الرسالة إلى رومية | 03 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى رومية
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثالث
اعتراضات يهودية على تعليم بولس ودفعه إياها ع ١ إلى ٨
١ «إِذاً مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ؟».
في هذه الآية الاعتراض الأول على تعليم الرسول في الأصحاح الثاني وخلاصته استحالة دينونة اليهود على أعمالهم كالأمم لأن ذلك يقتضي أن لا فضل لليهود عليهم.
إِذاً أي ينتج مما سبق.
مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ أي على الأممي. والاستفهام هنا أنكاري والمعنى أن القول بأن الختان الحقيقي هو ختان القلب وأن الأغرل الطائع متبرّر يستلزم أنه لا نفع من الختان وسائر الرسوم الناموسية وأن اختيار الله إسرائيل شعباً خاصاً له وعنايته به وكل ما ميّزه به مما هو معلوم ومقرر عند الجميع بلا فائدة لأنها لا تبرّر ولا تخلص. وهذا الاعتراض كاعتراض كثيرين في هذه الأيام وهو قولهم أي نفع من حفظ الشريعة الأدبية والرسوم الإنجيلية إن لم نخلص بها.
مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ عبّر بالختان عن كل بركات عهد الله لإبراهيم ونسله لأن الختان كان علامة لها. والمعنى أنه لا نفع له إن كان الله لا يقبل سوى ختان القلب. فوجب هنا على الرسول دفع ذلك الاعتراض لئلا يكون مانعاً لليهود من قبول الإنجيل.
٢ «كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَوَّلاً فَلأَنَّهُمُ ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ».
تثنية ٤: ٧ و٨ ومزمور ١٤٧: ١٩ و٢٠ وص ٢: ١٨ و٩: ٤
كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ معنى ذلك أن استنتاجهم ذلك الاعتراض من تعليمه خطأ فإنه صرّح بأن نفع الدين اليهودي كثير في كل الأحوال الروحية.
أَمَّا أَوَّلاً اقتصر هنا على الأول لأنه الأهم وذكر الباقي في (ص ٩: ٤ و٥).
ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ أي ميّزهم الله بإعطائه إياهم الوحي دون غيرهم وفيه إعلان بما يجب على الإنسان أن يعمله إرضاء لله. وفيه مواعيده تعالى ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح. وفيه وحده بيان طريق المغفرة وتحقق خلود النفس. وهذا مبني على كون معرفة هذه الحقائق الروحية فضلاً عظيماً ودل على ذلك بقوله «استؤمنوا» مبيناً أن الوحي كان وديعة ثمينة استودعهم إياها. وتسميته أسفار العهد القديم «أقوال الله» نص على أنها ليست أقوال الناس وإن كانوا قد كتبوها بل هي أقواله تعالى ولهذا هي ذات سلطان وتستحق الثقة التامة فاستئمانهم عليها شرف ومزية. وقول بولس هنا كقول استفانوس أمام مجلس السبعين (أعمال ٧: ٣٨ انظر أيضاً مزمور ١١٩: ١٠٣ و١بطرس ٤: ١١).
٣ «فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ؟ أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ ٱللّٰهِ؟».
ص ١٠: ١٦ وعبرانيين ٤: ٢ عدد ٢٣: ١٩ وص ٩: ٦ و١١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٢: ١٣
ما قيل في هذه الآية إما تثبيت الرسول قوله أن استئمانهم على أقوال الله لم يزل بركة عظيمة لهم وإن كان بعضهم لم يصدقوها ورفضوا المسيح الموعود به فيها لأن الله أمين سوف يُجري كل مقاصد نعمته وإما هو اعتراض يهودي ثاني وهذا هو الأرجح. وعلى هذا يكون اعتراض اليهودي إن كنا غير أمناء فهل يبطل ذلك أمانة الله في إنجاز مواعيده لإبراهيم ونسله. ألم يقطع معه عهداً وهو أن يهب لشعبه كل فوائد ملكوت المسيح على شرط الختان وحفظ الرسوم الموسوية. فإذاً من المحال أن يعاملنا الله معاملة الوثنيين وإن كنا أشراراً.
فَمَاذَا هذا مقدمة إيراد اعتراض بغية دفعه على أثر ذكره.
إِنْ كَانَ قَوْمٌ أي فريق من اليهود. أطلق الرسول في الأصحاح الثاني الدينونة على كل اليهود لكن المعترض قصرها على بعضهم فرضاً واحتمالاً.
لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ أي لم يقوموا بما وجب عليهم من استئمانهم أقوال الله أي أنهم لم يسلكوا في طريق الرب ولم يصدقوا المواعيد بمعانيها الروحية.
أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ ٱللّٰهِ أي خيانتهم لا تمنع الله من إنجاز مواعيده.
ظن اليهود نسبتهم إلى الله ليست لغيرهم من البشر وأن اختيار الله إبراهيم ونسله خاصة له ومنحه إياهم علامة الختان والرسوم الموسوية ثبتت لهم بعض الحقوق على شرط حفظها ظاهراً فيستحيل أن يدينهم كما يدين الأمم في يوم القضاء. ويتضح أنهم ظنوا ذلك من قول يوحنا المعمدان لليهود «وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى ٣: ٩). ومن قول أحد علمائهم «ارتكب اليهودي كل نوع من أنواع الخطايا حُسب بين الإسرائيليين الخطأة وعوقب بمقتضى خطاياه لكن مع ذلك كله يبقى له نصيب في الحياة الأبدية» وكثيراً ما يوجد في كتبهم «أن لكل إسرائيلي نصيباً في النعيم الأبدي» وعلى هذا الظن ظهر لهم قول بولس أنهم «يدانون كالوثنيين» تهمة لله بإخلاف الوعد. فكأنهم قالوا أن نكث بعض اليهود عهدهم مع الله كما قلت يا بولس فهل ينكث الله عهده مع كل شعبه المختار.
٤ «حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ ٱللّٰهُ صَادِقاً وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِباً. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي كَلاَمِكَ، وَتَغْلِبَ مَتَى حُوكِمْتَ».
أيوب ٤: ٨ يوحنا ٣: ٣٣ مزمور ٦٢: ٩ و١١٦: ١١ مزمور ٥١: ٤
حَاشَا! تنزيه لتقوية النفي جاء بهذا المعنى عشر مرات في هذه الرسالة. كأن الرسول هنا اقشعرّ مما نسبوه إليه من القدح في أمانة الله وصدقه بإخلاف وعده فنفى ما نسبوه إليه نفياً شديداً بتنزيهه تعالى. ومراد الرسول بذلك أن الله لا يخلف الميعاد إن دان خطأة اليهود لأن فوائد العهد لم تزل لسائرهم. وأن كل تلك المواعيد تُنجز لكل الذين يقومون بشروطها. وهذا على وفق قوله «إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِيناً، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٣ انظر أيضاً ١كورنثوس ١: ٩ و١٠: ١٣). وقد برهن بولس في ص ٩ – ص ١١ أن لا مخالفة لوعد الله بدينونته لليهود.
بَلْ لِيَكُنِ ٱللّٰهُ صَادِقاً وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِباً أي لو سلمت أن استنتاجكم صحيح لرفضت حالاً ما استلزمه من قولي. فكأنه قال لنعترف بصدق الله وأمانته في وعده مهما نتج عن اعترافنا بذلك من تكذيب أنفسنا وسائر البشر على وجه الأرض. وقوله «ليكن» الخ إما مبدأ عام وإما مقصور على عهد الله لإسرائيل. والمعنى على هذا أن الله صادق الوعد وإن ظهر أن كل يهود الأرض (لا قوم منهم) كاذبين بنكثهم عهدهم مع الله.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ هذا مقتبس من (مزمور ٥١: ٤) كتبه داود بعد ما أرسل الله إليه ناثان ليوبخه (٢ صموئيل ١٢: ١ – ١٤). والعبارة منقولة من ترجمة السبعين كأكثر المقتبسات في الإنجيل والفرق بينها وبين العبارة العبرانية في اللفظ دون المعنى. واعترف داود في ذلك المزمور بأنه خاطئ وأن الله بار بتخطيئته وعقابه كما أراد. واتخذ الرسول كلامه دليلاً على وجوب أن نبرّر الله مهما دنّا أنفسنا كما أن داود برّر الله ودان نفسه.
لِكَيْ تَتَبَرَّرَ لكي يعرف الناس أنك بار ويصرّحوا ببرك.
فِي كَلاَمِكَ أي الذي أُرسل إليه بفم ناثان وهو كلام دينونة له.
تَغْلِبَ وفي الأصل العبراني تزكو فما ذُكر هنا لازم معناه فإنه إذا تحاكم اثنان في المحكمة الشرعية قيل لمن يزكو منهما أنه الغالب. فتصوّر داود في المزمور أنه هو والله يتحاكمان فغلبه الله بكونه زكياً وعادلاً بدينونته إياه على خطيئته.
مَتَى حُوكِمْتَ في الأصل العبراني «بقضائك» أي حكمك والمعنى واحد وهو وجوب الاعتراف بعدل الله إذا اعتبرنا الله حاكماً علينا أو نظرنا إلى أعماله وحكمنا فيها. ونتيجة ذلك كله أن خطيئة الإنسان لا تبطل أمانة الله وصدقه بل تثبتها بدينونة الخاطئ.
٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ ٱللّٰهِ، فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي يَجْلِبُ ٱلْغَضَبَ ظَالِمٌ؟ أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ».
ص ٦: ١٩ وغلاطية ٣: ١٥
في هذه الآية اعتراض ثالث مبني على ما قيل في الآية الرابعة غايته دفع قول بولس أن اليهود تحت الدينونة فإنه قال في الآية الرابعة «إن الله أظهر حقه وعدله بمراقبته خطيئة داود ومعاقبته له عليها» ولمح إلى أن يكون مثل هذه النتيجة من مراقبة الله خطايا اليهود ومعاقبته لهم عليها.
إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ ٱللّٰهِ أثبت الرسول في الأصحاح الثاني على اليهود أنهم ارتكبوا آثاماً كثيرة وأنهم عرّضوا أنفسهم بذلك لغضب الله وعقابه فكان من ذلك هذا الاعتراض وهو إذا كانت خطايانا وسيلة إلى تمجيد الله فكيف يحق له تعالى أن يديننا ويعقابنا على الخطايا التي آلت إلى تمجيده.
فَمَاذَا نَقُولُ أي ما الذي نستنتجه من ذلك.
أَلَعَلَّ أي هل نسلّم بصدق النتيجة.
ٱلَّذِي يَجْلِبُ ٱلْغَضَبَ على الخاطئ لخطيئته.
ظَالِمٌ نتج من خطايا اليهود ومعاقبة الله إيّاهم عليها تمجيد لاسمه فلولا خطاياهم لم يكن من سبيل لإظهار قداسته تعالى وكراهته للخطيئة وصدقه في إجراء وعيده. فقصد المعترض باعتراضه أنه ليس من العدل العقاب على ما نتيجته تمجيد الله. ويستحيل أن يكون الله ظالماً فتعليم الرسول ليس بصحيح واليهود ليسوا بعرضة للغضب والدينونة.
أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ يظهر من ذلك أن بولس كان في ريب من جواز ذكر اعتراض فيه نسبة الظلم إلى الله وأنه أراد أن ذلك ليس مما يورده هو باعتبار كونه رسولاً أو مسيحياً ولكن مما أورده أكثر الناس الذين رغبوا في أن يبرّروا أنفسهم بوضع الذنب على غيرهم حتى عليه تعالى.
٦ «حَاشَا! فَكَيْفَ يَدِينُ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ إِذْ ذَاكَ؟».
تكوين ١٨: ٢٥ وأيوب ٨: ٣ و٣٤: ١٧
حَاشَا تنزيه لتشديد النفي كما في (ع ٤) وهو جواب على المعترض.
فَكَيْفَ يَدِينُ ٱللّٰهُ الخ هذا يثبت صحة جوابه فإن صدق الاعتراض من جهة الخاطئ من اليهود صدق على كل خطأة العالم فإن كان عقاب الله الخاطئ اليهودي على خطيئته ظلماً لأن عقابه يؤول إلى مجد الله فمن الظلم أن يدين أحداً من خطأة العالم وهذا إبطال للدينونة كلها. وما شأنه كذلك من الاعتراضات فهو باطل في نفسه.
٧ «فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ ٱللّٰهِ قَدِ ٱزْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟».
في هذه الآية الاعتراض الذي في الآية الخامسة عينه بتغيير الألفاظ وهو مما يحق لكل خاطئ أن يقوله لو كان صحيحاً.
فَإِنَّهُ الفاء للتعليل والمعنى لأنه لو صحّ اعتراض اليهودي حق للخاطئ أن يقول ما يأتي.
صِدْقُ ٱللّٰهِ في وعده ووعيده وهذا نُسب إليه تعالى في الآية الرابعة.
ٱزْدَادَ أي صار أوضح من ذي قبل.
بِكَذِبِي نوع من الإثم المذكور في الآية الخامسة الذي بُيّن به «برّ الله».
ِلِمَجْدِه أي لكي يتمجّد فإنه كل ما أعلن صفاته فهو آئل لمجده وبعقاب الكذاب أُعلن صدق الله وبرّه.
فَلِمَاذَا أُدَانُ كَخَاطِئٍ المراد بهذا السؤال أن معاملة الخاطئ على هذا الأسلوب أي عقابه على كذبه الذي كان وسيلة إلى تمجيد الله ليست سوى ظلم ويلزم منها محالية أن يعاقبه الله كذلك.
٨ «أَمَا كَمَا يُفْتَرَى عَلَيْنَا، وَكَمَا يَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّنَا نَقُولُ: لِنَفْعَلِ ٱلسَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ ٱلْخَيْرَاتُ. ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ».
ص ٥: ٢٠ و٦: ١ و١٥
أكثر هذه الآية تكملة الآية السابقة وهي ما يحق للخاطئ أن يقوله على فرض الاعتراض في الآية الخامسة وهو لماذا لا يحق لي أن أفعل الشر للحصول على الخير وعليه تكون الخطيئة فضيلة.
أَمَا كَمَا يُفْتَرَى أي كما يتهموننا كذباً. الظاهر من هذا أن أعداء الإنجيل اتهموا بولس باعتقاده جواز ارتكاب السيآت بغية الخيرات.
عَلَيْنَا نحن الرسل خاصة والمسيحيين عامة.
كَمَا يَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّنَا نَقُولُ الظاهر أن بعض الناس خُدعوا بتهمة اليهود فصدقوا أن ما يأتي هو من المبادئ الإنجيلية التي علّمها الرسل فاستغنم بولس هذه الفرصة لنفي هذا المبدإ وإنكار أنه تفوّه به.
لِنَفْعَلِ ٱلسَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ ٱلْخَيْرَاتُ هذا هو المبدأ المُفترى. والاعتراض في الآية الخامسة لو صحّ لأثبت هذا المبدأ الفاسد المُبطل كل صدق وبر. وأصل هذا المبدإ أن الإثم وسيلة إلى إظهار مجد الله. ولذلك لا يجوز عقاب الأثيم. فكلما زاد إثم الناس زاد مجد الله. وهذا يحمل الناس على الخطإ عمداً ويكون عذراً وحجة لهم. ومن البيّن أن الاعتراض الذي نتيجته كهذه باطل بالضرورة.
ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ أي كل من يصدق ذلك المبدأ ويسلك بمقتضاه. وهذا تصريح بأن هؤلاء يستحقون اللوم والعقاب. وقد أظهر بولس بكلامه هنا كراهته هذا المبدأ وتحريمه إياه. فمبدأ الرسول عكس هذا المبدإ وهو أنه لا يجوز أبداً أن نفعل الشر توصلاً إلى الخير لا لنفع أنفسنا ولا لنفع أصحابنا ولا لنفع الكنيسة ولا لتمجيد الله. فليس لأحد أن يتوقع نجاح عمله وبركة الله عليه إلا بأن يسلك طريق الحق والاستقامة.
فوائد
- أنه إذا وفرت وعظمت فوائد اليهود من عضويتهم في الكنيسة تحت النظام الموسوي فكم تعزّ وتعظم فوائد عضوية الذين تحت النظام المسيحي وأعظم تلك الفوائد حصولهم على أسفار العهدين كلها ولكن كلما زادت فوائدنا زادت مسؤوليتنا (ع ١ و٢).
- إن أعظم البركات التي امتازت بها الممالك المسيحية على الممالك الوثنية هو حصولهم على الكتاب المقدس والوسائط لإدراك معانيه الثمينة (ع ٢).
- إن الأسفار التي اعتقد يهود عصر المسيح والرسل أنها وحي الله هي وحيه حقاً (ع ٢).
- إنه ليس لأحد أن يفسر عهداً من عهوده تعالى بما يلزم منه العفو من الدينونة والعقاب مع الاستمرار على الإثم. ولا أمن للأثيم المستمر على إثمه من ذلك بعضويته في الكنيسة واشتراكه في أسرارها (ع ٣ و٤).
- إنه باطل رجاء الشرير النجاة من الهلاك بناء على توهّمه أن الله لا يدين العالم (ع ٥ و٦).
- إن أقوى برهان على فساد تعليم ما هو أنه ينفي التمييز بين الخير والشر. وأوضح دليل على شر إنسان وعدل عقابه أنه «يفعل السيآت لكي تأتي الخيرات» ويغلب اقتران هذا الإثم بالرياء والخداع.
انه لا فضل لليهودي على الوثني في تبرّره أمام الله ودليل ذلك من الوحي ع ٩ – ٢٠
٩ «فَمَاذَا إِذاً؟ أَنَحْنُ أَفْضَلُ؟ كَلاَّ ٱلْبَتَّةَ! لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ ٱلْيَهُودَ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ».
ع ٢٣ وغلاطية ٣: ٢٢
فَمَاذَا إِذاً؟ أي نتيجة وصلنا إليها في هذا البحث.
أَنَحْنُ أَفْضَلُ؟ اي هل نحن اليهود أفضل من الأمم. سبق إلى القول أن اليهود امتازوا ببعض الأمور (ع ٢) وهنا سأل هل هم أفضل منهم أدباً وفضيلة وبراً واستحقاقاً أمامه تعالى.
كَلاَّ ٱلْبَتَّةَ! بقوله هذا قطع كل ثقة اليهود بأفضليتهم.
لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا في الأصحاح الأول والثاني من هذه الرسالة. وضمير الجمع موضع المفرد لأن بولس جمع قرّاء الرسالة معه.
أَنَّ ٱلْيَهُودَ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ أي بلا استثناء ولا فرق.
تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ أي تحت سلطتها وتدنيسها ودينونتها.
١٠ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ».
مزمور ١٤: ١ و٢ و٣ و٥٣: ١
ما في هذه الآية إلى الآية الثامنة عشرة الإثبات من كتاب الله أن اليهود والأمم سيّان في الخطيئة.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في مزمور ١٤:١ والاقتباس من ترجمة السبعين والاختلاف بينه وبين العبرانية في اللفظ دون المعنى.
لَيْسَ بَارٌّ وفي العبراني «ليس من يعمل صلاحاً» وهذا يثبت أن جميع الناس خطأة (مزمور ١٤: ٣).
١١ «لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ».
هذا مقتبس من (مزمور ١٤: ٢) من ترجمة السبعين وما جاء فيها سلباً وهو قوله «ليس من يفهم ليس من يطلب الله». جاء في العبراني استفهاماً إنكارياً وهو «هل من فاهم طالب الله» فلا فرق في المعنى. أثبت الله على جميع الناس الخطيئة لأنهم جهلوه باختيارهم وأهملوه. وكثيراً ما جاء «الفهم» في الكتاب المقدس بمعنى تقوى الله وعدمه بمعنى عدمها. وطلب الإنسان الله عبارة عن الشوق إليه والطاعة والعبادة له وهذا من لوازم الفهم الروحي.
١٢ «ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ».
هذه الآية من (مزمور ١٤: ٣) لفظاً ومعنى وفيها بيان النتيجة من ترك الناس لله وطرقه فإنهم اختاروا طريق الضلال والدنس الأدبي وهذا مما أثبته الكتاب المقدس على كل الناس بلا استثناء.
١٣، ١٤ «١٣ حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سُمُّ ٱلأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. ١٤ وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً».
مزمور ٥: ٩ وإرميا ٥: ١٦ مومور ١٤٠: ٣ مزمور ١٠: ٧
في هاتين الآيتين إثبات أن الناس أشرار بدليل كلامهم.
حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ هذا مقتبس من (مزمور ٥: ٩) من ترجمة السبعين وفي العبراني «حلقهم» موضع حنجرتهم. وكليهما آلة التكلم. ووجه الشبه بين حناجر الناس والقبور المفتوحة الكراهة والضرر فرائحة القبور خبيثة ومفسدة وكذلك أقوال الأشرار. أو عدم الشفقة والاكتفاء فإن القبر لا يشفق ولا يشبع وكذا أفواه الأشرار لا تنفك تؤذي كل من تطعن فيه.
بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا هذا ما ترجمه السبعون عن العبرانية وهو فيها «ألسنتهم صقلوها» فالأصل مجاز والترجمة حقيقة فاللسان المصقول هو المملق والتمليق ضرب من المكر.
سُمُّ ٱلأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ هذا مقتبس من ترجمة السبعين من (مزمور ١٤٠: ٣) وهو في الأصل العبراني «حمة الأفعوان تحت شفاههم» والمعنى واحد لأن كل من الأفعوان والصل سام والمترجمون السبعون اعتبروا السم هو الجوهري في الآية لا نوع الحية السامة. والمعنى أنهم يضرون بخبثهم ومكرهم كما يضر السم بالأجساد (قابل بهذا ما في يعقوب ٣: ٦).
فَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً هذا من ترجمة السبعين أيضاً من (مزمور ١٠: ٧). وفي العبرانية «فمهم مملوء لعنة وغشاً» والمراد بذلك شدة البغض فإن مرارة القلب علّة لعنة الشفتين (قابل هذا بما في أفسس ٤: ٣١ ويعقوب ٣: ١٤).
١٥ – ١٧ «١٥ أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ. ١٦ فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ. ١٧ وَطَرِيقُ ٱلسَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ».
أمثال ١: ١٦ وإشعياء ٥٩: ٧ و٨ ومزمور ٣٦: ١
في هذه الآيات إثبات أن الناس أشرار بدليل أفعالهم. وهي مقتبسة من (إشعياء ٥٩: ٧ و٨) بشيء من الاختصار.
أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ أي يقتلون إخوتهم البشر لأدنى سبب. وفي العبراني وصف «الدم» بالزكي وتركه بولس اختصاراً.
فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ (ع ١٦) أي يسلبون ويقتلون.
طَرِيقُ ٱلسَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ (ع ١٧) المراد بطريق السلام ما يؤدي إلى الراحة والخير لهم ولغيرهم. ومعنى قوله «لم يعرفوه» لم يستحسنوه ولم يسلكوا فيه لأنهم كانوا يعدلون عنه أبداً إلى طريق الاغتصاب والسحق. وذكر الرسول هذه الأفعال بياناً لفساد طبيعة الإنسان لأنه لا بد من أن تكون الشجرة ذات الاثمار الرديئة رديئة.
١٨ «لَيْسَ خَوْفُ ٱللّٰهِ قُدَّامَ عُيُونِهِمْ».
مزمور ٣٦: ١
هذه الآية من (مزمور ٣٦: ١) على ما في ترجمة السبعين وفي الأصل العبراني عبّر داود عن شعور قلبه حين مشاهدته أعمال الأشرار وحكمه بمقتضى ذلك الشعور. واقتبس بولس قوله دليلاً على أن الأشرار خالون من خوف الله أي لأنهم لا يتقون الله ولا يخشون نقمته فكأنهم لا يؤمنون به ولا يلزمهم أن يطيعوه ولا أن يخافوا بأسه وعقابه على معاصيهم.
١٩ «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١٠: ٣٤ و١٥: ٢٥ أيوب ٥: ١٦ ومزمور ١٠٧: ٤٢ وحزقيال ١٦: ٦٣ وص ١: ٢٠ و٢: ١ ص ٢: ٢ وع ٩ و٢٣
نَحْنُ نَعْلَمُ أي الأمر جلي للجميع كما في (ص ٢: ٢).
ٱلنَّامُوسُ هو ما أعلن الله فيه واجبات الإنسان إما بالعقل والضمير وإما بما كُتبت في الوصايا العشر أو الأسفار الخمسة أو غيرها من الكتاب المقدس ولكن القرينة هنا تدل على أن الرسول أراد به كتب المزامير والأنبياء لأنها هي التي اقتبس منها هنا.
يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ أي الذين بلغهم إعلان إرادته تعالى. والذين كتب الناموس على ضمائرهم فهم مسؤولون بمقتضى ذلك الناموس الطبيعي. والذين بلغهم كتاب الوحي مسؤولون بمقتضاه. وأسفار العهد القديم أُعلنت لليهود فهم مكلفون أن يتخذوها دستور حياتهم وتصرفهم وأن يقيسوا أعمالهم بها. وتلك الأسفار صرّحت بأن يسلّموا بصدقه على أنفسهم كما يسلّمون به على الأمم.
لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ قصد الله بأقواله التي اقتبسها الرسول في هذا الأصحاح أن يوضح أحسن إيضاح أن كل الناس أشرار حتى لا يبقى لأحد من سبيل للريب أو الإنكار أو الاعتذار ويضطر ان يسلّم بصدق ذلك بصمته (قابل هذا بما في أيوب ٥: ١٦ ومزمور ١٠٧: ٤٢).
كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ أي كل الناس عرضة للعقاب بسبب خطاياهم.
مِنَ ٱللّٰهِ رب الشريعة الديّان الذي عليه تعدّى الخاطئ.
٢٠ «لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ».
مزمور ١٤٣: ٢ وأعمال ١٣: ٣٩ وغلاطية ٢: ١٦ و٣: ١١ وأفسس ٢: ٨ و٩ وتيطس ٣: ٥ ص ٧: ٧
ما يأتي نتيجة الآية التاسعة عشرة وذلك أنه لكون كل العالم خطأة وعرضة للغضب والعقاب لا يمكن أحداً أن يتبرّر بأعماله. وغاية بولس مما كتب من (ص ١: ١٨) إلى هذه الآية هو الوصول إلى هذه النتيجة (انظر شرح ص ١: ١٨).
بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أي كل الأعمال التي يأمر بها الناموس رمزية أو أدبية صنعها الإنسان قبل التجديد أو بعده إطاعة للناموس الطبيعي أو ناموس الوحي.
والدليل على أن هذا هو المراد من الناموس هنا:
(١) إن الناموس المشار إليه على كل الناس وأن تعديه يجعلهم مذنبين أمام الله (ع ١٩).
(٢) إن الناموس الذي على جميع الناس لا بد من أن يكون روحياً ينظر إلى عواطف القلب لا مجرد الاعمال الظاهرة. وأعمال المؤمنين الصالحة لا تبرّرهم لأن أفضلها ناقص وعلى ما قيل في (يعقوب ٢: ١٠) إن الطاعة الناقصة ليست بمقتضى الناموس طاعة.
كُلُّ ذِي جَسَدٍ أي كل إنسان. وصف الإنسان بذي الجسد لكونه ضعيفاً مائلاً إلى السقوط.
لاَ يَتَبَرَّرُ ولن يتبرّر لأنه تعدّى الناموس. وهذا على وفق قوله «لاَ تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ» (مزمور ١٤٣: ٢). ومعنى التبرير التصريح بالبر أو أن الإنسان يُحسب باراً لانه ليس للناموس شيء عليه. ويفرق عن المغفرة بأن المغفرة قد تكون تبريراً ومن المحتمل أن الملك الأرضي يرضى عن المجرم ويُكرمه لكن ذلك ليس تبريراً له. وليس المراد بهذا التبرير أن الله يجعل الشرير باراً بتغيير صفاته لأن ذلك تقديس. والتبرير في الاصطلاح الشرعي التصريح بأن المشكو بار يمقتضى الشريعة غير مستحق العقاب.
وخلاصة هذا التعليم أنه من المحال أن الله يعتبر أحداً من الناس باراً لعمله بمقتضى الناموس لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة. فلو استطاع الإنسان ذلك قلباً وعملاً لتبرّر به (ص ٢: ١٣) ولكن قد برهن الرسول في الأصحاح الثاني والأصحاح الثالث أن كل الناس يهوداً وأمماً خالفوا الناموس فأثبت تعليمه افتقار الإنسان إلى التبرير بالنعمة على أساس وطيد.
أَمَامَهُ أي أمام الله حين يحكم عليه بمقتضى أعماله سواء كان ذلك يوم الدين أم قبله.
لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ المراد بالناموس هنا الناموس الأدبي مكتوباً أو غير مكتوب. والمراد «بمعرفة الخطية» شعور الإنسان واقتناعه بأنه خاطئ. ويكون الناموس علّة ذلك لأنه يُظهر للإنسان ما يجب عليه من الطاعة الكاملة لله والقداسة فالإنسان بمقابلته قلبه وسيرته بالناموس يتحقق أنه خاطئ لأنه لم يُطع الناموس الطاعة الواجبة فيدينه الناموس لا يبرّره.
وهذا القول يصدق على اليهود أولاً لأن لهم المعرفة الكاملة بواسطة الناموس المكتوب بالوحي ويصدق أيضاً على الأمم لأن الناموس مكتوب على قلوبهم وضمائرهم شاهدة عليهم (ص ٢: ١٤ و١٥) وبذلك لهم معرفة الخطيئة.
لم يعط الله الخطأة ناموسه لكي يتبرّروا به بل ليكتشف للإنسان إثمه حتى يترك اتكاله على برّ نفسه فيتكل على برّ يسوع المسيح لأنه الوسيلة الواحدة الكافية إلى قبوله أمامه تعالى.
وقول الرسول «إن بالناموس معرفة الخطيئة» يتضمن أن هذا كل ما يستطيعه الناموس.
فوائد
- إن الناس مهما اختلف بعضهم عن بعض في العلم والمقام والغنى والامتيازات المدنية أو الدينية فهم جميعاً أمام الله سواء في كونهم خطأة وعرضة للهلاك فإذاً ليس لأحد من الناس أن يفتخر على غيره بالفضل الأدبي (ع ٩).
- إن ما وُصف به الناس في العهد القديم قبل ميلاد المسيح يصدق عليهم في كل عصر وقطر لأنه وصف الطبيعة البشرية بعد السقوط. وهو يصدق على كل فرد من البشر فإذاً على كل فرد أن ينسبه إلى نفسه. وكذلك مواعيد الكتاب للمؤمنين التائبين هي للجميع فيجب على كل إنسان أن يتخذها لنفسه (ع ١٠ – ١٨).
- إنه لا يمكن الناموس أن يبرّر ولا أن يقدس إنما يثبت علينا الإثم ويوجب الهلاك ولا يمنحنا شيئاً من رجاء الخلاص بالطاعة له (ع ٢٠).
- أفضل استعداد لقبول بشارة الإنجيل هو الاقتناع بأنّا خطأة أذلاّء لا حجة لنا نفتح بها أفواهنا وإنّا عاجزون عن القيام بمطاليب الشريعة وأن خلاصنا متوقف على برٍّ غير برّنا (ع ٢٠).
التبرير الذي أعلنه الله في الإنجيل ع ٢١ إلى ٣١
فحوى هذا الفصل
يُقسم هذا الفصل إلى أربعة أقسام الأول في صفات التبرير والثاني في أساسه والثالث في غايته والرابع في نتائجه.
أما صفات التبرير فهي على ما بيّنها الرسول:
- إنه بالإيمان لا بالأعمال (ع ٢١ و٢٢).
- إنه مدعو إليه كل الناس يهوداً وأمماً (ع ٢٢ و٢٣).
- إنه يعطى مجاناً (ع ٢٤).
وأما أساسه فهو الفداء بيسوع المسيح أي موته كفّارة عنا (ع ٢٤ و٢٥).
وأما غايته فهي إظهار صفات الله المجيدة وموافقة عدله لرحمته في العفو عن الخاطئ (ع ٢٦).
وأما نتائجه فهي:
- وضع الإنسان بنفي كل وسيلة إلى افتخاره (ع ٢٧ و٢٨).
- بيان أبوة الله لكل إنسان يهودياً كان أم يونانياً.
- إثبات الناموس (ع ٢٩ و٣٠).
٢١ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ».
أعمال ١٥: ١١ وص ١: ١٧ وفيلبي ٣: ٩ وعبرانيين ١١: ٤ الخ يوحنا ٥: ٤٦ وأعمال ٢٦: ٢٢ ص ١: ٢ و١بطرس ١: ١٠
ٱلآنَ يراد «بالآن» هنا إما العصر الإنجيلي وإما الأحوال التي ذكرها الرسول في ما سبق من هذه الرسالة.
فَقَدْ ظَهَرَ أي أُعلن من الله والأصل اليوناني يفيد أنه أُعلن إعلاناً خارق العادة. وما أُعلن الآن كذلك أُعلن بعض الإعلان سابقاً بواسطة رسوم ونبوآت.
بِرُّ ٱللّٰهِ سبق تفسيره في شرح (ص ١: ١٧) وهو الطريق الذي أوجده الله لتبرير الإنسان ونُسب إلى الله لأنه تعالى هو منشئه والمبرّر به.
بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ أي أنه ليس بنتيجة الناموس وغير مبني على إطاعة الإنسان للناموس وهذا على وفق قوله «إن الإنسان لا يتبرّر بأعمال الناموس» (غلاطية ٢: ١٦). وليس المراد من ذلك أن المؤمن غير مكلف بإطاعة الناموس الأدبي بل المراد أن تلك الطاعة ليست بعلة التبرير لنقصانها.
مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ زاد بولس هذا على وصف برّ الله ليبيّن أنه لا منافاة بينه وبين الناموس أي أنه لا ينافي البتة حقوق الناموس وأنه ليس بتعليم جديد لم يكن معلوماً في العهد القديم. وإعلانه بعض الإعلان في العهد القديم تميهد لإعلانه كل الإعلان في العهد الجديد.
المفهوم «بالناموس» عند اليهود أسفار موسى «وبالأنبياء» سائر أسفار الكتاب المقدس (قابل هذا بما في متّى ٥: ١٧ و٧: ١٢ ولوقا ١٦: ٣١ وأعمال ١٣: ١٥). وخلاصة العبارة أن العهد القديم علّم بواسطة رموزه ونبوآته التبرير بلا أعمال الناموس. ثم أوضح الرسول هذا المبدأ أكثر إيضاح في (ص ٤).
٢٢ «بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ».
ص ٤ كله ص ١٠: ١٢ وغلاطية ٣: ٢٨ وكولوسي ٣: ١١
بِرُّ ٱللّٰهِ أي الطريق الذي به يتبرّر الخاطئ وهو من منشآت الله التي رضي بها وأعلنها أحسن إعلان في الإنجيل.
بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذه الصفة الأولى لبر الله وهذا الإيمان شرط ذلك البرّ لا علته. وهو ليس الإيمان العام بالله بوجوده وصفاته تعالى ولا تصديق كلام الوحي إنما هو الاتكال على يسوع وقبول أنه المسيح ابن الله وأنه هو الذي أحبنا وبذل نفسه دوننا (انظر يوحنا ١: ١٢ و٣: ١٤ و١٦ و٨: ٢٤ ورومية ٩: ٣٣ وغلاطية ٢: ١٦ و٢٠ و٣: ٢٤ وأفسس ٣: ١٢).
إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ يهوداً وأمماً أغنياء وفقراء علماء وجهلاء داخل الكنيسة المنظورة وخارجها فالشرط الوحيد الإيمان بالمسيح.
لاَ فَرْقَ في احتياجهم إلى الخلاص لأنهم كلهم خطأة وعرضة للهلاك الأبدي وعاجزون عن تبرير أنفسهم بأعمالهم ولا فرق في شرط النجاة لأنهم كلهم مدعوون إلى أن يؤمنوا ويخلصوا. نعم يوجد فرق بين الناس في فظاعة الآثام وعددها ولكن لا فرق في شرط الخلاص بين أحسنهم وأردإهم إذ لا طريق إلى خلاص الأحسن إلا الإيمان بيسوع والأردأ لا يحتاج إلا إلى هذا. وخلاصة هذه الآية أن الخاطئ ينال برّ الله المعلن في الإنجيل بالإيمان لا بالأعمال ولا بالولادة ولا برسم ديني ولا بعضوية الكنيسة المنظورة وأنه موافق لكل البشر وكاف للجميع ومعلن لهم ومعروض عليهم مجاناً.
٢٣ «إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ».
ع ٩ وص ١١: ٣٢ وغلاطية ٣: ٢٢
إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا هذا علّة قوله في الآية السابقة «لا فرق» والمعنى أن كل فرد من أفراد البشر خاطئ أمام الله ويلزم من ذلك أن كل إنسان مفتقر إلى برّ الله وهذا هو الصفة الثانية لذلك البر. أثبت الرسول ذلك على اليهود والأمم في ما سبق من هذه الرسالة بدليل ما ارتكبوا من الأعمال الشريرة وأثبته أيضاً في (ص ٥) منها بدليل نسبة الجنس البشري إلى آدم وأن فساد الطبيعة نتيجة تلك النسبة (ص ٥: ١٢).
وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ معنى المجد هنا الكرامة التي يحصل عليها الإنسان برضى الله عليه ومدحه إياه أو هو مجرد رضاه تعالى كما جاء في (يوحنا ٥: ٤٤ و١٢: ٤٣) وهو قوله «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله» وهذا نتيجة ما سبق فالناس إذا خالفوا شريعة الله تعالى لم يستطيعوا أن يحصلوا على رضاه لا الآن ولا يوم الدين. وإذا أعوزهم رضى الله كانوا عرضة لغضبه فلزم من ذلك أنهم افتقروا إلى التبرير بغير أعمالهم. ويصدق هذا على الناس مهما تقدموا في التمدن والعلم والآداب.
٢٤ «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ٤: ١٦ وأفسس ٢: ٨ وتيطس ٣: ٥ و٧ متّى ٢٠: ٢٨ وأفسس ١: ٧ وكولوسي ١: ١٤ و١تيموثاوس ٢: ٦ وعبرانيين ٩: ١٢ و١بطرس ١: ١٨ و١٩
في هذه الآية الصفة الثالثة لبر الله وهي أنه يُعطى مجاناً ويلزم أن يكون هبة من الله لأن الذين ينالونه لا يستحقونها كما ظهر من الآية السابقة.
مَجَّاناً بلا استحقاق المؤمن (متّى ١٠: ٨ ويوحنا ١٥: ٢٥ ورومية ٥: ١٧ وأفسس ٢: ٨ و٢تسالونيكي ٣: ٨) لأن البرّ «بلا فضة ولا ثمن» (إشعياء ٥٥: ١).
بِنِعْمَتِهِ هذا مضمون قوله «مجاناً» لأنه بالنظر إلينا مأخوذ مجاناً وبالنظر إلى الله مُعطى من نعمته. والنعمة ما قُصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض. والمراد هنا إظهار الله محبته للخاطئ غير المستحق وهذه النعمة علّة الفداء الأصلية.
بِٱلْفِدَاءِ إن البرّ الذي يناله المؤمن مجاناً اشتراه له يسوع المسيح بثمن عظيم (متّى ٢٠: ٢٢ و١كورثنوس ٦: ٢٠ و١بطرس ١: ١٨ و١٩). والفداء هو الواسطة التي ظهرت بها النعمة ووهبت. والفداء مأخوذ من فك الأسير من العبودية والشقاء والخطر بتأدية مال عنه فاستعمله الإنجيل لإنقاذ الخاطئ مما عليه للعدل والشريعة بواسطة آلام وموت يسوع المسيح بدليل قوله «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٧ انظر أيضاً ١كورنثوس ٦: ٢٠ و٧: ٢٣ وغلاطية ٣: ١٣ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ١ و١بطرس ١: ١٨). وهذا الفداء إنقاذ من غضب الله الذي استحقه الخطأة بخطاياهم وثمنه دم يسوع المسيح. ولم يذكر الإنجيل قط أن الفداء بتعليم المسيح أو بقدوته أو بسلطته.
ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بموته عوضاً عنّا فالفداء عمله وهو الفادي والمخلص.
٢٥ «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ».
لاويين ١٦: ١٥ و١يوحنا ٢: ٢ و٤: ١٠ كولوسي ١: ٢٠ أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩ و١٧: ٣٠ و١تيموثاوس ١: ١٥ وعبرانيين ٩: ١٥
في هذه الآية بيان القسم الثاني من هذا الفصل وهو أن أساس البرّ الفداء بيسوع المسيح وهو الطريق الذي به ننجو من لعنة الشريعة وننال رضى الله بدون منافاة عدله وحقه وشريعته المقدسة.
ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ أي أن الآب قدم يسوع المسيح أمام الملائكة والبشر. وأشار بقوله «قدّمه» إلى كل ما أعلن الله عن ابنه للعالم ولا سيما تسليمه إياه للموت موت الصليب. ولا يخرج عن ذلك ما أعلنه بتجسده ومعجزاته واتضاعه وإقامته.
كَفَّارَةً معناها في الأصل الغطاء من كفّر في العبرانية أي غطى والمراد بها هنا ذبيحة المسيح عن الخطأة ليوفي العدل حقه ويغطي الإثم ويجعل الله يرضى عن الخاطئ فهي تغطي الخطيئة ولا تغيّر قلب مرتكبها.
بِٱلإِيمَانِ الإيمان هو الوسيلة التي عيّنها الله للخاطئ للحصول على تلك الكفارة فهي ليست لكل خاطئ بل لكل من يؤمن من الخطأة. فالإيمان لا يزيد قيمة الكفارة لأن قيمتها غير محدودة وإنما هو الشرط الذي وضعه الله للحصول عليها وبدونه لا تنفع الخاطئ شيئاً.
بِدَمِهِ أي بموت يسوع المسيح على الصليب ذبيحة عن الخطيئة. ودم المسيح هو جوهر الكفارة فعليه يسند المؤمن إيمانه للتبرير. وهو مفسر معنى ما سلف من الذبائح الدموية التي قُدمت نحو أربعة آلاف سنة قبل هذه الكفارة العظمى وكانت تلك الذبائح رموزاً إلى ذبيحة المسيح.
لإِظْهَارِ بِرِّهِ إن الله قدّم المسيح على الصليب ذبيحة عن الخطيئة ليبيّن عدله باعتبار كونه واضع الشريعة وقاضيها وليظهر أنه يبغض الإثم ويعتبر الشريعة حين يعفو عن الأثيم. وهذه الغاية الأولى من موت المسيح لكنه تعالى قصد به فوق ذلك أن يُعلن «حكمته» (أفسس ٣: ١٠ و١١) «ومحبته» (يوحنا ٣: ١٦) «وليطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة» (تيطس ٢: ١٤) «وليرفع الحاجز بين اليهود والأمم» (أفسس ٢: ١٥) «وَيُصَالِحَ ٱلاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ» (أفسس ٢: ١٦). «ولينقذنا من العالم الحاضر الشرير» (غلاطية ١: ٤). «وليحصّل لنا غفران الخطايا» (أفسس ١: ٧). وهذه الغايات متفقة كل الاتفاق.
وعلّة أن الله لم يجر كل عقاب الناموس على آدم حين خطئ وعلى كل خاطئ بعده كذلك إلى أيام المسيح هي أنه كان قد أعد الطريق التي بها يمكنه أن يغفر الخطيئة ويبقى باراً.
مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ إن الصفح عن الخطايا أي مغفرتها هو الداعي إلى أن يظهر الله بره لأنه عَدَل عن قصاص الإنسان على خطاياه كما يستحق وبذلك ظهر كأنه غفل سبحانه وتعالى عن مطاليب عدله وحقه فقصد بموت المسيح أن يرفع تلك الشبهة. وبيّن أن علّة عفوه عنه هي تلك الكفارة التي قصد أن تقدم في ملء الزمان وقد أشار إليها بكل ذبائح العهد القديم التي كانت رمزاً إلى الكفارة لا الكفارة عينها.
ِعَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَة أي التي ارتُكبت قبل ميلاد المسيح كما يظهر من مقابلة هذا بالآية التالية التي ذكر فيها عصر المسيح بقوله «الزمان الحاضر». وهذا موافق لقوله «إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَهْدِ ٱلأَوَّلِ» (عبرانيين ٩: ١٥) وسُميت تلك الأزمنة التي قبل الميلاد «بأزمنة الجهل» (أعمال ١٧: ٣٠) «والأجيال الماضية» (أعمال ١٤: ١٦).
بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ أي طول أناته وعدوله عن عقاب الأثيم كما استحق وهذا علّة الصفح المذكور آنفاً ولولا كفارة المسيح التي قصد الله أن يُجريها بعد لظهر أنه منافٍ لعدله.
٢٦ «لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ».
لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ المراد «بالزمان الحاضر» عصر الإنجيل وهو ما بعد ميلاد المسيح. قد صرّح الرسول في الآية السابقة أن تقديم الله المسيح كفارة أظهر برّه مع أنه أمهل عقاب الخطأة قبل العصر الإنجيلي. وصرّح في هذه الآية بمثل ذلك من جهة الخطايا بعد مجيئه فثبت برّ الله بصفحه عن الخطأة في كل عصور العالم لأنه وضع على المسيح عقاب الجميع.
لِيَكُونَ بَارّاً إن غاية الله من تقديم المسيح كفارة عن الإثم بيان كونه عادلاً معطياً الشريعة حقوقها والخطيئة عقابها مع أنه يبرّر كل خاطئ يؤمن بالمسيح أي يعامله كأنه بار إكراماً للمسيح.
إن الله أثبت عدله في معاملته الخاطئ المؤمن مع أنه مسلَّم ومعروف أن الإنسان لا يتبرّر بصلاح أعماله ولا يحسن صفاته والله لا يغض النظر عن مطاليب الناموس في الصفح عن الخطايا لأنه استوفى كل حقوق شريعته بطاعة المسيح وموته عن الخاطئ باعتبار أنه نائب عن الخطأة وبذلك اتفق العدل والرحمة في تبرير الخاطئ. ولم يزل العدل عدلاً عندما ظهرت الرحمة ولم تزل الرحمة رحمة عندما استوفى العدل حقوقه فموت المسيح هو ركن التبرير.
وَيُبَرِّرَ الواو بين «باراً» و «يبرّر» بمنزلة «مع أنه» وفي ذلك تلميح إلى أنه بين كون الله باراً ومبرّراً الخاطئ منافاة طبعاً وأن المسيح أزال تلك المنافاة بحمله العقاب عن الخاطئ.
إن عقاب الأثيم على إثمه هو إجراء العدل فقط.
وإن تبرير الخاطئ بلا كفارة رحمة تدوس حقوق العدل.
وتبرير الخاطئ بطاعة المسيح وموته تعظيم للرحمة والعدل معاً وموفق بينهما.
مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ أي ممن يؤمنون بموت يسوع على الصليب كفارة عن الخطيئة ويتخذونه نائباً عنهم فينالون كل فوائد طاعته وموته كأنهم استحقوا ما استحق.
٢٧ «فَأَيْنَ ٱلافْتِخَارُ؟ قَدِ ٱنْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ ٱلأَعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ ٱلإِيمَانِ».
ص ٢: ١٧ و٢٣ و٤: ٢ و١كورنثوس ١: ٢٩ و٣١ وأفسس ٢: ٩
في هذه الآية وسائر آيات هذه الأصحاح ذكر بعض نتائج التبرير بالإيمان أولهما في هذه الآية وهو أن التبرير يمنع من الافتخار (قابل بهذا ١كورنثوس ١: ٢٠).
فَأَيْنَ ٱلافْتِخَارُ؟ أي لم يبق موضع لافتخار الخاطئ المتبرّر بالإيمان أمام الله ولا أمام الناس كما افتخر اليهود بحفظهم الناموس وبرّهم الذاتي ويفضلهم على الأمم. وفي ذلك إيماء إلى أنه لو تبرّر الإنسان بأعماله لكان له وجه لمدح نفسه والإعجاب بها.
قَدِ ٱنْتَفَى! تعليم الإنجيل أن التبرير بيسوع المسيح لم يترك سبيلاً إلى الافتخار بالنفس أو الإعجاب بها لأن هذا التعليم ينسب خلاص الخاطئ إلى استحقاق المسيح ويوجب عليه أن يعترف بعدم استحقاقه الخلاص وبافتقاره إلى برّ غيره ويجعل كل الناس سواء في أنهم مذنبون مستحقون غضب الله.
بِأَيِّ نَامُوسٍ أي بناء على أي مبدإ.
أَبِنَامُوسِ ٱلأَعْمَالِ أي هل نفى الافتخار الناموس الذي يطلب الطاعة الكاملة لأوامر الله بغية الحصول على التبرير.
كَلاَّ! لأن التبرير بالطاعة الكاملة للناموس يعطي الإنسان حق الإعجاب بنفسه والسرور بمدح غيره إيّاه فإذاً ناموس الأعمال لا ينفي الافتخار.
بَلْ بِنَامُوسِ ٱلإِيمَانِ أي المبدإ الذي يطلب الإيمان بدم يسوع المسيح ويعلم أن ليس لنا شيء من الاستحقاق وأننا خطأة هالكون لا نتبرّر إلا بالإيمان بالمسيح والاتكال على استحقاقه. وهذا الناموس وهو الإنجيل يعطي كل المجد لله.
ويحق أن يعبّر عن الإيمان بالناموس لأن به إعلان مشيئة الله كما أعلن مشيئته في العهد القديم بناموس الرسوم الموسوية.
٢٨ «إِذاً نَحْسِبُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِٱلإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ».
أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩ وع ٢٠ – ٢٢ وص ٨: ٣ وغلاطية ٢: ١٦
إِذاً ما في هذه الآية خلاصة ما سبق اتخذه الرسول إثباتاً لما قاله في (ع ٢٧) وبرهاناً أن الإنجيل ينفي افتخار البشر.
نَحْسِبُ أي نتيقن كما في (ص ٨: ١٨ و٢كورنثوس ١١: ٥).
ٱلإِنْسَانَ كل من يتبرّر من أفراد البشر يهودياً كان أم يونانياً.
يَتَبَرَّرُ يُعتبر باراً ويعامل معاملة بار كما سبق في (ص ٣: ٢٠).
بِٱلإِيمَانِ بدم يسوع المسيح كما في (ع ٢٥) فالإيمان يبرّر الإنسان كما يغذيه الأكل. نعم أن الطعام هو الذي يغذيه لكن ذلك لا يكون بدون الأكل لأنه هو الوسيلة إلى التغذية. كذلك موت المسيح ينجي الخاطئ من الدينونة لا إيمانه (كأنه عمل يستحق الثواب) لكن بالإيمان يحصل على فوائد ذلك الموت.
بِدُونِ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ المعنى أن تلك الأعمال لم تكن قط علّة لتبرير الخاطئ. والمراد «بأعمال الناموس» الأعمال التي يطلبها الناموس. والناموس هنا هو الناموس الأدبي لأنه مكلف به الأمم كاليهود.
أثبت الرسول بما سبق أن لا أحد من اليهود ولا من الأمم أطاع الناموس الطاعة الكاملة لكي يتبرّر به. وصرّح هنا بأن عمل الخاطئ بعض الأعمال الصالحة ليس بعلّة لنجاته من العقاب على أعماله الشريرة لأن ما أتاه من الأعمال الصالحة ليس بمنزلة الفداء عما أتاه من الأعمال الشريرة وليس فيه «سفك الدم الذي بدونه لا تحصل مغفرة» (عبرانيين ٩: ٢٢).
ليس معنى الرسول مما ذُكر أن المتبرّر بالإيمان لا يفعل أفعالاً صالحة لأنه مكلف بها وأن يبذل كل جهده في فعلها ولكنها مهما فعل منها لا تكون علّة تبريره بل تكون ثمرة إيمانه ونتيجة تبريره.
٢٩، ٣٠ «٢٩ أَمِ ٱللّٰهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضاً؟ بَلَى لِلأُمَمِ أَيْضاً؟ ٣٠ لأَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ، هُوَ ٱلَّذِي سَيُبَرِّرُ ٱلْخِتَانَ بِٱلإِيمَانِ وَٱلْغُرْلَةَ بِٱلإِيمَانِ».
ص ١٠: ١٢ و١٣ وغلاطية ٣: ٨ و٢٠ و٢٨
ذكر الرسول في هاتين الآيتين نتيجة ثانية من تبرير الله الخاطئ وهي أن الله يظهر به أنه إله الأمم كما أنه إله اليهود وأعلن ذلك بسؤال وجواب.
أَمِ ٱللّٰهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ رأى اليهود أن الله لهم وحدهم وأنه قصر عليهم ميراث الخلاص وكذا رأى بولس قبل أن أناره الروح القدس.
بَلَى لِلأُمَمِ أَيْضاً فاليهود والأمم سواء في هذا كما أنهم سواء في الخطيئة والتعرض لغضب الله ودينونته والاحتياج إلى التبرير كما بيّن الرسول سابقاً.
لأَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ يلزم من كون الله واحداً أنه يعامل كل خلقه معاملة واحدة مثل أنه يعرض التبرير والخلاص للجميع بشرط واحد وهو الإيمان. وفرض معاملتين لليهود واحدة وللأمم واحدة يقتضي فرض وجود إلهين.
هُوَ ٱلَّذِي سَيُبَرِّرُ الخ في هذا العالم وفي يوم الدين. والمراد «بالختان» أهله أي اليهود «وبالغرلة» أهلها أي الأمم.
٣١ «أَفَنُبْطِلُ ٱلنَّامُوسَ بِٱلإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ ٱلنَّامُوسَ».
في هذه الآية نتيجة ثالثة من التبرير. والأولى في (ع ٢٧) والثانية في (ع ٢٩). ويصح أن تكون هذه الآية موضوع الكلام في الأصحاح الرابع وأن تكون نتيجة ما سبق. فعلى الأول يحسن أن تكون أول الأصحاح الرابع وعلى الثاني أن تكون كما هي هنا خاتمة الأصحاح الثالث.
أَفَنُبْطِلُ ٱلنَّامُوسَ بِٱلإِيمَانِ؟ أي أينافي تعليم التبرير بالإيمان الناموس. والظاهر أن بعض اليهود اعترض على الرسول بذلك فقال ما معناه إن كان الإيمان شرط التبرير لجميع الناس مختونين وغرلاً فقد عُزل الناموس وأُبطل.
بَلْ نُثَبِّتُ ٱلنَّامُوسَ قانوناً للحياة لا وسيلة إلى التبرير. وما يأتي في الأصحاح الرابع إيضاح لهذا وهو مما يتعلق بنبإ إبراهيم. ولم يتضح ما أراد الرسول بالناموس هنا فإنه استعمله في هذه الرسالة بمعان مختلفة وهو بكل من تلك المعاني يثبته تعليم التبرير بالإيمان فإن كان معناه أسفار العهد القديم صح قوله لأنه هذا التعليم لا يخالف قولاً ولا مبدأ ولا وعداً لكنه موافق لكل منها ومثبت له.
وإن كان معناه الرموز الموسوية كما يظن كثيرون فهي ظل والمسيح الحقيقة. فإن زالت تلك الرموز فذلك لأن المسيح قد أكملها فإنه حصّل بعمله كل غاياتها وقد سبق بيان ذلك في شرح (متّى ٥: ١٧). وإن كان معناه الناموس الأدبي وهو الأرجح فالتعليم الإنجيلي يثبته لأن الدواعي إلى الطاعة لمشيئة الله وإلى طهارة السيرة هي في الإنجيل أقوى منها في الناموس. وكل وعيد الناموس تم في المسيح الذي حمل خطايانا على الصبيب بجسده. فلا حادثة في السماء أو الأرض أو جهنم عظمت الناموس كما عظمه المسيح بموته على الصليب لكي يوفي مطاليبه عن الخاطئ. فبالصليب انتصر العدل والرحمة معاً.
إن الناموس والإنجيل كليهما من الله فيستحيل أن ينافي أحدهما الآخر بل كل منهما يوافق الثاني ويثبّته.
فوائد
- إن تعليم التبرير بالإيمان غير مقصور على الإنجيل فهو في العهد القديم أيضاً (ع ٢١).
- إن التبرير هو التصريح بأن الإنسان بار ومعامتله باراً وهو مبني على أن الناموس استوفى كل ما له من الحقوق على الإنسان (ع ٢٤ – ٢٦).
- الموضوع المهم في الكتاب المقدس هو التبرير بالإيمان. والأمر المهم في حياة الإنسان هو قبوله المسيح نائباً عنه لكي يتبرّر ببره (ع ٢٥).
- إن الفائدة السابقة تستلزم أنه يجب على المبشر أن يدعو الناس إلى الإيمان بيسوع المسيح لكون ذلك من أهم مواضيع وعظه وأن يبيّن لهم أن دينونتهم عادلة بسبب خطاياهم وأن كفارة المسيح كافية لدفع هذه الدينونة ومنح الخلاص وأن لا واسطة للخلاص سواها (ع ٢٥).
- إن تبريرنا غير متوقف على استحقاقنا ولا على إيماننا ولا على طاعتنا ولا على عمل المسيح فينا للتقديس بل على ما عمل من أجلنا من أنه «أطاع حتى الموت» (ع ٢٥).
- إن التبرير مجان إذا نظرنا إلى الإنسان المتبرّر لأنه لا يفعل شيئاً يستحق التبرير ولكنه ليس مجاناً إذا نظرنا إلى ما فعل المسيح لتحصيله للخاطئ أو إلى ما استوفاه الناموس من حقوقه (ع ٢٤ و٢٦).
- إن بيان مجد الله هو غايته تعالى من كل أعماله ويجب أن يكون أول غايات لنا (ع ٢٥).
- إنّا نستفيد من تعليم التبرير بالإيمان ما قصد الله أن يفيدنا إياه إذا تحققنا به أنه عادل وأنه مع ذلك رحيم إلى غير النهاية وأنه ليس لنا أن نفتخر أمامه وأن الخلاص مباح لكل مؤمن وأنه قد زادت بواسطة هذا التعليم البواعث على المحبة والقداسة والطاعة (ع ٢٥ – ٣١).
- إن الدين الحق يحمل أهله على التواضع فالذي يحمل على الكبرياء فليس بحق (ع ٢٧).
- إن الناس إخوة لأنه تعالى أب لجميع الناس. وهذا هو تعليم الإنجيل ولذلك يليق أن يكون دين الإنجيل هو الدين العام (ع ٢٩ و٣٠).
- إن الله لا يتغير فإذاً مطاليب شريعته لا تتغير والعقاب الذي أُنذر به في الناموس لا بد من إجرائه على الخاطئ أو على نائبه. فمعنى قوله «إن المسيح حمل خطايانا وصار لعنة من أجلنا» أنه أوفى كل مطاليب الشريعة حتى صح أن يغفر الله للخاطئ إكراماً للمسيح. وليس معناه أن المسيح احتمل كل نوع من القصاص الذي كان على الخاطئ من توبيخ الضمير وغيره. فالمسيح بموته حمل قصاص الخاطئ وأوفى الشريعة حقوقها وبيّن برّ الله وأنه بار ويبرّر.
- إن الإنجيل وفق بين أمور ظهرت أنها من المتناقضات فوفق بين عدل الله ورحمته وتحرير الإنسان من الناموس وشدة التزامه بطاعته.
-
إن صليب يسوع المسيح عظم مجد شريعة الله وأظهر أن مطاليبها أبدية لا تتغير لأنه بواسطة الصليب أظهر ابن الله ما كان راضياً أن يحمله لكي لا يشين مجد الشريعة البتة (ع ٣١).
السابق |
التالي |