الرسالة إلى رومية | 11 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى رومية
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلْحَادِي عَشَرَ
في هذا الأصحاح إثبات مطلوبين وملحق فالمطلوب الأول أن رفض الله لليهود كان جزئياً لا كلياً (ع ١ – ١٠). والثاني أن ذلك الرفض وقتيٌّ لا أبديٌّ (ع ١١ – ٣٢) والملحق تمجيد الله على حكمته العظمى.
إن رفض الله لليهود كان جزئياً ع ١ إلى ١٠
١ «فَأَقُولُ: أَلَعَلَّ ٱللّٰهَ رَفَضَ شَعْبَهُ؟ حَاشَا! لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ».
١صموئيل ١٢: ٢٢ وإرميا ٣١: ٣٧ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ وفيلبي ٣: ٥
أخذ الرسول في بيان أن الله لم يرفض كل الأمة اليهودية ودليل ذلك أنه هو نفسه كان يهودياً.
أَلَعَلَّ ٱللّٰهَ رَفَضَ شَعْبَهُ؟ أي هل ترك كل شعبه اليهود (الذين لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد) تركاً أبدياً للهلاك الأبدي. أتى بهذا السؤال ليبيّن في الجواب ما قاله في رفضه تعالى لليهود في (ص ٩: ٦ – ٣٣).
حَاشَا! هذا تنزيه أراد به توكيد النفي ومعناه أن الله لم ينقض عهده لإبراهيم ولم يرفض اليهود كافة ولم يحرمهم نصيباً في ملكوت المسيح.
لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِسْرَائِيلِيٌّ وقد اختارني الله (أعمال ٩: ١٥) فأنا برهان على أن الله لم يرفض كل يهودي. ولعله أشار بقوله «أيضاً» إلى غيره من اليهود المؤمنين بالمسيح في كنيسة رومية.
رأى بعضهم أن بولس قصد بتلك العبارة أن كونه إسرائيلياً يمنعه من هذا الحكم الهائل على أنسبائه.
مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ زاد هذا على قوله أنه إسرائيلي إثباتاً لكونه إسرائيلياً أصيلاً لا دخيلاً.
٢ «لَمْ يَرْفُضِ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ ٱلَّذِي سَبَقَ فَعَرَفَهُ. أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مَاذَا يَقُولُ ٱلْكِتَابُ فِي إِيلِيَّا؟ كَيْفَ يَتَوَسَّلُ إِلَى ٱللّٰهِ ضِدَّ إِسْرَائِيلَ قَائِلاً».
ص ٨: ٢٩
لَمْ يَرْفُضِ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ ٱلَّذِي سَبَقَ فَعَرَفَهُ ذهب بعضهم أن المراد بهذا الشعب الأمة اليهودية عموماً التي عرفها الله أي اختارها من البدء من بين كل أمم الأرض أمينة على معرفة الله الحق وأسفار وحيه ممتازة بأن المسيح منها وذهب آخر أن المراد به شعبه الروحي الذي عرفه أي اختاره وارثاً للحياة الأبدية (ص ٩: ٦ – ٨). فعلى المذهب الأول يكون معنى العبارة كمعنى «حاشا» في (ع ١) ويكون جواب قوله «ألعل الله رفض شعبه» لم يرفضه كله فبعضه يخلص وبعضه يهلك. وعلى المذهب الثاني يكون جواب ذلك القول لم يرفض أحداً منه فكله ناج. والمراد على كلا المذهبين أنه لم يسقط شيء من وعد الله ولو هلك أكثر اليهود. ويصح هذا على الأول بأن ما وُعد به الكل أُنجر للبعض وهو «البقية» في (ع ٥) و «المختارون» في (ع ٧). ويصح على الثاني بأن الهالكين ليسوا من الشعب المختار. والمرجّح المذهب الأول وهو أن المراد «بالشعب» أمة اليهود كلها وإلاّ فلا محل للسؤال لأنه من المحال أن يرفض الله المختارين من اليهود كما أنه من المحال أن يرفض قديسيه الذين في السماء.
أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أي أنتم تعلمون كما في (ص ٦: ٣ و٩: ٢١). غاية الرسول هنا بيان أنه كما كان في أيام إيليا يكون اليوم فإن أكثر الناس سقطوا ولكن الله لم يرفض الكل بسقوط الأكثر بل حفظ عهده للبقية الأمينة.
يَقُولُ ٱلْكِتَابُ فِي إِيلِيَّا أي في كلامه على إيليا وعصره.
كَيْفَ يَتَوَسَّلُ إِلَى ٱللّٰهِ ضِدَّ إِسْرَائِيلَ أي يشكو الإسرائيليين.
٣ «يَا رَبُّ، قَتَلُوا أَنْبِيَاءَكَ وَهَدَمُوا مَذَابِحَكَ، وَبَقِيتُ أَنَا وَحْدِي، وَهُمْ يَطْلُبُونَ نَفْسِي».
١ملوك ١٩: ١٠ و١٤
هذه الآية مقتبسة من (١ملوك ١٩: ١٠ و١٤) على ما في ترجمة السبعين.
قَتَلُوا أَنْبِيَاءَكَ أي قتلهم الإسرائيليون بأمر آخاب وإيزابل.
وَهَدَمُوا مَذَابِحَكَ فإن قيل لماذا ذكر إيليا المذابح والله ليس له سوى مذبح واحد بمقتضى أمره في (لاويين ١٧: ٨ و٩ وتثنية ١٢: ١٣) فالجواب أن إيليا كان بين الأسباط العشرة الذين انفصلوا عن يهوذا وبنيامين فلم يكن لهم أن يذهبوا إلى أورشليم ليقدموا ذبائحهم على المذبح الذي في الهيكل فاعتاضوا عنه بمذابح بنوها في المرتفعات لله الحق (١ملوك ٣: ٢ – ٤) فكان هدم تلك المذابح دليلاً على ارتداد الشعب عن الله وكرههم عبادته.
بَقِيتُ أَنَا وَحْدِي من كل الأنبياء.
٤ «لٰكِنْ مَاذَا يَقُولُ لَهُ ٱلْوَحْيُ؟ أَبْقَيْتُ لِنَفْسِي سَبْعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ لَمْ يُحْنَوْا رُكْبَةً لِبَعْلٍ».
١ملوك ١٩: ١٨
مَاذَا يَقُولُ لَهُ ٱلْوَحْيُ إجابة له على شكواه.
أَبْقَيْتُ لِنَفْسِي هذا معنى قوله تعالى في (١ملوك ١٩: ١٨).
لَمْ يُحْنَوْا رُكْبَةً لِبَعْلٍ أي لم يعبدوه. وكان بعل إله الفينقيين وهم اعتبروا أن الشمس والمشتري من مظاهره فعبدوه بعبادتهم إياهما وعبدوا معه عشتروث وهي عندهم إلاهة من مظاهرها القمر والزهرة. والسبعة الآلاف في الآية هم الذين بقوا أمناء لله وأكثر الشعب تركوا الله وعبدوا بعلاً وعشتروث.
٥ «فَكَذٰلِكَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ أَيْضاً قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ ٱخْتِيَارِ ٱلنِّعْمَةِ».
ص ٩: ١١ و٢٧
فَكَذٰلِكَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ أي كان في زمان الرسل كما كان في زمان إيليا من ارتداد الأكثرين عن الله وبقاء قليلين معه فإن أكثر اليهود رفض المسيح والخلاص بواسطته وقليلين منهم بالنسبة إلى كثرتهم آمنوا به وخلصوا. وهذا (أي وجود بقية) موافق لقول الشيوخ في كنيسة أورشليم «أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا ٱلأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا» (أعمال ٢١: ٢٠).
بَقِيَّةٌ حَسَبَ ٱخْتِيَارِ ٱلنِّعْمَةِ في هذا إثبات أمرين الأول بقاء شرذمة أمينة لله في كل الأزمنة حتى وقت معظم ارتداد اليهود عنه تعالى. والثاني إن بقاء تلك الشرذمة له من مجرد نعمته لأنه اختارها وحفظها من السقوط. وغايته من إثبات الأول غايته من هذا الفصل كله وهي بيان أن رفض الله اليهود جزئي لا كلي. وغايته من إثبات الثاني بيان علّة إبقاء تلك الشرذمة.
٦ «فَإِنْ كَانَ بِٱلنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِٱلأَعْمَالِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ ٱلنِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِٱلأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً، وَإِلاَّ فَٱلْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً».
تثنية ٩: ٤ و٥ وص ٤: ٤ و٥ وغلاطية ٥: ٤
هذه الآية تفسير «اختيار النعمة» في الآية السابقة وبيان أن الاختيار علّة طاعة الشرذمة المذكورة لا أن طاعتها علّة اختيارها. وأنه لا يمكن أن يُفرض سوى وسيلتين إلى الاختيار للخلاص وهما الأعمال والنعمة وهاتان الوسيلتان لا تمتزجان حتى يكون بعض الخلاص من الأعمال وبعضه من النعمة.
فَإِنْ كَانَ بِٱلنِّعْمَةِ أي الاختيار للخلاص.
فَلَيْسَ بَعْدُ بِٱلأَعْمَالِ التي عملها الإنسان أو عرف الله منذ الأزل أنه يفعلها. والمراد «بالأعمال» هنا أعمال الصلاح الكاملة توجبها الشريعة.
وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ ٱلنِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً إذ صارت بذلك عدلاً لأنها إيفاء دين وأجرة لمستحقيها.
وَإِنْ كَانَ بِٱلأَعْمَالِ أي إن كان علّة اختيار الله للإنسان صلاح الإنسان.
فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً أي بطل أن يكون الاختيار بمجرد مشيئة الله المطلقة.
وَإِلاَّ فَٱلْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً لأنه صار نعمة (انظر ص ٤: ٤ وأفسس ٢: ٨ و٩).
وخلاصة معنى الآية أن كون أحد الأمرين علّة الاختيار ينفي كون الآخر علّته وكرّر القول دفعاً لوقوع الخطإ الذي يميل إليه العقل البشري وهو أن يحكم أن علّة اختيار الله للإنسان استحقاقه.
٧ «فَمَاذَا؟ مَا يَطْلُبُهُ إِسْرَائِيلُ ذٰلِكَ لَمْ يَنَلْهُ، وَلٰكِنِ ٱلْمُخْتَارُونَ نَالُوهُ. وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَتَقَسَّوْا».
ص ٩: ٣١ و١٠: ٣ و٢كورنثوس ٣: ١٤
فَمَاذَا أي ما نتيجة الآيتين الخامسة والسادسة.
مَا يَطْلُبُهُ إِسْرَائِيلُ أي البرّ الذاتي الذي سأله أكثر اليهود على ما سبق في قوله «وَلكِنَّ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ، لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ!» (ص ٩: ٣١) وقوله «لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ الخ» (ص ١٠: ٣).
ذٰلِكَ لَمْ يَنَلْهُ لأنهم طلبوه بأعمالهم (ص ٩: ٣٢).
وَلٰكِنِ ٱلْمُخْتَارُونَ نَالُوهُ أي «البقية» (ع ٥ وص ٩: ٢٧) و «النسل» (ص ٩: ٢٩) وعلّة نيلهم أنهم طلبوا البرّ بيسوع المسيح ولهذا أثبت المطلوب الذي جاء بما في هذا الفصل لإثباته وهو أن الله لم يرفض كل شعبه (ع ٢) ولم ينقض عهده لإبراهيم.
وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَتَقَسَّوْا أي أكثر الإسرائيليين «القوم» في (ص ٣: ٣) و «البعض» في (ع ١٧) من هذا الأصحاح. ومعنى «تقسوا» أن الله تركهم إلى عمايتهم وقساوتهم اللتين اختاروهما. وهذا الترك عقاب لهم على مقاومتهم الحق. وقد سبق الكلام على تقسية القلب في تفسير (ص ٩: ١٨).
٨ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَعْطَاهُمُ ٱللّٰهُ رُوحَ سُبَاتٍ، وَعُيُوناً حَتَّى لاَ يُبْصِرُوا، وَآذَاناً حَتَّى لاَ يَسْمَعُوا إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
إشعياء ٢٩: ١٠ تثنية ٢٩: ٤ وإشعياء ٦: ٩ وإرميا ٥: ٢١ وحزقيال ١٢: ٢ ومتّى ١٣: ١٤ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٩ و٢٧
ما قيل هنا مقتبس من عدة أماكن من العهد القديم منه قوله «ٱسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا، وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا» (إشعياء ٦: ٩). وقوله «وَلٰكِنْ لَمْ يُعْطِكُمُ ٱلرَّبُّ قَلْباً لِتَفْهَمُوا وَأَعْيُناً لِتُبْصِرُوا وَآذَاناً لِتَسْمَعُوا إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (تثنية ٢٩: ٤). وقوله «لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَكَبَ عَلَيْكُمْ رُوحَ سُبَاتٍ وَأَغْمَضَ عُيُونَكُمُ» (إشعياء ٢٩: ١٠). أخذ الرسول معنى كل ما ذُكر من الآيات وبعض ألفاظها وصفاً لسجيّة يهود عصره وأعمالهم. وتمّ بعض هذه النبوءة في أيام الأنبياء وتمّ معظمها في أيام المسيح والرسل فإنهم كثيراً ما أظهروا من العماية والقساوة لكنهم لم يبلغوا الحد الذي بلغوه حين رفضوا ابن الله وشهّروه. فالعماية والقساوة هما عقاب وقع عليهم حسب وعيد الله الديّان علاوة على كونهما مصاباً ونتيجة طبيعية لخطيئتهم.
٩، ١٠ «٩ وَدَاوُدُ يَقُولُ: لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ فَخّاً وَقَنَصاً وَعَثْرَةً وَمُجَازَاةً لَهُمْ. ١٠ لِتُظْلِمْ أَعْيُنُهُمْ كَيْ لاَ يُبْصِرُوا، وَلْتَحْنِ ظُهُورَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».
مزمور ٦٩: ٢٢ و٢٣
هاتان الآيتان مقتبستان من (مزمور ٦٩: ٢٢ و٢٣) على ما ترجمة السبعين وهو وصف البلايا التي تقع على صدّيق تقي هو إما داود وإما المسيح الذي داود رمز إليه. وتلك البلايا من أعدائه الذين هم أعداء الله. ويجب أن نعتبر ما جاء هنا في صورة الدعاء عليهم أنباء بالمصائب الآتية عليهم من أجل عداوتهم. إن داود كان نبياً ملهماً من الله أن ينبئ بالعقاب الآتي على فعلة الشر فهو لم يتكلم بذلك عن انفعالاته الشخصية.
لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ فَخّاً وَقَنَصاً الخ أي ليأت عليهم بغتة الهلاك الذي يستحقونه وهم في ولائمهم آمنون مسرورون أو لتتحول بركاتهم إلى لعنات.
لِتُظْلِمْ أَعْيُنُهُمْ أي عيون أذهانهم أو بصائرهم.
َلْتَحْنِ ظُهُورَهُمْ الخ انحناء الظهر علامة الضعف والعبودية وهو هنا رمز إلى العجز الروحي والعبودية للخطيئة والضلال.
غاية الرسول مما اقتبسه من العهد القديم بيان أن كلامه في هذه الرسالة على رفض الله شعبه القديم وتركه إياه للعماية والقساوة بمقتضى ما أنبأ الله به منذ سنين كثيرة بأفواه أنبيائه ووقع شيء من ذلك على اليهود قبل الميلاد ووقع معظمه عليهم حين رفضوا المسيح والتبرير به وطلبوا أن يبرّروا أنفسهم بأعمالهم كما قيل في (ص ٩: ٣١ – ٣٣).
فوائد
- إن الله لا ينقض عهده فيحفظ بقية صغيرة من المؤمنين في كل عصر بين كثيرين من المرتدين ويمنحها بركات العهد (ع ١ و٢).
- إن ارتداد أكثر الشعب أو الكنيسة عن الله ليس بدليل على ارتداد كل أفرادهما فإنه حين كان أكثر الإسرائيليين عبدة أوثان كان منهم فرقة ليست بقليلة لم تسجد لبعل (ع ٢ – ٤).
- إنه يجب علينا أن لا نيأس من حياة كنيسة ولا نسأل الله إبادتها وعقابها على ما ظهر لنا من سقوطها لأن كتاب الله يشهد بأنه وإن ارتد الأكثر عن الله يبقى البعض أمناء ويحصي عددهم بدليل قوله «أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم يعلم الرب الذين هم له» (ع ١ – ٤).
- إن ثبوت القليلين عند سقوط الأكثرين نعمة من الله لا منهم لأن البقية الأمينة هي «بقية حسب اختيار النعمة» فالذين يثبتهم الله هم الذين يثبتون (ع ٥).
- إن طلب الخلاص في غير الطريق التي أوجدها الله جهل وعبث فالاجتهاد في نيل البرّ بالأعمال الصالحة هو كضرب الهواء والخضوع لبر الله فيه الأمن والخلاص (ع ٧).
- إنه يستلزم نيل الحياة الأبدية بمجرد رحمة الله وقطع النظر إلى استحقاق الإنسان إن كل إعجاب بالنفس أو كل كبرياء دينية لا يليق بالمؤمن البتة ومثل هذا الافتخار دليل على كون صاحبه ليس من مختاري الله (ع ٧).
- إن تاركي الله يتركهم الله لأن الذين ينصرفون عنه ينصرفون عن النور والبركة والخلاص (ع ٧).
- إنه حين يترك الله الناس وينزع الروح القدس منهم تتحول كل بركاتهم إلى نوازل ويعمون عن الحق وينحنون تحت نير الخطيئة.
- إنه يغلب أن يكون ما يتكل عليه الناس من الخيرات الدنيوية ويسرون به عثرة لهم. إن اليهود سروا بالنظام الموسوي وافتخروا بما فيه من الرسوم والاحتفالات فمنعهم ذلك من التمسك بالمسيح وبره ولم يزل الناس في خطر الاتكال على جودة نظامهم وصحة تعاليمهم وممارسة الأسرار بالتدقيق دون الاتكال على المسيح وحده (ع ٩ و١٠).
إن رفض الله اليهود وقتي لا أبدي ع ١١ إلى ٣٦
هذا الفصل أربعة أقسام:
- إن نتيجة رفض الله الوقتي لليهود أمران الأول خلاص الأمم والثاني توبة اليهود ورجوعهم إلى الله ورضاه (ع ١١ – ١٥).
- إن رفض اليهود لا يجيز الافتخار للأمم كأن الله يحسبهم أفضل من اليهود لأن رجوع اليهود إلى الله أمر لا ريب فيه بل يوجب عليهم التواضع والخوف لأنهم عرضة للرفض والسقوط بما رُفض اليهود وسقطوا به (ع ١٦ – ٢٤).
- إن رجوع اليهود محقق بأقوال الأنبياء وبمقتضى المبادئ التي يجري الله عليها في معاملته للناس (ع ٢٥ – ٣٢).
- تسبيح لله على ما أظهره من الحكمة في عمل الفداء (ع ٣٣ – ٣٦).
١١ «فَأَقُولُ: أَلَعَلَّهُمْ عَثَرُوا لِكَيْ يَسْقُطُوا؟ حَاشَا! بَلْ بِزَلَّتِهِمْ صَارَ ٱلْخَلاَصُ لِلأُمَمِ لإِغَارَتِهِم».
أعمال ١٣: ٤٦ و١٨: ٦ و٢٢: ١٨ و٢١ و٢٨: ٢٤ و٢٨ وص ١٠: ١٩
فَأَقُولُ هذا مقدمة لبيانه أن رفض اليهود وقتيٌ كما جعله في الآية الأولى مقدمة لبيانه أنه جزئي.
أَلَعَلَّهُمْ عَثَرُوا لِكَيْ يَسْقُطُوا سقوطاً لا نهوض بعده بل هلاك أبدي. قال سابقاً في اليهود غير المؤمنين «انهم اصطدموا بحجر صدمة» (ص ٩: ٣٢ و٣٣). وسأل الآن هل قصد الله أن يترك أمة اليهود كلها في السقوط للهلاك الأبدي.
حَاشَا تنزيه لتشديد الإنكار.
بَلْ بِزَلَّتِهِمْ صَارَ ٱلْخَلاَصُ لِلأُمَمِ أتى بولس بهذا برهاناً على أن سقوطهم لم يكن للهلاك لأن الله قصد أن يجعله وسيلة إلى خلاص الأمم وأن يكون خلاص الأمم وسيلة إلى إغارتهم وإحياء رغبتهم في نيل الفوائد التي ربحها الوثنيون فيخلصون.
ولعل علّة تعبير الرسول عن خطيئتهم أو سقوطهم «بالزلة» الإشارة إلى أنهم لم يبلغوا من الخطإ حداً تمتنع عنده المغفرة. وفي العبارة مجاز مرسل فإن الزلة علّة السقوط. ويتبين أن رفض الله لليهود صار وسيلة إلى خلاص الأمم من قول بولس ليهود أنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٤٦) ومن قوله بعد ذلك ليهود رومية (أعمال ٢٨: ٢٨) وأنبأ به إشعياء (إشعياء ٤٩: ٥ و٦) وأنبأ به المسيح (متّى ٢١: ٤٣). فلو بقي اليهود في منزلتهم الأولى منعوا الأمم عن الخلاص (لأنه عسر عليهم حتى على مؤمنيهم أن يسمحوا بالمناداة بالإنجيل بينهم وقبولهم في الكنيسة فأرادوا أن يلزموا الذين آمنوا من الأمم القيام بكل فرائض الرسوم الموسوية) فلو سبق اليهود الأمم إلى قبول الإنجيل لعسر على الأمم الدخول في ملكوت المسيح. والعقاب الذي وقع على اليهود لرفضهم المسيح هدم سلطتهم باعتبار كونهم أمة فما استطاعوا بعد ذلك منع التبشير بالإنجيل بينهم كما رغبوا فيه بدليل قوله «ٱلَّذِينَ قَتَلُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَٱضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلّٰهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ يَمْنَعُونَنَا عَنْ أَنْ نُكَلِّمَ ٱلأُمَمَ لِكَيْ يَخْلُصُوا» (١تسالونيكي ٢: ١٥ و١٦).
لإِغَارَتِهِمْ أي لإغارة اليهود فإنه تعالى قصد أن يكون خلاص الأمم وسيلة إلى هياج غيرة اليهود لكي يقبلوا المسيح الذي كانوا قد رفضوه ويقبلوا خلاصه فإن حصولهم على الامتيازات قروناً كثيرة جعلهم يهملونها غير مكترثين بها فنظرهم الأمم يتمتعون بها ويربحون منها وهم قد فقدوها يحملهم على أن يعتبروها ويرغبوا في ترجيعها. ومن البيّن أن هذه النتيجة لم تُدرك بعد لكنها مما يجب أن يتوقعه كل المسيحيين ويطلبوه بصلواتهم ويعملوا ما يؤول إلى سرعة بلوغه.
١٢ «فَإِنْ كَانَتْ زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ، وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ؟».
زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ أي عثرة اليهود في المسيح صارت وسيلة إلى نفع سائر الناس إذ فتح لهم بذلك كنز المسيح الذي «لا يستقصى».
وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ أي أن الله رفض اليهود لأنهم لم يؤمنوا فخسروا البركات والامتيازات التي تمتعوا بها فكانت خسارتهم سبب نقل ذلك منهم إلى الأمم.
فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ أي فما أعظم نفع العالم من رجوع اليهود واشتراكهم في فوائد الإنجيل وتمسكهم ببرّ يسوع المسيح لأن ذلك يكون علّة إيمان أكثر أهل الأرض وطاعتهم للحق وخلاصهم الأبدي.
١٣، ١٤ «١٣ فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلأُمَمُ: ١٤ بِمَا أَنِّي أَنَا رَسُولٌ لِلأُمَمِ أُمَجِّدُ خِدْمَتِي، لَعَلِّي أُغِيرُ أَنْسِبَائِي وَأُخَلِّصُ أُنَاساً مِنْهُمْ».
أعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ و٢٢: ٢١ وص ١٥: ١٦ وغلاطية ١: ١٦ و٢: ٢ و٧ – ٩ وأفسس ٣: ٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١ و١كورنثوس ٧: ١٦ و٩: ٢٢ و١تيموثاوس ٤: ١٦ ويعقوب ٥: ٢٠
غاية الرسول من هاتين الآيتين أن يُصرّح للأمم أنه راغب في تخليص اليهود ويدفع توهمهم أنه لا يبالي برجوع اليهود إلى الله مما قاله في دعوة الأمم. ودليل ذلك أنه لا يفتكر في دعوة الله للأمم إلا وهو يفتكر في أنها وسيلة إلى رجوع اليهود.
أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلأُمَمُ هم القسم الأكبر في كنيسة رومية فخاطبهم بما يأتي لئلا يظنوا رجوع اليهود مضراً لهم.
بِمَا أَنِّي أَنَا رَسُولٌ لِلأُمَمِ (غلاطية ٢: ٧).
أُمَجِّدُ خِدْمَتِي أجتهد في أن أقود الأمم إلى المسيح وإلى الخلاص.
لَعَلِّي أُغِيرُ أَنْسِبَائِي هذا كقوله «لإغارتهم» في ع ١١ والمعنى أن أحد الأسباب لاجتهاده في تخليص الأمم هو إنهاض غيرة إخوته اليهود ليربحوا ما ربحه الأمم بالإيمان بالمسيح.
وَأُخَلِّصُ أُنَاساً مِنْهُمْ أي من اليهود. والنتيجة أن نفع كل من الفرقين نفع للآخر.
١٥ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ ٱلْعَالَمِ، فَمَاذَا يَكُونُ ٱقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ ٱلأَمْوَاتِ؟».
حزقيال ٣٧: ١ – ١٤
هذه الآية توكيد للآية الثانية عشرة.
إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ الجزئي الوقتي بدليل نفيه في (ع ١) كونه كلياً أبدياً.
مُصَالَحَةَ ٱلْعَالَمِ أوضح الرسول هذه المصالحة في (أفسس ٢: ١١ – ٢٢) وصرّح هنا أن رفض اليهود كان وسيلة إليها لأنه به انتشر الإنجيل في العالم وآمن بالمسيح جماهير كثيرة وبه قرب الذين كانوا أجنبيين وغرباء إلى الله واقترب بعضهم من بعض بدم المسيح.
فَمَاذَا يَكُونُ ٱقْتِبَالُهُمْ أي رجوع اليهود إلى ما كانوا عليه من رضى الله بإيمانهم بالمسيح والمراد به كالمراد في «ملؤهم» في (ع ١٢).
إِلاَّ حَيَاةً مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي نتيجة عظيمة سارة كالقيامة من الموت لما تؤدي إليه من تمجيد الله ونفع جميع الناس. إن الموت يشير إلى غاية الانحطاط والشقاء. والقيامة من الموت تشير إلى غاية النجاح والسرور ولذلك لم يجد الرسول أن يشبه رجوع اليهود بشيء أحسن من الحياة من الأموات لما تحققه من عظمة الخير الناشئ عنه.
١٦ «وَإِنْ كَانَتِ ٱلْبَاكُورَةُ مُقَدَّسَةً فَكَذٰلِكَ ٱلْعَجِينُ! وَإِنْ كَانَ ٱلأَصْلُ مُقَدَّساً فَكَذٰلِكَ ٱلأَغْصَانُ!».
لاويين ٢٣: ١٠ وعدد ١٥: ١٨ – ٢١
إِنْ كَانَتِ ٱلْبَاكُورَةُ مُقَدَّسَةً فَكَذٰلِكَ ٱلْعَجِينُ! إي إذا كان جزء من الأمة مقدساً كانت كلها مقدسة وهذا مبني على ما في (لاويين ١٣: ١٠ و١١ وعدد ١٥: ١٩ – ٢١) من أنه يجب على بني إسرائيل تقديم باكورة حقولهم وكرومهم وباكورة عجينهم (أي أول ما يعجنون من طحين الحنطة الجديدة) ونتيجة ذلك التقديم إن كل غلال الأرض تُحسب مقدسة عند الله. و «للمقدس» معنيان الأول طاهر والثاني موقوف لله كما في (متّى ٤: ٥ و٧: ٦ ولوقا ٢: ٢٣ و١كورنثوس ٧: ١٤) وبهذا المعنى كانت خيمة الاشتراع والهيكل ومدينة أورشليم وكل الأمة اليهودية مقدسة أي ممتازة عن سائر الأمم بكونها وقفاً لله.
إن باكورة الأمة اليهودية هي إبراهيم وإسحاق ويعقوب فتقديسهم لله جعل كل نسلهم مقدساً أي شريك العهد الذي قطعه الله مع آبائه بدليل قوله تعالى «لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ ٱخْتَارَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّذِينَ عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ، لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ ٱلْتَصَقَ ٱلرَّبُّ بِكُمْ وَٱخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ. بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ ٱلرَّبِّ إِيَّاكُمْ، وَحِفْظِهِ ٱلْقَسَمَ ٱلَّذِي أَقْسَمَ لِآبَائِكُمْ» (تثنية ٧: ٦ – ٨ انظر أيضاً لوقا ١: ٥٥). وخلاصة قول الرسول هنا أنه حين اختار الله الآباء وجعلهم خاصته اختار نسلهم وجعله كذلك في كل العصور. واستنتج الرسول من هذا ترجيح أن يرجع إسرائيل إلى الله ويدخل كنيسة المسيح. وما رجّحه هنا حقّقه في (ع ٢٥).
وَإِنْ كَانَ ٱلأَصْلُ مُقَدَّساً الخ إن هذا التمثيل يفيد المعنى المقصود من تمثيل «الباكورة والعجين» وهو أن تقديس بعض الأمة جعلها كلها مقدسة أي مفروزة لله.
١٧ «فَإِنْ كَانَ قَدْ قُطِعَ بَعْضُ ٱلأَغْصَانِ، وَأَنْتَ زَيْتُونَةٌ بَرِّيَّةٌ طُعِّمْتَ فِيهَا، فَصِرْتَ شَرِيكاً فِي أَصْلِ ٱلزَّيْتُونَةِ وَدَسَمِهَا».
إرميا ١١: ١٦ أعمال ٢: ٣٩ وأفسس ٢: ١٢ و١٣
الغاية من هذه الآية والتي بعدها إلى الآية الرابعة والعشرين منع المؤمنين من الأمم أن يفتخروا على اليهود لأن الله رفض أكثرهم وقتياً ودعا الأمم وحثهم على الشكر.
إِنْ كَانَ قَدْ قُطِعَ بَعْضُ ٱلأَغْصَانِ شبّه الرسول الكنيسة اليهودية «بزيتونة» وهي شجرة لا تفوقها شجرة في الجودة والبقاء والنفع. وشبّه غير المؤمنين من اليهود «بأغصان مقطوعة» لأنهم انفصلوا عن إبراهيم باعتبار أنهم من أبنائه الروحيين وورثة ما له من المواعيد.
وَأَنْتَ زَيْتُونَةٌ بَرِّيَّةٌ الخ شبّه الأمم بهذه الشجرة التي لم تُحسب ذات قيمة وهي لا تأتي بثمر نافع وقد طُعّمت في زيتونة بستانية لكي تنال منها حياة وخصباً. والمراد بهذا التطعيم أن الله جعل الأمم شركاء اليهود في بركات العهد الذي قطعه مع آبائهم وأعظم تلك البركات إتيان المسيح وتأسيس ملكوته بينهم.
يلزم من هذا أنّ الكنيسة المسيحية ليست سوى الكنيسة الموسوية وُسعت وجُدّدت وغُيّر بعض رسومها وكُمّلت وأن المؤمنين الحقيقيين في كل عصر أغصان شجرة واحدة غرسها الله.
١٨ «فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى ٱلأَغْصَانِ. وَإِنِ ٱفْتَخَرْتَ، فَأَنْتَ لَسْتَ تَحْمِلُ ٱلأَصْلَ، بَلِ ٱلأَصْلُ إِيَّاكَ يَحْمِلُ!».
١كورنثوس ١٠: ١٢
فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى ٱلأَغْصَانِ هذا النهي تحذير لمؤمني الأمم من الكبرياء الروحية كأنهم أحسن من اليهود الذين رُفضوا لعدم إيمانهم.
وَإِنِ ٱفْتَخَرْتَ أي إن دخلت في تلك التجرية أو كنت عرضة لها فافتكر للنجاة منها في أن الأمة اليهودية كمجري البركات من الله إلى العالم كما قال المسيح «إن الخلاص من اليهود» (يوحنا ٤: ٢٢). فإذاً الأمم مدينون لليهود لا اليهود للأمم.
فَأَنْتَ لَسْتَ تَحْمِلُ ٱلأَصْلَ ليس للغصن أن يفتخر على الأصل كذلك ليس للأمم أن تفتخر على أولاد إبراهيم لأنها بمنزلة الغصن ليس لها أن تغذي أنفسها وبالأولى أنها لا تستطيع تغذية غيرها.
بَلِ ٱلأَصْلُ إِيَّاكَ يَحْمِلُ أي أنت حصلت على كل بركاتك باتحادك بشعب الله الروحي الذي أصله إبراهيم فعليك أن لا تحتقره وتفتخر عليه.
١٩ «فَسَتَقُولُ: قُطِعَتِ ٱلأَغْصَانُ لأُطَعَّمَ أَنَا».
فَسَتَقُولُ أنت أيها اليوناني اعتذاراً على افتخارك.
قُطِعَتِ ٱلأَغْصَانُ لأُطَعَّمَ أَنَا أي رُفض اليهود ليُعد موضع لنا وذلك دليل على أن الله رآنا أفضل منهم.
٢٠ «حَسَناً! مِنْ أَجْلِ عَدَمِ ٱلإِيمَانِ قُطِعَتْ، وَأَنْتَ بِٱلإِيمَانِ ثَبَتَّ. لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ!».
ص ١٢: ١٦ أمثال ٢٨: ١٤ وإشعياء ٦٦: ٢ وفيلبي ٢: ١٢
حَسَناً! لم ينكر الرسول أن اليهود رُفضوا فكانوا كأغصان مقطوعة بيّن علّة رفضهم الحقيقية فكانت مما يوجب على الأمم التواضع والحذر من القطع لا الكبرياء والأمن.
مِنْ أَجْلِ عَدَمِ ٱلإِيمَانِ قُطِعَتْ لأنهم رفضوا أن يسوع هو المسيح ولم يؤمنوا به فإذاً لم يبقَ من سبيل لظن اليوناني أنه خير من اليهودي كما في (ع ١٩).
لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ لئلا تخسر كل البركات التي حصلت عليها. الخوف من السقوط من أحسن وسائل الوقوف بدليل قوله تعالى «أَجْعَلُ مَخَافَتِي فِي قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَحِيدُونَ عَنِّي» (إرميا ٣٢: ٤٠ انظر أيضاً فيلبي ٢: ١٢ ويوحنا ١٥: ٦ وعبرانيين ٦: ٤ – ٩) ولا أَمن لأحد ما لم يكن متواضعاً متكلاً على الله خائفا من السقوط. وعدم إيمان الإنسان واتكاله على نفسه يقودانه إلى الهلاك يونانياً كان أم يهودياً.
٢١ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلأَغْصَانِ ٱلطَّبِيعِيَّةِ فَلَعَلَّهُ لاَ يُشْفِقُ عَلَيْكَ أَيْضاً!».
إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلأَغْصَانِ ٱلطَّبِيعِيَّةِ أي على اليهود الذين هم نسل إبراهيم وبنو الملكوت (متّى ٨: ١٢) وأهل العهد فإن الله مع كونهم كذلك عاملهم بالعدل ورفضهم. وذكر بولس ذلك إنذاراً للأمم.
فَلَعَلَّهُ رجاء أن الله يشفق على الأمم إذا هيّجوا غضبه واستحقوا رفضه أقل من رجاء أنه يشفق علي اليهود. فمعاملته شعبه القديم أهل بيته بالعدل بلا شفقة علّة حذر الذين هم بالنسبة إليهم غرباء من أن يغيظوه تعالى فيرفضهم.
٢٢ «فَهُوَذَا لُطْفُ ٱللّٰهِ وَصَرَامَتُهُ: أَمَّا ٱلصَّرَامَةُ فَعَلَى ٱلَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا ٱللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي ٱللُّطْفِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضاً سَتُقْطَعُ».
١كورنثوس ١٥: ٢ وعبرانيين ٣: ٦ و١٤ يوحنا ١٥: ٢
هذه الآية نتيجة ما في الآية الحادية والعشرين وعلّة قوله «لا تفتخر» (ع ٢٠).
فَهُوَذَا لُطْفُ ٱللّٰهِ وَصَرَامَتُهُ إن الله أظهر هاتين بمعاملته اليهود والأمم.
أَمَّا ٱلصَّرَامَةُ فَعَلَى ٱلَّذِينَ سَقَطُوا أي على اليهود الذين أبوا الإيمان بالمسيح. وقال «سقطوا» باعتبار كونهم أغصان الزيتونة التي قُطعت ثم سقطت والمراد «بالصرامة» هنا معاملته إياهم بما يستحقون.
أَمَّا ٱللُّطْفُ فَلَكَ يخاطب واحداً من الأمم كأنه نائب الكل وحسب دعوة الله إياهم لطفاً منه تعالى يوجب عليهم الشكر.
إِنْ ثَبَتَّ فِي ٱللُّطْفِ أي إن بقيت متكلاً على هذا اللطف الذي جعلك كما أنت. فكأنه قال إن ثبتّ في الإيمان لأن الإيمان شرط الدخول في شركة ملكوت المسيح والبقاء فيه بدليل قول المسيح «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ… إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَٱلْغُصْنِ» (يوحنا ١٥: ٤ و٦).
وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضاً سَتُقْطَعُ أي إن لم تثبت في الإيمان تُقطع لأن الإيمان هو الشرط الوحيد للحصول على الشففة ولمنع إجراء العدل على الخاطئ. ونتيجة ذلك تحذير اليوناني لأن الله لم يعد الأمم بشيء يمنعه من رفضهم إذا لم يؤمنوا كما رفض اليهود لعدم الإيمان.
ولا شيء مما قيل هنا يستلزم إمكان سقوط المؤمن الحقيقي المتجدد وهلاكه إذ ليس فيه سوى التحذير من الارتداد وهو من الوسائط التي يستعملها الله لمنع الارتداد. والتحذير هنا للأمم باعتبار أنهم جمهور لا باعتبار أنهم أفراد فإن لم يؤمن جمهور الأمم بالمسيح رُفض كما رُفض غير المؤمنين من اليهود.
٢٣ «وَهُمْ إِنْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَدَمِ ٱلإِيمَانِ سَيُطَعَّمُونَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُطَعِّمَهُمْ أَيْضاً».
٢كورنثوس ٣: ١٦
وَهُمْ أي اليهود الذين لم يؤمنوا.
إِنْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَدَمِ ٱلإِيمَانِ سَيُطَعَّمُونَ أي إن الأمم واليهود سواء في عيني الله فاليهود لم يُرفضوا أو يُقبلوا لكونهم يهوداً وكذلك الأمم. فعلّة رفض الله لليهود ليست سوى عدم إيمانهم كما سبق. وفي هذه الآية تصريح بأن الإيمان وسيلة رجوعهم.
لأَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُطَعِّمَهُمْ أَيْضاً كان المانع الوحيد من نيلهم رضى الله عدم إيمانهم فمتى رُفع هذا المانع يعلن الله قدرته على خلاصهم لأنه يريده وهذا مثل قوله تعالى «هَا إِنَّ يَدَ ٱلرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلٰهِكُمْ» (إشعياء ٥٩: ١ و٢).
٢٤ «لأَنَّهُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ قُطِعْتَ مِنَ ٱلزَّيْتُونَةِ ٱلْبَرِّيَّةِ حَسَبَ ٱلطَّبِيعَةِ، وَطُعِّمْتَ بِخِلاَفِ ٱلطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَةٍ جَيِّدَةٍ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يُطَعَّمُ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَتِهِمِ ٱلْخَاصَّةِ؟».
غاية هذه الآية بيان أرجحية رجوع اليهود بدليل قوله «سيطعمون» لا بيان قدرة الله على تطعيمهم. ومعناها أن الأمم مثل الزيتونة البرية فلا نسبة طبيعية بينهم وبين الشجرة التي طُعّموا فيها فقبلهم الله بإيمانهم فالأرجح أن يطعّم اليهود أيضاً لأنهم أولاد إبراهيم فهم كالأغصان الطبيعية في شجرتهم الأصلية. وخلاصته أن رجوع اليهود إلى رضى الله أرجح من إتيان الأمم إليه. وشبّه اليهود «بزيتونتهم الخاصة» لأنهم أولاد إبراهيم ويحسن أن يُدعوا بزيتونة الله لأنه هو دعا إبراهيم وقطع معه عهداً وجعل نسله شعباً مقدساً مختاراً. وما رجّحه الرسول في هذه الآية من أمر رجوع اليهود إلى الله حقّقه في الآية الآتية.
٢٥ «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هٰذَا ٱلسِّرَّ، لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ ٱلْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ ٱلأُمَمِ».
ص ١٢: ١٦ مرقس ٣: ٥ وع ٧ و٢كورنثوس ٣: ١٤ لوقا ٢١: ٢٤ ورؤيا ٧: ٩
ٱلإِخْوَةُ هم المؤمنون من اليهود والأمم وأكثرهم من الأمم وأكثر ما يوجّه الكلام هنا إليهم.
لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أي أريد أن تنتبهوا لما أقوله لكونه مهماً.
هٰذَا ٱلسِّرَّ السرّ هنا ما لا يعلمه الإنسان ما لم يعلنه لله كما في (ص ١٦: ١٥ و١كورنثوس ٢: ٧ و٤: ١ وأفسس ٦: ١٩). وهذا السرّ هو رجوع اليهود الذي أعلنه الله لبولس.
لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ هذا تحذير للمؤمنين من الأمم لئلا يحسبوا أنفسهم أعقل وأفطن من اليهود (لأنهم عرفوا أن يسوع هو المسيح ابن الله وآمنوا به) ويظنوا أن الله أحبهم وأكرمهم أكثر من اليهود ويتكبروا بذلك. فالذين عند أنفسهم حكماء ليسوا بالحقيقة إلا جهلاء كما يتبين من (ص ١٢: ١٦ و١كورنثوس ٤: ١٠ و٢كورنثوس ١١ – ١٩).
أَنَّ ٱلْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ حتى أنهم لم يقبلوا يسوع مسيحاً ومخلصاً. قال في الآية السابعة أنهم «تقسوا» ولكن لم يبين فيها أجزئية هي أم كلية أَوقتية أم دائمة وصرّح هنا بأنها جزئية أي لا تعم كل اليهود. وهذا الجزء الأول من السر المعلن.
إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ ٱلأُمَمِ فإذاً القساوة ليست بأبدية بل إلى حين. وهذا الجزء الثاني من ذلك السر. والمعنى أن قساوتهم تنتهي عند إيمان جماهير كثيرة من الأمم وانضمامهم إلى شعب الله. «فالملء» هنا بمعنى جمهور أو جماعة كما ترجم في (تكوين ٤٨: ١٩ وإشعياء ٣١: ٤) لا بمعنى الكل بدليل ما قيل في ع ١٥ من أن رجوع اليهود إلى الله يكون وسيلة إلى هداية الأمم إليه وهذه الهداية تكون عظيمة جداً حتى وُصفت بأنها «حياة من الأموات».
٢٦، ٢٧ «٢٦ وَهٰكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: سَيَخْرُجُ مِنْ صِهْيَوْنَ ٱلْمُنْقِذُ وَيَرُدُّ ٱلْفُجُورَ عَنْ يَعْقُوبَ. ٢٧ وَهٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ مِنْ قِبَلِي لَهُمْ مَتَى نَزَعْتُ خَطَايَاهُمْ».
مزمور ١٤: ٧ وإشعياء ٥٩: ٢٠ ص ١: ١٨ إشعياء ٢٧: ٩ وإرميا ٣١: ٣١ الخ وعبرانيين ٨: ٨ و١٠: ١٦
سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ أي أكثرهم وهذا الجزء الثالث من السر المعلن. والخلاص هنا روحي يُنال بالإيمان بالمسيح. ونفهم من هذا أن اليهود باعتبار كونهم أمة يرجعون أيضاً إلى رضى الله فتصير المرفوضة مقبولة. وهذا لا يستلزم خلاص كل فرد من اليهود كما أن رفضهم لم يستلزم رفض كل منهم. وليس من دليل في كلام الرسول على مقدار المدة التي تمر قبل رجوع اليهود إلى الله فذلك مثل وقت مجيء المسيح ثانية فإن المسيح قال فيه «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال ١: ٧) والذي علمناه أن إيمان كثيرين من الأمم يسبق رجوع شعب اليهود إلى الله.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ الأرجح أن الرسول لم يشر بهذا إلى آية بعينها من العهد القديم بل إلى معنى مجموع آيات مختلفة منها ما في (إشعياء ٥٩: ٢٠ و٢١ و٢٧: ٩ وإرميا ٣١: ٣١ – ٣٤ وحزقيال ١٤: ٧٩). واقتبس بولس من ترجمة السبعين وهي تختلف عن العبرانية قليلاً في اللفظ لا في المعنى مثال ذلك أنه قيل في العبرانية «يأتي الفادي إلى صهيون» وفي الآية هنا «سيخرج من صهيون» والمراد من كليهما أن الفداء من الله لإسرائيل. وقال الرسول «من صهيون» باعتبار كونها محل ظهوره. وقال النبي «إلى صهيون» باعتبار كونها محفل عبدة الله الحقيقيين. واقتبس الرسول من ذلك ليبين مضمون عهد الله لشعبه وما فيه من الأدلة على خلاصه في المستقبل بناء على أنه لم يتم بخلاص القليلين منه الذين آمنوا منذ تكلم النبي على عصر الرسول.
٢٨ «مِنْ جِهَةِ ٱلإِنْجِيلِ هُمْ أَعْدَاءٌ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ ٱلاخْتِيَارِ فَهُمْ أَحِبَّاءُ مِنْ أَجْلِ ٱلآبَاء».
تثنية ٧: ٨ و٩: ٥ و١٠: ١٥
هُمْ أَعْدَاءٌ إذا نظرنا إلى تعليم الإنجيل رأيناه يحكم بأن المؤمنين أصدقاء وغير المؤمنين أعداء (ص ٥: ١٠). وأكثر الشعب اليهودي لم يؤمن فلذلك كان اليهود أعداء الله أي عرضة لغضبه. ولعل المعنى إنا إذا نظرنا إلى انتشار الإنجيل في العالم رأينا أن الله عامل اليهود المتمردين معاملة الأعداء لكي يرحم الأمم ويدخلهم ملكوته.
مِنْ أَجْلِكُمْ هذا مثل ما في (ع ١١ و١٥) والمعنى أن عقاب اليهود أي رفض الله إياهم صار وسيلة إلى نشر الإنجيل بين الأمم.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ ٱلٱاْتِيَارِ فَهُمْ أَحِبَّاءُ أي إذا نظرنا إلى اليهود باعتبار كونهم شعب الله المختار رأيناهم ممتازين على غيرهم بمحبته تعالى.
مِنْ أَجْلِ ٱلآبَاءِ أي لكونهم أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين قطع الله عهده معهم. وهذا موافق لما أخذ الرسول بينه في هذا الفصل وهو أن رفض الله شعب إسرائيل رفضاً كلياً دائماً لا يطابق وعده تعالى لإبراهيم ونسله وأنه يخلّص جماهير كثيرة منه.
٢٩ «لأَنَّ هِبَاتِ ٱللّٰهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ».
عدد ٢٣: ١٩
هذا مبدأ عام يتوصل به إلى المطلوب في هذا الفصل وهو أن اليهود يخلصون ومعناه أن الله منزه عن التغيير فإذاً لا بد من ثبوت كل مواعيده لإبراهيم ونسله إلى الأبد وأن إسرائيل المحبوب قديماً لا يزال محبوباً وأنه يرجع شعباً لله.
هِبَاتِ ٱللّٰهِ أي البركات التي وعد الله بها إبراهيم ونسله (تكوين ١٧: ٧).
دَعْوَتَهُ أي اختياره إبراهيم أباً لشعبه الخاص.
بِلاَ نَدَامَةٍ أي بلا تغيير قصدٍ أو عمل فإذاً عهد الله لإبراهيم ولنسله عهد أبدي وإلا ندم وهو باطل.
٣٠، ٣١ «٣٠ فَإِنَّهُ كَمَا كُنْتُمْ أَنْتُمْ مَرَّةً لاَ تُطِيعُونَ ٱللّٰهَ، وَلٰكِنِ ٱلآنَ رُحِمْتُمْ بِعِصْيَانِ هٰؤُلاَءِ ٣١ هٰكَذَا هٰؤُلاَءِ أَيْضاً ٱلآنَ، لَمْ يُطِيعُوا لِكَيْ يُرْحَمُوا هُمْ أَيْضاً بِرَحْمَتِكُمْ».
أفسس ٢: ٢ وكولوسي ٣: ٧
في هاتين الآيتين إثبات لما قاله في رجوع اليهود من (ع ١٢ – ٢٧) والبرهان من معاملة الله للأمم.
أَنْتُمْ أيها الأمم.
مَرَّةً قبلما سمعتهم الإنجيل وآمنتم بالمسيح.
لاَ تُطِيعُونَ ٱللّٰه بما أعلنه لكم من حقه بواسطة أعماله في المخلوقات والضمائر.
ٱلآنَ رُحِمْتُمْ أي قُبلتم في كنيسة المسيح بعدما آمنتم.
بِعِصْيَانِ هٰؤُلاَءِ أي عدم إيمان اليهود. وهذا كان وسيلة إلى التبشير بالإنجيل بين الأمم كما سبق في (ع ١١ و١٥).
هٰكَذَا هٰؤُلاَءِ أَيْضاً ٱلآنَ، لَمْ يُطِيعُوا أي اليهود بعدما بُشروا بالإنجيل.
لِكَيْ يُرْحَمُوا هُمْ أَيْضاً بِرَحْمَتِكُمْ أي أن الرحمة التي أظهرها الله للأمم تكون سبباً لإيمان اليهود وخلاصتهم كما سبق الكلام على قوله «ملء الأمم» في (ع ٢٥) وإغارة اليهود في (ع ١١).
ومفاد هاتين الآيتين أنه كما كان الخلاص من اليهود إلى الأمم كذلك يكون من الأمم إلى اليهود ببركات الإنجيل. وكما كان عدم إيمان اليهود سبيلاً إلى خلاص الأمم كذلك يكون إيمان الأمم سبيلاً إلى خلاص اليهود.
٣٢ «لأَنَّ ٱللّٰهَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْجَمِيعِ مَعاً فِي ٱلْعِصْيَانِ لِكَيْ يَرْحَمَ ٱلْجَمِيعَ».
ص ٣: ٩ وغلاطية ٣: ٢٢
لأَنَّ ٱللّٰهَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْجَمِيعِ مَعاً فِي ٱلْعِصْيَانِ أي حكم على اليهود والأمم بالمعصية (رومية ٣: ٩ و١٠). غاية الرسول من هذه الآية بيان أن الله أنشأ وسائل تبرهن بها أن اليهود والأمم سواء عنده لأنهم اخطأوا جميعاً وأصرّوا على خطاياهم ولم يستحقوا رضاه. ترك الأمم أولاً في طرقهم ليظهروا عصيانهم وشرورهم وعجزهم عن نفع أنفسهم واحتياجهم إلى النعمة ثم ترك اليهود ليُظهروا ما أظهره الأمم بغية أن يشفق على الجميع ويفتح أبواب الرحمة للجميع بلا محاباة ليأتي إليه كل من يريد.
لِكَيْ يَرْحَمَ ٱلْجَمِيعَ هذه غاية سعادة لمقدمة شفاء فأول الآية بيان لعموم الخطيئة وآخرها عموم الدعوة إلى الخلاص. وهو لا يستلزم خلاص كل فرد من البشر لأن شرط نيل الرحمة قبولها ويمكن الخطأة أن يرفضوها. والخلاصة أن الله رأى خطيئة الإنسان عظيمة عامة فأعد بيسوع المسيح فداء كافياً لجميع الخطأة فشفق على الجميع ودعا الكل إلى قبول المسيح والخلاص به.
٣٣ «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللّٰهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلاسْتِقْصَاءِ!».
مزمور ٣٦: ٦ أيوب ١١: ٧ ومزمور ٩٢: ٥
هذه الآية بداءة تعظيم حكمة الله وجودته اللتين ظهرتا في عمل الفداء كما أعلن في ما سبق من هذه الرسالة من التبرير بالإيمان والتقديس والاختيار ودعوة الأمم ورجوع اليهود إلى الله بعد رفضهم الوقتي.
يَا لَعُمْقِ عمق الشيء يستلزم أن العقل لا يستطيع تمام إدراكه وأنه وافر لا ينفد.
غِنَى ٱللّٰهِ أي وفرة جودته حتى أنه يحوّل الشر خيراً وعموم المعصية عموم رحمة.
حِكْمَتِهِ أي عمق حكمته باختياره الوسائل المناسبة لنيل الغاية وهي مجد اسمه ونفع الناس حتى يكون عادلاً قدوساً صادقاً مع مغفرته للخاطئ وحمله إيّاه على إطاعته.
وَعِلْمِهِ أي عمق علمه وهو أنه يعلم منذ الازل كل ما يحدث ومن جملة ذلك ما ذكره هنا من مستقبل اليهود والأمم.
مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ أي مقاصده وقضاءه التي منها ما قضى به من رفض اليهود ودعوة الأمم ورجوع اليهود إليه أخيراً. والمراد ببعدها عجز العقل البشري عن فحصها.
وَطُرُقَهُ أي أعمال عنايته.
عَنِ ٱلاسْتِقْصَاءِ هذا متعلق «بأبعد» ومعنى بعد الشيء عن الاستقصاء أن الإنسان مهما بحث فيه لا يمكنه أن يبلغ غايته. ولكن مع عجزنا عن إدراك صفات الله وأعماله نرى ما يحملنا على التعجب والتعظيم.
٣٤ «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟».
أيوب ١٥: ٨ وإشعياء ٤٠: ١٣ وإرميا ٢٣: ١٨ و١كورنثوس ٢: ١٦ أيوب ٣٦: ٢٢ و٢٣
هذه الآية برهان على صحة التي قبلها.
مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ أي لا أحد يعرف مقاصد الله ولا العلل الموجبة لها. وهذا كقول أليفاز «هَلْ أَصْغَيْتَ فِي مَجْلِسِ ٱللّٰهِ، أَوْ قَصَرْتَ ٱلْحِكْمَةَ عَلَى نَفْسِكَ» (إيوب ١٥: ٨). وقول إرميا «مَنْ وَقَفَ فِي مَجْلِسِ ٱلرَّبِّ وَرَأَى وَسَمِعَ كَلِمَتَهُ؟ مَنْ أَصْغَى لِكَلِمَتِهِ وَسَمِعَ» (إرميا ٢٣: ١٨).
مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً أي لا أحد صار الخ فإنه غني عن كل مخلوقاته في مقاصده وأعماله. هذا كقول إشعياء «مَنْ قَاسَ رُوحَ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟ مَنِ ٱسْتَشَارَهُ فَأَفْهَمَهُ وَعَلَّمَهُ فِي طَرِيقِ ٱلْحَقِّ، وَعَلَّمَهُ مَعْرِفَةً وَعَرَّفَهُ سَبِيلَ ٱلْفَهْمِ» (إشعياء ٤٠: ١٣ و١٤).
٣٥ «أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟».
أيوب ٣٥: ٧ و٤١: ١١
معنى هذه العبارة أنه من المحال أن الإنسان يفيد الله حكماً أو معرفة أو شيئاً يجعل الله به مديوناً له. وهذا كقوله تعالى «مَنْ تَقَدَّمَنِي فَأُوفِيَهُ؟ مَا تَحْتَ كُلِّ ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ لِي» (أيوب ٤١: ١١ انظر أيضاً أيوب ٣٥: ٧). وخلاصة ما ذكره الرسول أن كل بركات الإنجيل من نعمة الله مجاناً لا فضل للإنسان فيها فإننا تبرّرنا باستحقاق المسيح لا باستحقاقنا وتقدسنا بالروح القدس لا بمقتضى إرادتنا وقصدنا. إننا اخترنا ودُعينا بمجرد مشيئة الله لا لصلاحنا. فكأنه قال من عرف فكر الرب وعلم الرب لا يُحد. ومن صار له مشيراً وحكمته لا تستقصى. ومن أعطاه شيئاً وهو الغني.
٣٦ «لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ. لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».
١كورنثوس ٨: ٦ وكولوسي ١: ١٦ غلاطية ١: ٥ و١تيموثاوس ١: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٨ وعبرانيين ١٣: ٢١ و١بطرس ٥: ١١ و٢بطرس ٣: ١٨ ويهوذا ٢٥ ورؤيا ١: ٦
لأَنَّ هذا تعليل لما مرّ من أنه لا يستطيع إنسان أن يعطي الله شيئاً.
مِنْهُ أي من الله فهو أصل كل البرايا لأنه الخالق (١كورنثوس ٨: ٦ و١١: ١٢).
بِهِ أي بالله فهو المعتني بكل شيء المجير جميع الحوادث.
لَهُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ لأن غايتها إظهار مجده أي كماله في القدرة والحكمة والجودة. وإظهار هذه الصفات الغاية من الخليقة والعناية والفداء فالإنسان لا شيء بالنسبة إليه تعالى. ذهب بعضهم أن في هذه الآية إشارة إلى التثليث لكن لا دليل كاف على ذلك.
لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ هذا مما يجب أن يقدمه المخلوق لله (غلاطية ١: ٥ وأفسس ٣: ٢١).
آمِينَ أي ليكن ذلك وهو خاتمة التعظيم والتسبيح.
فوائد
- إنّا نتعلم من هذا الفصل أن اليهود لا بد من أن يرجعوا إلى الله وذلك يتضمن ثلاث قضايا:
- الأولى: إن ذلك الرجوع متوقف شيئاً على إيمان الأمم (ع ١١ – ٣١).
- الثانية: إنه يترتب على ذلك الرجوع فوائد عظيمة لسائر الناس (ع ١٢ و١٥).
- الثالثة: إنه لا يكون إلا بعد ملء الأمم أي إيمان جماهير كثيرة منهم. وما زاد على هذه القضايا الثلاث فهو من مواليد الأوهام كقولهم أنه يكون بغتة أو بمعجزة أو على أثر مجيء المسيح ثانية وأن ذلك يقتضي رجوع اليهود إلى أرضهم.
- إن كنيسة الله واحدة في كل عصر ونظام وهي جماعة الله الحقيقية وأولادها ومنها الآباء الأولون ونسلهم ومن دخل إليها من الأمم منذ أيام المسيح وقد رُفض منها الجزء الأكبر من اليهود وسيرجعون إليها وهي لم تزل كنيسة الله مع كل ما أصابها فالزيتونة واحدة مع كثرة أغصانها وتغير بعضها (ع ١٧ – ٢٤).
- إنه ينتج من نسبة المسيحيين إلى اليهود أربعة أمور:
- الأول: وجوب الشعور بأنا مدينون لهم بحفظهم لنا معرفة الإله الحق وعبادته وإيصالهما إلى سائر الناس (ع١٧ و١٨).
- الثاني: الشفقة القلبية عليهم لرفض الله إياهم ولما نزل بهم من البلايا مع أن رفضهم كان وسيلة إلى تبشير الأمم بالإنجيل (ع ١١ و١٢ و١٥).
- الثالث: تجنب الاستخفاف بهم والأفتحار عليهم (ع ١٨ و٢٠).
- الرابع: شدة الرغبة في رجوعهم وقبولهم يسوع المسيح مخلصاً لهم وهذه الرغبة تقودنا إلى الصلاة والعمل بغية تلك الغاية (ع ١٢ و١٥ و٢٥).
- إن تصرّف الله بشعبه القديم يعلمنا نحن المسيحيين أربعة أشياء:
- الأول: إنه ليس ما يضمن لنا دوام الامتيازات إلا دوام الأمانة (ع ٢٠).
- الثاني: إن ذلك يوجب علينا أن نتواضع ونحذر لا أن نتكبر ونطمع (ع ٢٠ و٢١).
- الثالث: إن الله على ما يُرجّح لا يصبر علينا كما صبر على اليهود (ع ٢١).
- الرابع: إنه إن رفضنا الله لعدم إيماننا فلا بد من أن يكون عقابنا أشد من عقابهم إذ لم يقطع الله عهداً مع الأمم إن يردهم إلى كنيسته إذا ارتدوا عن الإيمان (ع ٢١ – ٢٤).
- إن عمل عناية الله عجيب فإنه تعالى يجعل الخير والشر وسيلة إلى إتمام مقاصده الخيرية المجيدة فإنه جعل عصيان اليهود ورفضه إياهم ذريعة إلى قبول الأمم وإيمان الأمم وطاعتهم واسطة لإرجاع اليهود (ع ١١ و٣١).
- إنه من البركات العظيمة التسلسل من أناس قطع الله معهم عهداً لأن وعد الله للإنسان ولنسله بدليل قوله «فَٱعْلَمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ هُوَ ٱللّٰهُ، ٱلإِلٰهُ ٱلأَمِينُ، ٱلْحَافِظُ ٱلْعَهْدَ وَٱلإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيلٍ» (تثنية ٧: ٩). فبركة إبراهيم لا تزال نافعة ليهود هذا العصر ولن تزال تنفع من بعدهم (ع ١٦ و٢٧ – ٢٩).
- إن مستقبل أولادنا وأولاد أولادنا متوقف كثيراً على أمانتنا فإن الله إله غيور يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيه. إن قول اليهود يوم الحكم بصلب المسيح «ليكن دمه علينا وعلى أولادنا» جلب النوازل على ألوف وربوات من أولادهم الذين لم يكونوا قد ولدوا. وكما أن اليهود يُعاقبون في عصرنا بكفر آبائهم كذا يُعاقب أولاد من يكفر من المسيحيين بكفره (ع ١٩ – ٢٤) إن كل جماعة منتظمة سياسية كانت أم دينية يحسبها الله كشخص واحد يثيبها على الخير ويعقابها على الشر في هذا العالم لأن نظامها مقصور عليه ومنته فيه والدليل على ذلك ما وقع على اليهود من رفض وتشتت ونوازل عقاباً لهم على رفضهم المسيح فإنهم رفضوه أمة وعوقبوا كذلك.
- إنه من الواضح أن الله قد يقطع عهداً مع الجماعات ومثال ذلك أنه تعهد لكل الجنس البشري بأنه لا يهلك العالم بالطوفان ثانية وأن فصول السنة تأتي في أوقاتها إلى نهاية الأرض وأنه تعهد لليهود بأنهم يكونون شعبه وأنه يكون إلهاً لهم ولنسلهم إلى الأبد. وهذا العهد دائم ويستلزم رجوع اليهود إلى بركات كنيسة الله (ع ١٦ و٢٨ و٢٩).
- إن رجوع اليهود أمر مرغوب في الذات والله يقصده فيجب على المسيحيين أن يعتنوا به وهم يسعون في خلاص الأمم كما فعل بولس (ع ١٣ و١٤) فكل شيء يؤول إلى نجاح الإنجيل بين الأمم يؤول إلى تعجيل الوقت الذي يرجع فيه اليهود (ع ٢٥).
- إن هبات الله ودعوته بلا ندامة فمن وهب له الله الروح القدس ودعاه القداسة حق له أن يتأكد دوام ذلك (ع ٢٩).
-
إن من مبادئ الكتاب المقدس والدين الحق كون الله هو الكل وفي الكل وكون كل شيء منه وبه وله. ومن تأثيرات الحق رفع شأن الخالق وخفض شأن المخلوق. فكل تقي يجب أن ينسب الفضل إلى الله ويرغب في أن يقدم له كل المجد (ع ٣٣ – ٣٦).
السابق |
التالي |