناس الذين يقبلونها ومعرفة المسيح مخلصاً وإلهاً متجسداً ووسطياً وملكاً أفضل من كل معرفة وهي غاية الفداء بدليل قوله «ٱلْمَسِيح َأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس ٥: ٢).
فِي كُلِّ مَكَانٍ دخله للتشبير بالإنجيل وذلك كثير بدليل قوله «حَتَّى إِنِّي مِنْ أُورُشَلِيمَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى إِللِّيرِيكُونَ، قَدْ أَكْمَلْتُ ٱلتَّبْشِيرَ بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ١٥: ١٩). وكان يخشى أن تكون كورنثوس مستثناة من نصرة الإنجيل ولكن مجيء تيطس إليه بأخبارها أزال خوفه وأفرحه كثيراً.
١٥ «لأَنَّنَا رَائِحَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلذَّكِيَّةِ لِلّٰهِ، فِي ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي ٱلَّذِينَ يَهْلِكُونَ».
١كورنثوس ١: ١٨ ص ٤: ٣
أَنَّنَا رَائِحَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلذَّكِيَّةِ لِلّٰهِ أي ناشروها فما نسبه في الآية السابقة إلى معرفة المسيح نسبه هنا إلى ناشري تلك المعرفة مجازاً. فالله يحسبهم (وهم يبثون بشرى المسيح) حاملين بخرواً طيّب الرائحة قبل الناس منهم الإنجيل أم لا.
وما نُسب هنا إلى بولس ورفقائه من مسرّة الله بهم لا لمزية خاصة بهم ولا لطهارة سيرتهم وغيرتهم في الخدمة بل للإنجيل الذي نادوا به. فكان الرسل حيث توجهوا للشهادة للمسيح كأنهم يكسرون بينهم قوارير الطيب وكانت ثيابهم كأنها ينتشر منها رائحة المر واللبان.
فِي ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ… يَهْلِكُونَ هما قسمان من الناس بشروا بالإنجيل ويعرف كل إنسان من أي ذينك القسمين هو بمعاملته للإنجيل. فالله يسر بإنجيله والمبشيرين به إن قبله الناس وخلصوا أو رفضوه وهلكوا. وبولس أيضاً سرّ بأن يكون حاملاً الإنجيل مع أنه كان يجهل ما يعلمه الله وحده من تأثيره في قلوب سامعيه. فالإنجيل كضوء الشمس فإن كانت العين سليمة سُرت به وإن كانت رمداء تألمت منه وربما تلفت. وأشار الرسول إلى ذينك القسمين بقوله «إِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ١٨ انظر أيضاً متّى ٢١: ٤٤ ولوقا ٢: ٣٤ ويوحنا ٩: ٣٩) فإن كان الرسول قد قصد هنا الإشارة إلى الموكب المذكور في (ع ١٤) فقد أصاب لأن بعض الذين ساروا في ذلك الموكب كانوا ظافرين ذاهبين ليأخذوا الأكاليل والهدايا وبعضهم كانوا أسرى ذاهبين إلى الموت في نهاية الاحتمال.
١٦ «لِهٰؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ. وَمَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».
متّى ٢١: ٤٤ ولوقا ٢: ٣٤ ويوحنا ٩: ٣٩ و١بطرس ٢: ٧ و٨ و١كورنثوس ١٥: ١٠ و ص ٣: ٥ و٦
لِهٰؤُلاَءِ الذين يرفضون الإنجيل ويهلكون.
رَائِحَةُ لم بييّن ما الذي أراده بالرائحة ألمسيح هو أم المبشرون به أم إنجيله فإنها تصدق على كل من ذلك لأنها إما واسطة حياة للبعض وإما واسطة موت للآخر. فإن كان المراد بها المسيح فهو على وفق قوله «فَلَكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُؤْمِنُونَ (بالمسيح) ٱلْكَرَامَةُ، وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ فَٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ، وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ» (١بطرس ٢: ٧ و٨). وإن كان المراد بها المبشرين فهو على وفق قول المسيح في الرسل الاثني عشر «حِينَ تَدْخُلُونَ ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ٱلْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ… اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ» (متّى ١٠: ١٢ – ١٥). وقوله للسبعين في (لوقا ١٠: ٩ – ١٢). وإن كان المراد بها الإنجيل فهو على وفق قوله «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّور… وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ» (يوحنا ٣: ١٩ و٢١ انظر أيضاً يوحنا ١٥: ٢٢) ولنا من هذا أنه خير للإنسان أن لا يسمع الإنجيل من أن يسمعه ويرفضه.
مَوْتٍ أي مميت. وهو قيد الرائحة لغير المؤمنين فإن الله قصد أنها تكون للحياة لكنهم حولوها إلى سم وهذا كقول الرسول في الشريعة «وُجِدَتِ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ» (رومية ٧: ١٠).
وَلأُولٰئِكَ أي المؤمنين.
رَائِحَةُ حَيَاةٍ أي محيٍ وعلة حياة للذين يقبلونه فإنهم عرفوا به أن المسيح هو القيامة والحياة فقبلوه فكان لهم مصدر الحياة الأبدية. وقوله «موت لموت» و «حياة لحياة» إشارة إلى تدرجهم في كل من الأمرين لأن غير المؤمنين بمقاومتهم الحق ينتقلون من الموت الأدبي في الذنوب والخطايا في هذا العالم إلى الموت الأدبي والأبدي الذي هو الموت الثاني في العالم الآتي. ولأن المؤمنين يحيون هنا بالإيمان بالمسيح والاتحاد به فيتقدسون يوماً فيوماً بروحه إلى أن ينالوا الحياة الدائمة في السماء. وما قاله الرسول هنا في الإنجيل قاله الربانيون اليهود في الناموس. وما قيل هنا من أن الإنجيل علة الموت أو الحياة لا ينافي ما قيل في مواضع كثيرة من كتاب الله إن الخطيئة وحدها هي علة الموت وأن المسيح وحده هو علة الخلاص لأن الرسول وصف هنا نتيجة التبشير بالإنجيل حاسباً الناس كلهم خطأة وهالكين بخطاياهم وأبان طريق النجاة لكل الذين هم عرضة للموت فرفضه بعضهم فكان لهم علة زيادة الدينونة وقبله بعضهم فكان لهم علة الحياة الفضلى.
مَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ من استفهامية أي من هو أهل لأن يبشر بالإنجيل كما يجب وهو إما علة الموت الأبدي للسامع وإما علة الحياة الأبدية له. وجواب هذا السؤال قوله «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا… بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰهِ» (ص ٣: ٥). وقوله في الآية الآتية ما معناه أنه من الواضح أن المعلمين الكاذبين الذين يفسدون كلام الله لغاياتهم الدنيوية ليسوا بأهلاً للمناداة بالإنجيل. ومع أنه لم يدع أنه هو أهل لذلك من نفسه صرّح بأنّه أهل له بالنظر إلى المعونة السماوية. وخلاصة جوابه «إني بنعمة الله أهل لتلك الخدمة».
١٧ «لأَنَّنَا لَسْنَا كَٱلْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، لٰكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ ٱللّٰهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللّٰهِ فِي ٱلْمَسِيحِ».
ص ٤: ٢ و١١: ١٣ و٢بطرس ٢: ٣ ص ١: ١٢ و٤: ٢
لأَنَّنَا هذا تعليل لما سبق وبيان لأهليته بتمييز نفسه عن كذبة المعلمين.
كَٱلْكَثِيرِينَ أشار بهم إلى معهودين من كذبة المعلمين الذين ذكرهم مراراً في هذه الرسالة. ولا يُظن من ذلك أن بولس اعتبر أكثر المبشرين في الكنيسة خادعين لكن أراد أن الخادعين لم يكونوا قليلين وكان بعضهم ممن تمسكوا بالآراء اليهودية والتقاليد الفريسيّة وبعضهم اعتقد صحة بعض آراء الفلاسفة اليونانيين وبعضهم أنكر القيامة.
غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ بمزجها بكلام الناس من آراء فلسفية أو يهودية.
كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ أي كالمخلصين الذين غايتهم خالصة من شوائب الخداع تحتمل أشد الفحص والامتحان ولا يقصدون سوى الحق الصريح المعلن من السماء.
بَلْ كَمَا مِنَ ٱللّٰهِ أي باعتبار كوننا مولودين من الله وهو قد مسحنا وأرسلنا ويقودنا ونحن موقوفون له ومتكلمون بكلامه. وهذا على وفق قول المسيح «اَلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ ٱللّٰهِ. لِذٰلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٨: ٤٧). جاء في نبوة إشعياء ما نصه «تَطَهَّرُوا يَا حَامِلِي آنِيَةِ ٱلرَّبِّ» فوجب على الذين يبشرون باسم الله القدوس أن يكونوا قديسين.
ِنَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللّٰه نشعر بحضوره وسمعه ومراقبته إيانا وهذا أعظم الموانع من أن يقصد أحد منا بتبشيره الربح الدنيوي ورضى الناس ويلجئه إلى أن يتكلم بالوقار والأمانة والغيرة على مجد سيده.
فِي ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق «بنتكلم» لأن المسيح موضوع كل تعاليم الرسل وهم متحدون به أعضاء جسده ومتعلمون ومنقادون بروحه القدوس. وقد صرّح بولس أنه ورفقاءه أهل لتلك المسؤولية الخطيرة التي هي إما رائحة حياة لحياة السامعين وأو رائحة موت لموتهم لأنهم لم يمزجوا كلام الله بتقاليد أو فلسفة أو غيرهما من التعاليم البشرية طمعاً في الربح الدنيوي أو رضى الناس فهم مخلصون وعبيد الله واقفون في حضرته يتصرفون تصرف المسيحيين الحقيقيين.
فوائد
- إنه في هذا الأصحاح بيان لرفق بولس ولينه وبالنتيجة وجوب أن يكون ذلك من صفات كل راعٍ مسيحي وأدلة ذلك أربعة:
- الأول: حذره من أن يأتي بشيء يدل على أنه يقصد إيلام المذنب.
- الثاني: إنه لم يأمر بشيء من أنواع التأديب إلا ما يقتضيه العدل وحفظ النظام.
- الثالث: إنه أتى ذلك بدموع كثيرة.
- الرابع: إنه لم يذكر اسم المذنب ولا ما يدل عليه. ولنا من هذا أن نعرف الأسلوب اللائق في إجراء التأديب الكنسي (ع ١ – ١٠).
- إنه يجب علينا إذا أذنب أخ ثم تاب أن نغفر له حالاً ولا نترك في قلوبنا شيئاً من الحقد عليه أفراداً وكنيسة (ع ٧ و٨).
- إن على الكنائس الحذر من أن يطمع الشيطان فيها فإنه لا يفتر أن يجتهد في ذلك بكل الوسائل ولا سيما التأديب الكنسي وذلك بثلاث طرق:
- الأولى: أن يغري الكنيسة بإهمال التأديب الواجب حين يكون المذنب غنياً أو وجيهاً وله في الكنيسة أصحاب كثيرون يتحزبون له.
- الثانية: إنه يحملها على القساوة الزائدة في التأديب لأمور زهيدة كالخلاف في الأمور العرضية في العقائد.
- الثالثة: إن يصوّب لهم عدم قبول المذنب بعد توبته واعترافه (ع ١١).
- إنه يجب على الأفراد المسيحيين ما يجب على الكنيسة من أن يحذروا أن يطمع الشيطان فيهم وذلك بخمس طرق:
- الأولى: أن يغريهم بأن يسلكوا سلوك أهل العالم فيشاركوهم في ملاهيهم وأزيائهم.
- الثانية: أن يحملهم على التراخي في الدين وعلى قبول بعض الضلالات كأنها من العرضيات وبذلك تبطل شهادتهم للحق.
- الثالثة: أن يلقيهم في اليأس والوسواس فيحمل غير المؤمنين على تجنّب الديانة المسيحية كأنها تمنع أهلها من المسرّات الجائزة.
- الرابعة: أن يحملهم على الإفراط في التعصب حتى يبغضوا من لا يوافقهم في آرائهم ويضطهدوه.
- الخامسة: أن يحملهم على الانشقاق والتحزب (ع ١١).
- إنه على غير المؤمنين أن يحذروا من طمع الشيطان فيهم أكثر من أن يحذر غيرهم من ذلك وهو يحاول ذلك بأربع طرق:
- الأولى: إنه يجعلهم آمنين من العقاب يوم الدين.
- الثانية: إنه يجعلهم أن يؤخروا الاستعداد للموت.
- الثالثة: إنه يضلهم عن مطاليب الدين فيسهل لهم الخلاص تارة ويوعّره عليهم أخرى.
- الرابعة: إنه يقنع الشيخ بأن قد مضى وقت التوبة وطلب الخلاص والشاب بأن وقته وقت الفرح واللهو لا وقت التقوى فإن وقتها في الشيخوخة (ع ١١).
- إنه كثيراً ما يرى بعض المبشرين ثمرة تبشيرهم في هذا العالم. فإنه كثرت المصائب على بولس لكن كانت له سبب للمسرة والشكر وهو «إن تعبه ليس باطلاً في الرب» (ع ١٤).
- إن الراعوية خدمة سارة وكثيراً ما تكون رائحة حياة للحياة. ولا سرور أعظم من سرور خدمة الإنجيل حينما يأتون بكثيرين إلى التوبة والإيمان ويعزون المرضى والمصابين بتعزية الديانة ويهدون الضالين ويرشدون الخطأة إلى حمل الله الرافع خطايا العالم.
- إن ما قيل هنا يبيّن أهمية عمل المبشرين فإن نتيجته أبدية ونتائج غيره من الأعمال وقتية. والخلاصة إن خلاص النفوس الأبدي متوقف على أمانة المبشرين (ع ١٥ و١٦).
- إن الخدَمة الأمناء يثابون على أعمالهم بقطع النظر عن نتائجها فإنه تعالى ينظر إلى أمانتهم لا إلى أثمار أعمالهم فهم رائحة زكية لله قبل الناس تبشيرهم أم رفضوه. نعم إن كثيرين يسمعون الإنجيل ويهلكون ولكن علة ذلك رفضهم إياه فلا مدخل فيه للمبشر الأمين ولا للإنجيل (ع ١٥).
- إن خدمة الراعي كثيراً ما تدعوه إلى الحزن لمعرفته إن بعض الذين يسمعون الإنجيل يهلكون فتكون دينونتهم أعظم من دينونة من لم يسمعوه فلا يكون لهم الإنجيل سوى رائحة موت للموت.
- إن تأثير الإنجيل في السابع متوقف على السامع نفسه وهذا لا ينافي حث الروح القدس على قوله فله أن يقبل أو يرفض. إن الشمس علة حياة بعض اغصان الشجرة وعلة موت بعضها فإن كان الغصن ثابتاً في شجرته والشجرة ثابتة في منبتها أحيته وإن كان منفصلاً عنها أو كانت مقلوعة أيبسته وأماتته فكذا يكون الإنجيل حياة للبعض وموتاً للآخر (ع ١٦).
- إن مسؤولية سامعي البشارة عظيمة لأنه على سمعهم تتوقف حالهم الأبدية فإن قبلوها خلصوا وإن رفضوها وأصروا على ذلك هلكوا إلى الأبد. والذي خاطبهم لم يخاطبهم بكلام نفسه بل بكلام الله فالله هو الذي خاطبهم بواسطته (ع ١٦).
- إنه ينتج مما سبق وجوب أن تصلي الرعية من أجل راعيها وكثيراً ما طلب بولس من الكنائس أن تصلي من أجله. وإذ كان هو قد افتقر إلى تلك الصلاة فبالأولى أن يفتقر إليها المبشرون اليوم. ومما يوجب على الرعية تلك الصلاة أن الراعي ضعيف معرّض لتجارب ومقاومات كسائر المسيحيين ومعرّض فوق ذلك لمقاومات خاصة فإن الشيطان يحاربه أشد مما يحارب غيره باعتبار كونه قائد الجيش الروحي والعمل الموكول إليه أعظم من سائر الأعمال التي وكلت إلى البشر. وكثرة نجاحه أو قلته متوقفة على كثرة صلاة الرعية أو قلتها.
-
إنه على المبشرين أن يحذروا من أن يغشوا كلمة الله وأن يبشروا بها بكل أمانة وإخلاص فلا يمزجوها بفلسفة البشر أو تقاليدهم أو تصوراتهم أو بغير ذلك من البدع المذهبية (ع ١٧).
السابق |
التالي |