سفر الرؤيا

رؤيا يوحنا | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر رؤيا يوحنا

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

 

رسائل إلى كنيسة أفسس ع ١ إلى ٧ وكنيسة سميرنا ع ٨ إلى ١١ وكنيسة برغامس ع ١٢ إلى ١٧ وكنيسة ثياتيرا ع ١٨ إلى ٢٩

ما قيل لكل كنيسة هنا يصح أن يقال لكل كنيسة مسيحية إلى آخر الزمان لإرشادها وإنذارها وتعزيتها. وكل رسالة تبتدئ بأمر الرسول أن يكتب إلى ملاك الكنيسة. وفي كل رسالة يُذكر لقب من ألقاب المسيح مأخوذ من مظاهر الرؤيا في الأصحاح الأول وكل منها خطاب للمسيح مبدوء بقوله «أنا عارف أعمالك» ومختوم بنبإ مجيئه وبالوعد للمنتصر مصحوب غالباً بقوله «من له أذن للسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس».

١ «اُكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ أَفَسُسَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلْمُمْسِكُ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، ٱلْمَاشِي فِي وَسَطِ ٱلسَّبْعِ ٱلْمَنَايِرِ ٱلذَّهَبِيَّةِ».

ص ١: ١١ و١٢ و١٣ و١٦

اُكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ أَفَسُسَ أفسس قصبة البلاد التي فيها السبع الكنائس وهي مركز أتعاب يوحنا الرسول في الأيام الأخيرة من حياته. أسس بولس الكنيسة فيها وخدمها ثلاث سنين وكتب إليها رسالة نُسبت إليها. وخدمها أيضاً تيموثاوس (١تيموثاوس ١: ٣) وأكيلا وبرسكلا وأبلّس (أعمال ١٨: ١٩ و٢٤). واشتهرت هذه المدينة بهيكل أرطاميس الذي عُدّ من عجائب الدنيا السبع بنفاسة بنائه (انظر تفسير أعمال ١٩: ٢٧).

هٰذَا يَقُولُهُ ٱلْمُمْسِكُ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، ٱلْمَاشِي الخ هذا مأخوذ مما سبق من الرؤيا (ص ١: ١٢). لا شيء في هذا الخطاب يصح على كنيسة أفسس أكثر مما يصح على غيرها من تلك الكنائس أو كنائس العالم. فإنه أبان فيه إن المسيح رأس الكنيسة وحافظها ومنشطها وهو موافق لقوله لتلاميذه قبل مفارقته إياهم «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى ٢٨: ٢٠). والفرق بين ما قيل هنا في المسيح وما قيل في (ص ١: ١٦) إنه قيل هناك «في يده السبع الكواكب» وقيل هنا أنه «ممسكها بيمنيه» وهذا يفيد معنى أقوى من معنى الأول إذ يدل على اجتهاده في حفظها لكي لا يخطفها أحد من يده (يوحنا ١٠: ٢٨). وقيل هنا إنه «ماش في وسط المنائر» وقيل هناك أنه «في وسطها» (ص ١: ١٣). وهذا يدل على إنه لا يكل باعتنائه بالكنيسة وإنه معتن بحفظها أبداً وإنه لا يغفل عن شيء من زلاتها والتجارب التي تصيبها وإنه مستعدٌ دائماً لأن يعينها ويهب لها كل ما تحتاج إليه.

٢ «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ ٱلأَشْرَارَ، وَقَدْ جَرَّبْتَ ٱلْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُمْ كَاذِبِينَ».

ع ١٩ وص ٣: ١ و ٨ و١٥ و١يوحنا ٤: ١ يوحنا ٦: ٦ و٢كورنثوس ١٢: ١٣

عَارِفٌ أَعْمَالَكَ هذه ليس معرفة الرضى كقوله «أعرف خاصتي» (يوحنا ١٠: ١٤). بل معرفة الاختبار وتشير إلى كونه يعرف كل شيء (مزمور ١٣٩: ٢٣ و٢٤ وعاموس ٤: ١٣ ويوحنا ٢: ٢٤ و٢٥ وعبرانيين ٤: ١٣). وقوله هذا يدل على أنه اختبر سيرة الكنيسة وصفاتها وفيه تعزية للذين يقدرون أن يقولوا قول بطرس «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ» (يوحنا ٢١: ١٧) وإنذار للخادم الخائن.

وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ هذا تفسير لقوله «أعمالك» وهو يبين شجاعة الكنيسة وغيرتها واجتهادها في خدمة المسيح وصبرها على احتمالها مقاومة العالم من أجل المسيح.

وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ ٱلأَشْرَارَ ليس المراد «بالأشرار» هنا المضطهدون الذين احتملت الكنيسة جورهم بالصبر بل الذين داخل الكنيسة ممن جلبوا العار على اسم المسيح بقبائحهم فإن الكنيسة رفضت هؤلاء بغيرة مقدسة ولذلك مدحها المسيح.

وَقَدْ جَرَّبْتَ ٱلْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ (٢كورنثوس ١١: ١٣). لعل هؤلاء لم يقبلوا يوحنا الرسول لكن مؤمني أفسس امتحنوهم فوجدوهم كاذبين (ص ٣: ٩ و١يوحنا ١: ٦) وقد أنبأ بولس الرسول شيوخ هذه الكنيسة بمثل هؤلاء بقوله «مِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ» (أعمال ٢٠: ٣٠). وقد أعطى المسيح تلاميذه ما به يمتحنون الأنبياء الكذبة وهو قوله «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متّى ٧: ١٦).

٣ «وَقَدِ ٱحْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ».

يوحنا ١٥: ٢١

وَقَدِ ٱحْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ أي ثبتّ على مقاومة الأشرار (ع ٢).

وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي مقاومة كنيسة أفسس الأشرار حمّلتها أثقالاً باهظة لكنها حملتها بالصبر لأجل اسم المسيح أي إعلان نعمة الله ومحبته الذي كان لهم بواسطة المسيح (يوحنا ١٤: ١٣ و١٤).

وَلَمْ تَكِلَّ احتملت هذه الكنيسة التعب (ع ٢) ولم تستثقله فإنه مع عظمة التعب كانت نعمة احتماله أعظم. إن الأمور التي مدح الله بها كنيسة أفسس سبعة جوهرها الرابع منها وهو «تمييز المعلمين الكاذبين ورفضهم» وقد مدح عملها وتعبها في خدمته واحتمالها الشدائد دون تزعزع وحمل صليبها في مقاومة الذئاب الخاطفة التي دخلت صيرة المسيح وخطفت الخراف وبددتها (يوحنا ١٠: ١٢) وفي كرهها كل عملة الشر وامتحان المدّعين إنهم رسل وهم ليسوا رسلاً وعدم كلالها من حمل الخدمة والاضطهاد.

٤ «لٰكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ ٱلأُولَى».

متّى ٢٤: ١٢ إرميا ٢: ٢

لٰكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ بعد مدحه أعمال الكنيسة الحسنة ذكر ما تستحق اللوم عليه.

أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ ٱلأُولَى أي إن تلك الكنيسة فترت «غَيْرَةَ صِبَاكِ، مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ» (إرميا ٢: ٢) والشوق الذي اشتاقته إلى ربها في يوم اقترانها (نشيد الأنشاد ٣: ١ – ٥). أظهر المسيح بذلك أنه فضّل محبتها له على كل شيء وأنه لم يعتبر غيرتها لإكرامه ما لم يكن مؤسساً على محبة القلب. وبولس لما كتب رسالته إلى تلك الكنيسة شكر لله على محبتها لكل القديسين (أفسس ١: ١٥) وشبّه محبتها للمسيح بمحبة الزوجة لزوجها (أفسس ٥: ٢٣ – ٣٣) فمرّ ثلاثون سنة من ذلك الوقت. «فالجيل» الذي كتب إليه بولس كان قد مات. ولعل غيرتها لتعاليم الإنجيل حملتها على الخصومات والجدال فغفلت عن أحوال قلبها فغارت «لصورة الإيمان المسلم مرة للقديسين» وفقدت جوهره الذي هو المحبة. وخمود المحبة يستلزم خمود بقية الفضائل المسيحية لأنها ليست دون المحبة شيئاً (١كورنثوس ١٣: ١ – ٣). والمحبة خلاصة الدين المسيحي والله لا يطلب أكثر منها ولا يكتفي بأقل منها.

٥ «فَٱذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَٱعْمَلِ ٱلأَعْمَالَ ٱلأُولَى، وَإِلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ».

ع ١٦ و٢٢ وص ٣: ٣ و١٩ ع ٢ عبرانيين ١٠: ٣٢ ص ١: ٢ متّى ٥: ١٤ الخ وفيلبي ٢: ١٥

فَٱذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ لعل في هذا إشارة إلى ما جاء في قول النبي «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ ٱلصُّبْحِ» (إشعياء ١٤: ١٢). وهو يذكرنا مثَل المسيح في الابن الضال الذي اشتهى الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله وهو في شديد الجوع وذكر أن الخبز في بيت أبيه كان يفضل عن الخدم (لوقا ١٥: ١٧).

تُبْ، وَٱعْمَلِ ٱلأَعْمَالَ ٱلأُولَى لم يقل للكنيسة ارجعي إلى شعورك الأول بل أمرها بالرجوع إلى أعمالها الأولى التي حملتها المحبة عليها وجعلت لها قيمة. وخلاصة نصيحة المسيح هنا ثلاثة أوامر «أذكر» و «تب» و «اصلح».

وَإِلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا زحزحة منارة الكنيسة يشير إلى انفصال نعمة المسيح عن الكنيسة وتركها لانطفاء نورها كما حدث لها ولأكثر كنائس الشرق فنُقلت البركة عنها إلى كنائس أُخر. فعلينا أن نفرح بأن النور الذي أشرق في موضع لم يَزُل فإن ما خسرته إحدى الكنائس ربحتها الأخرى. فإتيان المسيح الذي أنذر الكنيسة به ليس هو إتيانه لقضاء يوم الدين بل إتيانه لتأديبها على فتورها في الحياة الروحية ومحبتها للعالم. والظاهر إن الكنيسة استفادت من إنذار المسيح المذكور لأن اغناطيوس الشهيد المشهور كتب إلى الكنيسة بعد خمسين سنة من كتابة هذا السفر رسالة مدح فيها أمانتها وثباتها وإنها خلت من التعليم الفاسد. ومما يؤيد إن منارتها لم تتزحزح يومئذ وجود بعض قسوسها في المجمع الثالث سنة ٤٣١ ب. م.

٦ «وَلٰكِنْ عِنْدَكَ هٰذَا: أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ ٱلنُّقُولاَوِيِّينَ ٱلَّتِي أُبْغِضُهَا أَنَا أَيْضاً».

أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ ٱلنُّقُولاَوِيِّينَ الخ لم نعلم من أمر هؤلاء شيئاً بالتحقيق لكن بمقابلة ما قيل هنا بما في (ع ١٤ و١٥) نفهم إن تعاليمهم تشبه تعليم بلعام (عدد ٢٥: ١ – ٩). والظاهر إن أعمالهم كانت مثل أعمال بلعام التي أشار إليها بطرس بقوله «قَدْ تَرَكُوا ٱلطَّرِيقَ ٱلْمُسْتَقِيمَ، فَضَلُّوا تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ» (٢بطرس ٢: ١٥). وإنهم بدلوا حرية الإنجيل بالدعارة (يهوذا ٤). فإنهم أغروا المؤمنين بالولائم في الهياكل الوثنية وتناول لحم الذبائح المقدمة للأوثان واقتراف الفواحش المقترنة بها في تلك الهياكل وتلك الولائم. ذهب بعضهم إلى أن النقولايين تلاميذ نقولاوس الأنطاكي الذي مُدح في (أعمال ٦: ٣ – ٥) لكن لا دليل على أنه ارتدّ عن الإيمان وأنه قاد غيره إلى الضلال فالأرجح أنهم فرع من الغنوسيين الذين نشأوا في تلك الأيام. فما استحقت كنيسة أفسس المدح عليه أنها أبغضت التعاليم والأعمال التي أبغضها المسيح.

٧ «مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ ٱللهِ».

ع ١١ و١٧ و٢٩ وص ٣: ٦ و١٣ و٢٢ و١٣: ٩ متّى ١١: ١٥ وص ٢١: ٧ و٢٢: ٢ و١٤ وتكوين ٢: ٩ أمثال ٣: ١٨ و١١: ٣٠ و١٣: ١٢ و١٥: ٤ حزقيال ٣١: ٨ لوقا ٢٣: ٤٣

مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ هذه العبارة ذُكرت في كل من الرسائل السبع إلا أنها سبقت الوعد في ثلاث منها وتلته في أربع وهي كقول المسيح لتلاميذه وهو على الأرض في الجسد (متّى ١١: ١٥ و٩). وليس المراد «بالأذن» هنا الأذن الجسدية بل الأذن الروحية التي فتحها الله (تثنية ٢٩: ٤ وإشعياء ٥٠: ٤ و٥). وفتح هذه الأذن يشتمل على فتح القلب لكي يصغي صاحبها إلى الحق (أعمال ١٦: ١٤). «والسمع» هنا يشتمل على الإصغاء الاختياري والرغبة في إدراك المسموع وإطاعته. إن المتكلم هنا هو المسيح لكنه قال «الذي يقوله الروح» والذي قاله لم يوجه إلى كنيسة أفسس وحدها بل إلى الكنائس السبع وكنيسة المسيح الجامعة. فكأنه قال الذي يقوله الروح لواحد من المؤمنين يقوله للجميع.

مَنْ يَغْلِبُ قال المسيح لتلاميذه قيل أن بذل نفسه للموت عنهم وعن كل شعبه «أَنَا قَدْ غَلَبْتُ ٱلْعَالَمَ» (يوحنا ١٦: ٣٣). فإنه غلب من أجلهم وهو يهب لهم القدرة ليغلبوا. وإن من مجد الأحداث الذين كانوا أمناء للمسيح أنهم «قد غلبوا الشرير» (١يوحنا ٢: ١٤ و١٥). وقيل إن المولود من الله يغلب العالم «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (١يوحنا ٥: ٤ و٥). وذكرت «الغلبة الروحية» بلفظها أو بما يشتق منها في مكتوبات يوحنا عشرين مرة. والسبيل الذي غلب فيه مؤمنو أفسس العالم عدم الانجذاب إلى لذّاته فإنهم امتنعوا عن أكل الذبائح المقدمة للأوثان واللذات المحظورة المقترنة بالعبادة الوثنية فنالوا الجزاء الموافق لذلك وهو أن يأكلوا من ثمر شجرة الحياة ويقتضي الانتصار على العالم جهاداً شديداً.

فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ الخ هذا الوعد في آخر أسفار الكتاب المقدس مبني على ما قيل في أولها (تكوين ٢: ٩) ويظهر أن البركة التي فقدها الإنسان بعصيانه لله (تكوين ٣: ٢٤) وجدها المسيح لأنه هو الذي قال «فسأعطيه». والوعد هنا يذكرنا وعد المسيح للص الذي صُلب على أحد جانبيه وهو قوله له «إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا ٢٣: ٤٣). ذُكرت شجرة الحياة في سفر الأمثال بقوله في الحكمة «هِيَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ لِمُمْسِكِيهَا» (أمثال ٣: ١٨) وقوله «ثَمَرُ ٱلصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ» (أمثال ١١: ٣٠) و «هُدُوءُ ٱللِّسَانِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ» (أمثال ١٥: ٤). وهذه الشجرة رمز إلى الحياة الأبدية التي قال فيها المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا ١٧: ٣). والمراد بالأكل من تلك الشجرة هو الاشتراك في تلك الحياة.

٨ «وَٱكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ سِمِيرْنَا: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، ٱلَّذِي كَانَ مَيْتاً فَعَاشَ».

ص ١: ١١ و١٧ و١٨

سِمِيرْنَا تُعرف اليوم بإزمير وكانت قديماً قصبة إيونيا وهي شمالي أفسس وكانت من أكبر مدن أسيا الصغرى وأجملها وأغناها. واشتهرت بالتجارة وبعبادة باخوس قديماً وكان أسقفها بوليكربوس الشهيد السنة ١٥٦ ب. م ولم تُذكر في سفر أعمال الرسل ولا في رسائل بولس والمرجّح أن بولس أو أحد رفقائه أسس الكنيسة فيها مدة إقامته في أفسس.

ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، ٱلَّذِي كَانَ مَيْتاً فَعَاشَ هذا مأخوذ من (ص ١: ١٧ و١٨). كانت كنيسة أفسس عرضة لأشد الاضطهادات ولذلك أعلن المسيح نفسه لها بطريق تتعزى به ويتشدد المجربون فيها. ولم يكونوا تابعي رئيس طائفة أرضي بل الذي اسمه أعظم من أسماء كل ملوك الأرض. فالمسيح أظهر قدرته على الموت بقيامته منه وحياته بعده (عبرانيين ٧: ٣ و١٣: ٨) وإنه أهل لأن يكون مخلّصاً وملكاً لهم.

٩ «أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ وَضِيْقَتَكَ، وَفَقْرَكَ (مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ) وَتَجْدِيفَ ٱلْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ ٱلشَّيْطَانِ».

ص ١: ٩ و٢كورنثوس ٦: ١٠ و٨: ٩ ويعقوب ٢: ٥ ص ٣: ٩ ع ١٣ و٢٤ متّى ٤: ١٠

أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ (انظر تفسير ع ٢).

وَضِيْقَتَكَ، وَفَقْرَكَ اضطهاد اليهود والأمم لمؤمني سميرنا منعهم من أن يعملوا لتحصيل قوام المعاش ومن ذلك الاضطهاد سجن بعضهم وسلب أموالهم فنشأ عن ذلك أن افتقروا فكان الفقر نتيجة الضيقة (أعمال ٢٠: ٢٣ و١تسالونيكي ٣: ٤ وعبرانيين ١٠: ٣٤ و١١: ٣٧).

مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ حساب المسيح في الفقر والغنى غير حساب العالم فإن مؤمني سميرنا كانوا أغنياء في النعمة (رومية ٨: ٣٢ وكولوسي ٢: ٣ و١تيموثاوس ٦: ١٨). ولهم «كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ» (متّى ٦: ٢٠ ولوقا ١٢: ٢١). وهذا يوافق قول يعقوب «ٱخْتَارَ ٱللهُ فُقَرَاءَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي ٱلإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟» (يعقوب ٢: ٥).

وَتَجْدِيفَ ٱلْقَائِلِينَ كان معظم هذا التجديف تعييرهم المؤمنين فإن المسيحيين حين كانوا يدخلون مجمع اليهود يسمعونهم يلقبونهم بالناصريين والجليليين وأتباع المصلوب لأنهم اعترفوا باسم المسيح ويسمعونهم يجدفون على ذلك الاسم الحسن الذي دُعي به عليهم (يعقوب ٢: ٧).

إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ ٱلشَّيْطَانِ إنهم كانوا يهوداً بمجرد الاسم والنسب لكنهم لم يكونوا آل إسرائيل بالحق فكانت شرورهم شرور الفريسيين الذين وبخهم المسيح. وأظهروا أنهم كانوا من «مجمع الشيطان» بما فيهم من روح الكبرياء والبغض والكفر. وكان مثل هؤلاء اليهود هم المتقدمون في اضطهاد المسيحيين وقيل أنه في وقت استشهاد بوليكربوس في سميرنا سبق اليهود غيرهم إلى إعداد الوقود لإحراقه حياً.

١٠ «لاَ تَخَفِ ٱلْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضاً مِنْكُمْ فِي ٱلسِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ».

ص ٣: ١٠ و٣: ١٤ دانيال ١: ١٢ و١٤ ع ١٣ وص ١٧: ١٤ ص ١٢: ١١ و١كورنثوس ٩: ٢٥ وص ٣: ١١

لاَ تَخَفِ ٱلْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ هذا يدل أنه يجب عليهم أن يحتملوا الاضطهاد وموجة بعد موجة من المصائب. المسيح لم يخف عن تلاميذه المصاعب والأخطار التي تقتضيها خدمته وأنبأهم بأنهم «يكونون مبغضين من أجل اسمه» (متّى ١٠: ١٦ – ٢١ ويوحنا ١٦: ٢١). ونسب ضيقتهم إلى علتها وهي الشيطان الذي هيّج بغض الناس واضطهادهم لهم فهو أصل الافتراء والتجديف المذكور على وفق معنى اسمه «المشتكي».

هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضاً مِنْكُمْ فِي ٱلسِّجْنِ أي يتخذ الوسائل إلى أن يجعل الحكام الوثنيين يصدقون ما يُفترى به عليهم ويسجنونهم. واقتصر على السجن من كل أنواع الاضطهاد وهي كثيرة.

لِكَيْ تُجَرَّبُوا هذا ليس امتحان الرب بل ما ينشأ من اجتهاد الشيطان ليحمل المسيحيين على الارتداد عن المسيح وعلى إنكار اسمه (متّى ٤: ١ و١كورنثوس ١٠: ١٤ و١تسالونيكي ٣: ٥).

وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لم يقصد المسيح بهذه الأيام عشرة أيام حقيقية ولا عشرة سنين ولا عشرة اضطهادات. فالعدد رمزي يدل على وقت قصير محدود كما يتضح من (تكوين ٢٤: ٥٥ وعدد ١١: ١٩ و١صموئيل ١: ٨ وأيوب ١٩: ٣ ودانيال ١: ١٢ وأعمال ٢٥: ٦). ودل على قصر الوقت أيضاً تعبيره عنه بالأيام لا بالسنين.

كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ أي اثبت على الأمانة مستعداً أن تختم شهادتك للمسيح بدمك إذا اقتضت الحال (متّى ١٠: ٢٢ و٢٤: ١٣ وفيلبي ٢: ٨). وهذا يتضمن ما يزيد على الأمانة مدة الحياة. ومثال المعنى المقصود أمانة بوليكربوس فإنه حين أُتي به ومثل في حضرة الوالي الروماني أمره الوالي بأن ينكر المسيح فقال «ستاً وثمانين سنة اتبعته ولم أجد منه سوى الخير فهل أنكره الآن».

فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ أي الحياة الأبدية وهذا إكليل الملك لا إكليل المجاهد في الملاعب اليونانية (ص ٤: ٤ و٥: ١٠). وهو إكليل الرب يسوع نفسه (ص ١٤: ١٤). قال بولس إنه «إكليل البر» (٢تيموثاوس ٤: ٨) وقال بطرس إنه «إكليل المجد» (١بطرس ٥: ٤) وقال إشعياء إنه «إكليل جمال» و «تاج ملكي» (إشعياء ٦٢: ٣).

١١ « مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَلاَ يُؤْذِيهِ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي».

ص ٢٠: ٦ و١٤ و٢١: ٨

مَنْ لَهُ أُذُنٌ (انظر تفسير ع ٧).

مَنْ يَغْلِبُ (انظر تفسير ع ٧).

فَلاَ يُؤْذِيهِ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي المراد «بالموت الثاني» الموت الذي بعد الدينونة (ص ٢٠: ٦ و١٤ و٢١: ٨). فإنه كما تكون حياة غير الحياة الجسدية كذلك يكون للأشرار موت غير الموت الجسدي. وكان الوعد لكنيسة سميرنا أن لا تكون سلطة للموت الثاني عليها وكانت هذه الكنيسة عرضة للاضطهاد وللموت الجسدي لكن المسيح أكد لها هنا أنها لا تكون عرضة للموت الذي يمكنه أن يعتري النفس وهو الانفصال عن الله أبداً.

١٢ «وَٱكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي بَرْغَامُسَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلَّذِي لَهُ ٱلسَّيْفُ ٱلْمَاضِي ذُو ٱلْحَدَّيْنِ».

ص ١: ١١ و١٦

مَلاَكِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي بَرْغَامُسَ رأى يوحنا في رؤياه المسيح يخاطب الملاك كأنه يخاطب الكنيسة. وكانت برغامس قصبة مملكة أتالوس الثاني الذي عند موته أوصى بملكه للمملكة الرومانية. واشتهرت هذه المدينة بمكتبتها العظيمة وبهياكلها هيكل زفس وهيكل مينرفا المعروفة بأثينا وهيكل أبلّو وعبادة أسكولاب إله الطب.

ٱلَّذِي لَهُ ٱلسَّيْفُ ٱلْمَاضِي ذُو ٱلْحَدَّيْنِ (انظر تفسير ص ١: ١٦).

١٣ «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ ٱلشَّيْطَانِ، وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِٱسْمِي وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي حَتَّى فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا كَانَ أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي ٱلأَمِينُ ٱلَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ حَيْثُ ٱلشَّيْطَانُ يَسْكُنُ».

ص ١٤: ١٢ و١تيموثاوس ٥: ٨ ص ١: ٥ و١١: ٣ و١٧: ٦ وأعمال ٢٢: ٢٠ ع ٩

أَنَا عَارِف، أَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ ٱلشَّيْطَانِ عرف المسيح الصعوبات الخاصة والمخاطر المحيطة بكنيسة برغامس وهذه المعرفة استلزمت أنه مستعد أن يحميها من تلك المخاطر وأن يمنحها نعمة وقوة على احتمالها إذا وقعت عليها. ولا نعلم بماذا امتازت عن غيرها من المدن الوثنية حتى استحقت أن تُحسب كرسي مملكة الشيطان المظلمة. ظن بعضهم أن علة ذلك المعجزات الكاذبة المنسوبة إلى هيكل أسكولاب إله الطب لكن لم يتضح أن ذلك سبب كاف لأن تُحسب كذلك. الذي يتضح من هذا أن أهلها كانوا عبيد سلطان الظلمة اختياراً وإنهم بذلوا الجهد في مقاومة ملكوت المسيح واضطهاد تلاميذه.

وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِٱسْمِي يظهر من هذا أن كثيرين من أعضاء الكنيسة بقوا ثابتين في الإيمان إلى حد أوجب لهم المدح مع أنه لم يذكر من أسماء الذين جاهدوا حتى الموت سوى واحد.

أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي ٱلأَمِينُ هذا الشخص لم يُذكر إلا هنا ممن ختموا شهادتهم للمسيح بدمائهم ويكفي أن المسيح مدحه فحقق لنا أنه لم يكن منسياً في الجنود الإلهية.

١٤، ١٥ «١٤ وَلٰكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّ عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْماً مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ، ٱلَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ بَالاَقَ أَنْ يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا. ١٥ هٰكَذَا عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضاً قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِتَعَالِيمِ ٱلنُّقُولاَوِيِّينَ ٱلَّذِي أُبْغِضُهُ».

ع ٢٠ و٢بطرس ٢: ١٥ وأعمال ١٥: ٢٩ و١كورنثوس ١٠: ٢٠

بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ المرجح أن النقولايين المذكورين في (ع ٦ و١٥) هم الذين تمسكوا بتعليم بلعام. ويعرف نوع التجربة التي كانت في تعليمهم مما قيل في (عدد ٢٥: ١ – ٩ و٣١: ١٥ و١٦) ومن هناك نعلم أن بلعام حين منعه الله من أن يلعن إسرائيل علّم بالاق كيف يجعل الإسرائيليين يخطأون حتى يغضب الله عليهم ويهلكهم. وعدم ذكر موسى أن بلعام علم بالاق أن يجعل النساء المؤابيات عثرة للإسرائيليين لا ينفي ما قيل هنا من توسط بلعام. ولا بد من أن الشيطان كان هو المقدم في وضع المعاثر في طريق الناس ليسقطوا بها إلى الهلاك لكنه يستخدم لذلك أشرار الناس من رجال ونساء كما استخدم بلعام وبنات مؤاب ويربعام وإيزابل وأمثالهم لإجراء مقاصده الشريرة. إن متنصري اليهود في كنيسة برغامس لم يكونوا عرضة للسقوط في التجربة المذكورة هنا لأن تربيتهم علّمتهم أن يكرهوا كل ما يُستعمل في العبادة الوثنية (عدد ٢٥: ٢ ومزمور ١٠٦: ٢٨ ودانيال ١: ٨) ولكن متنصري الأمم كانوا على خلاف ذلك فاعترفوا بوجوب الامتناع عن الاشتراك في عبادة الأوثان جهاراً لكنهم لم يروا أنهم مكلفون بالامتناع عن أكل ما ذُبح للأوثان لأن ذلك يستلزم انفصالهم عن كل الولائم الجمهورية والشخصية لأنه يندر أن يُباع في السوق لحم لم يُقدم للأوثان أولاً فإن الفقراء من عبدة الأوثان كانوا بعد تقديم جزء منها على المذبح يبيعون ما بقي. وكان الكهنة يبيعون أنصبتهم من اللحم فإذا امتنع اليهود أن يبيعوا ما ذبحوه لم يبق للمتنصرين أن يأكلوا لحماً. حكم المجمع في أورشليم بضرورية امتناع متنصري الأمم عن نجاسات الأوثان أي أكل لحم ما ذُبح للأصنام (أعمال ١٥: ٢٠ و٢٩). واضطر بولس أن يكتب إلى مسيحيي كورنثوس في ما يجب عليهم في هذا الأمر (١كورنثوس ٨: ١٠ و١٠: ٢٥ و٢٧). ونرى من ذلك كيف كانت أسباب العثرات تحدث في برغامس بين الذين لم يعتبروا الوثن شيئاً ولكنهم خافوا أن يُحسبوا شركاء الشياطين إذا أكلوا ما يُباع في السوق (١كورنثوس ١٠: ٢٠) والخلاصة أنه كان في كنيسة برغامس من النقولاويين الذين أشبهوا بلعام في كونه قد جرّب بني إسرائيل لكي يخطأوا.

١٦ «فَتُبْ وَإِلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعاً وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي».

ع ٥ ص ٢٢: ٧ و٢٠ ص ١: ٢٦ و٢تسالونيكي ٢: ٨

فَتُبْ وَإِلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعاً هذا مثل ما أنذر به كنيسة أفسس (ع ٥).

وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي أي أنه يعاقب النقولاويين الذين في الكنيسة. وليس في هذا إشارة إلى السيف الذي كان في يد الملاك الذي اعترض بلعام. والأرجح أن معنى هذا السيف أن الله يقيم منهم مبشرين أمناء وأن كلامه يكون في أفواههم كسيف ماض ليفصلهم عن ضلالهم المهلك.

١٧ «مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ ٱلْمَنِّ ٱلْمُخْفَى، وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى ٱلْحَصَاةِ ٱسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ ٱلَّذِي يَأْخُذُ».

ع ٧ يوحنا ٦: ٤٩ و٥٠ إشعياء ٥٦: ٥ و٦٢: ٢ و٦٥: ١٥ ص ١٩: ١٢ ص ١٤: ٣

أَنْ يَأْكُلَ مِنَ ٱلْمَنِّ ٱلْمُخْفَى سمع يوحنا من فم المسيح ما قاله في أنه «الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يوحنا ٦: ٥١) وقابل ذلك بالمن الذي أكله بنو إسرائيل في البرية ثم ماتوا. إن المسيح هو خبز الحياة المرموز إليه بالمن الذي أكله الإسرائيليون في البرية وهذا الخبز «إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا ٦: ٣٣ و٥٠ و٥١). وهو مخفى عنا الآن كما أُخفي قسط المن في قدس الأقداس أمام الشهادة (خروج ١٦: ٣٤). وفي هذا إشارة إلى كون ينبوع الحياة المسيحية مخفى عن العالم (كولوسي ٣: ٣) فالمؤمنون بالمسيح يقتاتون به بالإيمان وينالون البركات غير المنظورة من النعمة والمحبة الإلهية. ولم يكن المسيح مخفى عن شعبه إلى الأبد فإنه سوف يُعلن نفسه لهم فيرونه كما هو ويتغيرون إلى صورته (١يوحنا ٣: ٢). فأكل المن السماوي هذا والتغيّر إلى صورة المسيح هو ثواب الذين يمتنعون من أكل ما ذُبح للأوثان.

وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ اللون الأبيض يُكنى به عن الطهارة ويُنسب إلى أشياء كثيرة في السماء من ذلك القول في ابن الله إن «رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ فَأَبْيَضَانِ كَٱلصُّوفِ ٱلأَبْيَضِ كَٱلثَّلْجِ» (ص ١: ١٤). و «الثياب البيض» (ص ٣: ٥). و «السحابة البيضاء» (ص ١٤: ١٤). و «الخيل البيض والبَزّ الأبيض» (ص ١٩: ١١ و١٤). و «العرش الأبيض» (ص ٢٠: ١١).

ذهب بعضهم أنه أراد بالحصاة الحصاة البيضاء التي كان يلقيها القضاة السياسيون من الرومانيين واليونانيين في الاقتراع لتبرئة المتهم كما أن إلقاءهم الحصاة السوداء كان بياناً لتخطئته والحكم عليه. ويبطل هذا الرأي أن تلك الحصاة لم تكن تُعطى المبرّأ ولم يكن مكتوباً عليها شيء. وذهب بعضهم إلى أنها أحد الحجارة الكريمة التي كانت توضع على الأوريم والتميم في صدرة الحبر الأعظم حين يدخل قدس الأقداس (خروج ٢٨: ١٥ – ٣٠). وظن غيرهم أنها علامة الصداقة يُعطاها الصديق بياناً أن له حق الضيافة والمساعدة على تحصيل ما يحتاج إليه ويقول غيرهم أنها إشارة إلى حصاة بيضاء يعطاها الغالب في المبارزة بالسيف مكتوب عليها اسمه واسم معلمه وتاريخ المبارزة. ولا نعلم يقيناً ما المراد منها إلا أننا نعلم أنها هنا آية رضى الله ونعمته الخاصة.

وَعَلَى ٱلْحَصَاةِ ٱسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ كما وُصفت السماويات بأنها بيضاء وُصفت كذلك بأنها جديدة لأن مُعلن هذا السفر قال إنه يجدد كل ما هو عتيق وفانٍ بسببب الخطيئة وأنه يصنع كل شيء جديداً (ص ٢١: ٥). ومن ذلك «الاسم الجديد» و «أورشليم الجديدة» (ص ٣: ١٢). و «الترنيمة الجديدة» (ص ٥: ٩) و «السماء الجديدة» (ص ٢١: ١).

أٰعطاه الله اسماً جديداً للمحبوب في الكتاب المقدس علامة دخوله حياة السعادة في المستقبل. ويقترن هذا الإعطاء غالباً بوعد يتكفل له بخير جزيل. ومن أمثلة ذلك ما كان لأبرام ويعقوب بتسمية الله للأول إبراهيم وللثاني إسرائيل. ومثل ما كان لأورشليم بأن سُميت بعد أن كانت مهجورة موحشة «حفصيبة» (إشعياء ٦٢: ٤). وكما كان لسمعان بن يونا بأن سُمي «بطرس». ويوحنا ويعقوب بأن سُميا «ابني الرعد». فإعطاء الاسم الجديد يشير إلى حياة جديدة أسمى من الحياة القديمة وإلى صفات أسمى من الصفات الأولى. فالاسم الجديد هنا يدل على سمو مقام الغالب في الجهاد الروحي وصفاته المجيدة وفرحه العظيم في أورشليم الجديدة.

لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ ٱلَّذِي يَأْخُذُ المراد بهذا أن المؤمن تتغير طبيعته وتكمل على وفق ذلك الاسم الجديد ولا يعرف ذلك إلا هو بواسطة شعوره على حد قول الحكيم «اَلْقَلْبُ يَعْرِفُ مَرَارَةَ نَفْسِهِ، وَبِفَرَحِهِ لاَ يُشَارِكُهُ غَرِيبٌ» (أمثال ١٤: ١٠). فيحصل المؤمن بجهاده مع العالم وانتصاره عليه على التقدم في القوة والإيمان والمحبة والنمو في الصبر والرجاء ثمر احتماله الضيقات. فكل هذه الفضائل يتصف بها روحه الباطن ولا يعرف العالم ذلك.

١٨ «وَٱكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي ثِيَاتِيرَا: هٰذَا يَقُولُهُ ٱبْنُ ٱللهِ، ٱلَّذِي لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَرِجْلاَهُ مِثْلُ ٱلنُّحَاسِ ٱلنَّقِيِّ».

ع ٢٤ ص ١: ١١ متّى ٤: ٣ ص ١: ١٤ و١٥

ثِيَاتِيرَا هي مدينة بين برغامس وساردس بناها مهاجرون مكدونيون من جنود اسكندر الكبير في نحو السنة ٣٠٠ ق. م وهي مشهورة بعبادة أبلّو إله الشمس وعُرف عندهم بتيرنُّس واشتهرت بتجارة الأرجوان ووجود ليدية بائعة الأرجوان إحدى نساء ثياتيرا في فيلبي دليل واضح على الاتصال بين المدينتين (أعمال ١٦: ١٤).

لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَرِجْلاَهُ مِثْلُ ٱلنُّحَاسِ ٱلنَّقِيِّ الصفات التي تُنسب إلى المسيح هنا مأخوذة من مظهره في (ص ١: ١٤ و١٥) إلا أنه دُعي هنا «ابن الله» إشارة إلى لاهوته بدلاً من دعوته هناك «ابن الإنسان» إشارة إلى ناسوته. وما قيل هنا يوافق ما قيل فيه في المزمور الثاني. والآية الثامنة هناك كالآية السادسة والعشرين هنا. والآية التاسعة هناك كالآية السابعة والعشرين هنا. وتلك الصفات مناسبة لخطابه الذي أظهر به سلطانه المطلق وشدته. فكون عينيه «كلهيب نار» يدل على أنه «فاحص الكلي والقلوب» (ع ٢٣). وكون «رجليه كنحاس نقي» يدل على أنه «يسحق أعداءه كآنية الخزف».

١٩ «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّ أَعْمَالَكَ ٱلأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأُولَى».

ع ٢

أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ خصّ المسيح بالمدح هنا زوجين من الفضائل وهو يصف أعمال هذه الكنيسة الزوج الأول المحبة والخدمة التي هي علامة تلك المحبة (أعمال ١١: ٢٩ و١كورنثوس ١٦: ١٥ وعبرانيين ٦: ١٠). والزوج الثاني الإيمان والصبر الذي هو دليل على صحة الإيمان. وذكر الإنجيل أن الإيمان مصدر الصبر أبداً (رومية ٢: ٧ وعبرانيين ١١: ٢٧).

وَأَنَّ أَعْمَالَكَ ٱلأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأُولَى تقدم مؤمنو ثياتيرا في خدمة المحبة وصبر الإيمان والأعمال التي تظهر هذه الفضائل وبهذا النمو نالوا مدح سيدهم وفي ذلك امتازوا عن كنيسة أفسس التي تركت محبتها الأولى (ع ٤) واختلفت صفاتها كل الاختلاف عما ذكره بطرس من الذين «صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ» (٢بطرس ٢: ٢٠).

٢٠ «لٰكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّكَ تُسَيِّبُ ٱلْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ ٱلَّتِي تَقُولُ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ، حَتَّى تُعَلِّمَ وَتُغْوِيَ عَبِيدِي أَنْ يَزْنُوا وَيَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ».

ع ١٤ و١ملوك ١٦: ٣١ و٢١: ٢٥ و٢ملوك ٩: ٧ وأعمال ١٥: ٢٩ و١كورنثوس ١٠: ٢٠

لٰكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّكَ تُسَيِّبُ ٱلْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ أي تركتها تسيب حيث شاءت بلا ردع ولا تأديب. فتبيّن من هذا أنه لم يكن لتلك الكنيسة الاعتناء بحفظ التعليم الصحيح كما يجب ولا الغيرة الواجبة لإجراء التأديب فاختلفت في ذلك عن كنيسة أفسس التي غارت للحق وفترت في المحبة. وما قصده بإيزابل هنا يتضح من نبإها في (١ملوك ١٦: ٣١). كانت إيزابل بنت اثبعل ملك صيدون كاهن عشتروت. قتل الملك فيلبس وملك مكانه. وقبل أن صارت زوجة آخاب كان أسباط إسرائيل العشرة يعبدون الله بواسطة عجلين من ذهب على سنن شريعة موسى فمزجوا عبادة الله الروحية بالعبادة المصرية الوثنية ولكنها حين صارت زوجة لآخاب أظهرت أشد البغض لأنبياء الله وسعت في قتلهم جميعاً (١ملوك ١٨: ١٣) واستئصال عبادة الله من المملكة فهي نبية كاذبة كما يظهر من جواب ياهو لقول يهورام «أسلام يا ياهو» وهو قوله «أي سلام ما دام زنا إيزابل أمك وسحرها الكثير». فكما أن بلعام أدخل قبل ذلك في إسرائيل عبادة الأوثان وما يقترن بها من أعمال النجاسة كذلك فعلت إيزابل بعد خمس مئة سنة وخمسين سنة من ذلك. وكذا فعلت امرأة شريرة في كنيسة ثياتيرا إذ اقتفت خطوات إيزابل واستحقت أن تُسمى باسمها. فادعت أنها نبية وأنه يوحى إليها وهي تعلّم تعليم الشيطان وتُغري عبيد المسيح بالزنى وأكل ما ذُبح للأوثان (ع ١٤). والمرجّح أن الذين دُعوا أتباع إيزابل هنا وأتباع بلعام والنقولاويين هم واحد فإنهم نفوا وجوب حفظ الشريعة الأدبية لظنهم أن المسيح حرّرهم منها وارتكبوا أفظع الخطايا وهم يدّعون أعظم القداسة.

ويظهر لنا أنه كيف بلغت هذه المرأة مقام النبية في كنيسة ثياتيرا مما في نبوءة يوئيل وهو قوله ما معناه أن الروح القدس يُسكب على الإماء كما على العبيد وإن البنات تتنبأ كالشبان. وقول بطرس إن تلك النبوءة نجزت في أيامه. ونرى أن وثني فيلبي اعتقدوا أن المرأة التي فيها الروح النجس كان فيها روح العرافة (أعمال ١٦: ١٦). وأن بعض النساء تنبأن في كنيسة كورنثوس ورؤوسهن مكشوفة (١كورنثوس ١١: ٥ – ١٠) حتى اضطر بولس أن يسن على النساء السكوت في الكنيسة (١كورنثوس ١٤: ٣٤ و٣٥) وأمر تيموثاوس أن يجري تلك السنة في كنائس أسيا (١تيموثاوس ٢: ١١ و١٢) وورد في بعض النسخ القديمة «امرأتك إيزابل» ويقول بعض المفسرين إن الكلام مجاز والمعنى أنه كان في كنيسة ثياتيرا قوم علموا التعليم الفاسد وعملوا الأعمال الفاسدة وكانت نسبتهم إلى الكنيسة كنسبة امرأة زانية إلى رجلها الذي لا يردعها بل يسيبها وملاك الكنيسة هو الكنيسة كما ذُكر في تفسير (١: ٢٠).

٢١ «وَأَعْطَيْتُهَا زَمَاناً لِكَيْ تَتُوبَ عَنْ زِنَاهَا وَلَمْ تَتُبْ».

رومية ٢: ٤ و٥ وص ٩: ٢٠ و١٥: ٩ و١١ و٢بطرس ٣: ٩

وَأَعْطَيْتُهَا زَمَاناً لِكَيْ تَتُوبَ الخ طلب المسيح أن تتوب وأن تُظهر صحة توبتها بإصلاح سيرتها لكنها اعتبرت بطوء الله عن عقابها دليلاً على أنه لا يعاقبها (مزمور ١٠: ٦ وجامعة ٨: ١١ وإشعياء ٢٦: ١٠) وحقق المسيح لها أن ذلك البطوء ليس إلا فرصة لها لكي تتوب (رومية ٢: ٤ و٢بطرس ٣: ٩).

٢٢ «هَا أَنَا أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ، وَٱلَّذِينَ يَزْنُونَ مَعَهَا فِي ضِيقَةٍ عَظِيمَةٍ، إِنْ كَانُوا لاَ يَتُوبُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ».

ص ١٧: ٢ و١٨: ٩

هَا أَنَا أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ كما أسلم بولس الإنسان الزاني في كورنثوس إلى الشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح (١كورنثوس ٥: ٥). وكما مرض الذين تهاونوا بالعشاء الربي وماتوا كذلك أنذر المسيح مذنبي برغامس بأنه يعاقبهم بنتائج إثمهم الطبيعية وذلك بأن يكون فراش اللذات المحظورة مضجع الآلام والأمراض والموت.

وَٱلَّذِينَ يَزْنُونَ مَعَهَا فِي ضِيقَةٍ عَظِيمَةٍ المراد «بالذين يزنون معها» شركاء آثامها الذين يؤيدونها بالفعل أو بالسكوت عنها. وأنذرهم المسيح بالبلاء الشديد.

٢٣ «وَأَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بِٱلْمَوْتِ. فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ ٱلْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ ٱلْفَاحِصُ ٱلْكُلَى وَٱلْقُلُوبِ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ».

مزمور ٧: ٩ و٢٦: ٢ و١٣٩: ١ وإرميا ١١: ٢٠ و١٧: ١٠ لوقا ١٦: ١٥ وأعمال ١: ٢٤ ورومية ٨: ٢٧ متّى ١٦: ٢٧

وَأَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بِٱلْمَوْتِ أنذر تابعيها وتلاميذها بالموت.

فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ ٱلْكَنَائِسِ في كل العالم إلى نهاية الزمن فتتحقق أن موتهم نتيجة خطيئتهم فيكونون عبرة لغيرهم (عدد ١٦: ٢٩) وإن «اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ» (غلاطية ٦: ٧) وأنه يفحص الكلي (باعتبار كونها مركز الشهوات الجسدية مزمور ٧: ٩ و١٣٩: ١ وإرميا ١١: ٢٠) والقلب (باعتبار كونه مركز العواطف ١صموئيل ١٦: ٧ و١ملوك ٨: ٣٩) وهذا يبرهن صحة دعوى المسيح أنه «ابن الله».

وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ (مزمور ٦٢: ١٢ وأمثال ٢٤: ١٢ ومتّى ١٦: ٢٧ ورومية ٢: ٦).

٢٤ «وَلٰكِنَّنِي أَقُولُ لَكُمْ وَلِلْبَاقِينَ فِي ثِيَاتِيرَا، كُلِّ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ، وَٱلَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا أَعْمَاقَ ٱلشَّيْطَانِ، كَمَا يَقُولُونَ، إِنِّي لاَ أُلْقِي عَلَيْكُمْ ثِقْلاً آخَرَ».

أعمال ١٥: ٢٨ و١كورنثوس ٢: ١٠

وَلِلْبَاقِينَ فِي ثِيَاتِيرَا أي الذين اعتزلوا إيزابل ولم يشتركوا في أعمالها. المسيح حوّل نظره عن الجزء الأكبر من أعضاء الكنيسة ووجّه كلامه إلى الجزء الأصغر.

ٱلَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا أَعْمَاقَ ٱلشَّيْطَانِ، كَمَا يَقُولُونَ إن الغنوسيين المبتدعين ادعوا معرفة الأمور الإلهية أكثر من سائر المؤمنين وإنهم أدركوا أعماق أسرار الله إدراكاً خاصاً ولكن المسيح دعا إدراكهم معرفة أعماق الشيطان. زعم الغنوسيين إن الذي يستخف بلذات الجسد ويهرب منها جبان ولكن الذي ذاق تلك اللذات وشبع منها وحفظ مع ذلك طهارة روحه هو الشجاع الظافر لأنه غلب الشيطان في ملكوته. وقالوا أنه من الضروري أن يختبر الإنسان الشر كما يختبر الخير لكي يكون كاملاً. فاستندوا على بعض أقوال بولس بأن الناموس ليس بأصل التبرير ولا واسطة التقديس واستنتجوا من ذلك أن الناموس ليس بقانون حياتهم وحسبوه ثقلاً يحق للمؤمنين أن يرفضوا حمله.

لاَ أُلْقِي عَلَيْكُمْ ثِقْلاً آخَرَ سوى أن ترفضوا تلك التعاليم الفاسدة والأعمال المقترنة بها وتفندوها. وهذا ما أوجبه المجمع الرسولي في أورشليم على متنصري الأمم بقوله «لأَنَّهُ قَدْ رَأَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ، غَيْرَ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْوَاجِبَةِ: أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلزِّنَا» (أعمال ١٥: ٢٨ و٢٩). إن المسيح لم يضع الناموس الأدبي هذا حملاً ثقيلاً يعسر حمله بل حملاً خفيفاً كقوله لرسله (متّى ١١: ٣٠).

٢٥ «وَإِنَّمَا ٱلَّذِي عِنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى أَنْ أَجِيءَ».

ص ٣: ١١ يوحنا ٢١: ٢٢

وَإِنَّمَا ٱلَّذِي عِنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ أي ما لكم من التعليم الصحيح في الدين وما لكم من الرجاء والبركات تمسكوا به بقوة لكي لا يسلبكم أحد إياه.

إِلَى أَنْ أَجِيءَ يرى الإنجيل إن وقت مجيء الرب نهاية الجهاد المسيحي بين الحق والباطل لا وقت موت الإنسان بناء على أن الجهاد جهاد الكنيسة لا جهاد شخصي.

٢٦ «وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى ٱلنِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأُمَمِ».

ع ٧ متّى ١٠: ٢٢ وعبرانيين ٣: ٦ مزمور ٢: ٨ ص ٣: ٢١ و٢٠: ٤

هنا ابتداء وعد المسيح للمؤمنين في الكنيسة ولم يقدم هنا قوله «من له أذن للسمع فليسمع» كما في ما مرّ من الرسائل بل تركه إلى آخر الرسالة.

مَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى ٱلنِّهَايَةِ أعمال المسيح هي ما أوصى به ويسر به فهي أثمار روحه. وهذه الأعمال مثل الأعمال التي أتاها المسيح فتدل على شدة اتحاد المسيح بشعبه. وحفظ هذه الأعمال إلى النهاية هو الأمر الممدوح لا الأخذ فيها ولا إتيانها إلى حين.

فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأُمَمِ يعتبر المسيح أن حقوقه حقوق شعبه هو يملك فهم يملكون أيضاً ويشاركونه في مقامه وسلطانه (ص ٣: ٢١ ورومية ٥: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢) ويتضح ما هو سلطان المؤمنين على الأمم في (ص ٢٠: ٤ و٢٢: ٥ و١كورنثوس ٦: ٢) ولا سيما قول المسيح «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي ٱلتَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ» (متّى ١٩: ٢٨).

٢٧ «فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً مِنْ عِنْدِ أَبِي».

ص ١٢: ٥ و١٩: ١٥ إشعياء ٣٠: ١٤ وإرميا ١٩: ١١

فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ أي يسوسهم وهذا مقتبس من (مزمور ٢: ٩) وذُكر أيضاً في (ص ١٢: ٥ و١٩: ١٥). وأشار «بالقضيب من الحديد» إلى قوة العدل (١كورنثوس ٤: ٢١). وهذه العبارة إنذار لكن في الآية تلميح إلى المحبة. فإظهار القضاء تمهيد لإظهار الرحمة فيرعاهم أولاً بقضيب من حديد لكي يرعاهم بعد بقضيب من ذهب فيسحقهم ليعلموا أنهم بشر حتى يقبلوا متى فصلهم عن كبريائهم وعنادهم نير المسيح الهين «وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ ٱسْمُكَ يَهْوَهُ، وَحْدَكَ ٱلْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ» (مزمور ٨٣: ١٨) وكثيراً ما يحدث أن يكون ضيق أمة وسيلة إلى انخفاض كبريائها فقبولها الإنجيل.

كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ استعمال المسيح «قضيباً من حديد» بدل من صولجان الملوك المعهود يدل على عظمة قوته وأنه قادر على أن يسحق كل مقاوميه كأنهم ليسوا سوى آنية من خزف. وهذا يبين سهولة انتصاره عليهم وإهلاكهم التام إذا قاوموه (إشعياء ٣٠: ١٤ وإرميا ١٩: ١١).

كَمَا أَخَذْتُ مِنْ عِنْدِ أَبِي وعد الشيطان المسيح أن «يعطيه كل ممالك العالم ومجدها» لكنه رفض ذلك بكره لا لأن ذلك لم يكن له بالحق والإرث بل لأنه لم يرد أن يأخذ إلا من يدي أبيه (متّى ٢٨: ١٨) فإنه أخذ ذلك الملك من أبيه ليقوم به ويهبه لعبيده. فالذي وعد به الشيطان كذباً قال المسيح حقاً أنه «يعطيه لمن يشاء» (لوقا ٢٢: ٢٩).

٢٨ «وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ ٱلصُّبْحِ».

ص ٢٢: ١٦ و١يوحنا ٣: ٢

وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ ٱلصُّبْحِ قال المسيح في نفسه أنه هو «كوكب الصبح» (ص ٢٢: ١٦) وبذلك صرّح أن أحسن منظر في الخليقة هو رسم جماله. فبوعده عبيده بأن يعطيهم «كوكب الصبح» وعدهم أن يهب لهم نفسه وأنه يكون هو فخرهم ومجدهم وأنه يجعلهم شركاء جلاله وسلطانه (ص ٣: ٢١) لأن الكوكب كناية عن الملك (متّى ٢: ٢) وكثيراً ما يقترن الكوكب بصولجان الملك بدليل قول بلعام «يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ» (عدد ٢٤: ١٧) فحلية الخليقة المنظورة تكون حلية الكنيسة إذ كانت أمينة لربها.

٢٩ «مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ».

ع ٧

(راجع تفسير ع ٧).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى