رؤيا يوحنا | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر رؤيا يوحنا
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ
رؤيا استعدادية
بيان جهاد الكنيسة يبتدئ من الأصحاح السادس وفي الأصحاحين الرابع والخامس رؤى استعدادية تُظهر قوة الذوات السماويين ومجدهم وهم الذين يهتمون بأحوال الكنيسة لكي تتحقق بذلك أنه مهما يُصبها من النوازل والبلايا لا تحدث إلا بإذن الله وإنها تقدر بنعمته أن تحتملها وتنجو منها. وفي هذا الأصحاح رؤيا تُظهر وجود الله وقداسته ويشهد بهذه القداسة جنود السماء من الأربعة والعشرين شيخاً والأربعة الحيوانات. ومثل هذه الرؤيا رؤيا إشعياء النبي التي كانت تمهيداً لمناداته بقضاء الله على إسرائيل وهي ما في قوله «رَأَيْتُ ٱلسَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ… ٱلسَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ… وَهٰذَا نَادَى ذَاكَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٦: ١ – ٣).
١ «بَعْدَ هٰذَا نَظَرْتُ وَإِذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَٱلصَّوْتُ ٱلأَوَّلُ ٱلَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوقٍ يَتَكَلَّمُ مَعِي قَائِلاً: ٱصْعَدْ إِلَى هُنَا فَأُرِيَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ هٰذَا».
ص ١: ١٠ و١٢ – ١٩ ص ١٩: ١ وحزقيال ١: ١ وص ١١: ١٢ و٢٢: ٦
بَعْدَ هٰذَا البعدية هنا إخبارية لا زمانية ومثل هذا كثير في هذا السفر. ويذكر في بدء الرؤيا الجديدة فلا يتصور القارئ المدة بين كل رؤيا ورؤيا فالرسول أعلن رؤيا واحدة كثيرة المشاهد.
نَظَرْتُ لا بعين الجسد بل بعين الوحي بدليل قوله «كنت في الروح» وما فتئ في الروح في كل هذه الرؤيا.
وَإِذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ رآه مفتوحاً دون أن يشاهد فتحه وبهذا تمتاز هذه الرؤيا عن الرؤيا التي في (حزقيال ١: ١ وفي متّى ٣: ١٦ وفي أعمال ٧: ٥٦ و١٠: ١١). لأن في تلك انفلقت السماء وظهر ما وراءها للذين على الأرض. وفي هذه بقي صرح الله موصداً أمام الذين على الأرض سوى الرسول الذي نظر من الباب في رؤياه. غلب في هذا السفر أن ينظر يوحنا بعين الوحي من السماء إلى الأرض ليرى ما يحدث عليها ويرى أحياناً ما يحدث حوله في السماء.
وَٱلصَّوْتُ ٱلأَوَّلُ ٱلَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوقٍ وهو المذكور في (ص ١: ١٠). ولم يذكر صوت مَن هذا الصوت لكن نعلم أنه ليس صوت المسيح لأنه هو الصوت الذي ذكره في (ص ١: ١٠) وذُكر صوت المسيح بعده وهو كصوت مياه كثيرة لا كصوت بوق (ص ١: ١٧).
قَائِلاً ٱصْعَدْ إِلَى هُنَا أي أدخل الباب.
فَأُرِيَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ هٰذَا كان ذلك ما لا بد أن يصير لأن الله قضى به. وأشار بقوله «هذا» إلى وقته الحاضر. ذهب بعضهم من قوله «فأريك» أن المتكلم هو المسيح ولكن هذا ليس ببرهان كما يتضح مما في (ص ٢١: ٩ و١٠ و٢٢: ٨ و٩). والذي أراد أن يريه هو أحوال الكنيسة في المستقبل إلى نهاية الزمان أي إلى حين تمجيدها.
٢ «وَلِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي ٱلرُّوحِ، وَإِذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَعَلَى ٱلْعَرْشِ جَالِسٌ».
ص ١: ١٠ ع ٩ و١ملوك ٢٢: ١٩ وإشعياء ٦: ١ وحزقيال ١: ٢٦ ودانيال ٧: ٩
لِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي ٱلرُّوحِ أي شعرت بانفعالات جديدة فكأني نُقلت في الرؤيا إلى السماء فذلك بمعنى ما في (ص ١: ١٠).
وَإِذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي ٱلسَّمَاءِ أي رآه هناك.
وَعَلَى ٱلْعَرْشِ جَالِسٌ وسُمي من على العرش من هنا إلى آخر السفر «بالجالس على العرش». وهو إما الآب الأزلي المذكور في (ص ٧: ١٠ و٩: ٤) لأنه ممتاز عن الابن (ص ٦: ١٦ و٧: ١٠) وعن الروح القدس (ع ٥). وأما الله الثالوث الأقدس بقطع النظر عن الامتياز بين الأقانيم كما في رؤيا إشعياء (إشعياء ص ٦) الذي اتخذه كل المفسرين دليلاً على التثليث بدليل قوله في تلك الرؤيا «من يذهب من أجلنا» (إشعياء ٦: ٨) ومن تكرار «قدوس» ثلاثاً (إشعياء ٦: ٣).
٣ «وَكَانَ ٱلْجَالِسُ فِي ٱلْمَنْظَرِ شِبْهَ حَجَرِ ٱلْيَشْبِ وَٱلْعَقِيقِ، وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ ٱلْعَرْشِ فِي ٱلْمَنْظَرِ شِبْهُ ٱلزُّمُرُّدِ».
ص ٢١: ١١ و ٢٢: ١٩ و٢٠ حزقيال ١: ٢٨ ص ١٠: ١
شِبْهَ حَجَرِ ٱلْيَشْبِ وَٱلْعَقِيقِ هما حجران كريمان الأول والآخر من الحجارة الاثني عشر التي على صدرة هارون. وقيل في حجر اليشب أنه «أَكْرَمِ حَجَرٍ لامع بَلُّورِيٍّ» (ص ٢١: ١١). ولم يتحقق لونه لكونه مختلف الألوان وشفافاً وله ألوان مختلفة متموجة واتخذوا قديماً من اليشب حجارة الخواتم والحلي ويتخذه الأغنياء اليوم بلاطاً للمنتدى والموائد. والعقيق حجر كريم يغلب أن يكون أحمر كالنار. ذهب أكثر المفسرين إلى أن تلك الحجارة تشير إلى صفات الله فاليشب يشير إلى قداسته والعقيق إلى عدله. وكثيراً ما ذُكر في رؤى العهد القديم إن مظاهر الله كانت «في النار» و «النور اللامع».
وَقَوْسُ قُزَحَ ذُكرت هذه القوس في (تكوين ٩: ١٢ – ١٧ وحزقيال ١: ٢٨).
شِبْهُ ٱلزُّمُرُّدِ لون الزمرد أخضر وهو يغلب غيره من الألوان في قوس قُزح لذلك خصه يوحنا بالذكر وذلك لا يمنع من أن فيها سائر ألوان القوس المعروفة. ذهب المفسرون إلى أن قوس قُزح يشير إلى نعمة الله وحفظه عهده كما جعله الله آية ذلك في وعده لنوح (تكوين ٩: ١٣). وقال الأكثرون بأن اليشب والعقيق والقوس تشير إلى أن بهاء قداسة الله ونار عدله مقترنان دائماً بتأكيد رحمته وجودته لكي يخيف أعداءه ويعزي أصدقاءه.
٤ «وَحَوْلَ ٱلْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشاً. وَرَأَيْتُ عَلَى ٱلْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخاً جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ».
ع ٦ وص ٥: ١١ و٧: ١١ و١١: ١٦ ع ١ وص ٥: ٦ و٨ و١٤ و١٩: ٤ ص ٣: ١٨
وَحَوْلَ ٱلْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشاً لعلها أصغر من عرش الله ومنخفضة عنه.
وَرَأَيْتُ عَلَى ٱلْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخاً الخ هؤلاء نوّاب الكنيسة في السماء فجلوسهم يشير إلى الراحة والإكرام وبياض ثيابهم إلى الطهارة وإنهم كهنة لله. وأكاليل الذهب إلى أنهم ملوك. وعلة كونهم «أربعة وعشرين» كون ذلك العدد مجموع عدد أسباط إسرائيل وعدد رسل المسيح (متّى ١٩: ٢٨ ولوقا ٢٢: ٣٠). ومشاركة الكنيسة القديمة للكنيسة المسيحية ظاهرة من الترنم في السماء بترنيمة موسى والخروف (ص ١٥: ٣). ومثل ذلك إن أسماء الاثني عشر سبطاً كُتبت على أبواب أورشليم الجديدة الاثني عشر وأسماء الرسل الاثني عشر على أُسس المدينة الاثني عشر (ص ٢١: ١٢ و١٤).
٥ «وَمِنَ ٱلْعَرْشِ يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ. وَأَمَامَ ٱلْعَرْشِ سَبْعَةُ مَصَابِيحِ نَارٍ مُتَّقِدَةٌ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ ٱللهِ».
ص ٨: ٥ و١١: ١٩ و١٦: ١٨ خروج ١٩: ١٦ زكريا ٤: ٢ خروج ٢٥: ٣٧ ص ١: ٤
وَمِنَ ٱلْعَرْشِ يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ هذه علامات حضور الله على طور سينا يوم أعطى الشريعة (خروج ١٩: ١٦). وهي علامات سلطان الله وقدرته وإن عرشه عرش الدينونة لا في وقت ظهوره ليوحنا بل في كل حين لأن سلطانه وقوته من صفاته الجوهرية الأبدية.
وَأَمَامَ ٱلْعَرْشِ سَبْعَةُ مَصَابِيحِ نَارٍ مُتَّقِدَةٌ وتفسيرها ما يليها وهو «سبعة أرواح الله» كما في (ص ١: ٤) وهي الروح القدس في أعماله المتنوعة الكاملة. وهذا يفيدنا أن نظر الله يكشف أعماق القلب كما في (ص ١: ١٤). وغاية الروح القدس أن ينير الصالحين ويبهجهم وينقي الأشرار أو يفنيهم وذلك غاية السفر كله.
٦ «وَقُدَّامَ ٱلْعَرْشِ بَحْرُ زُجَاجٍ شِبْهُ ٱلْبَلُّورِ. وَفِي وَسَطِ ٱلْعَرْشِ وَحَوْلَ ٱلْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ».
ص ١٥: ٢ و٢١: ١٨ و٢١ وحزقيال ١: ٢٢ ع ٤ حزقيال ١: ٥ وع ٨ و٩ و٥: ٦ و٦: ١ و٦ و٧: ١١ و١٤: ٣ و١٥: ٧ و١٩: ٤ حزقيال ١: ١٨ و١٠: ١٢
وَقُدَّامَ ٱلْعَرْشِ بَحْرُ زُجَاجٍ شِبْهُ ٱلْبَلُّورِ أي مثل البلور في صفاته وسكونه وهو يشير إلى طهارة السماء وهدوئها. وكان هذا البحر قدام العرش ليقرن الطهارة والسكون بجلال الله. وذهب بعضهم إلى أن هذا البحر يشير إلى عناية الله التي أظهرها لبني إسرائيل باجتيازهم البحر الأحمر في أول الشروع في سفرهم في البرية ولكن ذلك غير واضح.
وَفِي وَسَطِ ٱلْعَرْشِ وَحَوْلَ ٱلْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ ذكر يوحنا هنا المرأى كما ظهر له فإن الحيوانات كلها حول العرش لكنه نظر الاثنين المقابلين له كأنهما في وسط العرش بمقتضى موقفه. وكان أوجه الأربعة الحيونات نحو العرش فاستطاع أن يراها من كل الجهات.
٧ « وَٱلْحَيَوَانُ ٱلأَوَّلُ شِبْهُ أَسَدٍ، وَٱلْحَيَوَانُ ٱلثَّانِي شِبْهُ عِجْلٍ، وَٱلْحَيَوَانُ ٱلثَّالِثُ لَهُ وَجْهٌ مِثْلُ وَجْهِ إِنْسَانٍ، وَٱلْحَيَوَانُ ٱلرَّابِعُ شِبْهُ نَسْرٍ طَائِرٍ».
حزقيال ١: ١٠ و١٠: ١٤
ٱلأَوَّلُ شِبْهُ أَسَدٍ.. ٱلثَّانِي شِبْهُ عِجْلٍ.. ٱلثَّالِثُ… إِنْسَانٍ… ٱلرَّابِعُ شِبْهُ نَسْرٍ يشبه هؤلاء الكروبيم في العهد القديم (حزقيال ١: ٥ – ١٠ و١٠: ١ – ٢٠). ولكن الحيوانات هنا تمتاز عن التي في سفر حزقيال. إن لكل حيوان هنا وجهاً واحداً وإن لكل من حيوانات حزقيال أربعة أوجه. وذُكر مع الحيوان في رؤيا حزقيال بكرات أُطرها مملوءة عيوناً (حزقيال ١: ١٨) ولعل أبدانها أيضاً (حزقيال ١٠: ١٢). وإن لكل حيوان في رؤيا حزقيال أربعة أجنحة (حزقيال ١: ٦). وفي رؤيا يوحنا إن لكل حيوان ستة أجنحة كما في رؤيا إشعياء (إشعياء ٦: ٢). فتكون صور رؤيا يوحنا مركبة من صور رؤيا إشعياء وصور رؤيا حزقيال واختلف المفسرون كثيراً في هذه الحيوانات فذهب بعضهم إلى أنها تشير إلى كتبة البشائر الأربع ولكنهم اختلفوا أي حيوان يشير إلى متّى وأي يشير إلى مرقس الخ. وذهب بعضهم إلى أنها تشير إلى ما اعتقده الأقدمون في العناصر الأربعة النار والهواء والماء والتراب. وذهب بعضهم إلى أنها تشير إلى الفضائل الأربع العظمى. وذهب غيرهم إلى أنها تشير إلى قوة نفس الإنسان الأربع. وبعضهم إلى أربع صفات المسيح في عمل الفداء. وبعضهم إلى المدن الأربع التي فيها كنائس المسيح الأربع العظمى أورشليم وأنطاكية واسكندرية وقسطنطينية. وبعضهم إلى الرسل الأربعة الذين هم أكثر اعتباراً بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس. والذي اتفق عليه أكثر المفسرين إنها تشير إلى أقسام الخليقة الأربعة باعتبار كون الإنسان أشرف الحيوانات والنسر أشرف الطيور والعجل أو الثور أشرف البهائم الداجنة والأسد أشرف الحيوانات المفترسة. فهؤلاء الحيوانات الأربعة تنوب عن كل جنس الحيوان. فإن قيل لا شيء فيها يشير إلى حيوانات البحر قلنا إن سفر التكوين نسب الطيور إلى البحر (ص ١: ٢٠ و٢١). وإنما ذهب الأكثرون إلى هذا المعنى لذكر الخليقة في التسبيح فهو تسبيح الخليقة وهو قول الشيوخ والحيوانات «لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» (ع ١١). وهذه الحيوانات الأربعة كنايات عن الصفات العظمى التي يمكن الخليقة إظهارها فالأسد كناية عن القوة والشجاعة والثور عن الصبر والإنسان عن العقل والنسر (ص ٦) عن الحركة والدأب.
٨ «وَٱلأَرْبَعَةُ ٱلْحَيَوَانَاتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ حَوْلَـهَا وَمِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً، وَلاَ تَزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً قَائِلَةً: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي كَانَ وَٱلْكَائِنُ وَٱلَّذِي يَأْتِي».
إشعياء ٦: ٢ و٣ ص ١٤: ١١ وص ١: ٤ و٨
سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ مأخوذ من رؤيا إشعياء. وتغطية الأوجه بالجناحين يشير إلى الاحترام كأنها غير مستحقة أن تنظر جلال الله وتغطية الأرجل إلى التواضع كأنها تستر جسمها من مجد الخالق. والطيران بالجناحين إلى الطاعة لأنها مستعدة لإجراء الأوامر الإلهية.
وَمِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً إذا قابلنا هذا بقوله قبلاً «مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ» (ع ٦) يتضح أن الأجنحة الستة لم تمنع من مشاهدة العيون لأن العيون كانت على ظهر الأجنحة وباطنها عند ارتفاعها وعلى أبدان الحيوانات.
وَلاَ تَزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً قَائِلَةً قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ أي تقدس دائماً وكلمات تقديسها ككلمات تقديس الكروبيم في رؤيا إشعياء (إشعياء ص ٦).
ٱلَّذِي كَانَ وَٱلْكَائِنُ وَٱلَّذِي يَأْتِي (انظر تفسير ص ١: ٨). خلاصة هذا المشهد أن كروبيم حزقيال وسرافيم إشعياء وحيوانات الرؤيا واحد وهي نواب الحيوان من خليقة الله إلا أنه في سفر إشعياء وسفر الرؤيا ذُكرت الأشخاص مستقلة أي ذُكر الإنسان مستقلاً بنفسه وكذا سائر الحيوانات. ولكن ذُكر في حزقيال الأربعة في جسم واحد أي أن للجسم الواحد أربعة أوجه وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر. وغاية هذه الحيوانات إعلان المجد لله والتسبيح لله على قوته ومجده باعتبار كونه الخالق كما يتضح من القول في سفر إشعياء «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٦: ٣). ومن الترنيمة في آية الرؤيا. وخلاصة هذه الرؤيا كلها إن عرش الله يحيط به أربعة وعشرون شيخاً اثنا عشر من هم نواب أسباط إسرائيل الاثني عشر وهم نواب الكنيسة قبل الميلاد. والاثنا عشر الآخرون الاثنا عشر رسولاً وهم نواب كنيسة المسيح وهم اتفقوا مع الحيوانات الأربعة التي هي نواب الخليقة على تقديم التسبيح للخالق.
٩ «وَحِينَمَا تُعْطِي ٱلْحَيَوَانَاتُ مَجْداً وَكَرَامَةً وَشُكْراً لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ، ٱلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ».
ع ٢ إشعياء ٦: ١ ومزمور ٧٤: ٨ ص ١٠: ٦ و١٥: ٧ وتثنية ٣٢: ٤٠ ودانيال ٤: ٣٤ و١٢: ٧
وَحِينَمَا تُعْطِي ٱلْحَيَوَانَاتُ مَجْداً وَكَرَامَةً وَشُكْراً في هذه الآية والآيتين التاليتين ترنيمة المجد الأبدي من الخليقة تسبيحاً للخالق وموافقة الكنيسة على ذلك. ولكن موضوع هذا التسبيح غير الفداء بل الخلق على ما سبق. أما ترنيمة المفديين في الفداء فستأتي في (ص ٥: ٩ و١٠). والحيوانات اعترفت في هذا التسبيح بمجد الخالق وإكرامه وشكره. وهذا التسبيح أبدي (ص ٧: ١١ و١٥: ٣).
١٠ «يَخِرُّ ٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ شَيْخاً قُدَّامَ ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ، وَيَسْجُدُونَ لِلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ ٱلْعَرْشِ قَائِلِينَ».
ع ٤ ص ٥: ٨ و١٤ و٧: ١١ و١١: ١٦ و١٩: ٤
يَخِرُّ ٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ شَيْخاً قُدَّامَ ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ خرور هؤلاء يدل على الاحترام والتمجيد والعبادة الواجبة لله باعتبار كونه الملك العظيم «الحي إلى أبد الآبدين» أي الأزلي السرمدي. كانت ترنيمة الحيوانات الأربعة يترنم بها منذ الخلق بدليل قوله «أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ ٱلأَرْض…َ عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ ٱلصُّبْحِ مَعاً، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللهِ» (أيوب ٣٨: ٤ و٧). وأما ترنيمة الأربعة والعشرين شيخاً فلم يترنم بها إلا منذ شرع المسيح في عمل الفداء وهذا علة سبق الحيوانات للشيوخ إلى الترنم.
وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ ٱلْعَرْشِ دليلاً على أنهم رفضوا أن يكون لأنفسهم شيء من المجد والإكرام ونسبوا ذلك كله إلى الله.
١١ «أَنْتَ مُسْتَحِقٌّ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ».
ص ٥: ١٢ و١: ٦ و١٠: ٦ و١٤: ٧ و١٥
نسب الشيوخ إلى الله «المجد» الذي نسبه إليه قبلاً الحيوانات الأربعة إلا أنهم نسبوا إليه «القدرة» بدلاً من «الشكر» في ترنيمة الحيوانات. فالشيوخ هم جزء من الخليقة لكنهم نظروا إلى الخليقة كأنهم مستقلون عنها واعتبروا وجودهم فيها آية قدرة الله.
لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ هذا موضوع الترنيمة الخاصة.
وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ فعلّة وجود العالمين ليست سوى مشيئة الله. وأراد بقوله «كائنة» إنها موجودة وإن حفظها متوقف على إرادة الله. وبقوله «خلقت» إن الله أبدعها أي أوجدها بعد أن لم تكن.
وغاية هذه الرؤيا الأولى الاستعداد لسائر السفر وهو تعزية الكنيسة في ما سيقع عليها من البلايا. عرف يوحنا بزوال المملكة الرومانية فأنبأه الله بأنه جالس على عرش السماء الملك الحي إلى أبد الآبدين الذي سلطانه يبقى بعد زوال كل الممالك الأرضية والرب الإله القادر على كل شيء اسمه. فمهما تغيّر من المخلوقات فهو لا يتغيّر ومهما نزل من البلايا فالكنيسة تحتمله بصبر لأن بلاياه بإذنه تعالى. فما رآه يوحنا في السماء ليس بمشهد وقتي لكنه بيان حال السماء الحاضرة والدائمة. وهي محل مشاهدة مجد الله إله الخلاص حافظ العهد المحيط بعرشه قوس قزح آية لدوام العهد.
ونتحقق من هذه النبوءة تنوّع الساجدين أمام العرش فهم المفديون من الأرض وغيرهم من الجنود السماوية الروحية. والمفديون هنا في صور ملوك وكهنة فهم ملوك لأن لهم أكاليل من الذهب وكهنة لأنهم لابسون ثياباً بيضاً. وغيرهم من الساجدين بصورهم الأربع موصوفون بأنهم مملوءون عيوناً وإنهم لا يفتأون يسبحون لله نهارا وليلاً. وهذا يدل على تيقظهم الدائم وحركاتهم ودأبهم في خدمة الله أبداً. وصورهم الأربع تدل على تنوع أعمالهم في القيام بخدمتهم لتمجيد ذلك الذي هو موضوع تسبيحهم ومحبتهم. ونتعلم من هذا أن كل حوادث تاريخ العالم معينة مقضي بها منذ الأزل فإنه قال المتكلم مع يوحنا «هلم فأريك ما لا بد أن يصير». فقوله «لا بد» كقول الله لقورش ولكل مخلوق «أنا نطقتك وأنت لم تعرفني» فالمستقبل كله في يد الله «ٱلْعَدْلُ وَٱلْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ. ٱلرَّحْمَةُ وَٱلأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ» (مزمور ٨٩: ١٤).
ونعلم أيضاً من هذه الرؤيا شدة الاتفاق بين أعضاء الكنيسة المجاهدة على الأرض والكنيسة المنتصرة في السماء. فالأربعة والعشرون شيخاً الذين هم نواب المفديين جالسون على عروش حول الملك يشاهدون من هنالك كل ما يصيب الكنيسة هنا فكأنهم يشتركون في أحزانهم ويفرحون بأفراحهم وينتظرون انتقالهم.
ونعلم منها أيضاً قرب السماء منّا وإنها ليست بلاداً بعيدة جداً فإنه فُتح الباب فوُجدت السماء. إن الموت يغلق حواسنا كالسبات الذي اعترى يوحنا وفي لحظة نكون في حضرة الله الديّان للكل وحضرة «الأرواح المكملين».
السابق |
التالي |