رومية

الرسالة إلى رومية | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى رومية

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني

افتقار اليهود إلى برّ الإيمان ع ١ إلى ٢٩

مقدمة

غاية بولس من هذا الأصحاح أن يبرهن في أمر اليهود ما برهنه في أمر الأمم وهو أنهم لا يستطيعون أن يتبرّروا بأعمالهم وأنهم عرضة لغضب الله على خطاياهم وأنهم مفتقرون إلى التبرّر ببرّ الله. وفيه ثلاثة فصول:

  • الأول: بيان مبادئ العدل التي بها يُدان جميع الناس (ع ١ إلى ١٦).
  • الثاني: نسبة تلك المبادئ إلى اليهود (ع ١٧ – ٢٤).
  • الثالث: بيان أن ختان اليهود لا يمنع إجراء تلك المبادئ عليهم (ع ٢٥ – ٣٩).

مبادئ العدل التي بها يُدان جميع الناس ع ١ إلى ١٦

هذه المبادئ ستة:

  • الأول: إن الذين يدينون غيرهم على خطايا يرتكبون هم مثلها يدينون أنفسهم وهم بلا عذر (ع ١).
  • الثاني: إن كل إنسان يُدان بما يستحقه (ع ٢).
  • الثالث: إن لطف الله إن لم يمنع الناس عن الإثم ولم يُقدهم إلى التوبة زادهم إثماً (ع ٥).
  • الرابع: إن مقياس الدينونة عمل الإنسان نفسه لا عمل سواه (ع ٦).
  • الخامس: إن الله يحكم على عمل الإنسان بمقتضى علمه (ع ١٢).
  • السادس: إن المتبرّرين أمام الله هم العاملون بالناموس لا سامعوه (ع ١٣).

١ «لِذٰلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ ٱلأُمُورَ بِعَيْنِهَا!».

ص ١: ٢٠ و٢صموئيل ١٢: ٥ و٦ و٧ ومتّى ٧: ١ و٢ ويوحنا ٨: ٩

لِذٰلِكَ أي لما ذُكر من أن الأمم لارتكابهم الخطايا المذكورة مذنبون وبلا عذر وعرضة لغضبه تعالى (ص ١: ١٨ – ٣٣).

أَنْتَ الخطاب لليهودي بدليل القرينة. خاطب بولس اليهودي على تسليم أنه نظر إلى آثام الأمم وحكم عليهم بأنهم أثمة أُوجب عليهم الهلاك لارتكابهم الآثام.

بِلاَ عُذْرٍ كالأمم (ص ١: ٢٠) فلذلك أنت مثلهم في كونك إثيماً وعرضة لغضب الله.

كُلُّ مَنْ يَدِينُ الأمم «كل» بدل من «الإنسان» المراد به اليهودي. وكون من دينوا أمماً يستلزم أن يكون من دانهم من غير الأمم أي اليهود. وكل إنسان يميل طبعاً إلى أن يدين غيره ولا سيما اليهودي لإعجابه بنفسه ولحصوله على أسفار الوحي علاوة على النور الطبيعي.

لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ هذا كقول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (متّى ٧: ١ و٢). والمعنى أن حكم اليهودي على الأمم بالخطيئة يستلزم حكمه على نفسه بذلك لأن العمل علّة الحكم بقطع النظر عن العامل من اليهود كان أم من الأمم.

لأَنَّكَ… تَفْعَلُ تِلْكَ ٱلأُمُورَ بِعَيْنِهَا يعني أن اليهود يرتكبون الخطايا التي يرتكبها الأمم فبدينونتهم الأمم يدينون أنفسهم. وهذا لا يستلزم أن كل يهودي يرتكب كلاً من آثام الأمم ولا أن اليهود ارتكبوها جهاراً كالأمم. فالمراد أن الأمة اليهودية كانت كسائر الأمم في فساد القلب الخفي ومثلهم في الاستهانة بالله والخضوع للشهوات وتعدّيهم شريعة الله وحقوق البشر. وفي تاريخ فيلو الاسكندري ويوسيفوس أن آداب اليهود كانت في ذلك الوقت على غاية الفساد وأن ما أتت به أُسرة هيرودس (من هيرودس الكبير إلى أغريباس الثاني) رجالاً ونساء ليس بأقل فظاعة من رذائل الملوك الرومانيين.

٢ «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ ٱللّٰهِ هِيَ حَسَبُ ٱلْحَقِّ عَلَى ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ».

وَنَحْنُ نَعْلَمُ أي كل عاقل من الناس يعلم.

أَنَّ دَيْنُونَةَ ٱللّٰهِ الخ هذا القول يشتمل على أمرين:

الأول: إن الله سيدين الذين يرتكبون الآثام المذكورة في الأصحاح السابق ويعاقبهم. وأن عقابه واقع مهما اختلفوا من الأعذار على ما ارتكبوه بغية تبرير أنفسهم. ولا شيء في قوله هنا مناف لكون المسيح هو الديّان كما قيل في (متّى ١٦: ٢٧ ويوحنا ٥: ٢٢ و٢٣ ورؤيا ٢٢: ١٢) لأن الله يدينهم بواسطة المسيح.

الثاني: إن تلك الدينونة «حسب الحق» أي بلا غلط ولا محاباة. إن الله لا يدين بمتقضى ظاهر الإنسان أو إقراره اللساني أو حكم الناس في أمره بل حسب ما يستحقه حقاً وأنه يعاقب على الخطايا السريّة كما يعقاب على الخطايا الظاهرة.

زعم اليهود أن الله يدينهم على قياس غير قاس الحق أي أنه لا يدينهم أفراداً بل إجمالاً باعتبار أنهم أمته المختارة وسلالة إبراهيم خليله وأنهم مستثنون من غيرهم باختتانهم وممارستهم غيرهم من الرسوم الموسوية (متّى ٣: ٧ و٩).

٣ «أَفَتَظُنُّ هٰذَا أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تَدِينُ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا، أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ؟».

أَفَتَظُنُّ دعاه بولس إلى أن يحكم بمقتضى العقل السليم الفاصل بين الحق والباطل.

أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تَدِينُ… وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا معنى هذا أنه إذا كان اليهودي وهو خاطئ قليل المعرفة يحكم بالإثم على الأمم الذين ارتكبوا تلك الرذائل وبأنهم بلا عذر ويبيّن بذلك أنه يعرف طريق الصواب وأن الخطايا توجب العقاب فبالأولى أن الله الطاهر العالم كل شيء يخطئ اليهودي المرتكب ما يرتكبه الأمم.

أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ يوم يدين سائر الناس بناء على كونك يهودياً أي أتظن أنه لا يدينك شيئاً أو يدينك على قياس غير القياس الذي يدين عليه سائر الأمم لزعمك أن إثم اليهودي عند الله أخف من إثم غيره. والاستفهام هنا إنكاري والمعنى أن الله لا يترك خاطئاً بلا دينونة وأنه يبغض الخطايا مطلقاً. والخلاصة أن الإنسان إذا كان لا ينجو من دينونة نفسه فكيف ينجو من دينونة الله.

وخطأ انتظار النجاة بطريق ما من الدينونة التي توجبها الآثام غير مقصور على اليهودي فهو خطأ عام في كل عصر فإن الشيطان يقول لكل إنسان لن تموت كما قال لحواء «لن تموتا» (تكوين ٣: ٤) فيصدقه.

٤ «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ؟».

ص ٩: ٢٣ وأفسس ١: ٧ و٢: ٤ و٧ ص ٣: ٢٥ خروج ٣٤: ٦ إشعياء ٣٠: ١٨ و٢بطرس ٣: ٩ و١٥

أَمْ تَسْتَهِينُ بذلك الظن الفاسد (المذكور في ع ٣). حسب الرسول توقع اليهود نجاتهم من العقاب على آثامهم بناء على جودة الله عليهم إهانة له تعالى.

بِغِنَى أي كثرة. واستعمال الغنى بهذا المعنى مختص ببولس أتاه اثنتي عشرة مرة في رسائله.

لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ عبّر عن جودة الله بهذه الكلمات الثلاث. والمراد «باللطف» هنا الميل إلى المعروف بغية سرور الناس. «وبالإمهال» الإبطاء عن إجراء العقاب على مستحقيه في أول ارتكابهم الخطيئة. «وبطول الأناة» طول الصبر وبطوء الغضب.

غَيْرَ عَالِمٍ أي غير منتبه لقصد الله من حلمه فجهل الإنسان ذلك اختياري وخطيئة. وقد اتخذ اليهود ذلك الحلم دليلاً على أنهم ليسوا بخطأة أو علامة أن الله لا يعاقبهم على آثامهم فأثموا بجسارة وزعموا أنهم في أمن فصدق عليهم قول سليمان «لأَنَّ ٱلْقَضَاءَ عَلَى ٱلْعَمَلِ ٱلرَّدِيءِ لاَ يُجْرَى سَرِيعاً، فَلِذٰلِكَ قَدِ ٱمْتَلأَ قَلْبُ بَنِي ٱلْبَشَرِ فِيهِمْ لِفَعْلِ ٱلشَّرِّ» (جامعة ٨: ١١ انظر أيضاً ٢بطرس ٣: ٣ و٤).

لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ أي أن الله قصد بذلك بلطفه كما قصده بإنذاره. فغايته أن يأتي بهم إلى الندم على الخطيئة وإلى تركها. وتأثير لطفه هو تبيينه شر التعدّي على سيد لطيف جوّاد. وتليينه قلب الخاطئ كما يُقسي القصاص قلبه. وإيضاحه للخاطئ وجوب الطاعة والمحبة لله المحسن إليه على الدوام. وإظهاره أن الله مستعد أن يقبل الخاطئ إذا رجع إليه وأن يغفر له. وأشار الرسول بقوله «يقتاد» أن الله يريد أن يرجع الخطأة إليه مختارين لا مجبرين. وخلاصة الآية كلها أن اليهود أهانوا الله بعدم توبتهم وإصرارهم على الخطيئة.

٥ «وَلٰكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ ٱلتَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَباً فِي يَوْمِ ٱلْغَضَبِ وَٱسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعَادِلَةِ».

تثنية ٣٢: ٣٤ ويعقوب ٥: ٣

لٰكِنَّكَ أتيت ما ينافي ما قصده الله بلطفه ويخالف ما وجب عليك.

قَسَاوَتِكَ هذه صفة القلب الذي لا يؤثر لطف الله فيه ليأتي به إلى التوبة. قال حزقيال النبي في مثل هذا القلب أنه «قلب حجر» (حزقيال ١١: ١٩).

غَيْرِ ٱلتَّائِبِ أي العاجز عن التوبة لأنه لا يريدها.

تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَباً هذا كما في (تثنية ٣٢: ٣٤ و٣٥ و٢بطرس ٣: ٧) ومفاده أن الأشرار يكنزون كل يوم نقمة لنفوسهم مدة تمتعهم ببركات الله وهم مصرون على آثامهم. وما يكنزوه على التوالي يقع عليهم دفعة. زعم اليهود أن إمهال الله إياهم دليل على مسرّته بهم أو على أنه متغاض عن خطاياهم أبداً وهو زعم باطل.

أنبأ المسيح تلاميذه بأنه يمكنهم أن «يكنزوا كنزاً صالحاً في السماء» (متّى ٦: ٢٠). وهنا علّم الروح القدس أنه يمكن الإنسان أن «يكنز لنفسه غضباً».

وقوله «تذخر لنفسك» خطاب لكل إنسان ويلزم منه أن لا أحد يذخر لغيره. ولنا من هذا أن مصائب الأشرار في هذا العالم لا توازي ما عليهم من العقاب فأكثره مخزون لهم يأخذونه في عالم آخر وويل لمن ليس له سوى كنز الغضب.

يَوْمِ ٱلْغَضَبِ أي يوم وقوع غضب الله على الأشرار وهو يأتي في نهاية يوم الرحمة ويسمى أيضاً اليوم الأخير ويوم الدين واليوم العظيم المخوف جداً (لوقا ١٧: ٣٠ وأعمال ٢: ٢٠ و١كورنثوس ١: ٨ و٢كورنثوس ١: ١٤ و١تسالونيكي ٥: ٢ و٤ و٢تسالونيكي ٢: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ و١٢ ورؤيا ٦: ١٧ و١٦: ١٤).

ٱسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ اليوم الذي هو يوم غضب بالنسبة إلى الأشرار هو بالنسبة إلى جميع الناس أخياراً وأشراراً يوم استعلان عدل الله الذي كان مكتوماً عنهم قبلاً.

٦ «ٱلَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ».

أيوب ٣٤: ١١ ومزمور ٦٢: ١٢ وأمثال ٢٤: ١٢ وإرميا ١٧: ١٠ و٣٢: ١٩ ومتّى ١٦: ٢٧ وص ١٤: ١٢ و١كورنثوس ٣: ٨ و٢كورنثوس ٥: ١٠ ورؤيا ٢: ٢٣ و٢٠: ١٢ و٢٢: ١٢

هذا القول قاله الله قبلاً في (أمثال ٢٤: ١٢) وهو مما يتوقع منه لأنه الديّان العادل. والمجازاة هنا هي مجازاة اليوم الأخير والمجازون هم اليهود والأمم فاليهودي لا ينجو من الدينونة بكونه يهودياً وهذا ما قصد الرسول إثباته هنا. وكل أعمال الناس تُذكر وتُعلن ويُحاسب عليها في ذلك اليوم (متّى ١٦: ٢٧ و٢٥: ٣١ – ٤٦ و٢كورنثوس ٥: ١٠ وغلاطية ٦: ٨ وكولوسي ٣: ٢٤ ورؤيا ٢: ٢٣ و٢٠: ١٢ و٢٢: ١٢). ويلزم من هذا أنه لا اعتبار لنسب الإنسان أو حسبه بل لعمله وأن لا شيء من المحاباة أو النظر إلى الوجوه. والمقياس الذي تُقاس به تلك الأعمال يومئذ هو الشريعة الأدبية المكتوبة وغير المكتوبة.

وغاية الرسول هنا تبيين افتقار الإنسان إلى التبرير بالإيمان ولذلك لم يُذكر هنا حال المؤمن بالمسيح إنما تكلم على كل الناس بالنظر إلى كونهم تحت شريعة العدل لا تحت شريعة النعمة على أنه يصح أن يُقال أن المؤمن يجازى على حسب أعماله لا لما يستحقه بتلك الأعمال بل لأن أعماله برهان على صحة إيمانه وهي العلامة الوحيدة التي يمكن أن تُعرض على جموع يوم الدين. هذا وأن الآية لم تقل أن الله يجازي لأجل الأعمال بل حسب العمل (تيطس ٣: ٥).

٧ «أَمَّا ٱلَّذِينَ بِصَبْرٍ فِي ٱلْعَمَلِ ٱلصَّالِحِ يَطْلُبُونَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْبَقَاءَ، فَبِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ».

بِصَبْرٍ الصبر هنا الاستمرار على ما هو عسر. فالمواظية على العمل الصالح برهان قاطع على صحة الصلاح (قابل بهذا ما في لوقا ٨: ١٣ و١٤).

فِي ٱلْعَمَلِ ٱلصَّالِحِ عمل الإنسان لله دليل على أخلاقه ومقاصده. وغاية الرسول هنا بيان ما تطلبه شريعة الله الأدبية من الإنسان لا بيان استطاعته على القيام به على أنه أثبت بعد هذا أنه عاجز عنه ومفتقر إلى التبرير بالإيمان.

ٱلْمَجْدَ أي مدح الله في يوم الحساب كقوله تعالى لكل من أهل اليمين «نعماً أيها العبد الصالح» وما يطلبه الإنسان دليل على أخلاقه فان الروحيات فهو صالح وأن الجسديات فهو شرير.

ٱلْكَرَامَةَ هي نتيجة رضى الله عن الإنسان وجعالة الظافر (١كورنثوس ٩: ٢٥ وفيلبي ٣: ١٤ و٢تيموثاوس ٤: ٨ ويعقوب ١: ١٢ و١بطرس ٥: ٤) وميراث الله (ص ٨: ١٧).

ٱلْبَقَاءَ أي الدوام. وقيمة السعادة تتوقف عليه (١كورنثوس ١٥: ٤٣ و٥٠ و٥٣ وفيلبي ٣: ١١).

فَبِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ هي مجازاة الأخيار المذكورة آنفاً وتتضمن مطلوبهم أي المجد لبهائها والكرامة لشرفها والبقاء لدوامها وهي خلاصة سعادة السماء كما أن الموت الأبدي خلاصة شقاء جهنم وهي للنفس والجسد بعد تمجيده ونعتها «بالأبدية» يثبت حقيقتها وكمالها وخلودها. فقول الرسول هنا كقول المسيح للشاب الغني إذ قال له «أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (متّى ١٩: ١٦). وقوله للناموسي إذ قال «مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (لوقا ١٠: ٢٥). وقول الرسول في ع ١٣ أن «ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ» فقد وضح أن الرسول يتكلم هنا على الإنسان باعتبار كونه تحت الناموس لا تحت النعمة.

٨ «وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ ٱلتَّحَزُّبِ، وَلاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ، فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ».

أيوب ٢٤: ١٣ وص ١: ١٨ و٢تسالونيكي ١: ٨

وصف الرسول هنا الأشرار بثلاث صفات:

مِنْ أَهْلِ ٱلتَّحَزُّبِ هذه الصفة الأولى وهي صفة أكثر اليهود لأن غيرتهم المذهبية ليست لله ولا للحق. وغاية غيرتهم لحزبهم المجد الشخصي. وما تُرجم «بالتحزب» يحتمل في أصله اليوناني المقاومة لله والتحزب معاً لما في التحزب من الانفصال عن الله وشعبه.

لاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ هذه الصفة الثانية وهي ناتجة عن الأولى لأن الغيرة الدينية المبنية على التحزب لا يمكن تحسب طاعة للحق لأنها خالية من محبة الله وإكرامه. والمراد «بالحق» في هذه العبارة ما يعلنه الله للإنسان بحكم الضمير ونور الطبيعة. فيتضمن ما يخيب على الإنسان أن يعتقده ويعمله. وواضح أن الذين ينكرون الحق الذي أعلنه الله ويأبون طاعته خطيئتهم عظيمة. وما ينتج من الطاعة للإثم مفصل في (ص ١: ١٨ – ٣٢). وهذه الصفة وما قبلها مما اختبره بولس من اليهود وهو يبشر بينهم بالإنجيل في أماكن مختلفة.

يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ هذه الصفة الثالثة ومعناها أنهم صاروا عبيداً للإثم باختيارهم فالذين لا يطاوعون للحق لا يمكن إلا أن يطاوعوا للإثم إذ يقودهم إلى إطاعته شهواتهم الباطنة وتجاربهم الظاهرة.

فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ هذا جزاء الأشرار كما أن الحياة الأبدية جزاء الأخيار. والمقصود من الأمرين معنى واحد وعطف أحدهما على الثاني للتوكيد. وظن بعضهم أن المراد «بالسخط» في الأصل اليوناني الغيظ الوقتي «وبالغضب» الغيظ الدائم. وظن بعضهم أن الغضب في ذلك الأصل السخط مع الانتقام.

وكل ما في الآيتين السابعة والثامنة إيضاح لما في الآية السادسة من أن الله يدين كل إنسان حسب أعماله بلا نظر إلى نسبه وإقراره.

٩، ١٠ «٩ شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ ٱلشَّرَّ، ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ. ١٠ وَمَجْدٌ وَكَرَامَةٌ وَسَلاَمٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ ٱلصَّلاَحَ، ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ».

عاموس ٣: ٢ ولوقا ١٢: ٤٧ و٤٨ و١بطرس ٤: ١٧ و١بطرس ١: ٧

ما في هاتين الآيتين مكرّر ما في الآيات السادسة والسابعة والثامنة للتقرير.

شِدَّةٌ وَضِيقٌ أحب الرسول قرن هاتين الكلمتين ليشير إلى غاية المصاب كما في (ص ٨: ٣٥ و٢كورنثوس ٦: ٤). وبقوله «شدة» صوّر الإنسان واقعاً تحت حمل ثقيل من الأرزاء. وبقوله «ضيق» صوّره محاطاً بها من كل جهة حتى لم يبق له مهرب منها. وكلاهما عقاب على الخطيئة وعلامة سخط الله وغضبه.

كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ ٱلشَّرَّ أي كل خاطئ وإن كان قد قصد شيئاً زائداً بذكر النفس فهو بيان أن معظم العقاب عليها لا على الحسد.

ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً بعد أن أبان الرسول مبدأ الجزاء وهو مجازاة الله كل إنسان حسب عمله ذكر من هو مفعول ذلك المبدإ فقال «اليهودي أولاً» أي يقع عليه قبل غيره أو يظهر بأكثر وضوح فيه. وذلك لعلتين الأولى معرفته الواجبات أكثر من سواه فمسؤوليته أعظم. والثانية أن ذلك المبدأ كان بين يديه وهو معلن في الناموس والأنبياء فاستحسن الله أن يكون هو الأول فيُثاب إن كان أميناً ويُعاقب إن كان خائناً.

ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ أي كل من ليس بيهودي وبيان هذا الحكم في (ع ١٢ – ١٦).

مَجْدٌ وَكَرَامَةٌ (انظر شرح ع ٧).

سَلاَمٌ الشعور برضى الله وراحة الضمير وهما سعادة الأبرار (انظر يوحنا ١٤: ٢٧ و١٦: ٣٣) ومجموع الثلاثة المجد والكرامة والسلام الحياة الأبدية لأنها بهيّة شريفة ومملوءة سلاماً.

١١ «لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ ٱللّٰهِ مُحَابَاةٌ».

تثنية ١٠: ١٧ و٢أيام ١٩: ٧ وأيوب ٣٤: ١٩ وأعمال ١٠: ٣٤ وغلاطية ٢: ٦ وأفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥ و١بطرس ١: ١٧

في هذه الآية علّة قوله أن الله يجازي اليهودي واليوناني حسب أعمالهما وهي أنّه ديّان عادل لينظر إلى أعمال الإنسان لا إلى شخصه. وهذا خلاف ما زعم اليهودي وخلاف ما يبني عليه رجاءه الخلاص. ومعنى «المحاباة» الانحراف عن الحق في الحكم لغايات كمراعاة النسب أو الغنى أو المقام وهو محظور على القضاة في العهد القديم (لاويين ١٩: ١٥ وتثنية ١٠: ١٧) وبيّن في الإنجيل أنها مستحيلة في الباري تعالى (أفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥) وأنها حرام على الناس (يعقوب ٢: ١).

وما قيل هنا يشير إلى مجرد معاملة الله الناس بالنظر إلى كونه ديّاناً يجازي كل إنسان كما يستحق وهذا لا ينافي تعليم القضاء والاختيار الذي لا التفات فيه إلى استحقاق البشر.

١٢ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ فَبِدُونِ ٱلنَّامُوسِ يَهْلِكُ، وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي ٱلنَّامُوسِ فَبِٱلنَّامُوسِ يُدَانُ».

سبق الكلام أن الله يدين كل إنسان حسب عمله (ع ٦) وبلا محاباة (ع ١١) وزيد هنا من بيّنات عدله أنه يدين كل إنسان حسب معرفته. فعلّة المحاكمة العمل ومقياسها المعرفة.

لأَنَّ هذا تعليل لقوله «أن الله يدين بلا محاباة» والبرهان هنا.

مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ أي دون معرفة الناموس. والمراد «بالناموس» هنا شريعة الله المكتوبة وهي أسفار الوحي فالذين خطئوا كذلك هم الوثنيون.

فَبِدُونِ ٱلنَّامُوسِ يَهْلِكُ الهلاك هنا العقاب على الخطيئة كما فُسر في شرح (متّى ١٠: ٢٨ ولوقا ٤: ٣٤) وهو مقابل الحياة الأبدية المذكورة في (ع ٧). ومعنى قوله «فبدون الناموس» أنهم لا يحاكمون على تعدّيهم الشريعة المكتوبة التي عند اليهود وليست عندهم ولا يعقابون بمقتضى تلك الشريعة على ما فعلوا. وهذا كقول المسيح «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيراً. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً» (لوقا ١٢: ٤٧ و٤٨). وخلاصته أن الخطأة الذين لم يحصلوا على أسفار الوحي يُعاقبون بأقل صرامة من الخطأة الذين استناروا بالوحي وأن دينونتهم الهلاك.

لم يخطئ الوثنيون ويهلكوا بلا ناموس فكان لهم ناموس الله غير المكتوب وهو المشار إليه في (ص ١: ١٨) وهو مطبوع على ضمائرهم يميزون به الحلال من الحرام فكان عليهم أن يعيشوا بمقتضاه فتعدّوه وهلكوا.

مَنْ أَخْطَأَ فِي ٱلنَّامُوسِ أي الناموس المكتوب وهو أسفار الوحي. والذين يخطأون كذلك هم اليهود ووسائط معرفتهم الحق أكثر مما لغيرهم فمسوؤليتهم أعظم.

فَبِٱلنَّامُوسِ يُدَانُ بموجب الشريعة الواضحة التي بين يديه. هذا قانون لا يقدر اليهودي أن يعترض على صحته فيلزم منه أن الخاطئ اليهودي يهلك كالخاطئ الوثني. واستحسن الرسول أن اليهودي يستنتج لنفسه أنه يهلك دون أن يصرّح بهلاكه.

١٣ «لأَنْ لَيْسَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ، بَلِ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ».

متّى ٧: ٢١ – ٢٧ ويعقوب ١: ٢٢ – ٢٥ و١يوحنا ٣: ٧

ما قيل هنا يوافق ما قيل في (متّى ٧: ٢١ و٢٤ ولوقا ٦: ٤٧ ويعقوب ١: ٢٢) وفيه بيان علّة دينونة اليهود بمقتضى الناموس إذا سمعوه ولم يطيعوه.

لَيْسَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ تُلي الناموس في المجامع على مسمع اليهود فسمعوه بانتباه ووقار وافتخروا بمعرفتهم به ومجرد ذلك غير كاف لتبريرهم.

ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ الخ أي الذين يطيعونه طاعة كاملة. وهذا ما يطلبه الناموس ويصدقه العقل السليم (تثنية ٤: ١ ولاويين ١٨: ٥). وهو قانون لكل خلائق الله الناطقة.

توقع اليهود أن يتبرّروا بمجرد كونهم يهوداً بأن عندهم الناموس فصرّح بولس هنا أن توقعهم باطل لأن الناموس يبرّر الذين يطيعونه طاعة كاملة لا غيرهم وهذا مستحيل عليهم وعلى سائر الناس كما أوضح الرسول بعد ذلك.

١٤ «لأَنَّهُ ٱلأُمَمُ ٱلَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ ٱلنَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِٱلطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي ٱلنَّامُوسِ، فَهٰؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ ٱلنَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ».

هذا متعلق بما قيل في الآية الثانية عشرة في شأن اليهودي صاحب الوحي واليوناني الذي لا وحي له وصرّح بأن للأمم ناموساً به يحاكمون فالله عادل بمحاكمتهم.

لَيْسَ عِنْدَهُمُ ٱلنَّامُوسُ أي أسفار الوحي التي لليهود.

فَعَلُوا بِٱلطَّبِيعَةِ بغريزتهم الأدبية واستعمالهم ضمائرهم وعقولهم واختبارهم سياسة الله لخلائقه وسائر ما لهم من الوسائل الطبيعية.

مَا هُوَ فِي ٱلنَّامُوسِ أي بعض الأفعال التي يوجبها الناموس كإيفاء الدين والتكلم بالصدق وإكرام الوالدين والإحسان إلى الفقراء والامتناع عن القتل والسرقة. ولا يلزم من قوله «فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس» أنهم أطاعوه الإطاعة الكاملة المبرّرة المشار إليها في (ع ١٣) لأن الرسول قال في (ع ١٥) أن ضمائرهم «مشتكية عليهم» ولو قاموا بالطاعة الكاملة ما اشتكت عليهم وهذا يبرهن أيضاً من (ص ٣: ٩ – ١٢ و٢٠).

هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ معنى ذلك أن صوت العقل والضمير الطبيعي الباطن يبيّن للإنسان الحلال ويأمره به والحرام وينهاه عنه فكان بذلك بمنزلة الناموس لأن له سلطان الأمر والنهي وإثابة الطائع وعقاب العاصي بالندامة.

١٥ «ٱلَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ ٱلنَّامُوسِ مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً».

ٱلَّذِينَ يُظْهِرُونَ بأفعالهم إطاعة الناموس لأنهم كلما سمعوا صوت الضمير ولم يطيعوه «اشتكت» عليهم ضمائرهم وكلما سمعوا ذلك الصوت وقاوموا التجربة «احتّجت» لهم.

عَمَلَ ٱلنَّامُوسِ أي العمل المقصود من الناموس وهو التمييز بين الحلال والحرام والأمر بالأول والنهي عن الثاني. وهذا هو قصد الناموس المطلق مكتوباً أو غير مكتوب.

مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ طبعاً بشيء من الوضوح وفي التوراة بوضوح عظيم وفي الإنجيل بوضوح أعظم والحقائق واحدة والكاتب واحد هو الله.

شَاهِداً أَيْضاً يشهد الضمير بأن الناموس مكتوب عليه وأن ما كتب عليه عدل وحق. وأشار بقوله «أيضاً» إلى أن تلك الشهادة هي أمر زائد على شهادة أعمالهم بوجود ذلك الناموس.

ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ هاتان الكلمتان تعمان كل قوى الإنسان الأدبية والعقلية وأمياله أيضاً. مثّل الرسول الضمير والأفكار بأعضاء مجلس في نفس الإنسان اجتمعت للمشاورة في ما يجب أن تعمله فبعضها حثّ على الحلال وبعضها على الحرام فبعضها دان النفس على ما فعلت وبعضها صوّبها.

فِيمَا بَيْنَهَا لا بين إنسان وإنسان وإلا كان الصوت هو المشتكي والمحتجّ لا الضمير والأفكار.

مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً باعتبار الأفعال فتشتكي على الإنسان أي تلومه حين يعصي ضميره وتحتج له أي تمدحه حين يطيعه. ولا يمكن أن يشتكي الضمير على صاحبه ما لم يكن قد حذّره قبلاً ولا يمكن أن يحتج له ما لم يكن قد أمره كذلك.

وأشار بولس بقوله «أفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة» إلى الحرب الباطنية بين القوى العليا والقوى الدنيا والسرور الذي يناله الإنسان بإطاعة ضميره والحزن الشديد والندامة على مخالفة الضمير. وأشار جماعة من شعراء اليونان ببعض ما نظموا إلى تلك الحرب وعواقبها بأفصح العبارات المؤثرة في القلوب ومثلوه أمام الجموع في مشاهدهم.

١٦ «فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يَدِينُ ٱللّٰهُ سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

جامعة ١٢: ١٤ ومتّى ٢٥: ٣١ ويوحنا ١٢: ٤٨ وص ٣: ٦ و١كورنثوس ٤: ٥ ورؤيا ٢٠: ١٢ ص ١٦: ٢٥ و٢تيموثاوس ٢: ٨ يوحنا ٥: ٢٢ وأعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١ و٢تيموثاوس ٤: ١ و٨ و١بطرس ٤: ٥

هذه الآية متعلقة بما قيل من (ع ٦ – ١٠) في شأن الدينونة العامة وفيها بيان وقت الدينونة والعقاب لكل من اليهود والأمم بمقتضى الناموس الذي حصل عليه.

فِي ٱلْيَوْمِ أي يوم الدين العظيم.

فِيهِ يَدِينُ ٱللّٰهُ كون الله هو الديّان ذُكر مراراً في الكتاب المقدس (انظر تثنية ٣٢: ٣٦ و١صموئيل ٢: ١٠ ومزمور ٥٠: ٤ وجامعة ٣: ١٧ ورومية ٣: ٦ وعبرانيين ١٣: ٤) وهذا لا ينافي قول الكتاب في غير هذا الموضع أن الله يدين العالم بواسطة المسيح.

سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ علاوة على أعمالهم المعنلة «لأَنَّ ٱللّٰهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَلٍ إِلَى ٱلدَّيْنُونَةِ، عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ، إِنْ كَانَ خَيْراً أَوْ شَرّاً» (جامعة ١٢: ١٤) «حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ» (١كورنثوس ٤: ٥ انظر أيضاً متّى ١٠: ٢٦ ولوقا ٨: ١٧). وينتج مما ذُكر أن الدينونة تكون مدققة حتى أنها تبلغ أفكار الناس ومحرّكاتهم على أفعالهم وأنها تكون مخيفة لأنه يُكشف يومئذ أمام العالم ما رغب الناس فيه وأخفوه على غيرهم ويخجل مرتكبوها من بيانها وأن تلك الدينونة تكون عادلة لأنها تحكم على الأفعال بحسب حقائقها لا ظواهرها. ولا يُعتبر يومئذ ما يدعيه الإنسان من الفضائل فتلك الدينونة مختلفة كل الاختلاف عن كل ما جرى في محكمة بشرية.

حَسَبَ إِنْجِيلِي أي الإنجيل الذي نادى به بولس باعتبار كونه رسول الله وسفيره كما نادى شفاهاً في أثينا (أعمال ١٧: ٣١) وكما نادى كتابة (٢تيموثاوس ٤: ١).

بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق بقوله «يدين» وهو على وفق قول المسيح نفسه «ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا ٥: ٢٢ و٢٧).

فوائد

لنا مما مرّ في هذه الفصل ١٣ فائدة:

  1. إن المبادئ المذكورة في هذا الفصل يصدقها كل عاقل وقف عليها ولكن ألوفاً وربوات من الناس يأملون الخلاص بما ينافيها (انظر المبادئ الستة في مقدمة هذا الأصحاح).
  2. إنه من رجا الخلاص بمجرد اتكاله على مجمعه أو كنيسته أو ختانه أو معموديته فرجاؤه باطل لأن الله ينظر إلى أفعاله وصفاته (ع ٢ و٣).
  3. إن خداع القلب البشري ظاهر في أن الناس يبيحون لأنفسهم ما يحظرونه على غيرهم وأنه كثيراً ما حدث أن من زاد لوماً لغيره على الإثم زاد إثماً (ع ١ و٣).
  4. إنه من لم يليّنه لطف الله قساه كالشمس تليّن الشمع وتقسّي الطين (ع ٤).
  5. إن الندامة الناشئة عن النظر إلى عدل الله تنشئ يأساً وموتاً والندامة الناشئة عن لطف الله تنشئ رجاء وحياة (ع ٤).
  6. إن طلب الإنسان المجد والكرامة والبقاء بمواظبته على فعل الخير هو ما يستحسنه الكتاب المقدس لأنه طلب غاية محمودة بوسائط ممدوحة (ع ٧).
  7. إن وسائل الناس إلى معرفة الواجبات مختلفة فتختلف مسؤوليتهم باختلافها في هذا العالم وإثابتهم أو عقابهم في العالم الآتي.
  8. إن الأمم لا يدانون على مخالفة ناموس لم يسمعوه إنما يحاكمون بمقتضى إرشاد الخليقة والضمير ولا يتبرّرون به فهم يحتاجون إلى الفادي كما يحتاج إليه أهل الوحي الذين لا يتبرّرون بالناموس الموحى به (ع ١٢).
  9. إن التمييز بين الحلال والحرام طبيعي لا كسبي (ع ١٤).
  10. إنه من يرجُ الخلاص بناء على أن الله لا يجازيه حسب أعماله وأن ما كتم عن الناس من آثامه يبقى مكتوماً يوم الدين فرجاؤه باطل (ع ٦ – ١٠ و١٦).
  11. إن الذي مات لأجل خطايا الناس هو الذي يدين الخطأة فأي رجاء للذين يرفضون رحمته وتبريره ويتكلون على برّ أنفسهم (ع ١٦).
  12. إن الذي يدين سرائر جميع الناس ينبغي أن يكون علمه غير محدود وأن يكون إلهاً فإذاً يسوع المسيح هو الله (ع ١٦).
  13. إن الله لكونه عادلاً وكل إنسان خاطئ لا ينجو إنسان من غضبه العادل إلا بالطريق الذي هو أوجده للنجاة فإذا لم يكن لنا برّ ذاتي وجب أن نلجأ إلى برّ يسوع البار (ع ١ – ١٦).

نسبة تلك المبادئ إلى اليهود ع ١٧ إلى ٢٤

١٧ «هُوَذَا أَنْتَ تُسَمَّى يَهُودِيّاً، وَتَتَّكِلُ عَلَى ٱلنَّامُوسِ، وَتَفْتَخِرُ بِٱللّٰهِ».

متّى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٣ وص ٩: ٦ و٧ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ ميخا ٣: ١١ وص ٩: ٤ إشعياء ٤٥: ٢٥ و٤٨: ٢ ويوحنا ٨: ٤١

أخذ الرسول في هذا الفصل يثبّت على اليهودي إثمه لمخالفته المبدأ الذي هو أن سامع الكلمة لا يتبرّر بل العامل بها.

يَهُودِيّاً أصل معناه أنه أحد المتسلسلين من يهوذا ثم أُطلق على كل الإسرائيليين لنسبتهم إلى اليهودية لأنها كانت أكبر أقسام الأرض المقدسة وأشرفها. وكان اليهودي لقب شرف باعتبار أصله فإن معناه محمود (تكوين ٤٩: ٨) وباعتبار اتخاذه بمعنى أنه أحد شعب الله أي الشعب الذي اختاره الله لنفسه وقطع له عهده وجعله كنيسته. وبنى اليهود معظم رجائهم الخلاص على مضمون هذا اللقب.

تَتَّكِلُ عَلَى ٱلنَّامُوسِ معنى «الناموس» هنا كل النظام الموسوي في السياسة والدين. وثق اليهود بتبرّرهم بما في ذلك الناموس من رسوم وذبائح وتطهيرات وكهنة معتقدين أن كل من هو ضمن دائرة هذا النظام هو في أمن وسلام وأن كل من هو خارجه هالك.

وَتَفْتَخِرُ بِٱللّٰهِ افتخر اليهودي بالله لاعتقاده أنه صاحب أمته دون غيرها وأنه يحبها ويكرمها ويعتبر من سواها أعداء له.

١٨ «وَتَعْرِفُ مَشِيئَتَهُ، وَتُمَيِّزُ ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ، مُتَعَلِّماً مِنَ ٱلنَّامُوسِ».

تثنية ٤: ٨ ومزمور ٤٧: ١٩ و٢٠ فيلبي ١: ١٠

تَعْرِفُ مَشِيئَتَهُ ادّعى اليهود أنهم يعرفون إرادة الله بما لهم من الإعلان السماوي أي أسفار الوحي معرفة لم يصل إليها غيرهم ودعواهم حق لكنهم استنتجوا منه ما ليس الحق وهو أن تلك المعرفة تبرّرهم مهما فعلوا. وغفلوا عن أنها تعظم المسؤولية عليهم بالطاعة والقداسة وتعظم دينونتهم إذا لم يسلكوا بمقتضاها. وكثيراً ما يتكل الناس في هذه الأيام على وفرة ما لهم من المعرفة ووسائل الخلاص دون أن يستفيدوا منها.

تُمَيِّزُ ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ أي الحلال من الحرام والممدوح من المذموم وما يجب أن تعمله مما يجب أن تعتزله.

مُتَعَلِّماً مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي من أسفار الوحي. وفي هذا إشارة إلى أن تلك الأسفار كانت تُقرأ في المجامع ويفسرها الكتبة. وكل ما ادّعاه اليهودي في هاتين الآيتين حق لأن وسائط معرفته كانت أكثر من وسائط معرفة غيره فأوجبت عليه زيادة المحبة والطاعة لله لكنها لم تكن علّة للثقة بأنه مهما ارتكب من الآثام يخلص.

١٩، ٢٠ «وَتَثِقُ أَنَّكَ قَائِدٌ لِلْعُمْيَانِ، وَنُورٌ لِلَّذِينَ فِي ٱلظُّلْمَةِ، ٢٠ وَمُهَذِّبٌ لِلأَغْبِيَاءِ، وَمُعَلِّمٌ لِلأَطْفَالِ، وَلَكَ صُورَةُ ٱلْعِلْمِ وَٱلْحَقِّ فِي ٱلنَّامُوسِ».

متّى ١٥: ١٤ و٢٣: ١٦ و١٧ و١٩ و٢٤ ويوحنا ٩: ٣٤ و٤٠ و٤١ ص ٦: ١٧ و٢تيموثاوس ١: ١٣ و٣: ٥

ذكر الرسول في هاتين الآيتين ما أثرته تلك الوسائط في اليهود وهو الافتخار بعلمهم وتيقنهم أنهم أفضل من الأمم وكان يجب أن يكون تأثيرها زيادة القداسة والطاعة. وأشار إلى الأمم بقوله «العميان» و «الذين في الظلمة» و «الأغنياء» و «الأطفال» بمعنى أنهم جهلاء بالنظر إلى اعتبار اليهود إياهم. واعتبر اليهودي نفسه بالنسبة إلى من هو من الأمم أنه «قائد للعميان» و «نور» و «مهذب» و «معلم» وبنى ذلك كله على زيادة معرفته بواسطة الأسفار المقدسة.

لَكَ صُورَةُ ٱلْعِلْمِ وَٱلْحَقِّ فِي ٱلنَّامُوسِ هذا ما جعله يعتبر نفسه أفضل من الأمم.

والفرق بين العلم والحق أن الأول ما يعرفه الإنسان من الثاني وأن الأول محدود والثاني غير محدود. والمراد «بصورة العلم والحق» هنا إمارتهما أو ما يُستدل به عليهما وعلى هذا كانت الوصايا العشر صورة المبادئ الأدبية. ومعنى «الناموس» هنا الأسفار المقدسة.

٢١، ٢٢ «٢١ فَأَنْتَ إِذاً ٱلَّذِي تُعَلِّمُ غَيْرَكَ، أَلَسْتَ تُعَلِّمُ نَفْسَكَ؟ ٱلَّذِي تَكْرِزُ أَنْ لاَ يُسْرَقَ، أَتَسْرِقُ؟ ٢٢ ٱلَّذِي تَقُولُ أَنْ لاَ يُزْنَى، أَتَزْنِي؟ ٱلَّذِي تَسْتَكْرِهُ ٱلأَوْثَانَ، أَتَسْرِقُ ٱلْهَيَاكِلَ؟».

مزمور ٥٠: ١٦ الخ ومتّى ٢٣: ٣ الخ ملاخي ٣: ٨

الاستفهام هنا للتوبيخ لا لطلب الفهم المقتضي الجواب وهو ألطف من التوبيخ الصريح وغايته بيان المنافاة الكلية بين سيرة اليهودي وما أوجبته عليه معرفته والنتيجة إظهار أنه سمع الكلمة ولم يعمل بها.

أَنْتَ إِذاً ٱلَّذِي تُعَلِّمُ غَيْرَكَ، أَلَسْتَ تُعَلِّمُ نَفْسَكَ؟ صرّح الرسول بذلك أن اليهودي الذي هو من شعب الله الخاص ومتعلم من الناموس إن تصرف كأنه جاهل كل الحقائق التي علّم غيره إياها عرّض نفسه بمخالفته شريعة الله وبارتكابه ما دان غيره على ارتكابه لدينونة ذاك الذي «يجازي كل إنسان حسب أعماله».

أَتَسْرِقُ؟ أثبت يعقوب الرسول هذا الذنب على اليهود بمعاملتهم الفعلة (يعقوب ٥: ٤) كما أثبت داود على اليهودي في أيامه بقوله «إِذَا رَأَيْتَ سَارِقاً وَافَقْتَهُ» (مزمور ٥٠: ١٨).

إن السارق مذنب وأما الذي ينادي بتحريم السرقة ويلوم السارقين ثم يسرق فذنبه مضاعف لأنه زاد على السرقة رياء ووقاحة. واليهود بإتيانهم مثل ذلك أغاظوا الله أكثر مما أغاظه الأمم.

أَتَزْنِي؟ عنّف يسوع اليهود على الزناء (متّى ١٢: ٣٩ و١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨) وعنّفهم الأنبياء عليه كثيراً (إرميا ٥: ٧ و٧: ٩ و١٦: ٤ وملاخي ٣: ٥) والذي زاد جرمهم في السرقة زاد جرمهم في الزناء فكانوا يصرخون على الزناة ويزنون ولذلك قال لهم يسوع إن العشارين والزواني أقرب إلى ملكوت الله منهم.

ٱلَّذِي تَسْتَكْرِهُ ٱلأَوْثَانَ، أَتَسْرِقُ ٱلْهَيَاكِلَ معلوم أن اليهود بعد رجوعهم من سبي بابل كرهوا الأوثان لكنه غير معلوم أنهم سرقوا هياكلها. وظن البعض أن الرسول أشار بهذا إلى ما نهى الله عنه في قوله «وَتَمَاثِيلَ آلِهَتِهِمْ تُحْرِقُونَ بِٱلنَّارِ. لاَ تَشْتَهِ فِضَّةً وَلاَ ذَهَباً مِمَّا عَلَيْهَا لِتَأْخُذَ لَكَ» (تثنية ٧: ٢٥) وأن بولس علم أنهم خالفوا ذلك بما لم نعلمه. على أنه إن كان قد وقع منهم فهو نادر. ولم يحسب اليهود ذلك خطيئة كبيرة لاعتقادهم أن الوثن ليس شيئاً فلم يحسبوا أخذ فضتها أو ذهبها تعدياً على الله. وسؤال بولس هنا يشير إلى ارتكاب إثم هو شر من عبادة الأوثان فيلزم أن المراد أن سرقة الهياكل ليست أقل من سلب الله حقوقه بدليل ما أشار إليه النبي بقوله «أَيَسْلُبُ ٱلإِنْسَانُ ٱللّٰهَ؟ فَإِنَّكُمْ سَلَبْتُمُونِي» (ملاخي ٣: ٨). وما أشار إليه المسيح بقوله «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ ٱلصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ» (متّى ٢١: ١٣ ويوحنا ٢: ١٦) فيكون معنى العبارة أن الاستخفاف بالله وبالأمور المقدسة الدال عليه الامتناع عن إعطاء العشور وعن الذبائح والتقدمات المفروضة يعد كسرقة هيكله.

٢٣، ٢٤ «٢٣ ٱلَّذِي تَفْتَخِرُ بِٱلنَّامُوسِ، أَبِتَعَدِّي ٱلنَّامُوسِ تُهِينُ ٱللّٰهَ؟ ٢٤ لأَنَّ ٱسْمَ ٱللّٰهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ».

ع ١٧ و٢صموئيل ١٢: ١٤ وإشعياء ٥٢: ٥ وحزقيال ٣٦: ٢٠ و٢٣

أبان الرسول في هاتين الآيتين المنافاة بين دعوى اليهود وفعلهم.

تَفْتَخِرُ بِٱلنَّامُوسِ الافتخار بالناموس يلزم منه الإكرام والطاعة للناموس.

تُهِينُ ٱللّٰهَ أي تكون علّة إهانة له لأنك تعديت الناموس إلى حد جعلت عنده الأمم يحتقرون الله الذي أوحى بالناموس لأنهم قاسوا صفاته على صفات الذين يعبدونه.

كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ (انظر ٢صموئيل ١٢:١٤ ونحميا ٥: ٩ وإشعياء ٥٢: ٥ وحزقيال ٣٦: ٢٠ و٢٣).

٢٥ «فَإِنَّ ٱلْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِٱلنَّامُوسِ. وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّياً ٱلنَّامُوسَ، فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً!».

غلاطية ٥: ٣

أثبت بولس على اليهود من (ع ١٨ – ٢٤) أنهم تعدّوا الناموس كالأمم فلزم من ذلك أنهم لا يستطيعون أن يتبرّروا به. وما قاله في هذه الآية دفع لاحتجاجهم أنهم إن لم يتبرّروا بحفظ الناموس تبرّروا بالختان.

ٱلْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِٱلنَّامُوسِ أوضح الرسول هذه القضية في (ص ٣: ١ و٢ و٤: ١١) فنفع الختان كونه ختم العهد بين الله وشعبه وعلامة أن الله يتمم كل ما في ذلك العهد من الشروط الزمنية والروحية. فكان لليهودي التقي كما كان لإبراهيم علامة كونه وارث البرّ الذي بالإيمان وهو عهد أبدي روحي لكل من يؤمن كإيمان إبراهيم (وهذا العهد باقٍ إلا أنه بُدلت علامته بالمعمودية).

رأى اليهود أن الختان نافع بالذات للخلاص قال الرباني مناحيم «قال ربانيّونا لا يرى جهنم مختون» وجاء في كتاب لليهود اسمه (Jalhut Rubeni) «الختان يحمي من جهنم». وفي كتاب آخر اسمه (Medrasch Tillim) حلف الله لإبراهيم أنه لا يرسل مختون إلى جهنم. وفي آخر اسمه (Akedath Jizehak) «يجلس إبراهيم تجاه باب جهنم ولا يسمح بأن يدخله يهودي مختون» ولكن بولس أنكر أن ذلك الرسم ينفع شيئاً بالذات بدليل قوله «لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ» (غلاطية ٦: ١٥) لكنه صرّح بنفعه باعتبار كونه علامة عهد الله لشعبه وختمه وبأن شرط نفعه حفظ الناموس. وهذا على وفق قول موسى للإسرائيليين «قَدْ وَاعَدْتَ ٱلرَّبَّ ٱلْيَوْمَ أَنْ يَكُونَ لَكَ إِلٰهاً، وَأَنْ تَسْلُكَ فِي طُرُقِهِ وَتَحْفَظَ فَرَائِضَهُ وَوَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَتَسْمَعَ لِصَوْتِهِ. وَوَاعَدَكَ ٱلرَّبُّ ٱلْيَوْمَ أَنْ تَكُونَ لَهُ شَعْباً خَاصّاً، كَمَا قَالَ لَكَ، وَتَحْفَظَ جَمِيعَ وَصَايَاهُ» (تثنية ٢٦: ١٧ و١٨) وهذا الشرط لا يتم إلا بتمام حفظ الناموس بدليل قول الرسول «لٰكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٥: ٣). ولكن لم يقم بذلك أحد من اليهود فلا يستطيع أحد منهم أن يخلص به.

صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً أي لا نفع منه فلا ينال به بركات العهد ولا نجاة من عقاب الإثم. إن الله يعاقب الخاطئ المختتن كما يعاقب الخاطئ الأغرل.

٢٦ «إِذاً إِنْ كَانَ ٱلأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ ٱلنَّامُوسِ، أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَاناً؟».

أعمال ١٠: ٣٤ و٣٥

إِنْ كَانَ ٱلأَغْرَلُ يَحْفَظُ هذا نتيجة الآية الخامسة والعشرين وهو يفيد أن اليهودي المختتن إن تعدّى الناموس يُدان أي أن الله يعامله كأنه أغرل. وينتج من ذلك ما في هذه الآية وهو إن كان الأغرل طائعاً للناموس تبرّر به لأن الله يعامله معاملة اليهودي الطائع.

أَحْكَامَ ٱلنَّامُوسِ أي وصاياه.

أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَاناً أي أن غرلته تحسب ختاناً فإذاً وجود العلامة لا تبرّر المذنب وعدم وجودها لا يخطئ البار. والخلاصة أن الأمر الجوهري عند الله هو الطاعة وأما الختان فأمر عرضي. وما قيل هنا فرض لا يستلزم أن أحداً من الأمم أطاع الناموس الإطاعة الكاملة وإلا خالف قول الرسول في اليهود والأمم «ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (ص ٣: ١٢).

٢٧ «وَتَكُونُ ٱلْغُرْلَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلطَّبِيعَةِ، وَهِيَ تُكَمِّلُ ٱلنَّامُوسَ، تَدِينُكَ أَنْتَ ٱلَّذِي فِي ٱلْكِتَابِ وَٱلْخِتَانِ تَتَعَدَّى ٱلنَّامُوسَ؟»

متّى ١٢: ٤١ و٤٢

هذه الآية تتضمن جواب الآية السادسة والعشرين ومفادها «نعم أن غرلته تُحسب ختاناً» وتفيد وفق ذلك أن اليوناني الطائع يدين بفعله اليهودي غير الطائع.

ٱلْغُرْلَةُ أي الإنسان الأغرل.

ٱلَّتِي مِنَ ٱلطَّبِيعَةِ أي في الحال التي وُلد عليها.

وَهِيَ تُكَمِّلُ ٱلنَّامُوسَ أي والأغرل يكمل الناموس على ما فُرض في (ع ٢٦).

تَدِينُكَ بالمعنى الذي أراده المسيح بقوله «رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا» (متّى ١٢: ٤١). والمعنى أن عمل الأغرل إذا قوبل بعمل اليهودي أوجب على اليهودي الخجل وأشد العقاب.

فِي ٱلْكِتَابِ وَٱلْخِتَانِ أي مع وجود الناموس المكتوب بين يديك وعلامة عهد الله فيك. والمعنى أن لليهودي واسطتين ليستا للوثني وهما الكتاب الذي يعلن له ما يجب عليه حسن إعلان والختان الذي عهد به على نفسه حفظ الناموس. ومع ذلك لم يستفد فتكون دينونته أعظم من دينونة الوثني.

٢٨، ٢٩ «٢٨ لأَنَّ ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً، وَلاَ ٱلْخِتَانُ ٱلَّذِي فِي ٱلظَّاهِرِ فِي ٱللَّحْمِ خِتَاناً، ٢٩ بَلِ ٱلْيَهُودِيُّ فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ ٱلْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ لاَ بِٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْخِتَانُ، ٱلَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ ٱلنَّاسِ بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ».

متّى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٩ وص ٩: ٦ و٧ وغلاطية ٦: ١٥ ورؤيا ٢: ٩ و١بطرس ٣: ٤ فيلبي ٣: ٣ وكولوسي ٢: ١١ ص ٧: ٦ و٢كورنثوس ٣: ٦ و١كورنثوس ٤: ٥ و٢كورنثوس ١٠: ١٨ و١تسالونيكي ٢: ٤

برهن الرسول في هاتين الآيتين صحة ما قيل في الآيتين السابقتين.

ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ الذي ليست له سوى العلامات الخارجية على كونه من شعب الله مثل كونه من نسل إبراهيم وكونه مختوناً وكون كتاب الوحي بين يديه وما شاكل ذلك من رسوم الناموس.

لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً بالحقيقة كما قصد الله أن يكون باختياره إياه لنفسه وقطعه العهد معه ووضع كتابه بين يديه.

وَلاَ ٱلْخِتَانُ الخ أي أن الختان الذي طلبه الله هو علامة وقف النفس له وعلامة الطهارة. وقصد الله به فصل اليهودي عن الوثنيين لكي لا يتدنس بخطاياهم وغايته تعالى أن يكون شعبه شعباً مقدساً قلباً وسيرة لا مجرد أن يمتاز عن سائر الأمم بعلامة خارجية.

ٱلْيَهُودِيُّ فِي ٱلْخَفَاءِ المراد «بالخفاء» هنا ما حُجب عن الناس من انفعالات النفس وظهر لله وحده وهو ما يحكم الله بموجبه.

هُوَ ٱلْيَهُودِيُّ أي هو الذي يُسر الله به ويحسبه من خاصته.

خِتَانُ ٱلْقَلْبِ أي تجديده وتطهيره وتقديسه حتى يقدر على الطاعة الروحية.

بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو المانح للإنسان الختان القلبي أي التقديس وهذا كقول المسيح لنيقوديموس «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله».

لاَ بِٱلْكِتَابِ أي لا بإنشاء الناموس فإن الناموس يأمر ويمدح ويذم لكنه لا يستطيع أن يمنح الطاعة فإن حصل الإنسان به على الطاعة الظاهرة له فهذا غير كاف عند الله الذي يطلب المحبة والطاعة القلبية.

ٱلَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ ٱلنَّاسِ أي ليس من اليهود فإنهم افتخروا بناموسهم وختانهم وبكونهم من نسل إبراهيم وبأن لهم أسفار الوحي الإلهي وكانت غايتهم من صدقاتهم وصلواتهم وممارستهم رسوم الديانة أن يمدحهم الناس.

بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ كانت غاية الله من إعطاء الختان وسائر فروض الناموس ما ذُكر آنفاً وهو مثل قوله «وَيَخْتِنُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تثنية ٣٠: ٦ انظر أيضاً تثنية ٦: ٥ و١٠: ١٦ وإرميا ٤: ٤). وسمى الله الأشرار «غلف القلوب» (إرميا ٩: ٢٦ وحزقيال ٤٤: ٩ وأعمال ٧: ٥٦).

فوائد

  1. إن العضوية في كنيسة المسيح الظاهرة لا تتكفل لنا برضى الله والخلاص لأن اليهود قبل ميلاد المسيح كانوا أعضاء الكنيسة الوحيدة الظاهرة ومع ذلك أبان لنا الرسول أنهم لم يكونوا مرضين لله ولا ورثة الملكوت السماوي (ع ١٧).
  2. إن معرفة الروحيات مجردة لا تنفع شيئاً أمام الله فلا تقدس القلب ولا تجعل الإنسان نافعاً لغيره وكثيراً ما تكون علّة الرجاء الباطل والافتخار بالذات (ع ١٨ – ٢٠).
  3. إن زيادة المعرفة تزيد المسؤولية وخطيئة المتمرد وتؤكد شدة عقابه فإذاً الذين يعتقدون أن مجرد انتشار العلم يصلح الناس أدبياً هم مخطئون (ع ١٧ – ٢٠).
  4. إن خطايا الذين يدّعون أنهم شعب الله تغيظ الله أكثر من خطايا غيرهم وهي أكثر إضراراً للناس (ع ٢٢ – ٢٤).
  5. إن الله عادل ولذلك لا يسأل يوم الدين أحداً هل هو يهودي أو يوناني أو عالم أو جاهل أو حر إو عبد إنما يسأل عن صفاته وأعماله أصالحة هي أم شريرة (١٧ – ٢٤).
  6. إن أسرار الكنيسة بمقتضى تعليم الرسول لا نفع لها في ذاتها وليست علّة ضرورية للنعمة لكنها علامات وختوم غايتها ثتبيت الإيمان بصحة عهد الله وتوضيح الحقائق الروحية المشار بها إليها (ع ٢٥).
  7. إنه على قدر ضعف الروحيات في الناس زادت غيرتهم في رسوم الدين الخارجية. فاليهود لما فقدوا روح الديانة توهموا أنهم يخلصون بالختان. أفليس كثيرون من المسيحيين اليوم يتكلون على أسرار الكنيسة اتكال اليهود على الختان (ع ٢٥).
  8. إنه كا يضل الذين يعتقدون أن جوهر الدين ممارسة أسرار الكنيسة يضل الذين يستخفون بتلك الأسرار التي رسمها الله. فإنه لم يقل الرسول أن الختان لا ينفع مطلقاً بل صرّح بنفعه إذا مورس على شرطه. وكذا المعمودية والعشاء الرباني فإن لهما أهمية عظيمة إذا اقترنا بالإيمان. فالذين لا يكترثون بهما يرتكبون إثماً عظيماً (ع ٢٦).
  9. إن شروط قبول العبادة هو أن تكون قلبية فالعبادة في الظاهر فقط ليست شيئاً (ع ٢٨ و٢٩).
  10. إنه إذا كان القلب مستقيماً أمام الله لم يُعتد بما يحكم به الناس وإذا رضي الناس عنّا فرضاهم لا يغنينا عن رضى الله شيئاً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى