فيلبي

الرسالة إلى أهل فيلبي| 03 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى أهل فيلبي 

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ

تحذير من المعلمين المفسدين ع ١ إلى ١٦

١ «أَخِيراً يَا إِخْوَتِي ٱفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ. كِتَابَةُ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ إِلَيْكُمْ لَيْسَتْ عَلَيَّ ثَقِيلَةً، وَأَمَّا لَكُمْ فَهِيَ مُؤَمِّنَةٌ».

٢كورنثوس ٣: ١١ وص ٤: ٤ و١تسالونيكي ٥: ١٦

أَخِيراً اعتاد الرسول أن يبتدئ خاتمة الرسالة بمثل هذه الكلمة (كما فعل في هذه الرسالة أيضاً ص ٤: ٨ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وأفسس ٦: ١٠ و٢تسالونيكي ٣: ١) وإتيانه بها في وسط الرسالة والرجوع إليها عينها في آخرها يشير إلى أنه وصل إليه كتاب أو نبأ حمله على كتابة ما كتبه بعدها هنا كملحق وفيه أظهر ما أظهر ما سبق من مودته لهم لكن أعلن فيه مزيد همه من أجلهم كما تبيّن من تحذيره إياهم.

ٱفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ من الواضح أن بيان وجوب الفرح المسيحي من غايات الرسول من هذه بدليل ما في (ص ١: ١٨ و٢٥ و٢: ١٧ و١٨ و٢٨ و٤: ٤). ويفيد قوله «افرحوا في الرب» إن أساس فرحهم إيمانهم بالمسيح واتحادهم به وتيقنهم أنه غفر خطاياهم وأنقذ نفوسهم من الشيطان والموت الأبدي وإنه رفيقهم في الحياة ومعزيهم عند الموت وأجرهم في السماء. وهذا الفرح لا يستطيع العالم أن يهبه ولا أن ينزعه. والمسيحي بفرحه في الرب يشهد للعالم بجودة دينه وحضور المسيح معه وعظمة تعزيته كما أنه بعبوسه الدائم يشهد بخلاف ذلك.

هٰذِهِ ٱلأُمُورِ يحتمل أنه أراد «بهذه الأمور» ما سبق من دعوته إياهم إلى الفرح أو ما يأتي من تحذيره إياهم من المعلمين الكاذبين. وقوله في آخر الآية «مؤمنة» يرجح الأمر الثاني. نعم إن لم يحذر في ما مر من هذه الرسالة ولا داعي إلى ظن أنه كتب إليهم رسالة أخرى تشتمل على التحذير لكنه لا ريب في أنه حذرهم شفاهاً يوم كان بينهم من المعلمين المتعصبين لناموس موسى حين زارهم أولاً وهو حامل تعليمات مجمع أورشليم إلى سورية وكيليكية في إبطال تعليم أولئك المعلمين (أعمال ١٥: ٤١). ومما يثبت ذلك إنه حين ذهب من فيلبي إلى تسالونيكي هيّج وعظه في أن مؤمني الأمم أحرار من نير الناموس الموسوي غضب اليهود عليه حتى اضطر أن يهرب من المدينة. وحين زارهم ثانية كان قد فرغ من كتابة رسالته إلى غلاطية ورسالته إلى رومية اللتين فيهما فند التعاليم اليهودية ولا ريب في أنه كلمهم حينئذ في ما كان مهتماً به.

لَيْسَتْ عَلَيَّ ثَقِيلَةً، وَأَمَّا لَكُمْ فَهِيَ مُؤَمِّنَةٌ أي أني لا أستثقل تكرير ما سبق من كلامي إذا كنتم لا تزالون تذكرونه وإن كنتم قد نسيتم تحذيري شفاهاً فما أكتبه من التحذير بذكركم إياه ويجعلكم في أمن من الخطر.

٢ «اُنْظُرُوا ٱلْكِلاَبَ. ٱنْظُرُوا فَعَلَةَ ٱلشَّرِّ. ٱنْظُرُوا ٱلْقَطْعَ».

إشعياء ٥٦: ١٠ وغلاطية ٥: ١٥ و٢كورنثوس ١١: ١٣ رومية ٢: ٢٨ وغلاطية ٥: ٢ و١٢

اُنْظُرُوا ٱلْكِلاَبَ أي المعلمين المفسدين وعلة تسميتهم «بالكلاب» كونهم مخاصمين مهيجي الفتن والغضب مسيئين وقحين. ولم يقل ذلك إلا بياناً لعدم رضاه بتعليمهم وسيرتهم كقول المسيح في الفريسيين (متّى ٧: ٦) وتحذيراً للفيلبيين إذا أتوا إليهم.

فَعَلَةَ ٱلشَّرِّ هؤلاء هم الذين سماهم قبل «بالكلاب» وسماهم بعد «بالقطع» وفي موضع آخر «رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ» (٢كورنثوس ١١: ١٣). ودعاهم «فعلة الشر» لأنهم غاروا للناموس ولم يحفظوه حق الحفظ وبذلوا جهدهم في مقاومة المبشرين بالحق وفي هدم ما بنوه.

ٱلْقَطْعَ أي أهله. سماهم بذلك استخفافاً بهم وبتعليمهم لأنهم علموا وجوب الختان ومارسوه ولم يُرد التسليم بأن ما أتوه ختان لأنه لم يكن سوى رسم خارجي خال من المعنى الروحي المرموز إليه بالختان ولذلك لم يكن سوى قطع. ولم يقصد أن يحتقر الختان الذي مارسه أتقياء اليهود (أعمال ١٦: ٣) بل أن يبطل تعليم الذين أضافوا الرسوم الموسوية إلى الإيمان المسيحي وصرّحوا بضرورية الختان للخلاص. والذي سماه هنا «قطعاً» سماه في موضع آخر «ختاناً مصنوعاً باليد في الجسد» (أفسس ٢: ١١) وأبان أن غايتهم من حملهم المؤمنين عليه هو أن يفتخروا بجسدهم (غلاطية ٦: ١٣).

٣ «لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلْخِتَانَ، ٱلَّذِينَ نَعْبُدُ ٱللّٰهَ بِٱلرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَدِ».

تثنية ١٠: ١٦ و٣٠: ٦ وإرميا ٤: ٤ ورومية ٢: ٢٩ و٤: ١١ و١٢ وكولوسي ٢: ١١ يوحنا ٤: ٢٣ و٢٤ ورومية ١: ٩ و٧: ٦ غلاطية ٦: ١٤

لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلْخِتَانَ أي أهل الختان الروحي المرموز إليه بالختان الجسدي. وسمى نفسه وغيره من المؤمنين بالختان لأن إيمانهم كإيمان إبراهيم قبل أن يُختن وسلوكهم كسلوكه فإنهم حين آمنوا حصلوا على ختان القلب المشار إليه بقوله «خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي ٢: ١١) وأنكروا الجسد وشهواته وحصلوا على «َخِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ لاَ بِٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْخِتَانُ، ٱلَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ ٱلنَّاسِ بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (رومية ٢: ٢٩). وهذا يوافق قول الله بلسان موسى «ٱخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ. وَيَخْتِنُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تثنية ١٠: ١٦ و٣٠: ٦). ويبين علّة قول استفانوس لليهود «يَا قُسَاةَ ٱلرِّقَابِ، وَغَيْرَ ٱلْمَخْتُونِينَ بِٱلْقُلُوبِ وَٱلآذَانِ» (أعمال ٧: ٥١).

نَعْبُدُ ٱللّٰهَ بِٱلرُّوحِ أي عبادة قلبية بفعل الروح القدس فينا على وفق قول المسيح للمرأة السامرية «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا ٤: ٢٤). وهذا لا يمنع من العبادة الظاهرة بل يمنع من الاتكال على الرسوم دون العبادة القلبية.

وَنَفْتَخِرُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ بدلاً من أن نفتخر بالرسوم الخارجية كالختان وأمثاله.

وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَدِ أي لا نتخذ الأمور الخارجية في الدين وسيلة إلى الخلاص ولا نعتمد للقبول أمام الله على النسب أو المقام أو حفظ الرسوم من صوم وتقشف وإماتة الجسد وزيارة الأماكن المقدسة. ويشبه تعليم الرسول هنا تعليم يوحنا المعمدان لليهود «َلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى ٣: ٩). ويخالف تعليم المعلمين الذين أشار إليهم في قوله «يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ» وهذا حمله على قوله «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٦: ١٣ و١٤). إن اتكال اليهود في أيام المسيح على خارجيات الدين جعل عبادتهم باطلة ومثلها تكون عبادة المسيحيين إذا اتكلوا على الرسوم الخارجية ولو المعمودية والعشاء الرباني فتكون ديانتهم اسماً لا قوة وملحاً بلا ملوحة (متّى ٥: ١٣ ومرقس ٧: ٧).

٤ «مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ أَيْضاً. إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ فَأَنَا بِٱلأَوْلَى».

٢كورنثوس ١١: ١٨ و٢١

قال بولس هنا ما يذكرنا كلامه (٢كورنثوس ١١: ١٨ – ٢٣) ومنه قوله «أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضاً» ومثله قوله «أَنَا أَيْضاً إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ» (رومية ١١: ١).

مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ إن شئت الاتكال عليه لكن مع كل ذلك أنا من الذين «لا يتكلون على الجسد». شرع أن يقابل نفسه بالمعلمين المفسدين المارّ ذكرهم وأعلن أنه لم يمتنع عن الافتخار بالجسد والاتكال عليه لأنه ليس له ما لهم من أسبابه بل أوضح أنه مع توفر ما له من الامتيازات الخارجية التي لهم تركها جميعها لأنه تحقق أن لا قيمة لها في مسئلة خلاص النفس. قال في الآية الثالثة «نحن الختان» (الروحي) حاسباً أنه واحد من مؤمني فيلبي الذين هم من أصل وثني لكنه في هذه الآية تكلم بالإفراد لأنه كان فضلاً عن كونه مختون القلب مختون الجسد فإذاً له أن يقول أنه معادل لأولئك المعلمين وليس لمؤمني فيلبي أن يقولوا كذلك.

إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ… فَأَنَا بِٱلأَوْلَ كما أبان في الآيات الثلاث الآتية فإنه كانت له كل الامتيازات الممكنة من نسب وتعليم وطائفة والطاعة لرسوم الناس وقد امتحنها كلها فوجدها غير كافية للخلاص.

٥ «مِنْ جِهَةِ ٱلْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ».

تكوين ١٧: ١٢ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ رومية ١١: ١ أعمال ٢٣: ٦ و٢٦: ٤ و٥

مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ على وفق مطاليب الشريعة (تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣ ولوقا ١: ٥٩). وهذا دليل على أنه وُلد يهودياً وأنه ليس بدخيل لأن الدخلاء كانوا يُختنون عند تهودهم وهم بالغون.

مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ أي من نسل يعقوب وهذا برهان على أنه ليس بدخيل وأن لا أحد من أسلافه كان دخيلاً وأنهم كانوا من أبناء الموعد.

مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ الذي كان منه أول ملوك اليهود وهو السبط الذي بقي أميناً مع سبط يهوذا حين ارتد الأسباط العشرة عن الله وافتخر هذا السبط بأن أباهم هو وحده من أولاد يعقوب وُلد في الأرض المقدسة.

عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ أي أنه تكلم باللغة العبرانية (أعمال ٢١: ٤٠ و٢٢: ٢) وتبع عوائد العبرانيين وتعلم عند أقدام أفضل العبرانيين بدليل قوله «أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ، وَلٰكِنْ رَبَيْتُ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ ٱلنَّامُوسِ ٱلأَبَوِيِّ» (أعمال ٢٢: ٣). ويحتمل أن يكون مراده أيضاً أن كلا والديه عبراني.

مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ كما قال في (أعمال ٢٣: ٦ و٢٦: ٥). واشتهر الفريسيون بشدة مراعاتهم للشريعة الموسوية.

٦ «مِنْ جِهَةِ ٱلْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ».

أعمال ٢٢: ٣ وغلاطية ١: ١٣ و١٤ أعمال ٨: ٣ و٩: ١ و١كورنثوس ١٥: ٩ رومية ١٠: ٥ لوقا ١: ٦

أشار في ما سبق من وصفه لنفسه إلى امتيازاته الطبيعية وذكر في هذه الآية الامتيازات الشخصية الاختيارية.

مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ كما يتضح من (أعمال ٩: ١ و٢ و٢٢: ٣ و٤ و٢٦: ١٠ و١١). وعدّ ذلك من أفظع خطاياه (١كورنثوس ١٥: ٨ و٩ و١تيموثاوس ١: ١٣ – ١٦) وعدّه هنا من مواضيع الافتخار بقياس أولئك المعلمين ومقتضى زعمهم.

مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ سمى المسيح هذا البر «بِرّ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ» (متّى ٥: ٢٠). وبمقتضاه كان الرئيس الذي أتى إلى المسيح استطاع أن يقول «هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي» (لوقا ١٨: ٢١). وبولس حفظ الناموس وهو يهودي تمام الحفظ حتى لم يستطع أحد أن يلومه ولم يكن ضميره يؤنبه على التقصير فيه إلا حين علمه روح الله ما يطلبه الناموس الأزلي من البر الذي لا يستطيع بشر أن يكون بمقتضاه بلا لوم (رومية ٧: ٧ – ١٢).

٧ «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً».

متّى ١٣: ٤٤

مَا كَانَ لِي رِبْحاً من كل تلك الامتيازات التي ذكرها وغيرها مما افتخر بها المعلمون المفسدون وكان هو نفسه يفتخر بها قبل هدايته ولو أراد الحق له أن يفتخر بها بعدها وكان يحسب ذلك ربحاً وهو شاول الفريسي الذي لم يكن قد آمن بالمسيح لأنه حسب أنه به كان مستحقاً الثواب السماوي.

فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ أنا بولس المسيحي المؤمن بالمسيح.

مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لنيل الخلاص به لأنه لا يمكنه أن يخلص بالمسيح إلا بأن يترك الاتكال على كل ما سواه بدليل قوله «تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ» (غلاطية ٥: ٤).

خَسَارَةً إنه علاوة على كونه غير نافع لخلاصه كان ضاراً لأنه منعه من الشعور باحتياجات نفسه وبعجزه عن الإنقاذ. ومنعه أيضاً عن الالتجاء إلى المسيح والتوبة عن الخطيئة ومن المصالحة لله فكان له بمنزلة محمول السفينة المشرفة على الغرق الذي يطرحه أربابها في البحر تخفيفاً عن السفينة وتنجية لها من الخطر.

٨ «بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ».

إشعياء ٥٣: ١١ وإرميا ٩: ٢٣ و٢٤ ويوحنا ١٧: ٣ و١كورنثوس ٢: ٢ وكولوسي ٢: ٢

أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً ذكر في الآية السادسة كل ما له من الامتيازات بالنظر إلى كونه يهودياً وقال إنه حسبها خسارة عندما آمن بالمسيح وأبان هنا أنه لم يزل إلى يوم كتابة هذه الرسالة يحسبها كذلك وكذا سائر الأمور التي يزعم أنها ربح له من ثروة ومقام وسلطة. وكما أنه صرّح برفض الامتيازات التي كانت له وهو يهودي كذلك صرّح برفض الامتيازات التي كانت له وهو مسيحي من أفعاله وآلامه باعتبار حسبانها علة برّ.

مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ أي بالنظر إلى قيمة معرفة المسيح التي هي أعظم من قيمة كل شيء وإلى الربح الذي حصل عليه بها لأن معرفة المسيح تفوق سائر المعارف كما أن ضوء الشمس يفوق ضوء السراج وهي حياة أبدية (يوحنا ١٧: ٣).

رَبِّي استطاع الرسول أن يشهد بفضل المسيح وفضل معرفته باختباره حب المسيح له. إن بولس حين ظهر له المسيح على طريق دمشق وسمعه يقول له «شاول شاول» قال «من أنت يا سيد» (أعمال ٩: ٤) لكنه هنا قال «ربي» لأن معرفته المسيح على توالي الأيام زادت وضوحاً وقيمة.

مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ ما صرّح به قبلاً بمقتضى القصد صرّح هنا بأنه أتاه فعلاً باختياره. فكان يمكنه أن يبلغ أسمى مقام بين أهل وطنه لو بقي يهودياً لكنه من أجل المسيح ترك كل ما له من الشرف الدنيوي وآثر عليه التعب والخطر والعار والاضطهاد والسلاسل حتى إنه يوم كتب هذه الرسالة كان يكتبها بإحدى يديه والأخرى مربوطة بيد العسكري وكان عرضة لأن يُحكم عليه بالموت. فلو كان لأحد الناس حق أن يفتخر بالآلام لكان له حق أن يفتخر هو بآلامه ويحسبها علة برّ.

وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً النفاية هنا ما يعزل عن الشيء ويُطرح لعدم نفعه وهي في الأصل اليوناني كناسة البيت بعد الوليمة ولم يجد الرسول أحسن من هذه الكلمة للتعبير بأحسن إيضاح عن قيمة الوسائط الخارجية عنده من النسب والرسوم الدينية والآداب الظاهرة والصلوات والصدقات باعتبار حسبانها علة الخلاص ومقابتلها باستحقاق المسيح وفضله.

لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ هذا علة رفضه كل ما ذكره من الامتيازات والاتكال عليها لأن ربحه المسيح ربح حقيقي يعوّض عليه كل ما خسره من أجله. وما ربحه من المسيح هنا جزء صغير مما توقع أن يربحه في المستقبل إلى الأبد. فكان من المستحيل أن يربح المسيح بدون أن يخسر كل ما سواه في سبيله وما استحال عليه يستحيل على سائر الناس إلى الأبد بدليل قول المسيح «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهٰذَا يُخَلِّصُهَا» (لوقا ٩: ٢٣ و٢٤). والذي يربحه المؤمن من المسيح يظهر من (١كورنثوس ٣: ٢٢ و٢٣).

٩ «وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ».

رومية ١٠: ٣ و٥ رومية ١: ١٧ و٣: ٢١ و٢٢ و٩: ٣٠ و١٠: ٣ و٦ وغلاطية ٢: ١٦

وَأُوجَدَ فِيهِ أي أكون متحداً به (يوحنا ١٧: ٢٣) مغسلاً بدمه مكتسباً ببره صائراً إلى صورته مستتراً فيه الآن وفي وقت مجيئه. وهذا يشير إلى فحص اليوم الأخير حين يأتي المسيح للمحاكمة ويُحضر كل إنسان أمامه وفي ذلك اليوم توقع الرسول أنه يوجد في المسيح على ما ذُكر ويبقى كذلك إلى الأبد.

لَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي البر الذي يحصل عليه الإنسان لو حفظ الناموس تمام الحفظ وهذا يستحيل على كل بشر بدليل قوله «بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا» (غلاطية ٢: ١٦). ولو حصل عليه لكان على سبيل دين لا على سبيل نعمة (رؤية ٤: ٤) وهذا طلبه اليهود عبثاً (رومية ١٠: ١ – ٦).

بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ هذا يختلف كل الاختلاف عن البر الذي بالناموس وأضاف هذا الإيمان إلى المسيح لكونه وسيلة إلى التمسك به لا لكونه علته.

ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ ذكر هنا أصل البر وهو أنه هبة مجانية من الله لا من أعمال الإنسان. وإن الإيمان شرط الحصول على هذه الهبة السماوية (انظر أعمال ٣: ١٦) فالذي يؤمن بالمسيح للبر يؤمن أنه أوفى كل مطاليب الناموس عنه ومات على الصليب ليكفر عن خطيته وأنه حي يشفع فينا إلى الأبد.

١٠ «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ».

رومية ٦: ٣ إلى ٥ و٨: ١٧ و٢كورنثوس ٤: ١٠ و١١ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢ و١بطرس ٤: ١٣

لأَعْرِفَهُ المعرفة الاختبارية التي ذكرها في الآية الثامنة وهي التي لأجلها «خسر كل شيء». وهي قابلة الزيادة على قدر زيادة الاتحاد بالمسيح واختبار نعمته والتمثل به في آلامه وموته وقيامته كما أوضحه في ما يأتي حتى تبلغ النفس كمال المشابهة لصورته.

وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ لا القوة التي قام بها المسيح بل القوة التي نشأت عن قيامته إثباتاً لإيمان بولس بأن المسيح ابن الله وبأنه مخلصه وأنه سوف يقوم هو أيضاً يوم المعاد. ومما يُنسب في الإنجيل إلى قيامة المسيح إثباتاً للحقائق العظمى يتضح من قول بطرس أنها أثبتت «غفران الخطايا» وقبول «عطية الروح القدس» (أعمال ٢: ٣٢ و٣٨). ومن قول بولس أنه به «يثبت بر المؤمن» (أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩). وإنه «لولاها لبقي الناس في خطاياهم» (١كورنثوس ١٥: ١٧) وهي «واسطة التبرير» (رومية ٤: ٢٥) وبها «نحيا مع الله» (رومية ٦: ١١ وأفسس ٢: ٥). وبها يتعزون في شدائدهم وأتعابهم «عالمين إن تعبهم ليس باطلاً في الرب» (١كورنثوس ١٥: ٥٨). فإذاً «قوة قيامة المسيح» هي التبرير والتجديد والحياة الجديدة فهذه كلها من نتائج تلك القيامة لكل مؤمن.

وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ وهي شرط ضروري لشركتهم في قيامته وتمجيده كما تدل القرينة وقوله «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢). وأشار إلى هذه الشركة قبلا بقوله «كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا، كَذٰلِكَ بِٱلْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً» (٢كورنثوس ١: ٥). وقوله «مع المسيح صلبت» (غلاطية ٢: ٢٠). وقوله «وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي» (كولوسي ١: ٢١) فالآلام وحدها لا تخلص ولا تؤكد المجد بل المشاركة للمسيح فيها بكونها احتملت من أجل اسمه والاتحاد به على محاربة الإثم.

إن كثيرين من المؤمنين يسرّون بتوقع أنهم يملكون مع المسيح لكنهم لا يكونون مستعدين ليتألموا معه. يريدون أن يلبسوا إكليل المجد لكنهم يأبون أن يلبسوا إكليل الشوك ويرغبون في لبس أثواب البر والجمال التي يلبسها المنتصرون في السماء ويرغبون عن لبس الأرجوان الذي ألبسه عسكر بيلاطس المسيح استهزاء به. أما بولس فلم يكن مثل هؤلاء بل رغب في أن يكون مثل المسيح وهو على الأرض في كل شيء حتى اتضاعه وآلامه.

مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِه رغب بولس أن يماثل المسيح في موته فوق مماثلته إياه في حياته لأنه رضي أن ينكر نفسه في كل شيء كما فعل المسيح في محاربة الخطية حتى الموت.

إن المسيح لا يزال يدعو تابعيه إلى المشاركة له في آلام جثسيماني بقوله «اُمْكُثُوا هٰهُنَا وَٱسْهَرُوا مَعِي» (متّى ٢٦: ٣٨) وإلى شرب كأس آلامه في الجلجثة بقوله «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ» (متّى ٢٠: ٢٣). نعم يندر أن يُدعى المسيحي إلى احتمال آلام كآلام المسيح في موته لكن يجب أن يكون مستعداً إلى مثل ذلك الاحتمال بالصبر والإيمان إذا كان الله يدعوه إليه. وإلى المشابهة للمسيح في الموت أشار بولس بقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ… لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ» (٢كورنثوس ٤: ١٠ – ١٢ انظر أيضاً ١كورنثوس ١٥: ٣١). إن بولس باحتماله شدائد السجن وتعرّضه لخطر الموت يومئذ كان مشابهاً للمسيح في آلامه وموته على قدر ما يستطيع العبد أن يشابه مولاه في مثل ذلك.

١١ «لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ».

أعمال ٢٦: ٧

لَعَلِّي كلمة «لعل» في هذه الآية لا تشير إلى شيء من الريب في تحصيل المطلوب فأتى الرسول بها تواضعاً ودلالة على عظمة المطلوب وشدة رغبته فيه وكونه من النعمة لا من الاستحقاق. ومن كان مثل هذا الرسول لا يتوقف عن بذل وسعه في اتخاذ الوسائل لكي لا يتأخر عن بلوغه المطلوب.

قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ وما يليها من حياة جديدة وتمجيد كما أُعلن في (ع ٢٠ و٢١). فكلامه هنا مقصور على قيامة الموتى الذين ماتوا على الإيمان متحدين بالمسيح وأشار إليهم المسيح بقوله «ٱلَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ… وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ» (لوقا ٢٠: ٣٥ و٣٦). وأشار إليهم بطرس بقوله «وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (١بطرس ١: ٣ و٤). فرغب بولس فوق رغبته في القيامة مع سائر الموتى في تحقق أن يكون مع «ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (١كورنثوس ١٥: ٢٣). وقال «إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ» (رومية ٦: ٥). فقيامة المسيح عربون قيامة جميع المؤمنين (١كورنثوس ١٥: ٢٠ و٢٣) بدليل أقوال كثيرة ولا سيما قوله «َٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً» (١تسالونيكي ٤: ١٤ و١٦). ولعل هذا أي القيامة الأولى ما رغب بولس في أن يبلغ إليه.

١٢ «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلٰكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ».

١تيموثاوس ٦: ١٢ عبرانيين ١٢: ٢٣

قصد الرسول في هذه الآية واللتين تليانها منع قراء رسالته عن أن يستنتجوا من كلامه ظنه أنه بلغ الكمال في هذا العالم في معرفة المسيح والمماثلة له حتى أنه لم يبق في حاجة إلى الاجتهاد في أن ينمو في الفضائل أو أن يتقدم في القداسة. واتضح مما قاله هنا أنه لم يتوقع بلوغ الكمال الروحي ما دام على الأرض لأن «أرواح الأبرار المكملين» هم ممن دخلوا السماء بمقتضى تعليمه (عبرانيين ١٢: ٢٢).

لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ في ما مضى من حياتي. والذي لم ينله بعد هو «ربح المسيح» (ع ٨) ومعرفته التامة (ع ١٠) والمشابهة له. وليس مقصوده الجعالة المذكورة في الآية الرابعة عشرة لأنها مما يتوقعه لا مما ناله. نعم إنه قد تجدد وقام مع المسيح من موت الخطيئة ونال موهبة الإيمان لكنه لم يحسب ذلك إلا وسائل إلى الغرض الأسمى وبداءة الحياة المسيحية وأول الجهاد الذي شرع فيه.

أَوْ صِرْتُ كَامِلاً على مقتضى قول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). ومقتضى قوله هو في (أفسس ٤: ١٣ وكولوسي ١: ٢٨ و٤: ١٢).

لٰكِنِّي أَسْعَى كالذي يجري في السباق والمعنى أنه يجتهد يوم أن يتقدم في الإيمان والمحبة والانتصار على الخطية والنمو في الحياة المقدسة متخذاً الوسائل التي أعدها الله للنمو حتى يبلغ رويداً رويداً إلى «إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣). ومع كل ذلك الاجتهاد ظل يقصر كل يوم عن إدراك الغرض. وما قاله على نفسه يصدق على كل المؤمنين. فالمسيحي المتواضع الذي يعرف نفسه يعتز لأن يدعي الكمال الذي لم يجسر الرسول أن يدّعيه.

لَعَلِّي أُدْرِكُ الخ حسب نفسه كجار مد يديه إلى الجعالة على وفق قوله نصحاً لمؤمني كورنثوس «ٱلَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي ٱلْمِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ، وَلٰكِنَّ وَاحِداً يَأْخُذُ ٱلْجِعَالَةَ؟ هٰكَذَا ٱرْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا» (١كورنثوس ٩: ٢٤). وقوله «نُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عبرانيين ١٢: ١). لكنه خشي أن ينسب إلى اجتهاده أكثر مما يستحقه كأن خلاصه بسعيه ولذلك لم يقل لعلي أدرك الجعالة التي أطلبها بل قال «لعلي أدرك الذي لأجله أدركني المسيح». وأشار بذلك إلى وقت تجديده يوم مسكه المسيح لينقذه من الهلاك وجعله يشرع في السعي السماوي وأعطاه نعمة الثواب فكأنه قال طلبت الجعالة بالسعي السماوي ولكن لولا نعمة الله ما شرعت في ذلك السعي ولم أتوقع نيل الجعالة لو لم يمسكني الذي لا يقدر أحد أن يخطف من يده (يوحنا ١٠: ٢٨). ولكل المؤمنين أن يثقوا بأن المسيح أدركهم ليخلصهم ويجب أن لا يحملهم ذلك على الكسل الروحي بل يجب أن يزيد رجاءهم واجتهادهم في اتخاذ الوسائل التي أعدها الله لهم طوعاً لأمره تعالى في (متّى ٥: ٤٨).

١٣ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلٰكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ».

مزمور ٤٥: ١٠ ولوقا ٩: ٦٢ و٢كورنثوس ٥: ١٦ و١كورنثوس ٩: ٢٤ و٢٦ وعبرانيين ٦: ١

أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ قال ذلك ليوجه أفكارهم إلى ما عزم على أن يقوله كما فعل في (غلاطية ٣: ١٥ و٦: ١ و١٨) لأنه خاف أن يطمئنوا بآمال فارغة.

لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ قابل نفسه بمن حُسبوا أنهم كاملون (ع ١٥) فقال إنه لم يدرك الكمال لكنه يسعى في طلبه ويتوقع التعب والاجتهاد وإنكار النفس قبل أن يدركه.

لٰكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً لكي أنال الغرض الذي لأجله أدركني المسيح ومنعني من السير في طريق الهلاك الذي كنت سائراً فيه. وأراد «بالشيء الواحد» ما ذكره في الكلام الآتي. إن من مقتضيات الجري في السباق جمع كل أفكاره وقواه بغية إدراك الغرض وأن لا يصرف نظره عنه طرفة عين. وكذا كان فعل بولس. ومثله يجب أن يكون فعل كل من يرغب في الخلاص.

أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ كما يفعل الجاري في السباق. إنّ امرأة لوط نظرت إلى ورائها فهلكت (تكوين ١٩: ٢٦ ولوقا ١٧: ٣٢). قال المسيح «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (لوقا ٩: ٦٢). وما أشار إليه الرسول هنا بقوله «أنسى ما هو وراء» الامتيازات التي كان يعتبرها كثيراً أيام كان يهودياً واتكل عليها للخلاص ولو اعتبرها بعد كانت عاثوراً له. وسنو أتعابه منذ آمن بالمسيح وشرع في خدمته وما قاساه من إنكار النفس والآلام فلو نظر إليها لكانت علة الكبرياء الروحية والاتكال على صالح أعماله. وما ناله من البركات السابقة لئلا يفتخر ويكتفي بها. وخطاياه السالفة لئلا تكون علة يأس له فيحزن «حُزْنُ ٱلْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتاً» (٢كورنثوس ٧: ١٠). فيجب على المسيحيين بمقتضى قول بولس هنا أن لا يعتبر بركاتهم الماضية إلا عربون البركات الآتية وأن ما مر من أتعابهم في خدمة المسيح ليس سوى تمرّن يقدرون به على أعظم الخدمة في المستقبل. وإن ما حصلوا عليه من الانتصار على الخطيئة ليس سوى عربون لغلبتهم الأخيرة لها.

وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ هذا كقوله «أنسى ما هو وراء» إلا أن ذلك على طريق السلب وهذا على طريق الإيجاب. فالنسيان هو عمل العقل فقط والامتداد عو عمل الروح لكنه استعار له عمل الجسد بناء عل ما يفعله الجاري في السباق بمد يده إلى غرض السبق. وأراد «بما هو قدام» كل ما يفتقر إليه لإدراك الكمال أي ما يجب عليه في ما بقي من حياته من عمل وألم ونيل النعمة بواسطة الصلاة لكي يكمل سعيه لمجد الله ونفع الكنيسة.

١٤ «أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

٢تيموثاوس ٤: ٧ و٨ وعبرانيين ١٢: ١ و١كورنثوس ٩: ٢٤ عبرانيين ٢: ١

أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ كما يفعل المسابق غير ملتفت إلى الوراء ولا طالب للراحة بل ينظر دائماً إلى السماء لأنه إلى حيث تشتهي النفس تنظر العين وإلى حيث تنظر العين تمتد اليد وإلى حيث تمتد اليد تجري الرجل. وكان غرض السباق في الملاعب اليوناينة في آخر الميدان وكان في الغالب عموداً من حجر توضع على رأسه الجعالة.

جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا غلب في المسابقات الأرضية أن تكون الجعالة إكيلاً مضفوراً من أوراق بعض الأشجار كالزيتون والغار والتفاح (انظر تفسير ١كورنثوس ٩: ٢٥). وكثيراً ما عبر الكتاب عن جعالة المؤمن «بالإكليل» ومن ذلك «إكليل البر» (٢تيموثاوس ٤: ٨). و «إكليل الحياة» (يعقوب ١: ١٢ ورؤيا ٢: ١٠). و «إكليل المجد» (١بطرس ٥: ٤). وأضاف «الجعالة» إلى «دعوة الله» لأنها غاية تلك الدعوة ونتيجتها والله هو أصلها وعلتها (١تسالونيكي ٢: ١٢). وهو الذي قصدها وسر بأن يمنحها (رومية ٨: ٣٠). ودُعي بولس تلك الدعوة وقبلها وبموجبها اشترك حينئذ في خدمة ملكوت الله وتوقع أن يشترك في مجدها في ما بعد. ووصفت «بالعليا» لأنها من السماء وإليها ولهذا عينه نُعتت «بالسماوية» (عبرانيين ٣: ١) وهي دعوة إلى الخدمة واحتمال الأرزاء ثم إلى السكنى مع الله والمشابهة له (رؤيا ٢١: ٣ ومزمور ١٧: ١٥). وهذه الدعوة موجهة إلى كل إنسان فكل أن يتوقع الخلاص لأنه مدعو إليه (١تسالونيكي ٢: ١٢).

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بواسطته لأننا به نحصل على نتائج تلك الدعوة العليا بدليل قول بطرس الرسول «وَإِلٰهُ كُلِّ نِعْمَةٍ ٱلَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ ٱلأَبَدِيِّ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيراً الخ» (١بطرس ٥: ١٠). أتى المسيح إلينا بهذه الدعوة من السماء وأعلنها لنا في إنجيله فإذا اتحدنا به بواسطة الإيمان تبررنا بمقتضاها وتقدسنا.

١٥ «فَلْيَفْتَكِرْ هٰذَا جَمِيعُ ٱلْكَامِلِينَ مِنَّا، وَإِنِ ٱفْتَكَرْتُمْ شَيْئاً بِخِلاَفِهِ فَٱللّٰهُ سَيُعْلِنُ لَكُمْ هٰذَا أَيْضاً».

غلاطية ٥: ١٠ و١كورنثوس ٢: ٦ و١٤: ٢٠

فَلْيَفْتَكِرْ هٰذَا… ٱلْكَامِلِينَ مِنَّا أي المجتهدين في أن يكونوا كاملين المتوقعين أن يكونوا كذلك في السماء لكنهم لم يدعوا الكمال هنا (ع ١٢) لأنهم يعلمون إن حياة المسيحيين على الأرض بالنسبة إلى حياتهم في السماء كنسبة حياة الطفل إلى حياة البالغ. فحياتهم في هذا العالم استعداد للبلوغ والكمال في عالم الأبدية بدليل قول الرسول «لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّؤِ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ. لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ الخ» (١كورنثوس ١٣: ٩ – ١٢). وقوله «إلى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا… إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣). ونسب الرسول الكمال إلى نفسه وإليهم لأنهم كانوا مثله في أن تركوا الاتكال على الناموس والرسوم الموسوية وعلى البر الذاتي ولكنه خاف أن يتكلوا على بلوغهم في معرفة الحق والتمييز بين الروحيات والجسديات ويفتروا في الاجتهاد ويحسبوا أنهم أدركوا الكمال في كل شيء فحثهم على التقدم في الحياة الروحية متمثلين به في «أن ينسوا ما هو وراء ويمتدوا إلى ما هو قدام» وهذا ما أراده بقوله في أول الآية «ليفتكروا هذا» والخلاصة أن بولس طلب من الذين يدعون الكمال أن يبرهنوا على صحة مدعاهم بتواضعهم وشعورهم بنقصانهم وبغيرتهم في التقدم في الحياة الروحية بمقتضى المبدإ الذي وضعه لنفسه (ع ١٣).

إِنِ ٱفْتَكَرْتُمْ شَيْئاً بِخِلاَفِهِ أي بخلاف ما افتكرت فيه من جهة بلوع الكمال في القداسة وبخلاف القانون الذي صرّحت به (ع ١٣).

فَٱللّٰهُ سَيُعْلِنُ لَكُمْ هٰذَا أَيْضاً أي ما افتكرتم فيه خلاف افتكاري. فإن الرسول تيقن أنهم مؤمنون حقاً وإن الله لا يتركهم يضلّون في ما قال بل يعلن لهم بواسطة روحه القدوس حقيقة الأمر وهو نقصانهم وافتقارهم إلى بر المسيح لكي يكونوا كاملين بمقتضى وعده في قوله «مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ» (يوحنا ١٦: ١٣ انظر أيضاً يوحنا ٧: ١٧ ومتّى ١٤: ١٢). إن الله يقدر بروحه أن يعلم الناس الحقائق التي لا يستطيع الرسول الموحى إليه أن يقنعهم بها.

١٦ «وَأَمَّا مَا قَدْ أَدْرَكْنَاهُ، فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذٰلِكَ ٱلْقَانُونِ عَيْنِهِ، وَنَفْتَكِرْ ذٰلِكَ عَيْنَهُ».

رومية ١٢: ١٦ و١٥: ٥ غلاطية ٦: ١٦ ص ٢: ٢

وَأَمَّا أي ومهما يكن الفرق في الافتكار بيننا في شأن ما ذكرته. طلب الرسول منهم في هذه الآية أمرين الأول أن يستمروا على التقدم في سبيل القداسة والثاني أن يتقدموا كلهم معاً.

مَا قَدْ أَدْرَكْنَاهُ من الكمال في الحياة الروحية ومعرفة الواجبات والسلوك بمقتضاها.

فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذٰلِكَ ٱلْقَانُونِ أي قانون السلوك الروحي وهو نسيان ما هو وراء والتقدم إلى ما هو قدام وهو قانون الإنجيل. أراد الرسول أن ينتفعوا بما حصلوا عليه من النور السماوي ثم يسلكوا به.

وَنَفْتَكِرْ ذٰلِكَ عَيْنَهُ أي يجب أن لا ينفصل بعضنا عن بعض لاختلافنا في الرأي بل أن نتفق في خدمة المسيح والتمثل به وفي محبة بعضنا لبعض. لم يكن لكل من المؤمنين مقدار ما لآخر من العلم ولم يعتقدوا جميعاً اعتقاداً واحداً في كل الأمور ولكن ذلك لا يمنعهم أن يتفقوا على أتباع المسيح والتقدم في طريق الحق والاجتهاد في مد ملكوت الله في العالم. فلو كان جميع المسيحيين بدلاً من أن ينظروا إلى ما اختلفوا فيه وإن يبغض كل فريق الآخر ينظرون إلى ما يتفقون عليه في الإيمان والواجبات ويجتهدون أن يساعد بعضهم بعضاً على إتمام واجباتهم لكان السلام عظيماً في الكنيسة وكانت الكنيسة نوراً في العالم يبدد ظلماته.

وجوب أن يتمثل الفيلبيون بالرسول وأمثاله وأن يغايروا الذين تدل أعمالهم على أنهم أعداء صليب المسيح ع ١٧ إلى ١٩

١٧ «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، وَلاَحِظُوا ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ هٰكَذَا كَمَا نَحْنُ عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ».

١كورنثوس ٤: ١٦ و١١: ١ وص ٤: ٩ و١تسالونيكي ١: ٦ و١بطرس ٥: ٣

كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعاً أمرهم هنا كما أمر مؤمني كورنثوس (١كورنثوس ٤: ١٦) ومؤمني تسالونيكي (١تسالونيكي ١: ٦ و٢تسالونيكي ٣: ٧). إن بولس تمثل بالمسيح ولذلك حق له أن يأمرهم بأن يتمثلوا به كما أبان لمؤمني كورنثوس بقوله «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضاً بِٱلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ١١: ١). وأراد بقوله «معاً» أن يتفقوا كشخص واحد على ما أوصاهم به.

لاَحِظُوا ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ هٰكَذَا كَمَا نَحْنُ الخ كتيموثاوس وأبفرودتس ومن شاكلهما من رفقاء بولس. وزاد هذا على قوله «كونوا متمثلين بي» بياناً لتواضعه ودفعاً لتوهم أنه متكبر. وأراد بقوله «لاحظوا الذين» الخ أن ينتبهوا بسيرتهم ويسيروا مثلهم. وهذا مخالف لما أراده بالملاحظة في الرسالة إلى رومية إذ كان للاعتزال لا للتمثل (رومية ١٦: ١٧).

١٨ «لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً، وَٱلآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِياً، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ».

غلاطية ١: ٧ و٢: ٢١ و٦: ١٢ وص ١: ١٥ و١٦

لأَنَّ كَثِيرِينَ المشار إليهم هنا ليسوا المعلمين المائلين إلى الرسوم الموسوية وذوي الغيرة للناموس والاتكال على البر الذاتي الذين ذكرهم قبلاً في هذه الرسالة بل هم الجسدانيون الذين افتخروا بسمو علمهم وحريتهم في المسيح وعاشوا على مقتضى شهواتهم كالذين ذكرهم بطرس الرسول في (٢بطرس ٢: ١٢ – ٢٢) ويهوذا في (ع ٤ و٨ و١٢ و١٣) وهم المعروفون في تاريخ الكنيسة بالغنوسيين.

أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً حين كنت بينكم مبشراً.

وَٱلآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِيا حزناً لما نتج من تعليمهم من العار لاسم المسيح وتضليل غيرهم واتخاذهم الحرية المسيحية حجة على ارتكاب المحظورات. ومما زاد حزن بولس أنهم ادعوا من تعليمه التحرير من شريعة موسى أن المؤمنين محررون من الشريعة الأدبية. وكره الرسول ضلالهم وخطاياهم لم يمنعه من البكاء على الضالين الخطأة.

وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ بالفعل. هم ادعوا أنهم مسيحيون لكنهم لم ينكروا أنفسهم ويحملوا الصليب ويتبعوا المسيح ولذلك أضروا المسيح وكنيسته أكثر من شر المقاومين والمضطهدين وأضلوا إخوتهم الضعفاء بتعليمهم المذكور وكان سبباً لتجديف الذين أبغضوا المسيح وديانته.

إن «للصليب» في الإنجيل معنيين الأول ما حمله المسيح وصُلب عليه من أجل خطايانا وهو حمل ذلك وحده فعلينا أن نتمسك به ونخلص به ولكننا لا نستطيع أن نشاركه في حمله. والثاني ما يجب أن نحمله نحن وراء المسيح (متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤). ونفعل ذلك بمشاركتنا المسيح في آلامه وتشبهنا بموته (ع ١٠). وجمع بولس المعنيين في قوله «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٦: ١٤). وادّعى أولئك الذين حذر بولس الفيلبيين منهم أنهم قبلوا الصليب بالمعنى الأول إلى حد اعتقدوا عنده أنهم تبرّروا به مهما ارتكبوا من الآثام واستمروا على الخطيئة «لكي تكثر النعمة» (رومية ٦: ١) فأبوا أن يحملوا صليب إنكار الذات ومنعوا غيرهم من حمله فبرهنوا بذلك أنهم أعداء الصليب. نعم إنهم أظهروا بكلامهم أنهم أصدقاء المسيح وصليبه لكنهم بأعمالهم أهانوهما. ففي تاريخ كل عصور الكنيسة لم يكن من أشد أعدائها الكفرة والمضطهدون بل الذين ادّعوا إنهم أصحاب المسيح وأحزنوه وأهانوه بحبهم للعالم وسلوكهم على خلاف وصايا المسيح وإنجيله.

١٩ «ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ ٱلْهَلاَكُ، ٱلَّذِينَ إِلٰهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلأَرْضِيَّاتِ».

٢كورنثوس ١١: ١٥ و٢بطرس ٢: ١ رومية ١٦: ١٨ و١تيموثاوس ٦: ٥ وتيطس ١: ١١ هوشع ٤: ٧ و٢كورنثوس ١١: ١٢ وغلاطية ٦: ١٣ رومية ٨: ٥

أظهر بولس في هذه الآية باعتبار كونه خادماً للمسيح غيظه الشديد على الذين «يُحَوِّلُونَ نِعْمَةَ إِلٰهِنَا إِلَى ٱلدَّعَارَةِ» (يهوذا ٤) الذين «بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ، بِمَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا، فَيَنْغَلِبُونَ، فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ… قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي ٱلْمَثَلِ ٱلصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ ٱلْحَمْأَةِ» (٢بطرس ٢: ٢٠ و٢٢)

نِهَايَتُهُمُ ٱلْهَلاَكُ أي إن هلاكهم ثابت مؤكد كنهاية سائر الخطأة عند مجيء الرب خلاف ما توقعوه من الخلاص لأن مجرّد إقرارهم بالمسيح لا يخلّصهم بل يزيد إثمهم. قال بطرس في أمثالهم إن «هَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ» (٢بطرس ٢: ٣). وقال بولس نفسه في أفعال أمثالهم «نِهَايَةَ تِلْكَ ٱلأُمُورِ هِيَ ٱلْمَوْتُ» (رومية ٦: ٢١).

إِلٰهُهُمْ بَطْنُهُمْ هذا علة وفق قوله «هٰؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ» (رومية ١٦: ١٨). فإنهم فضلوا شهواتهم الجسدية على الله ولم يحيوا ليمجدوه بل ليرضوا أنفسهم. وفي أشكالهم قال بطرس «يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعَكُمْ» (٢بطرس ٢: ١٣). وقال يهوذا «هٰؤُلاَءِ صُخُورٌ فِي وَلاَئِمِكُمُ ٱلْمَحَبِّيَّةِ، صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعاً بِلاَ خَوْفٍ، رَاعِينَ أَنْفُسَهُمْ» (يهوذا ١٢).

مَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِم أي يخالفون قوانين الأدب ويفعلون أفعالاً توجب الخزي والعار طبعاً ويفتخرون بحرّيتهم في ارتكابهم ذلك بدعوى أنهم شديدوا الإيمان وبذلك دلوا على أنهم مرفوضون لأنهم لا يفعلون فقط ما يستوجب الموت بل يسرّون بالذين يعملون (رومية ١: ٣٢).

ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلأَرْضِيَّاتِ كالبهائم. إنهم كانوا يدعون أنهم روحانيون إلى حد أنهم لا يتدنسون بالشهوات الجسدية لكن أعمالهم كانت تبرهن إن كل مجرى أفكارهم وشهواتهم ومحادثاتهم من الأرض أرضي غير قابل التوجه إلى السماء إذ كانوا يجعلون الغنى والشرف واللذّات غاية حياتهم خلافاً لسنة الإنجيل القائل «إِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً، فَٱفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١٠: ٣١).

بيان من يجب أن يتمثل الفيلبيون به ع ٢٠ و٢١

٢٠ «فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٱلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ».

أفسس ٢: ٦ وكولوسي ٣: ١ و٣ وأعمال ١: ١١ و١كورنثوس ١: ٧ و١تسالونيكي ١: ١٠ وتيطس ٢: ١٣

أبان الرسول هنا الفرق بين هؤلاء الجسدانيين وأمثاله المخلصين.

سِيرَتَنَا معنى الأصل اليوناني الذي تُرجم «بالسيرة» هنا جاء في حاشية الإنجيل ذي الشواهد أنه «المملكة أو الدولة التي نحن رعيتها». كان بولس وأمثاله بدلاً من أن يهتموا بالأرضيات يهتمون بالسماويات فإنهم اعتبروا السماء وطنهم وأن أورشليم السماوية هي مملكتهم التي هم رعيتها وسائرون إليها كما في قوله «أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا، ٱلَّتِي هِيَ أُمُّنَا الخ» (غلاطية ٤: ٢٦).

كانت فيلبي مهجراً ولذلك حُسب أهلها من أهل رومية قصبة المملكة كذلك مؤمنو فيلبي حُسبوا من أهل السماء على وفق قوله «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ» (أفسس ٢: ١٩).

من أعظم ما يمتاز به المؤمنون عن الدنيويين أنهم وحدهم يعتبرون الأرض منزلاً وقتياً والسماء وطناً أبدياً وهم لا يفتكرون في الأرضيات «لأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى ٱلأَرْضِ» (عبرانيين ١١: ١٣)،

فِي ٱلسَّمَاوَاتِ قال ذلك وهم لا يزالون على الأرض لأن ملكوت الله الذين هم رعيته «قد أتى» إليهم وإن أكثر اهتمامهم بما هنالك على وفق قوله «ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (كولوسي ٣: ٢).

مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ أي نتوقع بشوق شديد على ما هو في الأصل اليوناني وهذا مثل ما في (رومية ٨: ١٩ و٢٣ و٢٥) وهذا مبني على وعد المسيح في قوله «وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً» (يوحنا ١٤: ٣). وقول الملاكين «إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (أعمال ١: ١١ انظر ١تسالونيكي ٤: ١٦).

مُخَلِّصاً ليتمم عمل الخلاص بفداء الجسد كما تدل القرينة.

كان إتيان المسيح ثانية موضوع آمال المؤمنين في كل العصور منذ صعود المسيح إلى السماء فكان يعزيهم في الضيقات ويحفظهم من تجربة الكسل ويحملهم على السهر والصلاة والنظر إلى السماء. ومن الآيات التي تثبت رجوعه ما في (متّى ٢٤: ٤٢ و٤٤ و يوحنا ١٢: ٣٧ و١٤: ٣ وأعمال ١: ١١ و١كورنثوس ٤: ٥ وكولوسي ٣: ٤ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٢تسالونيكي ٢: ١ وعبرانيين ١٠: ٣٧ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و١يوحنا ٣: ٢ ورؤيا ٢٢: ٧ و١٢ و٢٠).

إن المسيحيين مختلفون في وقت رجوعه وفي أنه هل يملك على الأرض ملكاً مشاهداً أو لا لكنهم متفقون على أنه لا بد من أن يأتي ثانية ويصلّون بغية أن يأتي سريعاً.

٢١ «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ».

١كورنثوس ١٥: ٤٣ و٤٨ و٤٩ وكولوسي ٣: ٤ و١يوحنا ٣: ٢ أفسس ١: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٢٦ و٢٧

أبان في هذه الآية كيف يتمم ذلك المخلص خلاصنا.

سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا أي جسدنا الحاضر. وقد أبان الرسول كيفية هذا التغيير في (١كورنثوس ١٥: ٣٥ – ٥٣). ومما قاله هناك أن هذا الفاسد سيكون بلا فساد ويُبدل هوانه بمجد وضعفه بقوة وحيوانيته بالروحانية ولم يقل سيلاشي شكل الجسد أو سيخلق جسداً جديداً بل سيغيّره عند إقامته فيكون بدلاً من أن يقبل الخطيئة والفناء طاهراً خالداً. وأضاف «الجسد» إلى «التواضع» لأننا ما دمنا في الجسد نظل عرضة للهوان والحزن والألم والموت. والخطيئة هي التي جعلته «جسد التواضع» لأن الله خلقه «حسناً جداً».

عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ أي أن أجساد المؤمنين يوم القيامة تكون كجسد المسيح على طور التجلّي. وكما هو الآن في السماء وكما هو سيظهر للجميع في مجيئه الثاني ويظهر ما له من المجد وما نربحه نحن منه مما قاله يوحنا في رؤياه (رؤيا ١: ١٣ – ١٦ و١٩: ١٢ و١٦ و٢٠: ١١). وأشار إلى هذا التغيير في رسالته بقوله «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وأشار إلى هذا بطرس واستنتج منه نفس النتيجة التي استنتجها بولس بقوله «لِذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هٰذِهِ، ٱجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ» (٢بطرس ٣: ١٤).

بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أي بمقتضى قوة الله العظيمة ولا سيما القوة التي أظهرها بإقامة المسيح من الأموات (انظر أفسس ١: ١٩ و٣: ٧) والتفسير هنالك.

أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ هذا تصريح بأن قوة الله غير محدودة كقوة الإنسان بل أنها تفوق «كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ» (١كورنثوس ١٥: ٢٤). وفي ما قيل هنا تلميح إلى أن تغيير أجسادنا ليس سوى واحد من مظاهر تلك القوة وجزء مما قد فعله الله لأجل خلاصنا ومما سيفعله أيضاً. والكلام مقصور هنا على إظهار قوة الله في خلاص المفديين ولكنه بُيّن في موضع آخر إظهار قوته تعالى في عقاب الاشرار الذين أبوا قبول الخلاص.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى