رومية

الرسالة إلى رومية | 08 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى رومية

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثامن

 

هذا الأصحاح إيضاح لقول الرسول «أشكر الله بيسوع المسيح ربنا» جواباً لقوله «من ينقذني من جسد هذا الموت» (ص ٧: ٢٥). وإتمام للكلام في فضل الإنجيل على الناموس ليكون المؤمن بالمسيح سعيداً مطمئناً. وأسباب هذا الاطمئنان سبعة:

  • الأول: تحرّره من دينونة الناموس إذ أوفى المسيح كل مطاليبه (ع ١ – ٤).
  • الثاني: ابتداء خلاصه الآن بسكنى الروح القدس فيه لتجديده وتقديسه (٥ – ١١).
  • الثالث: صيرورته ابناً لله (١٢ – ١٧).
  • الرابع: إن ما يصيبه من الأرزاء لا ينافي بنوته لله لأن هذه الأرزاء ليست شيئاً بالنسبة إلى المجد العتيد أن يُعلن ولأن شفاعة الروح القدس تعينه على احتمالها (ع ١٨ – ٢٨).
  • الخامس: اختيار الله إياه لنيل الحياة الأبدية وتقديسه الآن برهان على مختاريته (ع ٢٨ – ٣٠).
  • السادس: بذل الله ابنه ليموت عنه ويحصّل له التبرير والخلاص (ع ٣١ – ٣٤).
  • السابع: إن محبة الله إياه غير محدودة ولا متغيرة ولا شيء يفصله عنها (ع ٣٥ – ٣٩).

اطمئنان المؤمن وسعادته ع ١ إلى ١١

١ «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ».

ع ٤ وغلاطية ٥: ١٦ و٢٥

إِذاً أي ما يأتي نتيجة ما تقدم من احتجاج الرسول على أننا «لسنا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ» (ص ٦: ٤) وعلى أن المسيح مات كفارة عن خطايانا (ص ٥: ٨ وعلى أنه بطاعته تبرّر كثيرون (ص ٥: ١٦).

لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ لا كثير منها ولا قليل لا لخطيئة آدم ولا لخطايانا ولا للخطايا التي ارتكبناها قبل التجديد ولا للخطايا التي ارتكبناها بعده ولا شيء من تلك الدينونة في هذا العالم ولا العالم الآتي.

عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي المتحدين به بالإيمان الذين حمل خطاياهم بموته على الصليب. فإذاً الدينونة على كل من ليسوا فيه ومنهم كل الذين يتكلون على أعمالهم الصالحة للتبرير. فمجرد موت المسيح عن الخاطئ غير كاف لرفع الدينونة عنه لأنه لا يفيد إلا المؤمنين لأنه بالإيمان تُنسب أعمال المسيح كلها إليهم.

إن المؤمنين «هم في المسيح» بمقتضى عهد النعمة كما كانوا «في آدم» بمقتضى عهد الأعمال (ص ٥: ١٢ – ٢١ و١كورنثوس ١٥: ٢٢) و «هم في المسيح» لأن حياته حياتهم كما أن حياة الكرمة حياة أغصانها (يوحنا ١٥: ١ – ٧) وحياة الرأس حياة الأعضاء (١كورنثوس ١٢: ٢٧ وأفسس ١: ٢٣). و «هم في المسيح» بواسطة إيمانهم به (غلاطية ٣: ٢٦ و٢٧ وأفسس ٣: ١٧).

ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ دائماً لا وقتاً دون آخر وهذا من صفات المؤمنين لا علّة رفع الدينونة عنهم. فاتحادهم بالمسيح بالإيمان يستلزم أن يكونوا خليقة جديدة (٢كورنثوس ٥: ١٧ وفيلبي ٣: ١٦ و١يوحنا ٢: ٥). وهذا السلوك غير مقصور على أعمالهم الظاهرة فهو يشمل العواطف الباطنة التي تنشأ عنها الأعمال الظاهرة. ومعنى عدم السلوك حسب الجسد عدم الطاعة لأهواء الطبيعة الفاسدة. وذُكر السلوك حسب الجسد في (غلاطية ٥: ١٩ – ٢١).

بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي إطاعة للطبيعة الروحية الجديدة بإرشاد الروح القدس الذي هو مصدر كل إنارة وقداسة وقوة وسلام. وذُكرت نتائج هذا السلوك في (غلاطية ٥: ٢٢ – ٢٤).

وقوله «بل حسب الروح» لم يوجد في كل النسخ القديمة فرأى الأكثرون أنه نقله بعض النسّاخ سهواً من موضعه في الآية الرابعة.

٢ «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ».

١كورنثوس ١٥: ٤٥ و٢كورنثوس ٣: ٦ يوحنا ٨: ٣٦ وص ٦: ١٨ و٢٢ وغلاطية ٢: ١٩ و٥: ١ ص ٧: ٢٤ و٢٥

لأَنَّ تعليل لرفع الدينونة عن المؤمنين.

نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ هو بمعنى «الناموس» في (ص ٧: ٢١) «وناموس آخر» و «ناموس ذهني» في (ص ٧: ٢٣) وهو مجموع ما يتحققه المؤمن بالاختبار. وهنا ما يحكم روح الحياة بوجوبه. وقد أُعلن في الإنجيل. و «الروح» هنا هو الروح القدس العامل في نفس الإنسان المتجدّد. وسمّي «روح الحياة» لأنه ينشئ الحياة الروحية في نفس المؤمن.

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ فهو علّة حلول الروح القدس والحياة في المؤمن لاتحاده به كما مر في (ع ١). وعلّة الإعتقاد المذكور في باقي الآية. ولعل في هذا إشارة إلى فعل المسيح ظاهراً وفعل الروح باطناً لإعتاقنا.

أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ ذُكر هذا الناموس في (ص ٧: ٢٣ – ٢٥) وهو سلطان الطبيعة الفاسدة في الإنسان الذي يقوده إلى الخطيئة والموت الذي هو أجرتها. وقد وُصف أيضاً «بالعبودية» وطلب الرسول النجاة منه في قوله «من ينقذني الخ». والفرق بين «ناموس روح الحياة» و «ناموس الخطيئة والموت» أن الذي ينهي عنه الواحد يأمر به الآخر. وصرّح هنا أن روح ناموس الحياة في نفس المؤمن أقوى من ناموس الخطيئة والموت فيفك قيود عبوديته المانعة من تقديسه. وقد تبرهن قبلاً أن موت المسيح يبرّر المؤمن فنتج أن ليس للخطيئة دعوى عليه وثبت قوله «لا دينونة على المؤمنين».

والإعتاق من الخطيئة لا يكون دفعة بل تدرجاً ويتم عند الموت. وهذا قصد روح الحياة وغاية عمله.

٣ «لأَنَّهُ مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِٱلْجَسَدِ، فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ».

أعمال ١٣: ٣٩ وص ٣: ٢٠ وعبرانيين ٧: ١٨ و١٩ و١٠: ١ و٢ و١٠ و١٤ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وغلاطية ٣: ١٣

لأَنَّهُ تعليل للإعتاق المذكور.

مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ «الناموس» هنا الناموس الأبدي أي شريعة الله. والذي عجز عنه هذا الناموس هو النجاة من سلطان الخطيئة الذي تكلم عليه في (ص ٧). بيّن سابقاً أن الناموس لا يستطيع أن يبرّر من تعدّوه (ص ٢: ٢١ – ٣١) وبيّن هنا أنه عاجز عن التقديس كما عجز عن التبرير والخلاصة أن الناموس عجز عن تخليص الخاطئ ودينونة الخطيئة معاً.

فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِٱلْجَسَدِ أي لكونه ضعيفاً بسبب ضعف الطبيعة البشرية الفاسدة (ص ٧: ٥). وفي هذا بيان علّة عجز الناموس ودفع لومه لأنه مقدّس وعادل وصالح (ص ٧: ١٢). فهو غير عاجز في السماء بين الملائكة والقديسين ولم يكن عاجزاً على الأرض عن تبرير الناس وتخليصهم لو قاموا بمطاليبه ولا عاجزاً عن إظهار صفات الله المجيدة وإعلان إرادته وتعليم الإنسان ما يجب عليه لله وللناس ولا عن إنذار المتمرد بالهلاك وعقاب العصاة جميعاً. ولكنه لم يستطع أن يدين الخطيئة ويخلّص الخاطئ معاً ولا أن يقدسه لضعف طبيعته وفسادها.

إن الإنسان لا يهاب عظمة الناموس ولا يخاف عقابه حتى يطيعه لقوة ميله إلى إطاعة شهوات الجسد وأهواء القلب الفاسد.

فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ أي الله الآب هو مصدر الخلاص كما جاء في بشارة يوحنا (يوحنا ٣: ١٦). وكونه «مرسلاً» يستلزم أنه كان قبل أن تجسد وهذا موافق لما قيل في (ع ٣٢) ولقوله «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤ و٥). وإنه كان ابن الله قبل أن أُرسل إلى العالم فإذاً لم يكن ابنه بولادته الخارقة الطبيعة ولا بارتفاعه بعد موته ولا بأنه أعظم خلق الله كما ظن بعضهم فهو ابنه منذ الازل وهو والآب جوهر واحد مساوٍ له في القدرة والمجد أرسله الله ليقوم بما عجز الناموس عنه. وعلّة ذكر الرسول نسبة المسيح إلى الله أي كونه ابنه ليبيّن عظمة النجاة التي كانت به لأنها لم تكن إلا بوسيط هو إله كما هو إنسان وأن مصدرها الله الآب الذي أرسله.

فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ أي في الناسوت. اختار الرسول هذه العبارة على أن يقول «في الجسد» دفعاً لتوهم أنه جاء في مثل جسد آدم حين خلقه الله على صورته ولم يقتصر على قوله «في شبه جسد» لأنه جاء في جسد حقيقي (يوحنا ١: ١٤). ولم يقل في جسد الخطيئة لئلا يلزم منه ان طبيعته كانت فاسدة كسائر البشر وهو مناف للقول أنه «فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عبرانيين ٤: ١٥ انظر لوقا ١: ٣٥ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وعبرانيين ٩: ١٤ و١بطرس ٢: ٢٢) ومثل هذه الآيات كثير في الكتاب. فقال «في شبه جسد الخطيئة» لأنه كان إنساناً في كل شيء ما خلا الخطيئة فكان جسده قابلاً البرد والجوع والتعب والألم والموت كسائر أجساد البشر وكانت روحه قابلة الحزن والفرح وغير ذلك من الانفعالات النفسانية ليشعر معنا بضيقاتنا و «لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ» (عبرانيين ٢: ١٧).

وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ بعد أن ذكر الهيئة التي أُرسل بها المسيح ذكر الغاية من إرساله وهي أن يقدّم نفسه ذبيحة كفارة عن الخطيئة وأن يبيد الخطيئة ويبطل سلطانها على الناس (غلاطية ١: ٤ وعبرانيين ١٠: ٦ و٨ و١٨ و١٣: ١١).

دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ بحمله قصاصها وإبطاله سلطانها وهذا ما لم يستطعه الناموس وأن يخلّص الخاطئ أيضاً نعم أنه يقدر أن يدين الخطيئة بإهلاك الخاطئ عقاباً على الخطيئة ولكنه لم يستطع أن يدينها بلا إهلاكه.

فِي ٱلْجَسَدِ أي بالناسوت. ومعنى الجملة أن المسيح أخذ طبيعة الإنسان لكي يحمل قصاص الخاطئ بها بالآلام والموت فدان الخطيئة بها. ومما يدل وجوب أن تكون الكفارة في الطبيعة التي خطئت نفسها وصارت عرضة للدينونة قوله «إِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ… لأَنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ» (عبرانيين ٢: ١٤ و١٦). فلو شاء أن يخلص الملائكة الذين سقطوا لوجب أن يأخذ طبيعة ملاك ويتألم فيها. وأن المسيح حين مات على الصليب كسر شوكة الخطيئة عن الناس وأعتقهم من رقها فضلاً عن احتماله ما وجب عليهم من القصاص. فالمؤمن بالمسيح يشترك في كل نتائج موته أي أنه ينجو من قصاص الخطيئة وسلطانها أعني أنه يتبرّر ويتقدّس.

ذهب بعض المفسرين أن المراد «بالخطيئة في الجسد» ميل الإنسان إلى الخطيئة لأهوائه الجسدية وهو موضوع الأصحاح السابع. وهذا الميل هو الذي يطرح الإنسان في العبودية وهو الذي لا يستطيع الناموس أن يخلصه منه. فالمسيح لما دان الخطيئة في الجسد أزال الميل الفاسد بإعطائه نعمة للمؤمنين لكي يغلبوه. فالمعنى حسن ولكن لا دليل على أن الرسول قصده.

٤ «لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوح».

ع ١

لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا هذا غاية الله من إرسال ابنه ليدين الخطيئة في الجسد أي هو أن يوفي عنّا الناموس كل ما له علينا من المطاليب بإطاعته أوامره واحتماله ما أوجبه علينا من القصاص. وهذا علّة تبريرنا وغايته التي هي التقديس كما يظهر من قوله «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس ٢: ١٠). وقال «لكي يتم حكم الناموس فينا نحن المؤمنين» ولم يقل لكي نتمم حكمه لأن ما يطلبه الناموس هو الطاعة الكاملة التي لم يستطعها الإنسان لكنه تمّ فينا بالمسيح وبالإيمان يكون فعل المسيح ذلك فعلنا. وما نقوم به نحن من مطاليب الناموس إنما نقوم به بفعل الروح القدس فينا وهو لا يستحق أن يُحسب إتماماً لحكم الناموس لأنه زهيد.

ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ هذا صفة للمؤمنين ونتيجة تبريرهم ودليله لا علّته. وهو أيضاً نتيجة سكنى الروح القدس فينا المشار إليها في (ع ٢).

«والسلوك» هو سير الإنسان في نواياه وأعماله وغاياته خيراً كان أم شراً كما في (تكوين ٥: ٢٤ و٦: ٩ و٤٨: ١٥ ومزمور ١: ١ وإشعياء ٢: ٥ وميخا ٢: ٦ وأفسس ٤: ١٦).

«والجسد» هنا «ناموس الخطيئة في أعضائنا» (ص ٧: ٢٣). والسلوك بحسب الروح لا بحسب الجسد غاية الله من المؤمنين ومطلوبه منهم. نعم أنهم لم يتمموا مقصود الله كما ينبغي لكنهم قاوموا أهواء الجسد وتسليمهم لتلك الأهواء أحياناً لم يكن باختيارهم.

بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي يجدّد روح المؤمن ويسكن فيه ويحثه على مقاومة الخطيئة واتباع القداسة ويقدره على ذلك.

٥ «فَإِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ حَسَبَ ٱلرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ».

يوحنا ٣: ٦ و١كورنثوس ٢: ١٤ غلاطية ٥: ٢٢ و٢٥

هذه الآية تفسير للآية الرابعة وبيان لعلّة سلوك البعض حسب الجسد والبعض حسب الروح وهي أن كل إنسان يسلك كما تقوده عواطف قلبه.

ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي غير المتجددي القلوب الذي يطيعون شهوات الجسد اختياراً ويسلمون أنفسهم بسرور إلى حكم طبيعتهم الفاسدة.

فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ أي لا يهتمون بغير الأمور الجسدية حلالاً أو حراماً ولا يفتكرون إلا فيها ولا يجعلون غايتهم إلا تحصيلها. ووصفهم الرسول في موضع آخر بأنهم «ٱلَّذِينَ إِلٰهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلأَرْضِيَّاتِ» (فيلبي ٣: ١٩).

ٱلَّذِينَ حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي الذين يقودهم الروح القدس ويعلّمهم ويرضى عنهم.

فَبِمَا لِلرُّوحِ أي الأمور الروحية المعلنة في كتاب الوحي. فالناس بمقتضى الكتاب المقدس ليسوا سوى قسمين أرضيين وسماويين ولا وسيلة للإنسان إلى الحكم عليهم إلا سلوكهم كما لا وسيلة إلى الحكم على الينبوع إلا ماؤه ولا إلى الحكم على الشجرة إلا أثمارها.

٦ «لأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلٰكِنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ».

ص ٦: ٢١ وع ١٣ وغلاطية ٦: ٨

لأَنَّ هذا تعليل لعدم اهتمام المؤمنين بالجسد.

ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ تسليم الإنسان نفسه إلى شهوات طبيعته غير المتجددة والسير بمقتضاها واستمراره على ذلك لا يكترث بغير الأرضيات.

هُوَ مَوْتٌ أي موت النفس والجسد حي. فهو خلاف الحياة الروحية فيتضمن الانفصال عن الله والخطيئة والتعرض للشقاء ونهايته الهلاك الأبدي (أفسس ٢: ١ و٥ و١تيموثاوس ٥: ٦).

ٱهْتِمَامَ ٱلرُّوحِ عناية نفس المؤمن بالأمور الروحية المقدسة وهي من منشآت الروح القدس إجابة للصلاة.

هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ حقيقيان دائمان وعربون الحياة الأبدية والسعادة السماوية. وهذا نتيجة اهتمام الروح لأن الروح القدس الساكن في قلب المؤمن محيٍ. ولا يلزم من ذلك أن المؤمن يكون خالياً من أتعاب هذا العالم وشدائده. فالمعنى أن شعوره بمحبة الله إياه وراحة ضميره وتعزيات الكتاب المقدس وآماله المجيدة تقدّره على الاستخفاف بتلك الشدائد. وأما الإنسان الدنيوي فليس له سلام باهتمامه في تحصيل الغنى والسلطة والشرف العالمي وإشباع شهواته الحيوانية.

٧ «لأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ».

يعقوب ٤: ٤ و١كورنثوس ٢: ١٤

لأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ هذا تعليل لأنه موت لأن عداوة المهتم بالجسد لله تستلزم انقطاعه عن الله مصدر الحياة الروحية والتعرض لغضبه تعالى وللعقاب المعيّن وهو الموت الأبدي.

إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ ٱللّٰهِ هذا برهان على أن اهتمام الجسد عداوة لله لأن ناموس الله إعلان مشيئته فمخالفته مخالفة الله ومخالفة الله عداوة له. وهو صرّح فيه بأن اهتمام الجسد مكروه لديه وأمر بإماتة شهوات الجسد فالذي يسير بمقتضى تلك الشهوات يعصي الله (يعقوب ٤: ٤ و١يوحنا ٢: ١٥).

لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ لأنه لو استطاع لاجتمع الضدان وهو محال. فإن الإنسان المهتم بالجسد يتبع إرادة نفسه والذي يخصع للناموس يتبع إرادة الله فلو خضع لناموس الله بطل أن يكون مهتماً بالجسد (قابل هذا بما في متّى ٧: ٨ و١٢: ٢٦ ويوحنا ٦: ٤٤ و١كورنثوس ٢: ١٤).

٨ «فَٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا ٱللّٰهَ».

معنى هذه الآية كمعنى الآية السابعة.

ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْجَسَدِ الذين يجعلون اهتمامهم بأهواء الجسد غايتهم العظمى فهم بمقتضى ما سبق أعداء لله غير خاضعين لناموسه ولا يستطيعون أن يرضوا الله ما بقوا في تلك الحال لأن كونهم أعداء الله يستلزم أن يكون عدوهم ويكونوا عرضة لغضبه. وعبّر عن المهتمين بالشهوات بكونهم «في الجسد» كما عبّر عن المهتمين بالروحيات بكونهم «في المسيح» فيحتمل أنهم يفعلون وهم في تلك الحال أموراً كثيرة حسنة موافقة لشريعة الله لكنهم لا يرضون الله بها لكونهم لا يأتونها بغية الطاعة له.

٩ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ فَذٰلِكَ لَيْسَ لَهُ».

١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ يوحنا ٣: ٣٤ وغلاطية ٤: ٦ وفيلبي ١: ١٩ و١بطرس ١: ١١

وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ صرّح بولس بأن مسيحيي رومية ليسوا جسدانيين بل روحيين وحكم بذلك بناء على إقرارهم بالإيمان بالمسيح وعلى ما سمعه من أمرهم كما يظهر من قوله «أَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (ص ١: ٨). ولكن إقرار الإنسان وصيته ليسا بيّنة كافية على كونه روحانياً لأنه يمكن أن يكون مرائياً خادعاً لغيره أو لنفسه ولذلك زاد على هذا ما يأتي.

إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ كما ينبغي أن يسكن في كل مسيحي. هذا هو الذي يؤكد أن الإنسان روحي لا قوله بأنه كذا ولا كونه عضواً في الكنيسة. إن روح الله لا يسكن في الإنسان إلا ليلّعمه ويرشده ويطهّره من أهواء الجسد. وهذا الروح في كل مكان لكنه قيل على نوع خاص أنه حيث تظهر آيات وجوده. وبهذا المعنى قيل قديماً أنه «سكن في الهيكل». وقيل في العهد الجديد أنه «يسكن في الكنيسة» (أفسس ٢: ١٩ – ٢٢). وقيل أنه يسكن في كل مؤمن ومن ذلك قوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ» (١كورنثوس ٦: ١٩ انظر ايضاً يوحنا ١٤: ١٩ و١كورنثوس ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٢: ١٦ و٢تيموثاوس ١: ١٦).

إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ أي إن كان أحد غير ساكن فيه الروح القدس (وهو الذي عبّر عنه «بروح الله» في أول الآية) ولا يظهر تأثير لسكناه فيه.

فَذٰلِكَ لَيْسَ لَهُ أي ليس تلميذ المسيح حقيقة ولا ممن له شركة في الخلاص الذي أعدّه لأنه لا اتحاد لأحد بالمسيح إلا بسكنى الروح القدس فيه.

مما يستحق الاعتبار هو أن الروح القدس الأقنوم الثالث في اللاهوت سُمّي هنا «روح الله» و «روح المسيح» وسمي أيضاً «روح المسيح» في (غلاطية ٤: ١٦ وفيلبي ١: ١٩ و١بطرس ١: ١١). وينتج من ذلك أن نسبة الروح إلى المسيح كنسبته إلى الله الآب وهذا برهان قاطع على لاهوت المسيح. وهذا البرهان كالبرهان في قول يوحنا إن المسيح «يعمّد بالروح القدس» (يوحنا ١: ٣٢) وأنه «يرسله إلى تلاميذه» (يوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ٧) وأنه «أعطى تلاميذه إياه» (يوحنا ٢٠: ٢٢).

١٠ «وَإِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ».

ذكر في الآية التاسعة نتيجة خلو الإنسان من روح المسيح مصدر الحياة وذكر في هذه الآية نتيجة حلوله فيه.

وَإِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ أي إن كنتم متحدين بالمسيح الاتحاد الكامل الموجب لحياتكم وهذا كقوله «وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَهُوَ ٱلرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ» (٢كورنثوس ٣: ١٧). وقوله «ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ١: ٢٧).

من الواضح أن بولس أتى بجمل مترادفة أي بمعنى واحد مثل أن «الله يسكن فينا» وأن «روح الله» كذا وأن «روح المسيح» كذلك وهذا لأن الله واحد في ثلاثة أقانيم أو ثلاثة أقانيم في جوهر واحد فلذلك حيث يكون الآب الابن وحيث يكون الابن الروح. وعلى هذا قال المسيح «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا ١٤: ٢٣). وقول الرسول «مَنِ ٱعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، فَٱللّٰهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي ٱللّٰهِ» (١يوحنا ٤: ١٥).

فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ الجسد هنا ليس سوى الجسد المنظور المشتمل على اللحم والدم. ومعنى «ميت» محكوم عليه بالموت ولا بد من أن يموت. وهذا الموت يتضمن الأمراض والأوجاع والضعف والأرزاء التي تتقدمه والخطيئة علّة جميعها لأنه لولا الخطيئة لم يكن موت ولا ما يؤدي إليه. وهذه كلها تلحق أجساد المؤمنين كما تلحق أجساد غيرهم ولكنها لا تلحقها بعد الموت لأنها حينئذ تشارك النفوس في فوائد الفداء (ع ١١).

وقوله «فالجسد ميّت بسبب الخطيئة» لا يستلزم أن الجسد مركز الخطيئة وأنه وحده يستحق القصاص إنما استحسن الله أن يترك هذا القدر من عقاب الخطيئة على المؤمنين (أي موت الجسد) لكنه ينزع شوكته عنهم.

وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ أي أن روح المؤمن نالت حياة جديدة أبدية بواسطة اتحادها بالمسيح حياتها.

بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ أي تجديد القلب عند الإيمان وتقديسه بعده وهذا نتيجة سكنى روح المسيح في القلب حسب قوله «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٤٧). فحيث الإيمان الاتحاد بالمسيح وحيث هذا الحياة وحيث الحياة البرّ. وعلامات الحياة الروحية مقاومة الخطيئة والاشتياق إلى القداسة. وهذا عربون تمام القداسة والسعادة في العالم الآتي. ومن البيّن أن البرّ المشار إليه لا يمكن الإنسان أن يحصل عليه ما لم يكن قد نُسب إليه برّ المسيح. فمعنى الجملة أن روح المؤمن حيّة لأنها مبرّرة ومقدسة.

١١ « وَإِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ».

أعمال ٢: ٢٤ ص ٦: ٤ و٥ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ٤: ١٤ وأفسس ٢: ٥

معنى هذه الآية أن جسد المؤمن يشارك روحه في العالم الآتي في فوائد الفداء.

رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي روح الله الذي هو الروح القدس. وصفه بولس بهذا للعلة التي ذُكرت في تفسير (ص ٤: ٢٤). وذُكرت أدلة إقامة الله للمسيح في (أعمال ٢: ٢٤ و٣٢ و٣: ١٥ و٢٦ و٤: ١٠ و٥: ٣٠ و٢٦: ٨ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ٤: ٤) وأمثال ذلك كثيرة في العهد الجديد.

سَاكِناً فِيكُمْ سبق الكلام على هذا في تفسير (ع ٩).

فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ هذا لقب يسوع أو صفته لأنه مُسح ملكاً وكاهناً ونبياً أما يسوع فهو اسمه المعروف به بين الناس.

سكنى الروح القدس في قلوب المؤمنين عربون أنه يقيم أجسادهم كما أقام جسد المسيح لأنه من قدر أن يقيم جسد المسيح يقدر أن يقيم أجساد المؤمنين ويليق أن يقيمها لأنها هياكل لروحه القدوس ولا يحسن أن تبقى تحت سلطان الموت. فقيامة المسيح تؤكد قيامة المتحدين به ويؤيد ذلك قوله «كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (١كورنثوس ١٥: ٢٢ و٢٣).

سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ ماتت هذه الأجساد «بسبب الخطيئة» (ع ١٠) فاقترانها بالنفوس المجدّدة تؤكد مشاركتها لها في كل فوائد الفداء. والمشار إليه هنا هو ما يحدث في اليوم الأخير وهو اليوم الذي فيه نتغير إلى شبه جسد المسيح الممجد.

بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ علّة قيامة أجسادهم روح الله فكونه مجدّد النفس يستلزم أنه يقيم الجسد لأنهما إنسان واحد ولا يكون الانتصار على الموت كاملاً إلا بذلك.

وعدم ذكر قيامة الأشرار في هذه الآية ليس بدليل على أن أجسادهم لا تقوم إذ لا داعي إلى ذكرها هنا. وكثيراً ما ذُكرت في غير هذا الموصع ومن ذلك قول دانيال «وَهَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْعَارِ لِلاِزْدِرَاءِ ٱلأَبَدِيِّ» (دانيال ١٢: ٢). وقول المسيح «فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنا ٥: ٢٩).

فوائد

  1. إن ما في هذا الفصل نتيجة ما سبق ولذلك ذكر الرسول فيها التعاليم الجوهرية التي كان يحتجّ بها. منها أن التبرير بالإيمان (ع ١). وأن المؤمنين ليسوا تحت الناموس (ع ٢). وأن ما عجز عنه الناموس أي التبرير حصّله الله لنا بتقديم ابنه كفّارة (ع ٣ و٤). وأن تلك البركة مقترنة دائماً بالحياة المقدسة (ع ٤).
  2. إن اطمئنان المؤمنين المتحدين بالمسيح الذين يظهر اتحادهم به بأعمالهم الحسنة هو جوهر هذا الأصحاح كله وأثبته الرسول في هذا الفصل بأمرين الأول أنهم تحرروا من الناموس الذي حكم عليهم بالموت (ع ٢ – ٤). والثاني أنهم نالوا الروح القدس الذي هو منشئ الحياة الأبدية وعربونها. فإذاً لا اطمئنان لغير المؤمنين بالمسيح لبقائهم تحت حكم الناموس ولعدم اتحادهم بالمسيح وبروحه المحيي.
  3. إن الحرية التي حرّر المسيح بها شعبه هي التحرر من الناموس ومن الخطيئة معاً (ع ٢ و٥). فإذاً الاتكال على أعمالنا الصالحة للخلاص وسوء السيرة كلاهما مناف لما يتوقع من المسيحي بالحق.
  4. إنه يحق للمؤمنين أن يطمئنوا ويسروا اطمئنانا وسروراً لا يحقان لغيرهم لأنه أوفي كل ما عليهم من مطاليب الناموس. فالذي الله برّره من يدينه (ع ٤).
  5. إن المسيح إله حق لأنه ابن الله وله وللآب جوهر واحد وطبيعة واحدة وأن الروح القدس روحه وأنه يسكن في المؤمنين وأنه إنسان حق ظهر في شبه الناس (ع ٣ و١١).
  6. إن المسيح قدّم نفسه ذبيحة عن الخطيئة واحتمل كل ما احتمله من الآلام ليوفي الناموس حقه على من تعدوه فدان الله الخطيئة بالمسيح (ع ٣).
  7. إن كل تعاليم الكتاب المقدس مناف للقول بأن الناموس ليس بقانون الحياة المسيحية إذ حقق بولس هنا أن التبرير والتقديس لا يمكن انفصال أحدهما عن الآخر وأنه لا يقدر أحد أن يرضي الله ويسلك بحسب الجسد (ع ٥ – ١١).
  8. إن الله جعل القداسة من ضروريات نظامه إذ رتب أن تكون الخطيئة موتاً والقداسة حياة وسلاماً فربط الإثم بالشقاء والقداسة بالسعادة بربط لا تنفك. وهذا التعليم لا ينفيه كون الأتقياء عرضة للبلاء وكون المسيح «رجل أوجاع ومختبر الحزن». لأن ذلك ليس بناتج عن القداسة (ع ٦).
  9. إن ما يستمر عليه الإنسان من الأفكار والأشواق والغايات هو مقياس سجيته «لأن الذين حسب الجسد بما للجسد يهتمون الخ» (ع ٥).
  10. إن كل الذين لم يتجددوا أي «الذين هم في الجسد» هم أعداء لله وعرضة لغضبه (ع ٦ و٨).
  11. إن الروح القدس مصدر كل خير في الإنسان فالذي يمتاز به المسيحي بالحق عن غيره هو سكنى الروح القدس فيه وعليها يتوقف شرف المسيحي وقداسته وسعادته. فالخالون من تأثير ذلك الروح ليسوا طائعين لشريعة الله ولا يستطيعون (ع ٧ – ١٠).
  12. إن موت المؤمنين والمصائب التي تصيبهم نتيجة الخطيئة (ع ١٠) لكنها ليست بعقاب ولا بدليل على غضب الله عليهم إنما هي آية محبته الأبوية (عبرانيين ١٢: ٦).
  13. إن المسيح لم يقتصر على فداء نفوس المؤمنين ففدى أجسادهم أيضاً (ع ١١).
  14. إنه يجب على المسيحي لأن الروح القدس يسكن فيه أن لا يُحزن ذلك الضيف القدوس بشيء من الأفكار التي يكرهها وأن لا يدنس جسده لأنه هيكله (ع ١١).

اطمئنان المؤمنين لرجائهم وسكنى الروح القدس فيهم ع ١٢ إلى ٢٨

١٢ «فَإِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ نَحْنُ مَدْيُونُونَ لَيْسَ لِلْجَسَدِ لِنَعِيشَ حَسَبَ ٱلْجَسَد».

ص ٦: ٧ و١٤

فَإِذاً أي ما يأتي نتيجة (ع ١٠ و١١).

نَحْنُ أي المؤمنون.

مَدْيُونُونَ لَيْسَ لِلْجَسَدِ كل من الجسد والروح قوة تطلب التسلط على الإنسان فالجسد كناية عن الخطيئة والروح كناية عن القداسة. ومعنى العبارة أن المؤمنين غير مكلفين البتة بإطاعة الطبيعة الفاسدة التي استعبدتهم قبلاً وهي عداوة لله ومهلكة للنفوس كما سبق.

لِنَعِيشَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي لنسلك بمقتضى الشهوات المحرّمة ونسلّم أنفسنا للكبرياء والحسد والبغض وأمثال ذلك. فإذاً نحن مديونون لنعيش حسب الروح والرسول لم يصرّح بهذه النتيجة اعتماداً على استنتاج القارئ لها. فيجب علينا أن نعيش في التقوى والقداسة حسب إرشاد روح الله الساكن فينا وحسب توقعنا القيامة للحياة الأبدية.

١٣ «لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ».

ع ٦ وغلاطية ٦: ٨ أفسس ٤: ٢٢ وكولوسي ٣: ٥

هذه الآية تعليل للآية الثانية عشرة وهي بمعنى الآية السادسة.

إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ هذا كقوله «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً» (غلاطية ٦: ٧ و٨). فالموت قصاص الخطيئة كما سبق في تفسير (ص ٥: ١٢) وهذا يستلزم مقاومة الأهواء دائماً والمواظبة على القداسة.

بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس أو روح الله (ع ١٤). وهو يمنح المؤمن قدرة لينتصر على الطبيعة الفاسدة داخلاً وتجارب العالم والشيطان خارجاً ولا ينتصر المؤمن إلا به على أنه لا يعفي المؤمن من الاجتهاد والمجاهدة الروحية ولا يؤازر إلا من يطلبه.

تُمِيتُونَ أَعْمَالَ ٱلْجَسَدِ هذه الأعمال هي ما يرتكبه الإنسان من الشرور باتخاذه جسده آلة. وإماتتها كرهها والامتناع عنها. وذلك لا يدرك إلا بعد الجهاد الشاق والزمان الطويل. ومثل هذا قوله «أَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ: ٱلزِّنَا، ٱلنَّجَاسَةَ، ٱلْهَوَى، ٱلشَّهْوَةَ ٱلرَّدِيَّةَ، ٱلطَّمَعَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ» (كولوسي ٣: ٥). ولعل الرسول قصد إفهام المخاطبين أنهم إن لم يميتوها هم أماتتهم هي.

سَتَحْيَوْنَ أي تتمتعون بتلك الحياة التي هي هبة الله لا أجرة إماتة أعمال الجسد (ص ٦: ٢١). فهي حياة قداسة وسعادة ومجد أبدي (ع ١٤).

١٤ «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ».

غلاطية ٥: ١٨

لأَنَّ هذا تعليل للعيشة بالروح والعلة أنهم أبناء الله.

ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ هذا كقوله «السالكين حسب الروح» (ع ١٤). انقياد المؤمنين بالروح انجذابهم به واهتداؤهم به إلى القداسة والسماء وتأثر نفوسهم وأفكارهم وأعمالهم به أبداً. وقوله «ينقادون بروح الله» يشير إلى أن عمل الروح سابق لسيرة المؤمن وعلّة لها وأن المؤمن يُرشد به طوعاً لا كرهاً. وروح الله هنا هو الأقنوم الثالث من اللاهوت وسمي في هذا الأصحاح بثمانية أسماء وهي «روح الحياة» (ع ٢). و «روح الله» (ع ١٤) و «روح المسيح» (ع ٩) و «روح الذي أقام يسوع» (ع ١١) و «الروح الساكن فيكم» (ع ١١) و «الروح الذي يشهد لأرواحنا» (ع ١٦) و «الباكورة» (ع ٢٥) و «الذي يشفع فينا» (ع ٢٦). وتعليم أن الروح القدس يقود المؤمنين تعزية عظيمة لهم لأنه ليس مجرد تأثير إلهي بل هو أقنوم عالم محب رحيم.

هُمْ أي لا غيرهم.

أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ هذا اللقب يشير إلى أنهم مشابهون لله (متّى ٥: ٩ وغلاطية ٣: ٧) وأنهم محبون لديه حباً مخصوصاً (ص ٩: ٢٦ و٢كورنثوس ٦: ١٨) وأنهم ممتازون بحقوق (تثنية ١٤: ١ وهوشع ١: ١٠ ورومية ٩: ٤ و١يوحنا ٣: ٢).

ظن اليهود أن تسلسلهم من إبراهيم جعلهم أبناء الله وأن هذا مقصور عليهم. فهذه الآية تصرّح بأن أبناء الله هم المنقادون بروحه من أي أمة كانوا.

١٥ «إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا ٱلآبُ!».

يوحنا ١٥: ١٥ و١كورنثوس ٢: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٥ و٢تيموثاوس ١: ٧ و١يوحنا ٤: ١٨ إشعياء ٦٩: ٥ ومرقس ١٤: ٣٦ وغلاطية ٤: ٥ و٦

في هذه الآية برهان على أنهم أبناء الله بناء على اختبارهم حين آمنوا وتجدّدوا وسكن الروح القدس فيهم.

إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا حين آمنتم.

رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ كالذين هم تحت الناموس فإنهم عبيد يرتعدون تحت حكم سيد لا يستطيعون إطاعته التامة ويخشون نقمته يهوداً وأمماً فإن بعضهم يخدم الله والبعض يخدم الأوثان خوفاً من الغضب والعقاب وطمعاً في النجاة من الموت بالطاعة لناموس الوحي أو لناموس الضمير.

بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي أي شعور البنين حين يطيعون والديهم. وهذا الشعور من مواهب الروح القدس ونتيجة سكنه في القلب وعربون الحياة الأبدية ( أفسس ١: ١٤).

ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ أي نخاطب الله في الصلاة واثقين كالبنين بإرشاد الروح القدس.

يَا أَبَا ٱلآبُ هذا ما ينادي به البنون أباهم لا ما ينادي به العبيد سيدهم. فمناداة المؤمنين الله بذلك دليل على أنهم أولاده وحق لهم ذلك بالنعمة لا بالنسب البشري بدليل قوله تعالى «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١٣). و «أبا» في السريانية كالآب في العربية ولم يُعلم علّة ذكر الرسول ذلك بلغتين. ذهب البعض أن العلة تعوّد بولس السريانية من صغره واليونانية في أوائل شبيبته فاستحسن أن يخاطب الله بما اعتاد أن يخاطب أباه به في صغره دلالة على شدة محبته لله وثقته به. وبيّنه «بالآب» إفادة لليونانيين غير العارفي السريانية كما فعل للغلاطيين (غلاطية ٤: ٦). وظن ذلك البعض أن المسيح جرى هذا المجرى بصلاته في جثسيماني (مرقس ١٤: ٣٦) وفسر يوحنا «أبا» لإفهام اليونانيين.

وظن آخرون أن المسيحيين اتخذوا يومئذ لفظة «أبا» عَلماً لله فيكون قوله «يا أبا الآب» بمنزلة قولنا «يا الله الآب».

وظن غيرهم أن بولس أشار باستعمال اللفظتين معاً إلى اشتراك المؤمنين من اليهود والأمم في الصلاة كأنهم أهل بيت واحد يصلون بصوت واحد.

١٦ «اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ».

٢كورنثوس ١: ٢٢ و٥: ٥ وأفسس ١: ١٣ و٤: ٣٠

معنى هذه الآية أن الروح القدس يؤكد كوننا أبناء الله كما يعلمنا شعورنا.

اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أي الروح القدس كما تدل القرينة وهذا كقوله «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا» (ص ٥: ٥). وقوله «بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ» (غلاطية ٤: ٦).

يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا الخ أي يؤكد لنا ما تشهد به أرواحنا. لم يقل الرسول كيف يشهد الروح بذلك وليس في الإنجيل كله بيان لكيفية تأثير الروح في الناس ليحملهم على التوبة والإيمان. فالإنسان لا يشعر بفعل الروح في قلبه كأنه تأثير قوة خارجية لكنه يشعر بنتيجة حضوره وفعله فيه ويُعرف من شهادة الكتاب المقدس أن تلك النتيجة لا تكون إلا من الروح. وهذا كقول المسيح لنيقوديموس «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا ٣: ٨). فللمسيحيين أن يثقوا بكونهم أبناء الله متى أحبوا الله محبة البنين وشهد لهم الروح القدس بالبنوة.

١٧ «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ».

أعمال ٢٦: ١٨ وغلاطية ٤: ٧ أعمال ١٤: ٢٢ وفيلبي ١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢

هذا نتيجة ضرورية من البنوة فهو يؤكد اطمئنان المؤمنين الذي هو موضوع هذا الأصحاح.

وَرَثَةُ ٱللّٰهِ أي ورثة ملكوته السماوي. والميراث هو الخلاص والمجد اللازم عنه. والجوهري في الميراث أنه لا خوف على مالكه من اعتراض وبذلك امتاز عما يقتنيه الإنسان بالشراء أو بالهبة أو بالسلب. وما قيل هنا كقوله «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية ٣: ٢٩). وقوله «إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٤: ٧ انظر أيضاً أفسس ١: ١٤ وكولوسي ٣: ٢٤ وعبرانيين ٩: ١٥).

وَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ هذا بيان لحقيقة ميراث المؤمنين أي أنه ليس شيئاً من الأملاك العالمية إنما هو الشركة في ما ملكه المسيح بدليل قوله «ادخل إلى فرح سيدك» (متّى ٢٥: ٢١). وقوله «تَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي» (لوقا ٢٢: ٣٠). وقوله «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا ٣: ٢١). ويعيطهم الله هذا الميراث أي الخلاص لكونهم أولاده. فهم مديونون للمسيح به لأنه «أَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ١: ١٢).

إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ أي نتألم كما تألم هو نتألم لأجله. فالمؤمنون شركاء آلام المسيح لأنه «احتمل مقاومة من الخطأة» (عبرانيين ١٢: ٣) فهكذا يجب أن يحتملوا. كان هو رجل الأوجاع ومختبر الحزن وكذا يجب أن يكونوا فالذي نقاسيه من أجل الإنجيل هو التألم مع المسيح. ومثل قول بولس هنا قول بطرس «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (١بطرس ٤: ١٣ قابل هذا بما في متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ و٢كورنثوس ١: ٥ وفيلبي ٣: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤).

الفرق بين آلام المسيح وآلام المؤمنين هو أنه تألم من أجلهم وأنهم تألموا لنفع أنفسهم وأن آلامه كانت إيفاء لعقاب الخطيئة وأن آلامهم كانت لتطهيرهم.

إن تألمهم مع المسيح ليس علّة خلاصهم إنما هو من متعلقات خدمة المسيح.

لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ هذا تعليل لقصد الله إرسال الشدائد على المسيحيين فإنه لم يقصد بها عقابهم على خطاياهم لكي يوفي بذلك ما عليهم للشريعة إنما قصد أن يعدهم بواسطتها للمجد. فقد جعل شرط ارتفاعهم أن يهبطوا وادي البلايا وأن يمروا في نيران الشدائد لكي يتطهروا كقول بطرس «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ٧).

إن اتحاد المؤمنين بالمسيح يستلزم الاشتراك في الآلام والمجد كما أشار المسيح بقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٦: ٢٤). وكما قال الرسول «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضاً مَعَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢).

إن المؤمنين يتمجدون مع المسيح إكراماً له فتمجدهم نعمة وأما تمجد يسوع المسيح فلأنه استحق المجد. وتمجد المؤمنين ارتقاؤهم في العلم والقداسة والسعادة.

١٨ «فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِٱلْمَجْدِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا».

٢كورنثوس ٤: ١٧ و١بطرس ٦ و٧ و٤: ١٣

أتى الرسول بما في هذه الآية لئلا يظن أحد ما قاله في اشتراك المؤمنين مع المسيح في الآلام أن ذلك مصاب عظيم هائل وأنه برهان على أن المصابين به ليسوا بأولاد الله.

فَإِنِّي أَحْسِبُ أي أتيقن كما جاء في (ص ٣: ٢٨).

آلاَمَ ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ ربما أراد بهذا الإشارة إلى اضطهادات المسيحيين من أجل الإنجيل في عصره والأرجح أنه أشار إلى ما يصيب المؤمنين من مصائب الحياة الأرضية في كل مكان وزمان.

لاَ تُقَاسُ بِٱلْمَجْدِ أي هي ما لا يعتد به بالنسبة إليه لأن ذلك المجد عظيم جداً حتى يهون في سبيل مبتغاه كل هوان الأرض ومصائبها.

ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ في السماء حيث يرون المسيح ويصيرون إلى شبهه كقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤). وقول يوحنا «ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢ انظر أيضاً ١تيموثاوس ٦: ١٤ و١٥ و٢تيموثاوس ٤: ٨ وتيطس ٢: ١٣ و٢تسالونيكي ١: ١٠ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و٢بطرس ٣: ٤ و١٢). وهذا ينالون بعضه على أثر موتهم وكماله عند مجيء المسيح ثانية.

فِينَا أي لا نكون مجرد مشاهدين لذلك المجد بل متمتعين به.

١٩ «لأَنَّ ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ ٱسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ ٱللّٰهِ».

٢بطرس ٣: ١٣ و١يوحنا ٣: ٢

ما في هذه الآية بيان لعظمة مجد أولاد الله المستقبل لإثبات أن ضيقاتهم في هذه الدنيا ليست شيئاً بالنسبة إليه. وصرّح فيها أنه كما أن المؤمنين الآن في الضيقة وهم يتوقعون النجاة هكذا حال سائر الخليقة. وفي ذلك ما يحقق نجاة الجميع وأن تلك النجاة عظيمة جداً. وفي الآية مجاز ظاهر.

ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اختلفت الآراء في معنى الخليقة هنا فقد جاءت في بعض الكتاب بمعنى كل ما خلقه الله ومن ذلك قوله «وَلٰكِنْ مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا ٱللّٰهُ» (مرقس ١٠: ٦ انظر أيضاً مرقس ١٣: ١٩ و٢بطرس ٣: ٤). وقد جاءت في بعضه بمعنى الإنسان بمقتضى القرينة ومن ذلك قوله «اكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦: ١٥ انظر أيضاً كولوسي ١: ١٥ و٢٣ وعبرانيين ٤: ١٣). والأرجح أن معنى الخليقة هنا الأرض وكل ما فيها من الحي والجماد ما خلا الإنسان. ولنا على ذلك أدلة:

  1. إن الملائكة والأبالسة مستثنون منها بدليل ما في ع ٢٠ لأن الملائكة الأطهار لم يخضعوا للبطل قط والأبالسة خضعت له طوعاً.
  2. إن المؤمنين مستثنون منها بدليل (ع ١٩ و٢١ و٢٣) ولا سيما قوله «بل نحن أيضاً» (ع ٢٣).
  3. إن الأشرار من الناس مستثنون بدليل أنهم خضعوا للباطل طوعاً (ع ٢٠) وأنهم لا يعتقون من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله (ع ٢١) وأنهم لا يتوقعون التبني (ع ٢٣).

فإن قيل كيف يصدّق قول الرسول هنا على الخليقة غير الناطقة أنها تئن من عبوديتها للبطل وأنها تنتظر أن تشارك المؤمنين في النجاة قلنا أن الرسول قال ذلك بلسان حالها ولهذا نظائر كثيرة في الكتاب المقدس ومنها قوله «ٱلْجِبَالُ وَٱلآكَامُ تُشِيدُ أَمَامَكُمْ تَرَنُّماً، وَكُلُّ شَجَرِ ٱلْحَقْلِ تُصَفِّقُ بِٱلأَيَادِي» (إشعياء ٥٥: ١٢). وأصل «يتوقع» في اليونانية يمد رأسه ليرى المبشر قادماً ويسمع أخباره. ومعنى العبارة أن الخليقة في غاية الشوق والانتظار للنجاة من عبودية الخطيئة والفساد اقتداء بالمؤمنين المتوقعين تلك النجاة يوم القيامة. وإن توقعهم ذلك يتبين من قول بطرس الرسول «مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ ٱلسَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ. وَلٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (٢بطرس ٣: ١٢ و١٣). وقول يوحنا الرسول «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ ٱلسَّمَاءَ ٱلأُولَى وَٱلأَرْضَ ٱلأُولَى مَضَتَا» (رؤيا ٢١: ١). فبولس تصوّر الخليقة غير الناطقة كأنها ذات عقل وحياة مشاركة المؤمنين في ذلك الانتظار.

ٱسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ ٱللّٰهِ قصد بهذا ما ينشأ للمؤمنين من التغيّر عند مجيء المسيح ثانية وقيامتهم من الموت حين يظهر المجد الموعود به المقترن بكونهم أبناء الله وشركاء المسيح في مجده. ومما يتعلق بذلك التوقع قوله «وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ ٱسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ١: ٧ انظر أيضاً ١تسالونيكي ١: ١٠ وغلاطية ٥: ٥).

٢٠ «إِذْ أُخْضِعَتِ ٱلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ لَيْسَ طَوْعاً، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى ٱلرَّجَاء».

تكوين ٣: ١٧ و١٩ وجامعة ١: ٢ وع ٢٢

إِذْ أُخْضِعَتِ ٱلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ المراد بالبطل التعرض للتغيير والفساد والاضمحلال. فإن الخليقة شاركت الإنسان في نتائج سقوطه كما يظهر من قوله تعالى لآدم «مَلْعُونَةٌ ٱلأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ» (تكوين ٣: ١٧ و١٨). والخليقة لم تزل تتألم بخطايا البشر بدليل قول إشعياء «َٱلأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا ٱلشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا ٱلْفَرِيضَةَ، نَكَثُوا ٱلْعَهْدَ ٱلأَبَدِيَّ. لِذٰلِكَ لَعْنَةٌ أَكَلَتِ ٱلأَرْضَ… نَاحَ ٱلْمِسْطَارُ. ذَبُلَتِ ٱلْكَرْمَةُ. أَنَّ كُلُّ مَسْرُورِي ٱلْقُلُوبِ» (إشعياء ٢٤: ٥ – ٧). وقول إرميا «حَتَّى مَتَى تَنُوحُ ٱلأَرْضُ وَيَيْبَسُ عُشْبُ كُلِّ ٱلْحَقْلِ؟ مِنْ شَرِّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا فَنِيَتِ ٱلْبَهَائِمُ وَٱلطُّيُورُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «لاَ يَرَى آخِرَتَنَا» (إرميا ١٢: ٤). ولم نعلم ماذا كانت حال الخليقة لو لم يسقط الإنسان والأرجح أنه لولا ذلك لم يطرأ الخراب بالزلازل والطوفان والصواعق والزوابع والمجاعات وغير ذلك من المصائب. ومن الواضح أن البهائم تقاسي شديد الآلام من قسوة الإنسان وظلمه ولو بقي الإنسان في قداسته الأصلية ما قاست شيئاً من ذلك. ولا نعلم ماذا كان الله يزيد من المنافع والجمال في العالم لو لم يسقط الإنسان لكن هذا السقوط منع من كل ذلك وجعل الخليقة رهن الفساد (ع ٢١).

لَيْسَ طَوْعاً، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِي أَخْضَعَهَا أي ليس بإرادتها ولا بسبب ذنبها بل بسبب خطيئة الإنسان وقضاء الله بناء عليها (تكوين ٣: ١٧ و١٨). فإن الله الحكيم شاء أن يجعل الخليقة شريكة الإنسان في حاله من القداسة أو الخطيئة فهو الذي أخضعها للبطل.

عَلَى ٱلرَّجَاءِ أي على أمل أن تشارك المؤمنين في العتق من عبودية الفساد وعلّة ذلك أنها أُخضعت كرهاً. وهذا موافق لوعد الكتاب المقدس بما يحدث عند مجيء المسيح ثانية. ومن ذلك قول إشعياء «أَلَيْسَ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدّاً يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ بُسْتَاناً، وَٱلْبُسْتَانُ يُحْسَبُ وَعْراً؟» (إشعياء ٢٩: ١٧). وقوله «إِلَى أَنْ يُسْكَبَ عَلَيْنَا رُوحٌ مِنَ ٱلْعَلاَءِ، فَتَصِيرَ ٱلْبَرِّيَّةُ بُسْتَاناً، وَيُحْسَبَ ٱلْبُسْتَانُ وَعْراً» (إشعياء ٣٢: ١٥) وقوله. «تَفْرَحُ ٱلْبَرِّيَّةُ وَٱلأَرْضُ ٱلْيَابِسَةُ، وَيَبْتَهِجُ ٱلْقَفْرُ وَيُزْهِرُ كَٱلنَّرْجِسِ. يُزْهِرُ إِزْهَاراً وَيَبْتَهِجُ ٱبْتِهَاجاً وَيُرَنِّمُ. يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَجْدُ لُبْنَانَ. بَهَاءُ كَرْمَلَ وَشَارُونَ. هُمْ يَرَوْنَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ، بَهَاءَ إِلٰهِنَا» (إشعياء ٣٥: ١ و٢ انظر أيضاً إشعياء ١١: ٦). ومثل هذا كثير في كتاب الوحي.

٢١ «لأَنَّ ٱلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ ٱللّٰهِ».

هذه الآية بيان لعلة الرجاء المذكور في (ع ٢٠) وهي قصد الله ولحقيقة ذلك الرجاء. وخلاصة هذه الآية أن الله الذي أخضع الخليقة لعبودية الفساد لسقوط الإنسان في الخطيئة قصد أن الخليقة تشارك المفديين شيئاً في سعادتهم عند مجيء المسيح ثانية. وهذا على وفق قول بطرس «لٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (٢بطرس ٣: ١٣).

سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ لا عجب إن كانت الأرض التي لُعنت لأجل الإنسان تتبارك ببركته. «وعبودية الفساد» بمعنى الإخضاع للبطل وقد فُسّر في (ع ٢٠).

حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ ٱللّٰهِ أي حرية المفديين المجيدة. عبّر الرسول «بالحرية» عن سعادة أولاد الله ومجدهم عند إكمال عمل الفداء لأن خدمة الله حرية كما أن خدمة الخطيئة عبودية. فمتى اعترف الله بأن المفديين أولاده وكللهم بالجمال وأعتقهم من سلطان التغير والفساد والفناء تشاركهم الخليقة في ذلك الإعتاق. وهذا موافق «للتجديد» (متّى ١٢: ٢٨) و «أزمنة رد كل شيء» (أعمال ٣: ٢١ انظر أيضاً إشعياء ١١: ٦ – ٩ و٣٥: ١ – ١٠ وعبرانيين ١٢: ٢٦ – ٢٨ و٢بطرس ٣: ١٠ – ١٣ ورؤيا ٢١: ١).

يتضح من هذه الآية أن الله في يوم الدين العظيم لا يلاشي الخليقة بل يجدّدها.

٢٢ «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى ٱلآنَ».

مرقس ١٦: ١٥ وكولوسي ١: ٢٣ إرميا ١٢: ١١

هذا دليل قاطع على أن الخليقة في عبودية الفساد وأنها تتوقع النجاة.

نَعْلَمُ بالمشاهدة والاختبار.

كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ أي لسان حالها فهي كمن شعرت بمشقاتها ونوازلها وأوجاعها فأنّت لشدة ذلك. ومثلها بقوله «تتمخّص» بامرأة تلد إشارة إلى شدة الألم وقرب النجاة وتوقع حياة جديدة وفرح.

إِلَى ٱلآنَ أي منذ سقوط آدم إلى الزمن الذي كتب الرسول فيه ذلك. ولا بد من أن تبقى الخليقة في تلك الحال إلى أن يأتي المسيح ثانية.

٢٣، ٢٤ «٢٣ وَلَيْسَ هٰكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ ٱلَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا. ٢٤ لأَنَّنَا بِٱلرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلٰكِنَّ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً؟».

٢كورثنوس ٥: ٥ وأفسس ١: ١٤ ٢كورنثوس ٥: ٢ و٤ لوقا ٢٠: ٣٦ لوقا ٢١: ٢٨ وأفسس ٤: ٣٠

وَلَيْسَ هٰكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ أَيْضاً أي ما سبق من كلامه في الخليقة يصدق علينا نحن المؤمنين. وهذا دليل على أن الخليقة في (ع ١٩) لا تشتمل على المؤمنين.

بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ معنى الباكورة في كتاب الله أول الأثمار والحصاد الذي يقدّم له تعالى وهي عربون بقية الغلة. وُسمي المسيح «باكورة الراقدين» (١كورنثوس ١٥: ٢) لأنه أول من قام من الموت ولم يتسلط عليه ثانية ولأن قيامته عربون قيامة شعبه (ص ١١: ١٦ و١٦: ٥ و١كورنثوس ١٥: ٢١ ويعقوب ١: ١٨). ومعنى قوله «لنا باكورة الروح» إننا قبلنا الروح القدس الذي هو باكورة ميراث أبناء الله وعربونه وهذا مثل قوله «إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ، ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا» (أفسس ١: ١٣ و١٤). وقوله «ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا» (٢كورنثوس ١: ٢٢ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ٥). وهذا يصدق على كل المؤمنين إذ يسكن الروح فيهم جميعاً كما تقدم (ع ٩ و١١)،

نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا لشدة البلايا الناشئة عن حالنا الحاضرة وجسدنا معرض الآلام والفساد والموت وروحنا عرضة للتجربة والخطيئة. وهذا ما جعل بولس يصرخ بلسان الجميع قائلاً «ويحي أنا الإنسان الشقي» (ص ٧: ٢٤).

مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ أي كماله الذي وُعد المؤمنون به وهذا لا يكون إلا يوم مجي المسيح ثانية. نعم أنهم الآن أبناء الله (ع ١٥ و١٦) لكنهم بمنزلة القاصرين لم يحصلوا على كل حقوق البنوة. وبنوتهم الآن مستترة لا يعرفها العالم ولكنها حينئذ تُعلن للجميع إذ يعترف الله بهم وهي مقصورة على نفوسهم ولكنها حينئذ تعمّ نفوسهم وأجسادهم.

فِدَاءَ أَجْسَادِنَا هذا بدل من التبني أو بيان له. وفداء الأجساد جزء من الفداء الذي اقتناه المسيح وهو إقامة الجسد من القبر وتطهيره من كل آثار الخطيئة وتمجيده كقول الرسول «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١). وقوله «يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً» (١كورنثوس ١٥: ٤٢ – ٤٤). ومثله قول الكتاب «كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» وقوله «نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٢٣ و٥١ و٥٢ انظر أيضاً دانيال ١٢: ٣ ومتّى ١٣: ٤٣ و٢كورنثوس ٥: ١ – ٤ و١يوحنا ٣: ١ و٢ ورؤيا ٢٢: ٤). وما أشار إليه بقوله «فداء أجسادنا» في هذه الآية أشار إليه بقوله «حرية مجد أولاد الله» في الآية الحادية والعشرين. والخليقة تنتظر الشركة في ذلك منذ سقوط الإنسان الأول والمؤمنون بالمسيح يتوقعونه منذ أول نشأتهم. وعبّر عن قيامة الأجساد بفدائها تعظيماً للنجاة وسبيل تحصيلها وبياناً لكمالها ولكونها جزءاً من الفداء العظيم الذي صنعه المسيح لنا بدمه.

لأَنَّنَا بِٱلرَّجَاءِ خَلَصْنَا ليس معنى خلصنا بالرجاء كمعنى خلصنا بالإيمان كأن الإيمان والرجاء شيء واحد أو أن كلاً منهما وسيلة إلى التمسك بالمسيح للخلاص. إنما المعنى أن معظم خلاصنا مستقبل فهو أمر نتوقعه لا مقتنى حصلنا عليه. وما حصلنا عليه الآن من الخلاص هو مغفرة خطايانا وراحة ضميرها وسلامنا والذي نتوقعه تقديس نفوسنا التام وإقامة أجسادنا بعد الموت وتمجيدنا ودخولنا السماء والتمتّع بسعادتها.

وَلٰكِنَّ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً الخ أي الحاصل لا يمكن أن يُرجى طبعاً. فلا يمكن أن يُرجى إلا الذي لم يُنظر ولم يُنل.

٢٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِٱلصَّبْرِ».

نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ كل شيء يتوقعه الإنسان هو غير منظور ومن الأمور المستقبلة ومعظم الخلاص كذلك فوجب أن نتوقعه.

فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِٱلصَّبْرِ ليس للمؤمنين أن يحصلوا هنا على الراحة والسرور الموعود بهما في السماء بل عليهم أن ينتظروا التجارب والضيقات ما داموا على الأرض ويرضوا أن يحملوا الصليب بالصبر إلى أن يستحسن الله أن يعطيهم إكليل الحياة وأن لا يحسبوا آلامه وبطوء زمن تمجيدهم دليلاً على أنهم ليسوا بأبناء الله. فكلما تيقّن المؤمن حقيقة ذلك المجد وعظمته هان الصبر عليه واقترن بالسرور فكان مثل سيده «ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (عبرانيين ١٢: ٢).

٢٦ «وَكَذٰلِكَ ٱلرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا».

متّى ٢٠: ٢٢ ويعقوب ٤: ٣ زكريا ١٢: ١٠ وأفسس ٦: ١٨

في هذه الآية التعزية الثانية ونحن نتألم مع المسيح (ع ١٨) والأولى الرجاء في (ع ٢٠ و٢٤).

كَذٰلِكَ أي كما يعزينا الرجاء ويقوينا على احتمال المصائب بالصبر.

ٱلرُّوحُ أَيْضاً أي الروح القدس الذي من أسمائه «المعزي» (يوحنا ١٥: ٢٦).

يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا أي يعيننا نحن الضعفاء على حمل مصائبنا داخلاً وخارجاً لان تلك المصائب علّة أنيننا (ع ٢٣) وصراخنا (ص ٧: ٢٤) ونحن عاجزون عن حملها وحدنا والله علم ذلك وأرسل لنا معيناً قديراً أزلياً.

لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي هذا من جملة صعفاتنا التي يعيننا الروح القدس فيها. لم يقل لسنا نعلم ما نصلي من أجله مطلقاً لأننا نعلم أن نسأله تعالى مغفرة خطايانا والقوة على احتمال التجارب وأمثال ذلك ولهذا زاد قوله «كما ينبغي». والمعنى أننا لا نعلم ما ينفعنا طلبه في كل أحوال الحياة المختلفة ولا ما يحسن بالله أن يهبه لنا ولا ما يجب أن نصلي به من الرغبة والإيمان والاستمرار. ومثال قصر المعرفة بما يُصلى لأجله صلاة موسى لكي يدخل أرض الميعاد (تثنية ٣: ٢٣ – ٢٦). وطلب بولس ثلاث مرات أن تُنزع منه «شوكة في الجسد» (١كورنثوس ١٢: ٧ – ٩).

ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا «في» ظرفية فالمعنى أنه يشفع داخلنا أي الروح القدس هو الذي يعلّمنا ما نصلي لأجله ويزيدنا غيرة وإيماناً ورجاء لكي لا نمل فإنه يعلم ما نحتاج إليه وما هو خير لنا وما يحسن بالله أن يعطينا إياه. ولا يستطيع أحد أن يصلي كما ينبغي ما لم يعلمه الروح. وهذا تعزية عظيمة للذين يشعرون بقصورهم في الصلاة. ولنا من هذه الآية أن من جملة أعمال الروح القدس «الشفاعة» وغلب في العهد الجديد نسبة الشفاعة إلى المسيح ومن ذلك قوله «إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين ٧: ٢٥). وقول يوحنا «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ» (١يوحنا ٢: ١) وقول المسيح «أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر» وهذا دليل بيّن على أنه شفيع (انظر يوحنا ١٤: ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧). والفرق بين شفاعة المسيح وشفاعة الروح أن المسيح يشفع فينا في السماء والروح القدس يشفع فينا في قلوبنا ويعلّمنا «ما نصلي لأجله» ويشوّقنا إلى الروحيات ويمنحنا إيماناً لا تنفع صلواتنا بدونه شيئاً.

بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا هذا متعلق بقوله «يشفع» و «الأنّات» هنا أنّات المؤمنين لا أنّات الروح القدس وهي ما يعبرون بها عن أشواقهم إلى البركات الروحية. وعلّة عجزهم عن التعبير عنهما بكلامهم شدتها وعظمتها وتلك الأنّات أدل على شدة الشوق من الكلام. وكثيراً ما تقصر اللغة عن البيان كما جاء في قول بولس «أَنَّهُ ٱخْتُطِفَ إِلَى ٱلْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا» (٢كورنثوس ١٢: ٤). وقول بطرس «ذٰلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ ٱلآنَ لٰكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ» (١بطرس ١: ٨). وقول بولس «شُكْراً لِلّٰهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا» (٢كورنثوس ٩: ١٥).

٢٧ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَفْحَصُ ٱلْقُلُوبَ يَعْلَمُ مَا هُوَ ٱهْتِمَامُ ٱلرُّوحِ، لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يَشْفَعُ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ».

١أيام ٢٨: ٩ ومزمور ٧: ٩ وأمثال ١٧: ٣ وإرميا ١١: ٢٠ و١٧: ١٠ و٢٠: ١٢ وأعمال ١: ٢٤ و١تسالونيكي ٢: ٤ ورومية ٢: ٢٣ و١يوحنا ٥: ١٤

هذه الآية تدل على أن تلك الأنّات ليست عبثاً وإن كانت ليست كلاماً.

ٱلَّذِي يَفْحَصُ ٱلْقُلُوبَ أي الله بدليل قوله «ٱلإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ» (١صموئيل ١٦: ٧). وقوله «اَلْهَاوِيَةُ وَٱلْهَلاَكُ أَمَامَ ٱلرَّبِّ. كَمْ بِٱلْحَرِيِّ قُلُوبُ بَنِي آدَمَ» (أمثال ١٥: ١١ انظر أيضاً مزمور ١٣٩: ٧ و٩ وإرميا ١٧: ١٠ ورؤيا ٢: ٢٣).

يَعْلَمُ مَا هُوَ ٱهْتِمَامُ ٱلرُّوحِ الروح هنا هو الروح القدس الذي ينشئ في قلوب المؤمنين الأشواق التي تظهر بالأنّات واهتمام الروح ظاهر من تلك الأنات. فالإنسان لا يستطيع إدراك ما في نفس غيره إلا بكلامه. ولعل معنى «يعلم» هنا يستحسن كما جاء في (ص ٣: ١٧).

بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يَشْفَعُ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ أي المؤمنين. المعنى أن الروح القدس يحثهم على طلب المرضيات لله لا غيرها. ولا بد من أن مثل هذا الطلب يُستجاب وإن لم يُعبّر إلا بالأنّات. وهذا على وفق قول يوحنا «ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا» (١يوحنا ٥: ١٤).

٢٨ «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ، ٱلَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ».

ص ٩: ١١ و٢٣ و٢٤ وأفسس ١: ٤ – ٧ و٢تيموثاوس ١: ٩

هذا علّة ثالثة لعدم حسبان المؤمنين البلايا دليلاً على أنهم ليسوا بأبناء الله إذ هي ليست سوى بركات لهم.

نَحْنُ نَعْلَمُ أي نحن المسيحيين اختبرنا وعلمنا. وهذا مما لا يستطيعه أهل العالم.

كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ أي «آلام الزمان الحاضر» (ع ١٨) كلها بدليل القرينة وهي الاضطهادات والمصائب. ولا يلزم من ذلك أن غير المصائب لا تعمل للخير للمؤمنين لكن الرسول لم يقصد هنا سوى الكلام عليها. ومن مؤثرات المصائب طبعاً اليأس والغم والخوف من أن الله قد غضب على من أُصيب بها فدفع الرسول وقوع هذه المؤثرات على المؤمنين.

تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ هذا قصد الله من مصائب المؤمنين فإنه يسمح بها لينزع حب العالم من قلوبنا ويعلّمنا بطلان الدنيويات وزوالها ويجذبنا إلى الاتكال عليه ولننظر إلى السماء ونعتبرها وطننا ومحل راحتنا ويجعلنا متواضعين صابرين أطهاراً. ومن اختبار المؤمنين ذلك يمكنهم أن يقولوا كما قال داود «قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ… خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ» (مزمور ١١٩: ٦٧ و٧١ انظر أيضاً إرميا ٣١: ١٨ و١٩ عبرانيين ١٢: ١١).

و «الخير» في الآية كل نوع من البركات ولا سيما البركات الروحية كالنمو في التقوى والحصول على السلام والاستعداد للسماء وزيادة التمتع بها.

لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ هذا وبما بعده من صفات الذين تكون المصائب بركات لهم لأن المصائب ليست بركات لغيرهم أي لا تعمل معاً للخير لهم لأنها تنشئ لهم التذمر والغضب والبغض وقساوة القلب كما قيل على آحاز الملك أنه «فِي ضِيقِهِ زَادَ خِيَانَةً لِلرَّبِّ» (٢أيام ٢٨: ٢٢). وكقول إرميا «فْنَيْتَهُمْ وَأَبَوْا قُبُولَ ٱلتَّأْدِيبِ. صَلَّبُوا وُجُوهَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلصَّخْرِ. أَبَوْا ٱلرُّجُوعَ» (إرميا ٥: ٣). وكقول يوحنا «جَدَّفُوا عَلَى إِلٰهِ ٱلسَّمَاءِ مِنْ أَوْجَاعِهِمْ وَمِنْ قُرُوحِهِمْ، وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ» (رؤيا ١٦: ١١ انظر أيضاً إشعياء ١: ٥).

مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ الذين دعاهم الله ليكونوا مؤمنين وينالوا الخلاص. وهؤلاء اقتادهم الروح القدس لقبول الدعوة السماوية. صرّح الكتاب المقدس أن الذين يخلصون إنما يخلصون بمقتضى قضاء الله الأزلي ومن أدلة ذلك (رومية ٩: ١١ و١كورنثوس ١: ٢٤ وأفسس ١: ١١ و٣: ١١ و٢تيموثاوس ١: ٩) فالذين يحبون الله هم المختارون المدعوون حسب قصده. وبهذا يمكن كل إنسان أن يتحقق أنه من المختارين.

إن الله لم يدعُ هؤلاء لاستحقاقهم بل بموجب قصده حسب حكمته ورحمته بدليل قوله «ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (٢تيموثاوس ١: ٩). وهذه الدعوة التي بمقتضى القصد الأزلي تؤكد إيمان المؤمنين ومحبتهم وسيرهم في طريق الخلاص إلى النهاية.

فوائد

  1. إنه إذا تنازل الله أن يسكن في قلوبنا بروحه وجب علينا التسليم بأن يقودنا ويسودنا كما يشاء (ع ١٢ و١٣).
  2. إن المسيحيين الحقيقيين أولاد الله وأحباؤه والمتمثلون به وورثة ملكوته (ع ١٢).
  3. إن نسبة الله إلينا على وفق نسبتنا إليه فإن كنا أصدقاءه فهو صديقنا فإن شعرنا به شعور الابن بأبيه كان أباً لنا. فعبثاً ندّعي إنا أبناء الله وقلوبنا خالية من هيبته ومحبته والثقة به (ع ١٥).
  4. إن تيقّن المؤمن خلاصه ليس بوهم ولا جسارة على الله إذ له أساسان. الأول الإحساسات الاختبارية الدالة على تجدد قلبه والثاني شهادة الروح القدس (ع ١٦).
  5. إنه ليس للمسيحيين أن يتوقعوا النجاة من المصائب والتألم مع المسيح ما داموا على الأرض وهم يريدون وينتظرون أن يشاركوه في المجد السماوي وأن نزول المصائب بهم ليس بدليل على عدم رضى الله بهم وعدم بنوتهم له (ع ١٨ – ٢٥).
  6. إن المجد الذي سيُعلن للمؤمنين لا بد من أنه عظيم جداً إذ الخليقة كلها منذ بدء العالم تئن وتشتاق إلى استعلانه والاشتراك فيه (ع ١٩ – ٢٣).
  7. إن حالة الإنسان على هذه الأرض حالة «العبودية للفساد» فليس لنا أن نعتبر هذا العالم وطناً لنا وأن نخاف مفارقته فيجب أن نشتاق إلى التحرر من تلك العبودية والتمتع بحرية أبناء الله (ع ١٩ – ٢٢).
  8. إن اللعنة الناشئة عن الخطيئة أثّرت في العالم المادي كله فإتمام عمل الفداء ليس بأقل تأثيراً من الخطيئة فسوف يجدد العالم بأسره.
  9. إن مواهب الروح القدس في الزمن الحاضر باكورة ميراث القديسين فإذاً المواهب التي نحصل عليها في العالم الآتي مثلها إلا أنها أكثر منها جداً فالأولى تؤكد لنا الأخرى وتشوقنا إليها. فالذين يكتفون بالخيرات الأرضية يخشى أن لا تكون لهم باكورة الروح (ع ٢٣).
  10. إن الرجاء فضيلة واجبة على المسيحي وتعزية وسند له لأن الحكمة الإلهية اقتضت أن لا ينال كل الخلاص في ساعة إيمانه (ع ٢٤ و٢٥).
  11. إنه يجب اقتران الرجاء بالصبر أبداً والثقة بمواعيد الله من أحسن المساعدات على ذلك وكلاهما مسرة لله وتعزيز للدين (ع ٢٤ و٢٥).
  12. إن تنازل الروح القدس إلى تعليمنا ما ينبغي أن نطلبه في الصلاة من أعجب الأمور فيجب أن نشكره ونسر به. إنه كوالد يعلم أولاده وكمشير للقاصرين عن إقامة دعواهم (ع ٢٦).
  13. إنه يجب أن تكون الصلاة موافقة لمشيئة الله لكي تُستجات وتكون كذلك إن كان الروح القدس قد أرشد إليها وشوّق إلى إقامتها (ع ٢٧).
  14. إن الله يدبر الأمور كيف شاء فهو قادر أن يحوّل ما يصيب مختاريه من جهد البلاء إلى الخير فما أعظم اطمئنان اللاجئين إليه (ع ٢٨).
  15. إن الذين يحبون الله هم مختاروه (ع ٢٨) وكل إنسان يعلم أن الحب اختياري فإذاً لا منافاة بين قضاء الله واختيار الإنسان وإن عجز العقل البشري عن إيضاح الموافقة بينهما.

اطمئنان المؤمنين لقصد الله الأزلي ومحبته غير المتغيرة ع ٢٩ إلى ٣٩

٢٩ «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ».

خروج ٢٣: ١٢ و١٧ ومزمور ١: ٦ وإرميا ١: ٥ ومتّى ٧: ٢٣ وص ١١: ٢ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ و١بطرس ١: ٢ أفسس ١: ٥ و١١ يوحنا ١٧: ٢٢ و٢كورنثوس ٣: ١٨ وفيلبي ٣: ١٠ و٢١ و١يوحنا ٣: ٢ كولوسي ١: ١٥ و١٨ وعبرانيين ١: ٦ ورؤيا ١: ٥

هذه الآية وما يليها توكيد للآية الثامنة والعشرين وهي أن قصد الله يؤكد الخير للمؤمنين لأن هذا القصد يلزم منه منح كل ما هو ضروري لتحصيل ذلك الخير.

سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ خاصة له. لا نقدر أن نتصوّر علّة تلك المعرفة سوى قصده أن يخصهم بمحبته ويمنحهم الخلاص لان ذلك القصد علّة وجودهم وصالح أعمالهم بدليل قوله «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس ٢: ١٠). وهذا يمنع أن أعمالهم الصالحة التي علم الله أنهم يأتونها علّة لمعرفته إياهم خاصة له. ويؤكد ذلك قوله «ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (٢تيموثاوس ١: ٩ انظر أيضاً رومية ٩: ١١). فإن قيل إن إيمانهم علّة تلك المعرفة قلنا إن الإيمان هبة الله ونتيجة اختياره لا علّته (أفسس ٢: ٨ انظر أيضاً إرميا ١: ٥ وعاموس ٣: ٢ وهوشع ١٣: ٥ وغلاطية ٤: ٥).

ذهب بعضهم إلى أن معنى «المعرفة» هنا الرضى والمحبة كما سبق في (ص ٣: ١٧ و٧: ١٥).

سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ معنى هذا التعيين يُعرف من مقابلته بأمثاله باعتبار القرائن. ومن ذلك ما في قول التلاميذ في الذين اجتمعوا على المسيح «لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ» (أعمال ٤: ٢٨). وقول الرسول «كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ» وقوله «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» (أفسس ١: ٤ و٥ و١١). فلنا من هذا ان علّة «التعيين» قضاء الله الأزلي بحسب مسرته فإذاً ليس في الإنسان من علّة له.

لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ أي تعيينهم يستلزم أن يكونوا مثل المسيح في الصفات والأعمال والنصيب والمجد كما جاء في (أفسس ١: ٤ و٤: ٢٤ و١كورنثوس ١٥: ٤٩). إن الله حين قضى بأن يكون المؤمنون أولاده قضى بأن يكونوا مثل ابنه فلما أخذ الابن الطبيعة البشرية ورقّاها وطهّرها بذلك قصد الله أن نشترك في التطهير والمجد بدليل قوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١). وقول يوحنا «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢).

و «المشابهة» في هذه الآية «كاستعلان أبناء الله» في الآية ١٩ و «فداء أجسادنا» في الآية ٢٩. فإذا كان التعيين يستلزم المشابهة للمسيح لزم ضرورة أنه إذا لم تكن المشابهة لم يكن التعيين. وبطل قول بعضهم إذا كنا معيّنين خلصنا مهما كنا أشراراً وإن لم نكن معيّنين هلكنا مهما كنا صالحين.

لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ في الزمان والرتبة. إن الله لم يقصد أن ابنه يتمجّد وحده بل أن يتمجد رأساً للمؤمنين وبكراً بين ألوف وربوات من أولاد الله لا يستطيع مخلوق أن يعدهم. وهم صاروا بالتبني إخوة للمسيح وشركاء مجده «وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١٢) أما هو فابن الله حقيقة منذ الأزل.

ولنا من هذا أن الغاية الأولى من تعيين البعض أولاداً لله تمجيد المسيح وهي أصل إبداع الخليقة وعمل الفداء.

واستعمل الرسول صيغة الماضي هنا فقال عيّنهم ودعاهم وبرّرهم ومجّدهم مع أن بعض هذا مستقبل لأن كلامه في قضاء الله الأزلي لكل ما يحدث منذ الأزل وإلى الأبد.

٣٠ «وَٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً».

ص ١: ٦ و٩: ٢٤ وأفسس ٤: ٤ وعبرانيين ٩: ١٥ و١بطرس ٢: ٩ و١كورنثوس ٦: ١١ ويوحنا ١٧: ٢٢ وافسس ٢: ٦

وَٱلَّذِينَ… فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً أي اتخذ الوسائل لإنقاذ قصده. وأولها دعوته إيّاهم بروحه القدوس وهذه الدعوة ليست لآذانهم فقط بتبشيرهم بالإنجيل بل لقلوبهم أيضاً وهي دعوة فعالة مع أنها لم تنزع اختيارهم فتؤكد أنهم يومنون بالمسيح للخلاص وهذا كقوله «أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا» (١كورنثوس ١: ٩).

ٱلَّذِينَ… بَرَّرَهُمْ أبان حقيقة التبرير في (ص ٣ و٤ و٥) من هذه الرسالة وهو أن الله يحسب الخطأة أبراراً ويعاملهم معاملة الأبرار لأجل برّ يسوع المسيح الذي يُنسب إليهم بإيمانهم.

ٱلَّذِينَ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً هذا خاتمة عمل الفداء في المؤمنين وهو كمال القداسة والسعادة السماوية ومصيرهم مشابهين للمسيح. فإذاً غاية الله من خلاص المؤمنين تشتمل على اختيارهم ودعوتهم وتبريرهم وتقديسهم وتمجيدهم وهذه الأمور كحلقات سلسلة واحدة لا يمكن الاستغناء عن واحدة منها فالذي يتحقق واحدة منها يتحقق السلسلة كلها. فيمكن كل إنسان أن يتحقق أمدعو هو الدعوة الكافية وقابل لها أم لا. وصرّح بولس بهذا تعزية وتشجيعاً للمؤمنين.

٣١ «فَمَاذَا نَقُولُ لِهٰذَا؟ إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا!».

عدد ١٤: ٩ ومزمور ١١٨: ٦

هذه الآية وما بعدها نتيجة ما قاله في مقاصد الله الحبية في شأن المؤمنين.

فَمَاذَا نَقُولُ لِهٰذَا؟ أي ألنا وجه للخوف والريب.

إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا الشرط وجوابه بيان لهذا. قد ثبت مما سبق في الآية ٢٩ و٣٠ إن الله مع المؤمنين. إن الله قد حرّرنا من ناموس الخطيئة والموت وجدّدنا بروحه الساكن فينا واعتبرنا أولاده وورثته وعيّننا للقداسة والمجد فما بقي شيء نخافه وإن كثرت الأعداء وقويت فإنا وإن كنا في أنفسنا ضعفاء معيننا الله وهو أقوى من الأعداء كلهم لأن أعداءنا أعداؤه. ومثل هذا قول المرنم «ٱلرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي ٱلإِنْسَانُ؟» (مزمور ١١٨: ٦).

الباقي من هذا الأصحاح توكيد لقوله «الله معنا» فلذلك وجب أن نطمئن.

إن الفصحاء والبلغاء يرون في هذه الآية آية البلاغة وغايتها.

٣٢ «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟».

ص ٥: ٦ و١٠ ص ٤: ٢٥

هذه الآية جواب لقوله في التي قبلها «ماذا نقول» أي نقول «الذي لم يشفق على ابنه» الخ. إن محبة الله أساس رجاءنا واطمئنانا وأعظم دليل على هذه المحبة إعطاؤه ابنه لنا فلو أعطانا العالم كله لم يكن إلا دون هذا بما لا يُقدر. و «الابن» هنا في اليونانية موصوف بما يميزه عن «أولاد الله» المخلوقين فهو بمعنى أنه هو والآب جوهر واحد وطبيعة واحدة. واليهود فهموا أن هذا معناه حين قال المسيح «إنه ابن الله» وعزموا على رجمه (يوحنا ٥: ١٨).

لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ في ذلك تلميح إلى أن في إعطاء الله ابنه ما نسميه من أنفسنا إنكار الذات على أن ذلك في جانب الله أعظم مما في جانبنا بمقدار البَون بين طبيعة الله وطبيعتنا. وعظمة النفقة تدل على عظمة المحبة. ومعنى العبارة أن المسيح أوفى كل حقوق الناموس والله لم يخفف عنه شيئاً شفقة عليه. إنه شفق على إبراهيم ولم يسمح بأنه يذبح ابنه إسحاق (تكوين ٢٢: ١٢) لكنه دفع ابنه إلى الموت. ولو أمكن خلاصنا بدون موت ابنه (متّى ٢٦: ٤٢) لشفق عليه وأنقذه من موت الصليب.

بَذَلَهُ أي أسلمه لموت العار والألم (إشعياء ٥٣: ٦ ويوحنا ٣: ١٦ ورومية ٤: ٢٥ وغلاطية ١: ٤).

لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ لكي لا نهلك إلى الأبد. بذل الله ابنه لأجل جميع الناس يستلزم أنه من يهلك فهلاكه من نفسه لا لأن لم يعد له فادياً.

كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ أي كل شيء نحتاج إليه من الآن وإلى الأبد فإن إعطاءه ابنه أعظم من سائر المواهب بما لا يعبر عنه. وهو يشتمل على كل موهبة لأن إعطاء المسيح يتضمن إعطاء الروح القدس لنستفيد من إعطاء الابن وإعطاء النعمة لنثبت في الإيمان به وإعطاء الحياة الأبدية (ص ٥: ١٠ و١كورنثوس ٣: ٢١ – ٢٣).

٣٣ «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ؟ اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ!».

إشعياء ٥٠: ٨ و٩ ورؤيا ١٢: ١٠ و١١

مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ أي لا أحد يستطيع أن يوجب عليهم الدينونة والهلاك بشكواه فالاستفهام إنكاري أتى به لتشديد النفي. ويلزم من تسميتهم «مختاري الله» أن يطمئنوا لأنه عيّنهم للخلاص بحسب قصده الأزلي (ع ٢٨ و٢٩) وأحبهم حباً خاصاً وغفر خطاياهم وأوفى عنهم بما فعله المسيح كل حقوق الناموس وأراح ضمائرهم فلم يكن من باب للشكوى ولا علّة للخوف.

اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ! لعل هذا جواب لسؤال مضمر وهو هل يشتكي الله. إنهم أخطأوا إليه وهو الديّان فإذا لم يشتك هو فلا مُشتكي. وكونه «هو الذي يبرّر» يمنع من أن يكون هو المشتكي أي هو يصرّح بأنه أوفي كل ما عليهم للناموس وأنه كُفّر عن كل خطاياهم وإذا صرّح الديّان بهذا استد كل فم فليس من مخلوق يجسر على أن يخطّئ من برّره الخالق.

٣٤ «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!».

أيوب ٣٤: ٢٩ مرقس ١٦: ١٩ وكولوسي ٣: ١ وعبرانيين ١: ٣ و٨: ١ و١٢: ٢ و١بطرس ٣: ٢٢ عبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١

مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ أي من يحكم على المؤمنين بالهلاك الأبدي على خطاياهم.

اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ لعل هذا جواب لسؤال مقدّر وهو هل يدين المسيح. فإن الله عيّنه ديّاناً للأحياء والأموات فإن لم يدن هو لم يقدر أحدٌ أن يدين. وقدم الرسول في هذه الآية أربعة موانع من أن يدين ويحكم عليهم بالهلاك.

الأول إنه مات من أجلهم ليخلّصهم من الدينونة وهذا الموت ضمانة أنّه لا يدينهم لأنّه أزال به كل أسباب الدينونة إذ أُوفي بموته كل ما عليهم للناموس.

بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً هذا هو المانع الثاني من أن يدين المؤمنين «إنه قام لتبريرهم» (ص ٤: ٢٥) فقيامته وحياته تؤكدان أنه يجري كل مقاصد موته. وقيامته برهان على أن الله قبله ذبيحة كفارة عن الخطيئة وإطلاقه من قيود الموت إعلان لإيفائه كل ما للناموس على المؤمنين الذين هو نائبهم. فهذه القيامة حققت وأكدت اطمئنان المؤمنين لأنهم لو عرفوا بموت المسيح ولم يعرفوا بقيامته كانت تعزيتهم ناقصة بل عُدت عدماً بدليل قوله «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ» (١كورنثوس ١٥: ١٧) ولهذا زاد على قوله مات «بل بالحري قام». وخلاصة هذه العبارة أن الله كما أنه بتسليم يسوع للموت «دان الخطية في الجسد» (أي أن الله الآب دان خطايا الناس بجسد ابنه) كذلك فإقامته إيّاه من الموت أعلن أنه رفع عنهم كل خطاياهم التي كانت قد وُضعت عليه.

ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ هذا هو المانع الثالث من أن يدين المسيح المؤمنين فإنه رفع إلى محل المجد والقوة واستولى على سياسة العالم فكل ما يحدث إنما يحدث بمشيئته فإذاً لا مانع من أن يخلّص إلى النهاية الذي تكفل بخلاصهم. وهذا موافق لقول المسيح «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٨: ١٨ انظر أيضاً مزمور ١١٠: ١ وأفسس ١: ٢٠ وعبرانيين ١: ٣ ورؤيا ٣: ٢١).

ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا هذا هو المانع الرابع من أن يدين المؤمنين. فجلوسه عن يمين الله أكد قدرته على خلاص شعبه فكذلك شفاعته أكدت إرادته وقصده ذلك. وكيفية تلك الشفاعة بُيّنت بصلاته من أجل شعبه في (يوحنا ص ١٧ وفي عبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١) وهي أنه يعلن أمام الله ما أتاه لأجل الخطاة من الطاعة والموت ويطلب خلاصهم إثابة لهم بمقتضى وعد الله إيّاه في عهد الفداء فهو يتكفل لله بإطاعتهم له لأنه يضع روحه فيهم ويجعلهم خاضعين طائعين. فما أعظم طمأنينة الذين يشفع فيهم لأن الله يسمع له في كل حين بدليل قوله «عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي» (يوحنا ١١: ٤٢).

٣٥ «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟».

مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ هذا الاستفهام إنكاري المقصود منه نفي الفصل وهذا أقوى أسباب الاطمئنان. قال سابقاً إنه لا أحد يشتكي على المؤمن ولا أحد يدينه وقال هنا إنه لا أحد يفصله عن محبة المسيح وهذا يؤكد دوام اطمئنان المؤمن. و «المحبة» في الآية هي محبة المسيح لنا لا محبتنا للمسيح لأن محبته القوية الكاملة ركن المؤمنين في الضيقات والاضطهاد لا محبة المؤمن الضعيفة الناقصة وهذا تدل عليه القرائن. قال في ع ٣٢ «إن المسيح أطهر محبته لنا بموته وقيامته وشفاعته». وقال في ع ٣٧ «إن انتصارنا على كل الأعداء (وهي المصائب المذكورة) بالذي أحبنا». وقال في ع ٣٩ «إن لا خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا». ويتضح ذلك كل الاتضاح إذا نظرنا إلى موضوع الكلام وهو توكيد اطمئنان المؤمن وتعزيته فتعزية قليلة أن يعرف أنه لا يترك المسيح ولكن تعزية عظيمة أن يعرف أن المسيح لا تتغير محبته فيتركه.

أَشِدَّةٌ الخ ذكر الرسول سبع مصائب تُظهر لنا أنها تفصل المؤمنين عن محبة المسيح وهي بسط السؤال السابق وهو قوله «من سيفصلنا» والمراد من ذلك أن تلك المصائب ليست بدليل على غضب الله ولا علّة للشك في محبته مهما اشتدت. نعم من مفعولها أنها تفصلنا عن محبة الناس لنا لكن ليس من مفعولها أنها تجعل المسيح يترك من مات من أجلهم وقام وشفع فيهم. وقدر بولس أن يشهد بذلك من اختباره لأنه احتمل كل تلك المصائب (٢كورنثوس ١١: ٢١ – ٣٣). وكان المسيحيون الأولون عرضة لها ولم يزل كثيرون من المسيحيين في هذا العصر كذلك. و «الشدة» و «الضيق» يعمان كل المصائب والفرق بينهما قليل. «فالشدة» المصيبة باعتبار قوتها «والضيق» المصيبة باعتبار تأثيرها في المصاب حتى لا يهتدي إلى طريق النجاة منها. والمراد «بالاضطهاد» المصيبة باعتبار سببها الإيمان بالإنجيل والتبشير به. و «الجوع» و «العري» مصيبتان نشأتا للمسيحيين عن الاضطهاد لأنهم سُلبت أملاكهم وطُردوا وتاهوا في البراري. والخطر مصيبة نتجت من تمسكهم بالمسيح وإبغاض الناس إيّاهم لذلك. والمراد «بالسيف» القتل من باب تسمية الفعل باسم إحدى آلاته.

٣٦ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ».

مزمور ٤٤: ٢٢ و١كورنثوس ١٥: ٣٠ و٣١ و٢كورنثوس ٤: ١١

كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ مزمور ٤٤: ٢٢ على ما في ترجمة السبعين.

إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ أراد بولس أن ما صدق على الأتقياء في أيام داود صدق على المؤمنين في أيام الرسل.

كُلَّ ٱلنَّهَارِ أي دائماً.

مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ أي أن أعداء المؤمنين قتلوهم بلا شفقة وحسبوا حياتتهم بلا قيمة وأنهم خُلقوا للذبح.

٣٧ «وَلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا».

١كورنثوس ١٥: ٥٧ و٢كورنثوس ٢: ١٤ و١يوحنا ٤: ٤ و٥: ٤ ورؤيا ١٢: ١١

هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة والثلاثين وهي جواب لقوله هل تفصلنا المصائب المذكورة عن محبة المسيح.

جَمِيعِهَا الضمير راجع إلى المصائب المذكورة آنفاً.

يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا أي أن تلك المصائب لا يمكنها أن تغلبنا بل تكون خيراً لنا لأنها تؤول إلى تطهيرنا الآن وتمجيدنا أخيراً بدليل قول الرسول «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (٢كورنثوس ٤: ١٧).

بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا أي المسيح فإنّه هو ركن انتصارنا لا قوتها ولا إرادتنا ولا عزمنا بل محبة المسيح لنا. فهو يعطينا قوة وشجاعة ونعمة بدليل قول الرسول «بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا» (١كورنثوس ١٥: ١٠). وقوله تعالى «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَلُ» (٢كورنثوس ١٢: ٩ انظر أيضاً غلاطية ٢: ٢٠ وفيلبي ٤: ١٣).

٣٨ «فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً».

أفسس ١: ٢١ و٦: ١٢ وكولوسي ١: ١٦ و٢: ١٥ و١بطرس ٣: ٢٢

ذكر بولس من موجبات اطمئنان المسيحي قصد الله خيره وفعل المسيح لأجله وزاد هنا ثقته بذلك واعتقاده الجازم أنه لا تستطيع المخلوقات أفراداً وإجمالاً أن تفصل المؤمن عن محبة الله وما ذكره من الفاصلات هنا أقوى مما ذكره منها في (ع ٣٥).

لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ أي إن كنّا أمواتاً أو أحياء فمحبة المسيح لنا لا تتغير. نعم إن الموت يفصلنا من أشياء كثيرة لكنه يعجز عن أن يفصلنا عن محبة المسيح بدليل قوله تعالى «أَنَا أُعْطِيهَا (أي خرافي) حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» (يوحنا ١٠: ٢٨). فحياتنا في الدنيا محاطة بمصائب وتجارب ولكن لا شيء يفصلنا عن المسيح وذلك على وفق قوله «لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ»(ص ١٤: ٢٨).

وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ صنوف مختلفة من الأرواح العلوية بقطع النظر عن كونها صالحة أو طالحة. وأشار إلى هؤلاء المخلوقات بقوله «رياسة وسلطان وقوة وسيادة» (أفسس ٢: ٢١. وبقوله أيضاً «عروشاً أو سيادات» (كولوسي ١: ١٦). ومراد الرسول بيان أن المخلوقات التي هي أعظم من الإنسان حكمة وقوة عاجزة عن أن تفصل المؤمن عن محبة المسيح.

وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً أي لا شيء من محدثات هذا العالم ولا من محدثات العالم الآتي.

٣٩ «وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».

ص ٣: ٢٤ و٥: ١٥ وأفسس ١: ٦ و٢تيموثاوس ١: ٩

وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ أي لا شيء في السماء ولا في الأرض ولا في جهنم (انظر مزمور ١٣٩: ٨ و٩). ففهم من الأمور الأربعة الأخيرة أن لا شيء في زمان أو مكان يفصلنا عن محبة المسيح.

وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى زاد هذا على ما قبله دفعاً لتوهم أنه بقي شيء لم يذكره يمكنه أن يفصل المؤمنين عن محبة المسيح.

تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ محبة الله هنا مكان محبة المسيح في (ع ٣٥) ولنا من ذلك أن المسيح هو الله.

ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا إن محبة الله الآب ينبوع كل خير (ص ٥: ٨) والمسيح مجرى نعمته علينا فباتحادنا بالمسيح بالإيمان نحصل على فوائد محبة الله بدليل قوله «لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ، ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٦ و٧ انظر أيضاً ٢تيموثاوس ١: ٩).

فوائد

  1. إنه مما نتعلمه من هذا الفصل أن الله يختار الناس للحياة الأبدية وعلّة ذلك الاختيار مشيئته المطلقة وغايته أن يماثل المختارون يسوع المسيح في صفاته ونصيبه الأبدي (ع ٢٩).
  2. إن خلاص المختارين لا ريب فيه.
  3. إن علامة الاختيار القداسة فلا يستطيع الإنسان تحقيق أن دعوته واختياره ثابتان إلا بمداومته على صالح الأعمال (ع ٢٩ و٣٠).
  4. إن عمل الفداء لا يفتح باباً لليأس ولا يمهّد سبيلاً للطمع لأن الذين يحبهم الرب يحبهم إلى الأبد ومحبته لنعمة منه لا لصلاح في الناس ولا يحصل عليها المصرّون على خطاياهم (ع ٢٩ – ٣٩).
  5. إن أساس ثقة المؤمنين محبة الله وهذه المحبة ليست محدودة بدليل بذله ابنه الوحيد عنّا ولا متغيرة بدليل ما صرّح به الرسول هنا (ع ٣١ – ٣٩).
  6. إن المسيح بكرٌ بين إخوة كثيرين فعلى المسيحيين أن يحبوه المحبة العظمى وأن يحب بعضهم بعضاً كالإخوة فإن لم يكن في قلوبنا مثل هذه المحبة فلسنا من أهل ذلك الإخاء المقدس (ع ٢٩).
  7. إنه يحق لنا أن نعتبر هبة الله ابنه علامة محبة خاصة لشعبه الخاص فضلاً عن أنها علامة محبة عامة لكل العالم (ع ٣٢).
  8. إن الشك في محبة الله بعد ما اتضح عظمتها ودوامها بالأدلة إثم عظيم (ع ٣٠ – ٣٩).
  9. إن رجاء الخاطئ المغفرة ونيل الحياة الأبدية متوقف على موت ابن الله وقيامته ورياسته العامة وشفاعته (ع ٣٤).
  10. إنه إذا كان الله يبرّر المؤمنين فلا بأس من أن العالم يدينهم (ع ٣٣ و٣٤).
  11. إنّ الله لم يشفق على ابنه بغية خلاصنا فيجب أن ننكر أنفسنا وأن لا نشفق عليها في سبيل محبتنا إياه واجتهادنا في خلاص غيرنا (٣٢).
  12. إنّ الضيقات والمصائب كانت ولم تزل نصيب شعب الله فهي لا تفصل المؤمنين عن محبة المسيح لهم فيجب أنها لا تزعزع محبتهم له (ع ٣٥).
  13. إن كل ما في العالم من خير صديق للمؤمن وكل ما فيه من شر عدو له لكنه مغلوب (ع ٣٥ – ٣٩).
  14. إنه ليس لنا أن نهرب من الرزايا بل علينا أن نغلبها. والقوة على احتمالها والانتصار عليها من الذي يحبنا وبغيره لا نقدر على شيء (ع ٣٧).
  15. إن محبة الله مع كونها غير محدودة ولا متغيرة لم تظهر للخطأة إلا بيسوع المسيح.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى