سفر الرؤيا

رؤيا يوحنا | المقدمة | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر رؤيا يوحنا

للدكتور . وليم إدي

إن الغاية من كتابة هذا السفر ما ذُكر في أوله وهو «إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إياه الله ليري عبيده ما لا بد أن يكون عن قريب». وهو بيان حال الرب كما هي الآن في السماء لتعليم شعبه وتعزيتهم. وعلى هذا يكون معظم هذا السفر نبوءة بأحوال الكنيسة في المستقبل في مجاهدتها ومحاربتها قوات الشر وانتصاراتها ودينونة أعدائها أخيراً منذ أيام المسيح إلى نهاية العالم لأن هذه هي الأمور التي تختص بعبيده (ع ١). وعبر عن ذلك برؤى تُعلن الأمور المستقبلة بطرق مختلفة وفي أثناء تلك الرؤى أقوال تعليمه للتعزية والتنشيط. وذكر فوق بيان الأمور المستقبلة بعض الأمور الماضية والحاضرة وقد تم بعض النبوءة وبعضها أخذ في أن يتم وبعضها سيتم في ما لم يعين من المستقبل. وأما قوله «لا بد أن يكون عن قريب» فيجب أن نفهمه بحسب نظر الله الذي «ألف سنة في عينيه كيوم واحد» وبمقتضى أقوال هذا السفر عينه فإنه بمقتضاها أن بعض نبوآته يقتضي تمامه ما يزيد على ألف سنة. ولعل المراد بقوله «يكون عن قريب» إنه يأخذ بعد قليل في سبيل المجاز. وأعظم حادثة أنبأ بها هذا السفر هي مجيء المسيح ثانية فكما أن أعظم مواضيع نبوءات العهد القديم مجيء المسيح الأول كذلك أعظم مواضيع هذه النبوءة مجيء المسيح الثاني. وانتصار ملكوته بالحوادث السابقة له والمقترنة به. وهذا الموضوع ذُكر في أول السفر وكُرر كثيراً فيه وخُتم السفر به.

مقدمة

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو           

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

في الكاتب

الأدلة صريحة وكثيرة على أن كاتب هذا السفر الذي يدعو نفسه يوحنا هو يوحنا الرسول ابن زبدي التلميذ المحبوب كاتب البشارة الرابعة والرسائل الثلاث. وهذه الأدلة خارجية وداخلية. فمن الخارجية إجماع المؤرخين المسيحيين في عصور الكنيسة الأولى الذين هم أقرب الناس من عصره على أنه هو كاتب هذا السفر.

ومنها إن ما ذُكر في شأن كاتب هذا السفر على وفق تاريخ الرسول المعلوم وهو ثلاثة أمور:

  • الأول: إن اسمه يوحنا.
  • الثاني: إنه كان معروفاً ومعتبراً بين كنائس أسيا الصغرى.
  • الثالث: إنه كان منفياً في بطمس من أجل شهادته للمسيح. فإنه معلوم من تاريخ ذلك العصر أن يوحنا الرسول تقضت عليه السنون الأخيرة من حياته في خدمة تلك الكنائس وإنه سكن مدة طويلة في قصبتها أفسس وإنه مات هناك. وعُرف من التواريخ المعاصرة إنه كان منفياً في بطمس بأمر الأمبراطور دوميتيانس.

ومن الأدلة الداخلية أن أسلوب كتابة هذا السفر كأسلوب كتابة البشارة الرابعة والرسائل الثلاث المنسوبة إلى يوحنا الرسول وذكر كلمات مختصة به منها تسمية المسيح «بالكلمة» (ص ١٩: ١٣ ويوحنا ١: ١ و١يوحنا ١: ١) ومنها استعماله مادة «الغلبة» (ص ٢: ٧ و١١ و١٧ و٢٦ و٣: ٥ و١٢ و٢١ و١٢: ١١ و١٥: ٢ و١٧: ١٤ و٢١: ٧ ويوحنا ١٦: ٣٣ و١يوحنا ٢: ١٣ و١٤ و٤: ٤ و٥: ٤). ولفظة «الحق» ذُكرت في هذا السفر عشر مرات وفي البشارة الرابعة تسع مرات وفي رسالته الأولى أربع مرات. ولفظة «خروف» ذُكرت في هذه السفر ٢٩ مرة كاسم من أسماء يسوع وذُكرت لفظة حمل كاسم ليسوع في (يوحنا ١: ٢٩ و٣٦) ولم تُذكر في غيره من أسفار العهد الجديد بهذا المعنى غير أن يسوع شُبه بحمل في (أعمال ٨: ٣٢ و١بطرس ١: ١٩). قابل ما قيل في المن (رؤيا ٢: ١٧) بما قيل في (يوحنا ٦: ٤٨ و٥٨) ولم يُذكر المن في العهد الجديد إلا في هذين السفرين وفي (عبرانيين ٩: ٤). وهكذا ما قيل في ماء الحياة (قابل رؤيا ٢١: ٦ و٢٢: ١ و١٧ بيوحنا ٧: ٣٧).

وينكر البعض أن يوحنا الذي ألّف البشارة الرابعة هو مؤلف سفر الرؤيا ويسندون قولهم على ما يظهر من الفرق بين نفس البشارة ونفس الرؤيا.

والبعض منهم يفترضون مؤلفاً اسمه يوحنا الشيخ سكن في غربي أسيا الصغرى والبعض يكتفون بالقول أن المؤلف مجهول.

وذكر يوحنا اسمه في هذا السفر ولم يذكره في البشارة والرسائل الثلاث لأسباب كافية فإن غايته من البشارة تعظيم اسم المسيح فلم يرَ من داع لذكر اسمه ووفرة الاضطهاد يوم كتب رسائله والخطر عليه وعلى الذين كتب إليهم منع من ذكر اسمه. ولكن إذا كان سفر الرؤيا نبوءة كان من الضروري أن يُذكر اسم كاتبه وأن يكون الكاتب مشهوراً لكي يثق القراء بصحته. ولما كتب سفر الرؤيا كان قد أُطلق من منفاه على ما يرجّح وبطلت الاضطهادات حتى لم يبقَ خوف.

في زمان كتابة هذا السفر ومكانها

مما ذُكر في هذا السفر (ص ١: ٩) يتضح أنه إما كُتب في بطمس أو بعد إطلاق يوحنا وإقامته بأفسس. أما بطمس فهي جزيرة في بحر الروم ومن مجموع جزائر سبوراديس وهي على أمد ٢٤ ميلاً من شاطئ أسيا الصغرى واسمها الآن باتينو محيطها نحو ٢٥ ميلاً وسكانها اليوم نحو ٦٠٠ نفس وأرضها جبلية جدبة وفي بعض جبالها كهف يقول سكان الجزيرة أنه كان مسكن يوحنا أيام نفيه إليها. واختلف المفسرون في زمان كتابة هذا السفر لأن بعضهم ذهب إلى أن يوحنا نُفي في زمن نيرون فزمن كتابتها على ذلك قبل خراب أورشليم أو نحو السنة ٦٨ ب م. ولكن ذهب الجمهور إلى أنه نفي بأمر دوميتيانس فزمن كتابتها على هذا السنة ٩٥ أو ٩٦ ب. م. وقال الذين ذهبوا إلى أنه كُتب قبل خراب أورشليم لأنه ذكر فيه مدينة أورشليم والهيكل (ص ١١: ١) والاثني عشر سبطاً كأنهم لم يزالوا ممتازين (ص ٧: ٤ – ٨) ولكن هذا الرأي مبني على فرض لا نسلم به وهو أن يوحنا قصد مدينة أورشليم الحقيقية والأسباط الحقيقيين وهذا لم يثبت بدليلٍ.

في الذين كُتب هذا السفر إليهم

يظهر من نص السفر أنه كُتب إلى السبع الكنائس في أسيا أولاً لكن الإشارات كثيرة واضحة على أنه قصد به نفع كنيسة المسيح كلها لأن المواعيد وأقوال المسيح فيها موافقة لكل الكنيسة وأن مواضيع نبوآته عامة وكذا إنذاراته وتعزياته. وتلك المواضيع متفرقة في أزمنة طويلة وهذا دليل قاطع على أن هذا الكتاب كُتب لتعزية المسيحيين في كل عصر. وإنه وُجه إلى كنائس أسيا السبع كأنها نائبة عن كل كنيسة الله في كل عصر. ولا ريب في أن كنائس أسيا التي خدمها يوحنا كانت أكثر من سبع ولكنه اختار العدد الذي هو سبعة لأنه عدد كامل يشمل كل الكنائس. واختار كنائس أسيا لأنها بأحوالها وضيقاتها وتجاربها وفضائلها وواجباتها الخ كانت أهلاً لأن تنوب في ذلك كله عن كنيسة المسيح بأسرها في كل زمان ومكان. ولم يكن من سبب لأن تكون تلك الكنائس ستاً أو ثمانياً إلا أن السابع عدد كامل ينوب عن كل الكنائس وإن الروح القدس لم يختر الكنائس المسيحية المشهورة ككنيسة اسكندرية وكنيسة أنطاكية وكنيسة رومية إلا لأن كنائس أسيا في أحوال تجعلها أهلاً لأن تكون نائبة عن كل الكنائس حتى لا تكون كنيسة في كل مستقبل تاريخ الكنيسة المسيحية في حال النمو أو الفناء عرضة لتجارب الرخاء أو تجارب الشدة إلا ولها من تلك الكنائس السبع مثال. فاختار الروح القدس كنيسة أفسس مثالاً لغيرها لأنها كانت راغبة في انتشار الإنجبل لكنها فقدت محبتها لسيدها وكنيسة سميرنا لأنها أمينة وغنية في الأعمال الصالحة مع كونها في ضيق وعرضة للموت. وكنيسة ساردس لكونها متوانية. وكنيسة لاودكية لكونها غنية ومفتخرة لكنها فاترة في حب الحق غافلة عن فقرها الروحي. وكنيسة فيلادلفيا لأنها خدمت المسيح خدمة حسنة مع كونها صغيرة وضعيفة. وكنيسة برغامس لأنها تمسكت في إيمانها مع كونها عرضة لتجارب كثيرة من مضادة اليهود لها ومن المبتدعين فيها. وكنيسة ثياتيرا لكونها مجتهدة في عمل الخير لكنها ساكتة عن الضلال الذي انتشر في الكنيسة وسوء أدب بعض أعضائها.

في الغاية من كتابة هذا السفر

إن الغاية من كتابة هذا السفر ما ذُكر في أوله وهو «إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إياه الله ليري عبيده ما لا بد أن يكون عن قريب». وهو بيان حال الرب كما هي الآن في السماء لتعليم شعبه وتعزيتهم. وعلى هذا يكون معظم هذا السفر نبوءة بأحوال الكنيسة في المستقبل في مجاهدتها ومحاربتها قوات الشر وانتصاراتها ودينونة أعدائها أخيراً منذ أيام المسيح إلى نهاية العالم لأن هذه هي الأمور التي تختص بعبيده (ع ١). وعبّر عن ذلك برؤى تُعلن الأمور المستقبلة بطرق مختلفة وفي أثناء تلك الرؤى أقوال تعليمه للتعزية والتنشيط. وذكر فوق بيان الأمور المستقبلة بعض الأمور الماضية والحاضرة وقد تمّ بعض النبوءة وبعضها أخذ في أن يتم وبعضها سيتم في ما لم يعيّن من المستقبل. وأما قوله «لا بد أن يكون عن قريب» فيجب أن نفهمه بحسب نظر الله الذي «ألف سنة في عينيه كيوم واحد» وبمقتضى أقوال هذا السفر عينه فإنه بمقتضاها أن بعض نبوآته يقتضي تمامه ما يزيد على ألف سنة. ولعل المراد بقوله «يكون عن قريب» إنه يأخذ بعد قليل في سبيل المجاز. وأعظم حادثة أنبأ بها هذا السفر هي مجيء المسيح ثانية فكما أن أعظم مواضيع نبوءات العهد القديم مجيء المسيح الأول كذلك أعظم مواضيع هذه النبوءة مجيء المسيح الثاني. وانتصار ملكوته بالحوادث السابقة له والمقترنة به. وهذا الموضوع ذُكر في أول السفر وكُرر كثيراً فيه وخُتم السفر به.

وهذا السفر يشبه أسفار نبوءات العهد القديم فكأن روح الأنبياء القدماء حلّ فيه فحلّ فيه روح موسى لكي يترنم بنجاة شعب الله من عبودية الخطيئة التي هي أعظم من عبودية مصر. وحلّ فيه روح إشعياء وإرميا لكي يتنبأ بالضربات التي تقع على بابل الجديدة لكي يُدهش العالم بأنباء سقوطها. وحلّ فيه روح دانيال لينبئ بالمملكة الجديدة التي هي عدو الكنيسة ومضطهدتها وبانكسارها وانهدامها. وحلّ فيه روح حزقيال ليرينا مجد الهيكل الجديد السماوي الذي يُعبد الله فيه. فيصح أن يُقال إن كل تعزيات سائر أسفار الوحي ومواعيدها ونعمتها ونورها مجتمعة في هذا السفر.

ومما يستحق الاعتبار هو العلاقة الشديدة بين تعليم هذا السفر وخطاب المسيح لتلاميذه على جبل الزيتون وهو المذكور في إنجيل متّى (متّى ص ٢٤) ففي ذلك الخطاب نبوءة عظيمة هي مختصر تاريخ الكنيسة في المستبقل وإنباء بانتشار الإنجيل في العالم وما سيحدث من الموانع والمفاسد وبدينونة غير المؤمنين وضيقات المؤمنين وأمن مختاري الله في أثناء ضيقهم وفدائهم أخيراً. وعبّر عن هذه الأمور بما تم أولاً بخراب أورشليم الذي هو رمز إلى الدينونة الأخيرة. وحين كُتب هذا السفر تم ذلك الخراب ونجز أول نبوءات الرب جزئياً. وبقي في سفر الرؤيا بيان إجراء الله دينونته على كل ممالك العالم كما أجراها على أورشليم وعلى هذا تكون رسائل هذا السفر إلى الكنائس بسط كلام المسيح على جبل الزيتون لكل شعبه في الأرض من إنذار وتوبيخ.

وهذا السفر إعلان العلاقة بين الأمور السماوية والأمور الأرضية المنظورة وغير المنظورة فنصعد بواسطته إلى الديار العلوية وندخل هيكل الله مفتوحاً لنا وننظر من هناك حوادث الأرض التي مصدرها من السماء. ففك الختوم وأصوات الأبواق وسكب الجامات علّة التغيّرات التي تطرأ في الكنيسة وممالك الأرض. فننظر ونحن أمام عرش الله والخروف والشيوخ الأربعة والعشرين والحيونات الأربعة ومحفل عظيم من الملائكة الأمور الحادثة على الأرض ونسمع أقوالاً صادرة من العرش وأصوات الأرواح تحت العرش وتهاليل المجد. ويتضح من هذا أن الأرض حومة حرب بين مملكة النور ومملكة الظلام والحية العتيقة من جهة والخروف من جهة أخرى. والخروف رأس الكنيسة وفاديها والحية عدو البشر ومهلكهم.

وفي هذا السفر بيان انتصار دين المسيح على كل أعدائه ومقاوميه وتسلطه على العالم قروناً لا نهاية لها وتكليله بالمجد والسعادة. والسفر كله مملوء بكلمات الرجاء والتعزية والتنشيط وبالأنباء بانتصار الكنيسة التام الأبدي على كل أعدائها وبإكليل المجد لكل فرد من شهدائها وبالدينونة الهائلة على كل أعداء المسيح. وفيه شهادة جلية بقداسة الله وقوة المسيح والعناية الإلهية التي تسود كل الأمور بقضاء الله. وكلامه صريح في شأن الفداء بالدم. وهو أحسن إيضاح لقوة دم الكفارة ففيه يترنم القديسون والملائكة بالفداء بدم الخروف والتطهير والانتصار به. ومن أول هذا السفر إلى آخره في الجهاد والانتصار لُقب بلقب واحد من ينتصر ويدين ويملك وذلك هو «الخروف» الذي يحارب وينتصر ومن غضبه تهرب الملوك والأمم وبدمه انتصر أتباعه وطهروا ثيابهم ويقفون أمامه بثياب بيضاء وينسبون إليه خلاصهم وأسماء المفديين كُتبت في سفر حياة الخروف. والمدينة المقدسة هي العروس امرأة الخروف. والله القدير والخروف هما هيكلها ونورها. ونهر الحياة الذي فيها جار من عرش الله والخروف. وما ذُكر يعلّمنا أن دم المسيح ضروري للكنيسة كلها كما هو ضروري لكل فرد منها وإن المسيح انتصر لأجلنا ويملك علينا ولنا لأنه هو بذل نفسه عنا ولأنه هو «حمل الله الرافع خطية العالم». فالسبعات الثلاث أي سبعة الختوم وسبعة الأبواق وسبعة الجامات ليست بنبوءات متوالية بحوادث متوالية بل حوادث متعاصرة. فتجري بذلك مجرى حُلمَي فرعون اللذين فسرهما يوسف وحلم نبوخذ نصر في شأن الممالك الذي فسره دانيال وتعددت لزيادة الإيضاح وتقريرها في ذهن السامع. وفي كل من التابع ما لم يوضح في المتبوع في شأن انتصار المسيح والكنيسة على أعدائهما والدينونة وأهوالها. فالمعنى واحد في كل من الختوم والأبواق والجامات لكنه يزيد إيضاحاً على تواليها فهو في التالي أوضح مما في المقدم.

في مجاز هذا السفر ورموزه

إن أعداد هذا السفر رمزية فالسبعة رمز إلى الكمال ففيه إن الأرواح قدام العرش سبعة (ص ١: ٤ و٤: ٥). والكنائس سبع وهي تنوب عن الكنيسة كلها. وإن للخروف سبعة قرون وسبعة أعين (ص ٥: ٦) وإن عدد كل من الختوم والأبواق والرعود والجامات سبعة. والأربعة رمز للأمور الأرضية ومنها الحيوانات الأربعة وهي عبارة عن كل الخليقة (ص ٤: ٦). وأربعة الملائكة الذين يقفون على أربع زوايا الأرض ويمسكون أربع رياح الأرض (ص ٧: ١) والختوم الأربعة والأبواق الأربعة والجامات الأربعة. وهي تكمل في كل رؤيا الدينونة الأرضية. والأربعة الملائكة الذين حُلوا من الفرات ليهلكوا الذين عُينوا للهلاك (ص ٩: ١٣) وزوايا الأرض الأربع التي يضل الشيطان من فيها من الأمم (ص ٢٠: ٨). والعشرة رمز إلى دأب العالم واتساع سلطته ولهذا نُسب إلى العالم في هذا السفر وسفر نبوءة دانيال عشرة قرون. والعدد الاثنا عشر رمز إلى الكنيسة والمظاهر المتعلقة بها ومن ذلك الكواكب الاثنا عشر التي هي مادة الأكاليل (ص ١٢: ١). وأُسس المدينة السماوية الاثنا عشر وأسماء الرسل الاثني عشر التي عليها وأبوابها الاثنا عشر التي عليها اثنا عشر ملاكاً وأسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر. وعدد الشيوخ السماوية وهو مضاعف الاثني عشر. وهذا العدد مأخوذ من أسباط إسرائيل الاثني عشر ورسل المسيح الاثني عشر. وقياس محيطها وهو اثنا عشر في اثني عشر أي ١٤٤. والثمرات الاثنتا عشرة وهي ما تنتجه شجرة الحياة التي في الفردوس السماوي. ومن ذلك أجزاء تلك الأعداد فإن «الثلاثة والنصف» وذلك نصف السبعة له أهمية في الأقوال النبوية وهو عدد سني إمساك المطر بمقتضى طلب إيليا النبي انظر (يعقوب ٥: ١٧). وعدد الأيام التي بقيت فيها جثتا الشاهدَين مطروحتين (ص ١١: ٩). وعدد الأيام التي يتنبأ فيها الشاهدان ١٢٦٠ وهو يساوي ٣،٥×٣٦٠ أي ثلاث سنين ونصف سنة (ص ١١: ٣) وهذه المدة هي التي يعول الله فيها المرأة في البرية (ص ١٢: ٦) ومثلها مدة الاثنين والأربعين شهراً وهي مدة إضرار الوحش الصاعد من البحر (ص ١٣: ٥).

وليس في النبوءات من دليل كاف على أن المراد «باليوم» من هذه الأيام سنة ومما ينافي ذلك «الألف سنة» المذكورة في (ص ٢٠: ٦ و٧) وهي المدة التي يملك فيها المسيح مع شعبه. ولا دليل على أنه كاليوم العادي. فمدته مجهولة. و «الشاهدان» المذكوران في (ص ١١: ٣) مجهولان. وكذلك «عدد اسم الوحش» المذكور في ص ١٣: ١٨ وهو ٦٦٦.

ومن ذلك الألوان فالبياض رمز إلى الطهارة فذُكر في هذا السفر «ثياب بيض وعرش أبيض وفرس أبيض». والجمرة رمز إلى سفك الدم والحرب. والقرمزية رمز إلى الترفه الملكي. والخضرة رمز إلى الوبإ والموت. والسواد رمز إلى الضيقات والحزن. ومن المجاز استعارة الأحياء كالملائكة السبعة المشبّه بهم كنائس أسيا السبع في الصفات. والحيوانات الأربعة المذكرة في (ص ٤: ٦ – ٨) وهي مركبة الخلق من حيوانات مختلفة يشبّه بها خليقة الله الناطقة والمفديون وهي الكروبيم في (حزقيال ١٠: ٣) والسرافيم في (إشعياء ٦: ٢). والخروف يشبّه به المسيح في آلامه وانتصاره. والنسر ويُراد به السرعة والقوة. والخيل ويُراد بها حركات على الأرض. والوحش ويُراد به القوي القاسي الظالم. والضفادع ويُراد بها الأرواح النجسة. والجراد ويُراد به كل ما يُتلف ويؤلم. ومنها المجاز باستعارة غير الأحياء كالهواء ويراد به دائرة الحياة والتأثير العقلي. والأرض ويُراد بها مسكن الأمم. والزلزلة ويُراد بها الاضطراب فجأة. والبحر ويُراد به الحياة الاجتماعية المضطربة. والسحاب ويُراد به مظهر مجد الله. والعاصف مع البروق والرعود ويُراد بها الدينونة.

وبقي من أمثال كل ما ذُكر كثير نذكر بعضها مع ما يُراد به. فيُراد بالختوم السبعة التي لا يفكها إلا الخروف أن سياسة العالم في يد المسيح. وبالأبواق مقاومة الله لكل أنواع الشر. وبالجامات نقمة الله من أعدائه. وبأورشليم الكنيسة. وببابل قوات العالم المقاومة لله وللمسيح. وبالتنين والوحش والنبي الكذاب ثالوث الشر. وبالحصاد جمع شعب الله (ص ٤: ١٥). وبالمعصرة آلة عقاب الأعداء (ص ١٤: ١٩).

في مضمون هذا السفر

يُقسم مضمون هذا السفر إلى أربعة أقسام:

  • الأول: المقدمة (ص ١: ١ – ٣).
  • الثاني: الرسائل إلى السبع الكنائس (ص ١: ٤ – ٢٠ وص ٢ وص ٣). وهذا القسم يشتمل على مقدمة الرسائل (ص ١: ٤ – ٨). ورؤيا استعدادية (من ص ١: ٨ – ٢٠) والرسائل نفسها (ص ٢ و٣).
  • الثالث: الجزء النبوي من (ص ٤ ص ٢٢: ٥) وهو أقسام:
    1. محل الرؤيا السماوي (ص ٤: ١ – ١١).
    2. السفر المختوم والخروف الذي يفك ختومه (ص ٥: ١ – ١٤).
    3. فك الختوم السبعة (ص ٦ و٧ و٨: ١ – ٥) وذُكر فيه كلامان معترضان بين الختم السادس والختم السابع وهما ختم عبيد الله (ص ٧: ١ – ٨) وعدد المختومين (ص ٧: ٩ – ١٧).
    4. سبعة أبواق النقمة (ص ٨: ٦ – ١٣ وص ٩ و٨: ٦ – ص ١١: ١٥ – ١٩). وفي هذا كلامان معترضان بين البوق السادس والبوق السابع وهما السفر الصغير (ص ١٠: ١ – ١١) والشاهدان (ص ١١: ١٤).
    5. المرأة وأعداؤها الثلاثة (ص ١٢: ١ – ص ١٣: ١٨) وفيه ذكر وصف التنين (ص ١٢: ١ – ١٨) والوحش (ص ١٣: ١ – ١٠) والوحش الذي هو النبي الكذاب (ص ٣: ١١ – ١٨).
    6. استعداد للانتصار الأخير والنقمة الأخيرة (ص ١٤: ١ – ٢٠) وفيه ذكر الخروف ومختاريه (ص ١٤: ١ – ٥) والملائكة الثلاثة التي تُنبئ بالأمور الآتية وهي النقمات والنوازل (ص ١٤: ٦ و٧) وسقوط بابل (ص ١٤: ٨) وعقاب الخائنين (ص ١٤: ٩ – ١٢) وصوت ينادي بغبطة الذين ماتوا في الرب (ص ١٤: ١٣) والحصاد والجمع إلى المعصرة (ص ١٤: ١٤ – ١٩).
    7. سكب سبع جامات غضب الله (ص ١٥).
    8. دينونة بابل (ص ١٧ وص ١٨).
    9. الانتصار الأخير (ص ١٩ – ص ٢٢: ٥). وفيه تسبيح الكنيسة (ص ١٩: ١ – ١٠) وخروج الرب وجنوده للجهاد (ص ١٩: ١١ – ١٦) وهلاك الوحش والنبي الكذاب وملوك الأرض (ص ١٩: ١٧ – ٢١).
    10. تقييد الشيطان وراحة ألف سنة (ص ٢٠: ١ – ٦).
    11. حلّ الشيطان وهلاكه أخيراً (ص ٢٠: ٧ – ١٠).
    12. الدينونة الأخيرة (ص ٢٠: ١١ – ١٥).
    13. السماء الجديدة والأرض الجديدة وأمجاد أورشليم السماوية (ص ٢١ و٢٢: ١ – ٥).
  • الرابع: الخاتمة (ص ٢٢: ٦ – ٢١).

مضمون الجدول الآتي

بيان ما قيل في مقدمة السفر وهو ما يأتي

موضوع السفر والإعلان والرسائل إلى السبع الكنائس. ومقدمة عامة لكل سفر الرؤيا ذُكر فيها المرأى السماوي والذوات التي ظهرت فيه يتلوه ستة أعمدة ذُكرت فيها الرؤى المختلفة حسب ترتيبها في الذكر. وتلك الرؤى ليست متوالية في الواقع بل متوازية تزيد وضوحاً على تواليها في الذكر إلى أن يأتي يوم الرب العظيم. وفي أسفل الجدول بيان الحوادث التي بعد يوم الدين وما يكون إلى الأبد.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى