سفر راعوث | 01 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر راعوث
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
مضمونه: الجوع في أرض يهوذا وتغرب أليمالك وامرأته نُعمي وابنيهما في بلاد موآب وموت أليمالك وزيجة ابنيه بموآبيتين عرفة وراعوث وموتهما ورجوع نُعمي إلى بيت لحم وتعلّق راعوث بحماتها بمحبة شديدة وتركها وطنها وأهلها وآلهتها وذهابها مع نُعمي إلى بيت لحم.
١ « حَدَثَ فِي أَيَّامِ حُكْمِ ٱلْقُضَاةِ أَنَّهُ صَارَ جُوعٌ فِي ٱلأَرْضِ، فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا لِيَتَغَرَّبَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ هُوَ وَٱمْرَأَتُهُ وَٱبْنَاهُ».
قضاة ٢: ١٦ تكوين ١٢: ١٠ و٢٦: ١ و٢ملوك ٨: ١ قضاة ١٧: ٨
أَيَّامِ حُكْمِ ٱلْقُضَاةِ من مصلحة القاضي أن يسمع الدعاوي ويحكم فيها حسب الشريعة وزيد على ذلك في الزمان المذكور الحكم في الأمور السياسية إجمالاً كملك الشعب في الحرب أحياناً وقيادته. والأرجح أن الحوادث المذكورة في هذا السفر كانت في أيام عالي المذكور في صموئيل الأول الذي كان كاهناً وقاضياً معاً.
صَارَ جُوعٌ قيل إن ذلك الجوع كان في أيام جدعون وكان نتيجة غزوات المديانيين والأرجح أنه كان في أيام عالي من عدم المطر أو قلّته. وحدوث الجوع في أرض بيت لحم المشهورة بالخصب والإقبال دليل على أنه كان عمومياً وشديداً.
بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا كان بيت لحم أخرى في سهم زبولون (يشوع ١٩: ١٥). وبيت لحم يهوذا هذه على بُعد ستة أميال من أورشليم نحو الجنوب الشرقي مبنيّة على أكمة تحيطها التلال التي تكسوها أشجار التين والكرم والزيتون والأودية المحيطة بها مخصبة فيها القمح والشعير فتستحق المدينة اسمها الذي معناه الأصلي بيت الطعام. دُفنت راحيل قربها (تكوين ٣٥: ١٦ – ٢٠) ووُلد داود فيها وتربّى وفي جوارها كان يرعى الغنم ووُلد فيها يسوع وهو ابن داود حسب الجسد.
بِلاَدِ مُوآبَ وهي شرقي بيت لحم في عبر بحر لوط وتخمها الشمالي نهر أرنون بينها وبين أرض سبط رأوبين وكانت بلاداً مخصبة مشهورة لكثرة الغنم والمواشي كثيرة السكان الذين بينهم وبين الإسرائيليين حروب كثيرة ولكن في زمان أليمالك وفي أول مُلك داود كان صلح بين الفريقين. ولم يذهب أليمالك غرباً إلى أرض الفلسطينيين لوجود عداوة وحروب بينهم وبين الإسرائيليين كما يظهر من نبإ شمشون في سفر القضاة وعالي في سفر صموئيل الأول.
٢ «وَٱسْمُ ٱلرَّجُلِ أَلِيمَالِكُ، وَٱسْمُ ٱمْرَأَتِهِ نُعْمِي، وَٱسْمَا ٱبْنَيْهِ مَحْلُونُ وَكِلْيُونُ أَفْرَاتِيُّونَ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا. فَأَتَوْا إِلَى بِلاَدِ مُوآبَ وَكَانُوا هُنَاكَ».
تكوين ٣٥: ١٩ قضاة ٣: ٣٠
وَٱسْمُ ٱلرَّجُلِ أَلِيمَالِكُ، وَٱسْمُ ٱمْرَأَتِهِ نُعْمِي معنى الاسم «أليماك» الله ملك. ومعنى الاسم «نُعمي» النعمة والرضى والقبول والحلاوة وعكس المرارة (ع ٢٠). والظاهر أنهما لم يكونا من الفقراء أصلاً لأن نُعمي قالت (ع ٢٠) «ذهبت ممتلئة» وقيل «إن المدينة كلها تحركت عند رجوعها بسببها وقالوا أهذه نُعمي» إشارة إلى الفرق ما بين حالها لما ذهبت وحالها لما رجعت. وكان بوعز والنسيب الآخر (ص ٤: ١ – ٨) من ذوي الاعتبار.
أَفْرَاتِيُّونَ كان أفراتة اسم قديم لبيت لحم (تكوين ٣٥: ١٩) ونستنتج من القول أن أليمالك وأهل بيته لم يكونوا غرباء أو محدثين في بيت لحم بل من أهلها القدماء.
فَأَتَوْا إِلَى بِلاَدِ مُوآبَ بحث المفسرون في جواز التغرب في بلاد وثنية فحكموا أن المهاجرة قد تكون جائزة واجبة. قال الله لنوح وبنيه «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ» (تكوين ٩: ١). ولما يكثر الناس في مكان يهاجر بعضهم إلى مكان آخر أرضه متسعة وخيراته كثيرة وهكذا يهاجر الآسيويون والأوربيون إلى أميركا وأوستراليا وغيرهما من الأراضي الجديدة. ولكن على المهاجرين أن يطلبوا ما يوافق النفس والحياة الروحية وليس فقط ما للجسد إذ لا تنفع الإنسان كثرة الخيرات الجسدية إذا خسر هو وأولاده في الأدب والدين (متّى ٦: ٣٣).
٣، ٤ «٣ وَمَاتَ أَلِيمَالِكُ رَجُلُ نُعْمِي، وَبَقِيَتْ هِيَ وَٱبْنَاهَا. ٤ فَأَخَذَا لَهُمَا ٱمْرَأَتَيْنِ مُوآبِيَّتَيْنِ، ٱسْمُ إِحْدَاهُمَا عُرْفَةُ وَٱسْمُ ٱلأُخْرَى رَاعُوثُ. وَأَقَامَا هُنَاكَ نَحْوَ عَشَرِ سِنِينٍ».
وبحث المفسرون في أمر زيجة ابني أليمالك بالموآبيات. وقيل في الترجوم أنهما تعديا وصية الرب فأخذا أجنبيتين. ولكن ما ورد في (تثنية ٧: ٣) فهو نهي عن مصاهرة الكنعانيين. والحكم في هذا الأمر هو أن الزيجة يجب أن تكون في الرب (١كورنثوس ٧: ٣٩) أي أن لا يأخذ المؤمن إلا مؤمنة ولا تأخذ المؤمنة إلا مؤمناً. ولكن في سفر راعوث لا شيء من اللوم على أليمالك ولا على ابنيه ولذلك نحن لا نلومهم. ولعلهم عرفوا أن المرأتين كانتا فاضلتين مستعدتين لقبول الدين الحق.
نَحْوَ عَشَرِ سِنِينٍ لا خبر عما حدث لها فيها إلا الخبر بموت أليمالك وزيجة ابنيه وموتهما وفي هذا الخبر ما يكفي من الحزن.
٥ «ثُمَّ مَاتَا كِلاَهُمَا مَحْلُونُ وَكِلْيُونُ، فَتُرِكَتِ ٱلْمَرْأَةُ مِنِ ٱبْنَيْهَا وَمِنْ رَجُلِهَا».
فَتُرِكَتِ ٱلْمَرْأَةُ مِنِ ٱبْنَيْهَا وَمِنْ رَجُلِهَا فأصبحت في حالة يُرثى لها. قال أحد المفسرين إذا سُئل مَن مِن الجنسين يُرثى له أكثر من غيره نقول المرأة لأنها أضعف. ومن النساء العجائز ومن العجائز الأرامل ومن الأرامل المثاكيل ومن المثاكيل الفقيرات ومن الفقيرات المتغربات. فاجتمعت هذه كلها في نُعمي. ولكن الرب لم يتركها وهو أفضل البركات ومصدرها فأعطاها كنة فاضلة وأرجعها إلى بلادها وبنى لها بيتاً وأقام لها من كان أفضل من الرجل والأولاد.
٦ «فَقَامَتْ هِيَ وَكَنَّتَاهَا وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ، لأَنَّهَا سَمِعَتْ فِي بِلاَدِ مُوآبَ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدِ ٱفْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزاً».
خروج ٤: ٣١ ولوقا ١: ٦٨ مزمور ١٣٢: ١٥ ومتّى ٦: ١١
وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ قيل في نُعمي وحدها أنها رجعت إلى بيت لحم لأن عُرفة شيّعتها قليلاً فقط وربما إلى مخاضة أرنون أو إلى مخاضة الأردن وراعوث لم تكن من بيت لحم أصلاً حتى يُقال فيها أنها رجعت. ولعلّ نُعمي رأت أن ذهابها من بيت لحم غلط وابتعاد عن الله فكان رجوعها إلى بيت لحم رجوعاً إلى الله أيضاً.
لأَنَّهَا سَمِعَتْ من الذين أتوا من أرض إسرائيل فلا يلزم الظن أن الرب كلّمها برؤيا أو ملاك.
ٱلرَّبَّ قَدِ ٱفْتَقَدَ شَعْبَهُ نظر إليهم ورضي عنهم وكان اعتقادهم أن الخصب وانحباس المطر من الرب فكان الخصب علامة رضاه وانحباس المطر علامة غضبه وهكذا نعتقد اليوم مع كل معرفتنا بالنواميس الطبيعية.
لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزاً يُكنى بالخبز عن كل أنواع الطعام.
٧، ٨ «٧ وَخَرَجَتْ مِنَ ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَتْ فِيهِ وَكَنَّتَاهَا مَعَهَا، وَسِرْنَ فِي ٱلطَّرِيقِ لِلرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا. ٨ فَقَالَتْ نُعْمِي لِكَنَّتَيْهَا: ٱذْهَبَا ٱرْجِعَا كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ أُمِّهَا. وَلْيَصْنَعِ ٱلرَّبُّ مَعَكُمَا إِحْسَاناً كَمَا صَنَعْتُمَا بِٱلْمَوْتَى وَبِي».
يشوع ٢٤: ١٥ و٢تيموثاوس ١: ١٦ و١٧ و١٨ ع ٥ وص ٢: ٢٠
فَقَالَتْ نُعْمِي لِكَنَّتَيْهَا: ٱذْهَبَا هذا القول يدل على محبتها المخلصة فإنها بلا شك كانت تحب أنهما تبقيان معها ولكنها نظرت إلى ما يوافقهما وليس إلى ما يوافقها وعرفت أن أرض يهوذا تكون لهما أرض غريبة ليس لهما فيها أهل أو أصدقاء وعرفت أيضاً نفور اليهود الديني من جميع الأجانب وعدم الرجاء بزيجتهما في أرض يهوذا.
إِلَى بَيْتِ أُمِّهَا هذا القول لا ينفي وجود أبوين لهما وقد ذُكر أب لراعوث (ص ٢: ١١) ولكن الأم قريبة لبناتها أكثر من الأب ولا سيما في وقت الحزن.
كَمَا صَنَعْتُمَا بِٱلْمَوْتَى وَبِي شهدت نُعمي بحسن سلوكهما. وشهدت لنفسها أيضاً غير أنها لم تقصد ذلك فإنها كانت ربة البيت ولولا محبتها وصبرها وحكمتها لما كان في البيت ما يسرّ.
٩، ١٠ «٩ وَلْيُعْطِكُمَا ٱلرَّبُّ أَنْ تَجِدَا رَاحَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي بَيْتِ رَجُلِهَا. فَقَبَّلَتْهُمَا، وَرَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ. ١٠ فَقَالَتَا لَهَا: إِنَّنَا نَرْجِعُ مَعَكِ إِلَى شَعْبِكِ».
ص ٣: ١
تَجِدَا رَاحَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي بَيْتِ رَجُلِهَا حسب عادات الشرق ولا سيما في القديم لم يكن لغير المتزوجات عمل في التجارة أو الصنائع أو التعليم أو في خدمة المرضى كما عندنا اليوم.
فَقَبَّلَتْهُمَا وَرَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ في البكاء مرارة وفيه تعزية أيضاً لأنه دليل على المحبة ولولا محبتهن لما بكين. فما أعظم محبة هذه الحماة لكنتيها ومحبتهما لها ويندر وجود محبة كهذه بين الحماة والكنة. قيل لو كان جميع الحموات مثل نُعمي لكان جميع الكنات مثل عُرفة وراعوث. ولا شك أنه كان فيهن عيوب وخطايا كما في جميع بني البشر ولكن المحبة تستر كل الذنوب.
١١ – ١٣ «١١ فَقَالَتْ نُعْمِي: ٱرْجِعَا يَا بِنْتَيَّ. لِمَاذَا تَذْهَبَانِ مَعِي؟ هَلْ فِي أَحْشَائِي بَنُونَ بَعْدُ حَتَّى يَكُونُوا لَكُمَا رِجَالاً؟ ١٢ اِرْجِعَا يَا بِنْتَيَّ وَٱذْهَبَا لأَنِّي قَدْ شِخْتُ عَنْ أَنْ أَكُونَ لِرَجُلٍ. وَإِنْ قُلْتُ لِي رَجَاءٌ أَيْضاً بِأَنِّي أَصِيرُ هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ لِرَجُلٍ وَأَلِدُ بَنِينَ أَيْضاً، ١٣ هَلْ تَصْبِرَانِ لَهُمْ حَتَّى يَكْبُرُوا؟ هَلْ تَنْحَجِزَانِ مِنْ أَجْلِهِمْ عَنْ أَنْ تَكُونَا لِرَجُلٍ؟ لاَ يَا بِنْتَيَّ. فَإِنِّي مَغْمُومَةٌ جِدّاً مِنْ أَجْلِكُمَا لأَنَّ يَدَ ٱلرَّبِّ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيَّ».
تكوين ٣٨: ١١ وتثنية ٢٥: ٥ قضاة ٢: ١٥ وأيوب ١٩: ٢١ ومزمور ٣٢: ٤ و٣٨: ٢ و٣٩: ٩ و١٠
ذكرت نُعمي أموراً مستحيلة منها أنها تتزوج وإذا تزوجت تلد بنين وإذا ولدت بنين وربتهم فعرفة وراعوث لا تنحجزان من أجلهم. ولعل في بالها أمراً آخر من الأمور المستحيلة حسب الظاهر وهو أنهما تجدان في بيت لحم رجلين يرضيان أن يتزوجا موآبيات. وخلاصة كلامها أنتما شابتان وليس لكما راحة إلا في الزيجة وفي بيت لحم لا أحد يتزوج موآبية. كنت أحب أن أزفكما إلى بعض أولادي حسب شريعة موسى (تثنية ٢٥: ٥ وتكوين ٣٨) ولكن ليس لي أولاد ولا أمل أن يصير لي أولاد. فإذاً أشير عليكما أن تبقيا في بلادكما وتتزوجان من جنسكما الموآبيين.
لاَ يَا بِنْتَيَّ لم تقل كنتيّ بل بنتيّ دليلاً على المحبة.
فَإِنِّي مَغْمُومَةٌ جِدّاً مِنْ أَجْلِكُمَا لم تقل من أجل نفسي لأن اهتمامها هو لأجلهما وهذا أيضاً دليل على محبة شديدة.
يَدَ ٱلرَّبِّ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيَّ اعترفت بأن كل مصائبها من الرب ولكن معنى الكلام أنها سلّمت للرب وأقرّت بأنها مستحقة التأديب.
١٤ «ثُمَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ أَيْضاً. فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا، وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا».
أمثال ١٧: ١٧ و١٨: ٢٤
فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا أي ودّعتها ورجعت إلى بلاد موآب. ولا نلومها على ذهابها لأنها كانت سلكت حسناً مع رجلها وحماتها وأظهرت محبتها لحماتها إذ شيّعتها وقبّلتها وفي الآخر عملت كما أشارت نُعمي عليها. ولعلها تاقت إلى أمها وأهل بيتها وأرادت خدمتهم والسلوك الحسن عندهم.
لَصِقَتْ بِهَا وهذا القول يذكرنا ما جاء في تكوين ٢: ٢٤ «لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» وهكذا حصل لنُعمي وراعوث.
١٥ «فَقَالَتْ: هُوَذَا قَدْ رَجَعَتْ سِلْفَتُكِ إِلَى شَعْبِهَا وَآلِهَتِهَا. اِرْجِعِي أَنْتِ وَرَاءَ سِلْفَتِكِ».
قضاة ١١: ٢٤ يشوع ٢٤: ١٥ و١٩
اِرْجِعِي أَنْتِ وَرَاءَ سِلْفَتِكِ كانت نُعمي تحب أن كنتها تبقى معها ولو تركتها راعوث لكان ذلك لها من أعظم الأحزان. ولكنها من محبتها المخلصة واهتمامها لراحة راعوث لا لراحة نفسها نصحت لها أن ترجع إلى موآب. ولا نستنتج من ذكرها آلهة موآب أنها اعتقدت أنها أفضل من إله إسرائيل أو أنه لا فرق أو أن إله إسرائيل هو لإسرائيل وآلهة موآب هي لموآب. ولعل معنى قولها هو أن راعوث في ذلك الوقت لم تكن قد تركت آلهة موآب وأرادت نُعمي أن تبيّن لها ما عليها من التعب والخسارة إذا ذهبت معها إلى بيت لحم وأن تذكرها أن ذهابها معها يقتضي أيضاً ترك مذهبها الديني. وكانت نُعمي تسرّ جداً إذا اختارت راعوث الذهاب معها والانضمام إلى شعب الله ولكنها أرادت أنها تختار لنفهسا بالحرية بعد التأمل والمعرفة وحساب النفقة. ولبيان آلهة موآب (انظر عدد ٢٥: ١ – ٥ وهوشع ٩: ١٠) التي يظهر منها أن الموآبيين عبدوا بعل فغور وكان في تلك العبادة قبائح وقساوة. (وانظر أيضاً قضاة ١١: ٢٤) التي يظهر منها ومن آيات غيرها أن الموآبيين عبدوا كموش.
١٦، ١٧ «١٦ فَقَالَتْ رَاعُوثُ: لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجِعَ عَنْكِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ وَحَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ. شَعْبُكِ شَعْبِي وَإِلٰهُكِ إِلٰهِي. ١٧ حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ. هٰكَذَا يَفْعَلُ ٱلرَّبُّ بِي وَهٰكَذَا يَزِيدُ. إِنَّمَا ٱلْمَوْتُ يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ».
٢ملوك ٢: ٢ و٤ و٦ ص ٢: ١١ و١٢ و١صموئيل ٣: ١٧ و٢٥: ٢٢ و٢صموئيل ١٩: ١٣ و٢ملوك ٦: ٣١
إن جواب راعوث يعبّر عن عواطف قلبها بعبارات مؤثرة جميلة فصيحة مستعملة في كل القرون للتعبير عن المحبة الطاهرة المخلصة. وفي جوابها ادحضت كل ما تقدر نُعمي أن تقوله. فإذا قالت إن ليس لها بيت قالت راعوث «حيثما بتّ أبيت». وإذا قالت أنها تكون أجنبية في بلاد إسرائيل وعابدة آلهة غريبة قالت راعوث «شعبك شعبي وإلهك إلهي». وإذا قالت لا يكون لك فرح في حياتك في بلاد إسرائيل قالت راعوث «إنه يكفيها إذا ماتت في أرض نُعمي ودُفنت في قبرها». ويظهر من كلامها أنها في أول الأمر طلبت الانضمام إلى شعب الله واعترفت بإيمانها بالإله الحقيقي لمجرد محبتها لنُعمي. وفي آخر كلامها حلفت بالرب دليلاً على أنها كانت اختارت الرب إلهاً لها دون آلهة موآب الكاذبة.
١٨ «فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا مُشَدِّدَةٌ عَلَى ٱلذَّهَابِ مَعَهَا كَفَّتْ عَنِ ٱلْكَلاَمِ إِلَيْهَا».
أعمال ٢١: ١٤
مُشَدِّدَةٌ عَلَى ٱلذَّهَابِ بعض الناس ينتظرون رأي غيرهم في كل عمل ولا يريدون أن يبتوا أمراً وحدهم ولا سيما في الدين وبعضهم يريدون التسلط على عقول هؤلاء الضعفاء الذين يميلون أحياناً إلى هذا وأحياناً إلى ذاك من المتسلطين فلا يثبتون على رأي. وأما راعوث فمن صفاتها الحميدة أنها كانت مشددة أي عرفت وفهمت وحكمت وثبتت على عزمها. ويظهر من (أعمال ١١: ٢٣) أن الرب يسر بالثابت ومن (يعقوب ١: ٦ – ٨) الرب لا يرضى بذي رأيين.
١٩ «فَذَهَبَتَا كِلْتَاهُمَا حَتَّى دَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ. وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهِمَا بَيْتَ لَحْمٍ أَنَّ ٱلْمَدِينَةَ كُلَّهَا تَحَرَّكَتْ بِسَبَبِهِمَا، وَقَالُوا: أَهٰذِهِ نُعْمِي؟».
متّى ٢١: ١٠ إشعياء ٢٣: ٧ ومراثي إرميا ٢: ١٥
ٱلْمَدِينَةَ كُلَّهَا تَحَرَّكَتْ وذلك لرجوع نُعمي بعد إقامتها عشر سنين في بلاد موآب ورجوعها بلا رجلها وأولادها بحال الفقر ولعلهم لاموها على تركها بلادها وتغرّبها عند الوثنيين وتزوّج ابنيها موآبيتين وقالوا إن مصائبها من الرب قصاصاً لخطاياها فنفروا منها كأنها مرفوضة وملعونة ولا شك أنهم نظروا إلى راعوث الموآبية وقالوا في قلوبهم أنهم لا يقبلونها ولا يعاشرونها. إن الضمير المتصل بالفعل قالوا حسب النص العبراني مؤنث إشارة إلى أن القائلين هم نساء المدينة.
٢٠ «فَقَالَتْ لَهُمْ: لاَ تَدْعُونِي نُعْمِيَ بَلِ ٱدْعُونِي مُرَّةَ، لأَنَّ ٱلْقَدِيرَ قَدْ أَمَرَّنِي جِدّاً».
لاَ تَدْعُونِي نُعْمِيَ بَلِ ٱدْعُونِي مُرَّةَ رأت أن الاسم نُعمي أي نعمة وإن كان اسم ملائم لها حينما خرجت من بيت لحم لا يوافق حالها حين الرجوع وهي حالة مرارة لا حالة نعمة.
لأَنَّ ٱلْقَدِيرَ قَدْ أَمَرَّنِي جِدّاً يدل على إيمانها بأن الله قادر على كل شيء ويعمل كما يريد وهي لا تقدر أن تقاومه. وبقوله إشارة إلى شعورها بأنها أخطأت ولكنها لم تجعل اللوم على رجلها الذي كان أخذها معه إلى موآب.
٢١ «إِنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ ٱلرَّبُّ فَارِغَةً. لِمَاذَا تَدْعُونَنِي «نُعْمِيَ» وَٱلرَّبُّ قَدْ أَذَلَّنِي وَٱلْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي؟».
أيوب ١: ٢١
ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً كانت ذهبت هي ورجلها بسبب الجوع ولكننا لا نستنتج من ذلك أنهما كانا وصلا إلى درجة العوز الكلي. ولعلها لم تفتكر بالمال كثر أو قلّ بل برجلها وابنيها الذين كانت قلوبهم ممتلئة بمحبتهم لها ومحبتها لهم عند ذهابها ورأت الآن أنها فارغة من تلك المحبة عند رجوعها. وكثّرت الألفاظ «أمرني… أذلني… كسرني» دليلاً على عظمة مصائبها وعدم رجائها.
٢٢ «فَرَجَعَتْ نُعْمِي وَرَاعُوثُ ٱلْمُوآبِيَّةُ كَنَّتُهَا مَعَهَا، ٱلَّتِي رَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ، وَدَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ فِي ٱبْتِدَاءِ حَصَادِ ٱلشَّعِيرِ».
خروج ٩: ٣١ و٣٢ وص ٢: ٢٣ و٢صموئيل ٢١: ٩
وهنا ما يشير إلى التعزية فإن لها محبة كنتها الفائقة العادة والانتظار ولها الوطن المحبوب الذي فيه فرائض الدين الحق ولها الرجاء بالرب الذي يعتني بالأرامل والفقراء عناية خاصة. وكان ابتداء حصاد الشعير رمزاً إلى ابتداء زمان الراحة والسرور وهذا كله سيظهر في الأصحاحات الآتية. وعندما ننظر إلى مصائب حياتنا في هذا العالم لا يجوز لنا القول إن الرب قد أمرّنا لأن مرارة حياتنا من خطايانا وضعف إيماننا وتمرّدنا وعصياننا. وأما الرب فقد حلّى حياتنا إذ غفر لنا خطايانا وأعد لنا طريق الخلاص والرجوع إليه حتى نقول في كل حين باركي يا نفسي الرب.
فوائد
- جوع في الأرض. أعظم من الجوع للخبز الجوع لاستماع كلمات الرب والجوع للمحبة لعدم وجودها والجوع للدين والصدق والعدل والرجاء (ع ١).
- أليمالك. الله هو ملك حتى في الجوع والموت (ع ٢).
- إن جميع الخيرات الجسدية تزول. أحباؤنا يموتون. أموالنا تصنع لنفسها أجنحة كالنسر فتطير. وأما الخيرات الروحية فهي أبدية والله لا يتغير (ع ١ – ٥).
- ما أحلى المدح في وقته ومدح من يستحق. فلا تذخر عندك الكلمات الطيبة حتى يكون أهل بيتك أو أصدقاؤك قد ماتوا بل امدحهم وهم أحياء وانظر فيهم الأمور الصالحة فتشجعهم وتشدد رُبط المحبة (ع ٨).
- إن أعظم فراق ليس فراق الموت ولا فراق البُعد الجسدي بل الفراق في الإيمان فيكون أحد الصديقين من عبدَة الله والآخر من عبدَة المال. يسلك الواحد في الطريق الواسعة التي تؤدي إلى الهلاك والآخر في الطريق الضيقة فيكون الواحد في جهنم والآخر في السماء (ع ١٤).
- إننا نقف أحياناً عند رأس طريقين ونختار منهما الطريق التي نرى فيها الراحة والربح والمجد العالمي ولكننا نجهل أن الطريق الواحدة للموت والأخرى للحياة. فعلينا في كل ما نختاره أن نسأل إرشاد الرب (ع ١٤).
- الحزن يوحّد القلوب (ع ١٦).
-
إن المصائب المرّة أحسن استعداد لبركات الله الحلوة (ع ٢٠ – ٢٢).
السابق |
التالي |