الرسالة إلى أهل فيلبي| 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى أهل فيلبي
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
مقدمة الأصحاح
في هذا الأصحاح تحية (ع ١ و٢). وشكر لله على شركتهم في الإنجيل التي أبانوها بجودهم عليه (ع ٣ – ٨) وصلاة لتزيد معرفتهم ويكثر صلاحهم (ع ٩ – ١١).
بيان حال الرسول في رومية
إن وُثق الرسول آلت إلى نجاح الإنجيل وكانت وسيلة إلى زيادة المناداة بالمسيح بواسطة الناس الذين بعضهم نادى به عن إخلاص وبعضهم نادى به عن تحزب ففرح الرسول بمناداة الفريقين (ع ١٢ – ١٨). وكان متردداً بين أن يختار أن يذهب ليكون مع المسيح وأن يبقى هنا لمنفعتهم فتيقن أنه يبقى (ع ١٩ – ٢٦).
حث الرسول الفليبيين على الشجاعة والثبات وقت المصائب والاضطهاد ع ٢٧ إلى ٣٠
تحية وشكر وصلاة ع ١ إلى ٨
١ «بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ عَبْدَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِينَ فِي فِيلِبِّي، مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَشَمَامِسَةٍ».
١كورنثوس ١: ٢ و٢أيام ٣٤: ١٢ وأعمال ٢٠: ١٧ و٢٨ و١تيموثاوس ٣: ٢ وتيطس ١: ٧ و١بطرس ٢: ٢٥ و٥: ١ رومية ١٦: ١ و١تيموثاوس ٣: ٨ و١٢
بُولُسُ لم يصرّح هنا برسوليته كما صرّح به في رسالتيه إلى كورنثوس ورسالته إلى غلاطية إذ لم يجد ما يدعو إلى ذلك فكتب لهم بكل ثقة ومودة كصديق إلى أصدقائه.
وَتِيمُوثَاوُسُ هو رفيق بولس ومساعده على تأسيس كنيسة فيلبي (أعمال ١٦: ١ و١٣ و١٧: ١٤). زار تلك الكنيسة مرتين في مدة سفر بولس الثالث للتبشير (قابل ما في أعمال ١٩: ٢٢ بما في ٢كورنثوس ١: ١ وما في أعمال ٢٠: ٣ و٤ بما في رومية ١٦: ٢١). ويحتمل أنه زارها أيضاً مدة سجن بولس في قيصرية. وكان في وقت كتابة هذه الرسالة على وشك أن يزورها (ص ٢: ٢٠). وهو لم يشارك بولس في هذه الرسالة إلا في التحية بدليل أن بولس تكلم في ما سوى ذلك بضمير الفرد (ص ١: ٣) وتكلم على تيموثاوس بضمير الغائب (ص ٢: ١٩) والظاهر من وضع اسمه في أول الرسالة أنه كان وقت كتابتها في رومية لا أسيراً معه بل صديقاً ومساعداً له على المناداة بالإنجيل.
عَبْدَا عبّر عن نفسه ورفيقه بهذا تواضعاً كما فعل يعقوب ويهوذا وبطرس (يعقوب ١: ١ ويهوذا ١ و٢بطرس ١: ١١ انظر تفسير رومية ١: ١). وللعبيد الذين المسيح سيدهم أعظم الحرية والشرف وكون عبوديتهم اختيارية يستلزم أنها أمينة سارة.
ٱلْقِدِّيسِينَ من صفات كنيسة المسيح أن تكون مقدسة فوجب أن يكون أعضاؤها قديسين وقد دعاهم الله كذلك وهم يعترفون بأنهم منفصلون عن العالم وموقوفون لخدمة الله ويدعون أنهم يطلبون قداسة القلب والسيرة وأنهم متوقعون أن ينالوا بنعمة الله القداسة الكاملة في السماء (انظر تفسير يوحنا ١٧: ٩ ورومية ١: ٩ و١كورنثوس ١: ٢).
فِي ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق «بالقديسين» فإنه باتحادهم بالمسيح بواسطة الإيمان وفعل روحه القدوس ينالون القداسة.
فِي فِيلِبِّي انظر الفصل الثاني من المقدمة وتفسير (أعمال ١٦: ١٢).
أَسَاقِفَةٍ جاءت هذه الكلمة في (أعمال ٢٠: ٢٨ و١تيموثاوس ٣: ٢ وتيطس ١: ٧). وسموا رعاة في (أفسس ٤: ١١) والأسقف في اليونانية أبسكوبس (επισκοπος) ومعناه مراقب فعمله يراقب طهارة الكنيسة في الإيمان والأعمال. ويتبين من قوله «أساقفة» بصيغة الجمع أن كنيسة فيلبي كانت مثل كنيسة أفسس في تعدد الأساقفة. وجاء في الإنجيل الشيخ رديفاً للأسقف كما يتبين من (أعمال ٢٠: ٢٨ وتيطس ١: ٤ – ٨ و١بطرس ١: ٥) وسموا «أساقفة» بالنظر إلى مراقبتهم أحوال الكنيسة الروحية. وسموا «شيوخاً» نظراً إلى رتبتهم وأعمارهم. فالأسقف منقول عن اصطلاح الخدمة السياسية والشيخ عن اصطلاح المجمع اليهودي. وذكر الأساقفة بعد ذكر أعضاء الكنيسة يدل على أنه لم تكن لهم وقتئذ العظمة التي ادعوها وكانت لهم بعد ذلك.
شَمَامِسَةٍ كان عمل الشمامسة جمع إحسان الكنيسة والعناية بالمرضى والفقراء وذُكرت علة تعيينهم أولاً في (أعمال ٦: ١). ولعل علة ذكر بولس الأساقفة والشمامسة إن الهدايا والرقيم أرسلاً إليهم بأسمائهم نيابة عن الكنيسة.
٢ «نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١: ٧ و٢كورنثوس ١: ٢ و١بطرس ١: ٢
هذه الآية سلام رسولي جاء الرسول بمثله في (رومية ١: ٧) فراجع التفسير هناك.
٣ «أَشْكُرُ إِلٰهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ».
رومية ١: ٨ و٩ و١كورنثوس ١: ٤ وأفسس ١: ١٥ و١٦ وكولوسي ١: ٣ و١تسالونيكي ١: ٢ و٢تسالونيكي ١: ٣
الشكر الذي أتى به الرسول في هذه الرسالة أطول مما أتى به في سائر رسائله وأوفر فكرر الألفاظ والنعوت ليدل على عظمة شكره لله لما أنعم عليهم. ومعنى الآية أني أشكر إلهي في كل مراجعتي ما مر من أموركم من أول معرفتي إياكم إلى الآن إذ لم أر في كل اختباري إلا ما يحملني على الحمد والشكر له. وإضافة لله إلى نفسه أي قوله «إلهي» مثل قوله «الإله الذي أنا له والذي اعبده» (أعمال ٢٧: ٢٣) في دلالته على قرب النسبة بينه وبين الله وأنه اعتبر نعمته تعالى على الفيلبيين علامة رضاه عنه وإن تقواهم من الأدلة على أن الله قبل صلواته وأتعابه في سبيل نفعهم وجعلها مثمرة.
٤ «دَائِماً فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّماً ٱلطِّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ».
دَائِماً هذا متعلق بقوله «أشكر» في (ع ٣) ويدل على أن صلاته كانت مقترنة أبداً بالشكر على ما صنع لهم.
فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّماً ٱلطِّلْبَةَ لعله قصد «بأدعيته» صلواته العامة «وبالطلبة» ابتغاء بركة خاصة لكل منهم حسب احتياجه.
بِفَرَحٍ زيادة على الشكر الذي في الآية الثالثة. وبيّن أسباب هذا الفرح في ما يأتي.
٥ «لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى ٱلآنَ».
رومية ١٢: ١٣ و١٥: ٢٦ و٢كورنثوس ٨: ١ وص ٤: ١٤ و١٥
لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ هذا علة شكره وفرحه وأراد «بالمشاركة في الإنجيل» اجتهاد كل منهم في سبيل انتشاره مع الآخر ومع الرسول وذلك بسيرتهم التقوية وشهادتهم للحق جهاراً واحتمالهم الاضطهاد من أجل المسيح ومواساتهم له وصلواتهم من أجله ولا سيما هداياهم التي أخذوا يرسلونها إليه وهو في تسالونيكي ص ٤: ١٥ و١٦) وأتوا مثل هذا وهو في رومية على يد مرسلهم أبفرودتس (ص ٤: ١٥ و١٨) ولو سمحت لهم الفرصة لأتوا بأكثر من ذلك (ص ٤: ١٠).
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى ٱلآنَ هذا شهادة قوية بأمانتهم ومدح وافر لهم فإنهم في نحو عشر سنين لم تفتر محبتهم ولا غيرتهم في العمل ولم يتزعزع رسوخهم في الإيمان. وليس لراع أمين فرح أعظم مما كان للرسول حين رأى تلاميذه سالكين مسالك التقى مستفيدين من تعليمه (٣يوحنا ٤). فنرى من ذلك أن الذين يعملون حسناً يستحقون مدح رؤسائهم. والمدح نافع لعملة الصلاح بأنه يزيد رغبتهم في الصلاح سواء كان من الرعاة للشعب أو من الأساتذة للتلاميذ أو من الوالدين للأولاد. ونرى منه أيضاً أنه يجب علينا أن نذكر في صلواتنا أصحابنا الغائبين من إخوتنا وأخواتنا في الرب لا مجرد أنسبائنا. وهذا إحدى الطرق التي نقدر فيها على أن نعينهم إن لم نستطع غيره.
٦ «وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
يوحنا ٦: ٢٩ و١تسالونيكي ١: ٣ ع ١٠
وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أي الأمر الذي طلبه في الصلاة (ع ١) وهو إتمام خلاصهم كما سيظهر مما سيأتي. وثقته مبنية على عدم تغير الله فإنه ابتدأ عمل النعمة في قلوبهم وهذا يؤكد أنه يتممه إذ لا قوة خارجة عن الله تستطيع أن تحمله على ترك ما قصده (١صموئيل ٣: ٨ و١كورنثوس ١: ٨) وعلى مواعيد الله الصريحة (يوحنا ١٠: ٢٧ – ٢٩ ورومية ٨: ٢٩ و٣٠ وعبرانيين ٦: ١٧ – ٢٠).
ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً أراد «بالعمل الصالح» هنا مشاركتهم (له) في الإنجيل وهذا مع أنه عملهم هو عمل الله بالأولى لأنه هو ابتدأه في نفوسهم وقدّرهم على أن يثبتوا إلى ذلك اليوم. وهذا مثل قوله «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ» (ص ٢: ١٢ و١٣) اعتبر الرسول بداءة عمل الإنجيل في الفيلبيين ونهايته من نعمته تعالى ومشاركتهم في الإنجيل أحد مظاهر تلك النعمة.
يُكَمِّلُ أي يتمم خلاصهم وهذا يشتمل على كل متعلقات الخلاص من التبرير والوقاية من السقوط والتقديس والتمجيد.
إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وسمى «يوم ربنا يسوع المسيح» (١كورنثوس ١: ٨) و «يوم الرب» (١كورنثوس ٥: ٥ و٢كورنثوس ١: ١٤ و١تسالونيكي ٥: ٢) وهو وقت مجيئه الثاني بالنصر والمجد ليدين العالم ويثبت شعبه. ولم يقل إلى يوم موتهم لأنه لم ير من فرق بين إثابتهم بعد الموت وإثابتهم يوم مجيء الرب. ولم يبين أن يوم الرب قريب ولا إنه بعيد.
٧ «كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ هٰذَا مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي، فِي وُثُقِي، وَفِي ٱلْمُحَامَاةِ عَنِ ٱلإِنْجِيلِ وَتَثْبِيتِهِ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ جَمِيعُكُمْ شُرَكَائِي فِي ٱلنِّعْمَةِ».
٢كورنثوس ٣: ٢ و٧: ٣ أفسس ٣: ١ و٦: ٢٠ وكولوسي ٤: ٣ و٢تيموثاوس ١: ٨ ع ١٧ ص ٤: ١٤
كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ في ما قلته آنفاً (ع ٦). إن الرسول اختبر مشاركتهم في الإنجيل سابقاً وكان ذلك مطبوعاً على صفحات ذاكرته وهذا جعل له حق الثقة بهم.
لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي أي أنه أحبهم ووثق بهم ورغب في خلاصهم وتيقن أنهم ينالونه لما علم من إيمانهم بالمسيح وطاعتهم له.
فِي وُثُقِي، وَفِي ٱلْمُحَامَاةِ عَنِ ٱلإِنْجِيلِ هذا متعلق بحال من المخاطبين والمعنى أني حافظكم في قلبي وأنتم مشاركون لي في وثقي من أجل الإنجيل وفي التعب معي لتثبيته ومعاونون لي بالمواساة والصلوات والهدايا للنفقة. ولعلهم شاركوه في ذلك بأمور أخرى لم نعلمها. فمشاركتهم إياه في الآلام والتبشير حققت له أنهم يكونون شركاءه أيضاً في كل نتائج تلك الآلام والأتعاب فتوقع أن تكون البركة الإلهية له ولهم معاً.
فِي ٱلنِّعْمَةِ حسب المناداة بالإنجيل نعمة بدليل قوله «لِي… أُعْطِيَتْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ الخ» (أفسس ٣: ٨). وكذلك احتمال الاضطهاد من أجل الإنجيل بدليل قوله «قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (ع ٢٩). والشركاء في الخدمة والآلام يكونون شركاء أيضاً في نعمة الانتصار بدليل قوله «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رومية ٨: ١٧).
٨ «فَإِنَّ ٱللّٰهَ شَاهِدٌ لِي كَيْفَ أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١: ٩ و٩: ١ وغلاطية ١: ٢٠ و١تسالونيكي ٢: ٥ ص ٢: ٢٢ و٤: ١
فَإِنَّ ٱللّٰهَ شَاهِدٌ لِي أتى بمثل هذا في الرسالة إلى رومية (رومية ١: ٩) أشهد بكل وقار الله العالِم كل شيء والفاحص القلوب أنه لم ينطق بسوى الحق.
أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ هذا برهان محبته لهم ونتيجتها.
فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ اعتبر اليونانيون الأحشاء مركز الانفعالات كالشفقة والغضب والمحبة والبغض فجرى الرسول على اصطلاحهم فكنى عن المحبة «بالأحشاء» فقال إن محبته لهم مبنية على محبته للمسيح وإنها من نوعها. وهذا دليل على شدة اتحاد بولس بالمسيح حتى كأن حياتهما واحدة. وهذا على وفق قوله «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية ٢: ٢٠) وهو يدل أيضاً على وفرة حبه إياهم.
إن محبة المسيح أصل كل محبة أخوية في قلوب المسيحيين.
صلاة الرسول بغية أن تزيد معرفة الفيلبيين ويكثر صلاحهم ع ٩ إلى ١١
٩، ١٠ «٩ وَهٰذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضاً أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي ٱلْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ، ١٠ حَتَّى تُمَيِّزُوا ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ وَبِلاَ عَثْرَةٍ إِلَى يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ».
١تسالونيكي ٣: ١٢ وفليمون ٦ رومية ٢: ١٨ و١٢: ٢ وأفسس ٥: ١٠ أعمال ٢٤: ١٦ و١تسالونيكي ٣: ١٣ و٥: ٢٣ و١كورنثوس ١: ٨ وع ٦
هٰذَا أُصَلِّيهِ ذكر في الآية الرابعة إنه يصلي من أجل مؤمني فيلبي وذكر في هاتين الآيتين موضوع تلك الصلاة.
أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضاً أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ محبة بعضكم لبعض ولي ولسائر المؤمنين ولله الآب وابنه يسوع المسيح. إن المحبة أفضل الفضائل المسيحية فيليق بنا أن يكون موضوع صلواتنا لأجل أصدقائنا أن يزدادوا محبة.
فِي ٱلْمَعْرِفَةِ سأل أن تقترن زيادة محبتهم بالمعرفة ولعل ما حمله على هذه الطلبة إنه رأى نقصاً في محبتهم كالنقص الذي في غيرة مؤمني رومية بدليل قوله «أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً لِلّٰهِ، وَلٰكِنْ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَعْرِفَةِ» (رومية ١٠: ٢) أراد منهم أن يميزوا بين محبوباتهم حتى لا يحبوا ما لا يستحق المحبة وأن يميزوا بين ما يجب أن يُحب حتى يحبوا كلاً منها على قدر استحقاقه.
وَفِي كُلِّ فَهْمٍ يعسر التمييز هنا بين المعرفة والفهم ولعل المعرفة أعم من الفهم فبها ندرك الأمور الأدبية وغير الأدبية وأما الفهم بالأمور التي نختارها أو نرفضها. ففي المعرفة العقل هو العالم وفي الفهم العقل والعواطف أيضاً.
حَتَّى تُمَيِّزُوا ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ أبان هذا سبب طلبه إن محبتهم تزداد في المعرفة والفهم وهو أن يميزوا الأحسن من الحسن ويختاروه. وليس المراد «بالأمور المتخالفة» الأمور المحرمة التي تختلف عن الجائزة لأنه كان لمؤمني فيلبي معرفة كافية ليميزوا بين الحلال والحرام بل المراد بها الأمور الحسنة المختلفة في القيمة المعروضة للاختيار بينها.
لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ أي بلا رياء أو أطهاراً في النيات والمقاصد والأفكار والإقرار والسلوك.
بِلاَ عَثْرَةٍ لأنفسكم. هذا كما قاله على نفسه «أَنَا أَيْضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ» (أعمال ٢٤: ١٦). ولم يقصد هنا تأثيرهم في غيرهم كما قصد في (١كورنثوس ١: ٣٢) كما يظهر من العبارة التالية التي تشير إلى محاكمتهم لأنفسهم قدام الله.
إِلَى يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ أي حين يقفون أمام منبره للمحاكمة (انظر ع ٦). فأوجب عليهم أن يهتموا بمدح المسيح إياهم في ذلك اليوم لا بمدح الكنيسة أو العالم في هذه الأرض.
١١ «مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ وَحَمْدِهِ».
يوحنا ١٥: ٤ و٥ وأفسس ٢: ١ وكولوسي ١: ٦ يوحنا ١٥: ٨ وأفسس ١: ١٢ و١٤
مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ ٱلْبِرِّ اعتبرهم «أشجار برّ غرس الرب» (إشعياء ٦١: ٣) في جنته تعالى (إشعياء ٥١: ٣ وحزقيال ٣١: ٨ و٩). مسقيّة بنعمته يتوقع الله ثمرها لمجده على قدر عنايته بها (إشعياء ٥: ١ و٢) وقد ذُكر «ثمر البرّ» في (عاموس ٦: ١٢ وعبرانيين ١٢: ١١ ويعقوب ٣: ١٨).
وقال المسيح في شأن هذا الثمر «بِهٰذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا ١٥: ٨). وإضافة «ثمر» إلى «البرّ» بيانية فهو ما يحصل عليه المؤمن المتجدد من البرّ في نفسه وسيرته. وسمي أيضاً «ثمر الروح» (أفسس ٥: ٩ وغلاطية ٥: ٢٢). والمملؤون بأثمار البرّ «يَمْتَلِئُون إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (أفسس ٣: ١٩).
ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لا بالإنسان لأن الإنسان في الطبيعة كالزيتونة البرية لا نفع لها ولكن إذا طُعموا في المسيح وأخذوا منه حياة وقوة أثمروا ثمراً نافعاً. وهذا يختلف عن البر الذي بالناموس بدليل قوله «لَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ» (ص ٣: ٩). وعلى هذا قال المسيح «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ ٱلْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْكَرْمَةِ، كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ» (يوحنا ١٥: ٤).
لِمَجْدِ ٱللّٰهِ وَحَمْدِهِ هذا نتيجة كونهم مملوئين من ثمر البرّ لا لمجرد تبريرهم في يوم الرب بل لمجد الله أيضاً ما داموا على الأرض على وفق قول المسيح «بِهٰذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا ١٥: ٨ انظر أيضاً أفسس ١: ٦ و١٢ و١٤). وقوله «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١٦).
بيان أحوال الرسول ع ١٢ إلى ٢٦
١٢ «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ».
أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا علم الرسول حب الإخوة إياه وقلقهم من جهته وهو في السجن وخاف أن تبلغهم أنباء بأمره كاذبة فتزيدهم اضطراباً لذلك رغب في أن يشرح لهم حاله تمام الشرح وأن يبين لهم انفعالاته وآماله وأن يبشرهم بأن كانت نتيجة حبسه نجاح الإنجيل في رومية وضواحيها.
أُمُورِي أي أحوالي وأنا في سجن رومية كما جاء في (كولوسي ٤: ٧ وأفسس ٦: ٢١). وأشار بها إلى الشكايات عليه وإقامته بالسجن نحو سنتين وهو مربوط إلى الجندي ليلاً ونهاراً بسلسلة. وأول ما أتاه في بيان تلك الأحوال ما نشأ في سبيل الإنجيل عن سجنه. ولم يتكلم شيئاً في شأن نفسه من تعبه أو راحته وإهانته أو إكرامه. وهذا دليل على أن نجاح الإنجيل كان أول ما اهتم به وأنه أول ما يرغب مؤمنو فيلبي في سمع أنبائه. وهذا موافق لقول المرنم «إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي» (مزمور ١٣٧: ٥ و٦).
قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ كان كل من علم أمور بولس هذه يتوقع أن تكون مانعة من تقدم الإنجيل لكنها تحولت إلى أكثر ما يمكن أن ينتظر أو يُرجى من النجاح على عكس ما كان يخشى طبعاً.
كان الجندي الحارس لبولس يُبدل بغيره مراراً في كل يوم حسب سنة الرومانيين العسكرية وكانت نتيجة ذلك إن سمع كثيرون من أولئك الجنود الوثنيين كلام الإنجيل وكان لبولس أن يقبل كل من يأتي إليه ويتكلم معه (أعمال ٢٨: ١٦ و٣٠ و٣١) وكان ممن تنصر من زواره أنيسيموس (فليمون ١٠).
١٣ «حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ».
متّى ٢٧: ٢٧ وأعمال ٢٣: ٣٥ وص ٤: ٢٢
إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ «الوُثُق» جمع وثاق وهو ما يُشد به من قيد وسلسلة وحبل والمعنى شاع نبأ وُثقي مقترناً باسم المسيح فعلم الناس أني لم أُوثق لذنب ارتكبته بل لأني مسيحي فكان كل من يراني مشدوداً بالوُثق أو يسمع نبأ ذلك يسأل عن العلة فيجاب إنها إيماني بالمسيح والمناداة به فيكون الجواب وسيلة إلى تلك المناداة.
دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وهي في اليونانية بريتوريون (πραιτωριου) وسُمي به قصر بيلاطس في أورشليم (متّى ٢٧: ٧ ومرقس ١٥: ١٦) وقصر هيرودس الملك في قيصرية (أعمال ٢٣: ٣٥) والثكنة التي بناها طيباريوس قيصر في رومية لسكنى الحرس الملكي. وكان الجنود الذين حرسوا بولس قد أتوا من تلك الثكنة ثم رجعوا إليها وأنبأوا رفاقهم بكل ما رأوا وسمعوا من أموره. وهذا يوضح كيف كان مؤمنون في بيت قيصر (ص ٤: ٢٢) لأن حرس بيت قيصر كانوا من أولئك الجنود.
بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ أي ظهرت أموره فوق ظهورها في دار الولاية في سائر رومية وكل مكان يبلغه العسكر وغيرهم من المملكة الرومانية.
كانت رومية وقتئذ مركز العالم المتمدن فكان يأتي إليها كل من له دعوى في الحكومة وكل من رفع دعواه إلى قيصر من كل أقطار المملكة. وكان منها تُرسل الجنود والرؤساء ويخرج البريد إلى تلك الأقطار فينشأ عن ذلك أن يبلغها سريعاً كل ما عُرف في رومية.
١٤ «وَأَكْثَرُ ٱلإِخْوَةِ، وَهُمْ وَاثِقُونَ فِي ٱلرَّبِّ بِوُثُقِي، يَجْتَرِئُونَ أَكْثَرَ عَلَى ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلْكَلِمَةِ بِلاَ خَوْفٍ».
أَكْثَرُ ٱلإِخْوَةِ ذكر هنا نتائج سجنه في أكثر المؤمنين ولنا من ذلك أن بعضهم كان خائفاً من سجنه وأن بعضهم لم يكترث به.
وَاثِقُونَ فِي ٱلرَّبِّ بِوُثُقِي أي زاد إيمانهم بأن المسيح ربهم ومخلصهم وبحق الإنجيل وزادت غيرتهم للمناداة به وهم يرون شجاعة بولس واحتماله الشدائد بفرح ومواظبته التبشير وهو سجين فتحققوا أكثر مما تحققوا قبلاً قوة الإنجيل على عضد النفس وغيرته للتبشير حملتهم على بث البشرى.
بِٱلْكَلِمَةِ أي بالإنجيل.
١٥ «أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ يَكْرِزُونَ بِٱلْمَسِيحِ، وَأَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ مَسَرَّةٍ».
ص ٢: ٣
أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ لا ريب في أن هؤلاء القوم إخوة من الحزب الذي يميل إلى حفظ الرسوم اليهودية وقد قاوموا بولس في أكثر المواضع التي بشر فيها فهم الذين حذّر كنيسة فيلبي منهم (ص ٣: ٢) وأشار إليهم في الرسالة إلى كولوسي (كولوسي ٤: ١١). نعم إنهم بشروا بالمسيح ولكن بلا نية خالصة إذ كانت غايتهم تكثير الذين يتمسكون بالرسوم الموسوية ويقولون بوجوب تسمك المسيحيين بها فحسدوا بولس وأنكروا تعليمه التبرير بالإيمان دون أعمال الناموس واتخذوا سجن بولس فرصة للافتراء عليه وعلى تعليمه. إن بعض مؤمني رومية كانوا قد آمنوا بالمسيح منذ يوم الخمسين المذكور في الأصحاح الثاني من سفر الأعمال أي منذ عدة سنين قبل إيمان بولس ولا بد من أن هؤلاء كانوا رؤساء كنيستها ولعلهم عسر عليهم أن يروا بولس متقدماً عليهم في المقام والسلطة وهم قد آمنوا قبله.
فَعَنْ مَسَرَّةٍ أي عن رضىً وموافقة للرسول على تعليمه وعمله وابتهاج بمشاركته في المناداة بالإنجيل.
١٦، ١٧ «١٦ فَهٰؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِٱلْمَسِيحِ لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ، ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقاً.١٧ وَأُولٰئِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ، عَالِمِينَ أَنِّي مَوْضُوعٌ لِحِمَايَةِ ٱلإِنْجِيلِ».
ع ٧
هٰؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ أشار «بهؤلاء» إلى القسم الأول المذكور في (ع ١٥) فكان عملهم كعمل المائلين إلى حفظ الرسوم الموسوية من متنصري اليهود في أورشليم (أعمال ٢١: ٢٠ و٢١) وأنطاكية (أعمال ١٥: ١ و٢ و٥) وكورنثوس (١كورنثوس ٣: ٣ و١٠ و٢كورنثوس ١٠: ٢ و ٩ و١٠ و١١: ١٣ وغلاطية ٣: ٤ و٤: ١٧).
لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ أي ليس عن محبة للمسيح وإنجيله ولا عن غيرة للحق ورغبة في خلاص نفوس الهالكين كما قيل في أمثالهم (٢كورنثوس ١١: ١٣ و٢٠ وغلاطية ٦: ١٢).
ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقاً أي يجعلونني مضطرب الأفكار فوق آلام سجني بمقاومتهم تعليمي أن للمؤمنين أن يدخلوا كنيسة المسيح بلا ختان أو غيره من الرسوم الموسوية وبإنشائهم في رومية حزباً كأحد الأحزاب التي في كورنثوس يوم قال بعضهم «أَنَا لِبُولُسَ، وَأَنَا لأَبُلُّوسَ، وَأَنَا لِصَفَا، وَأَنَا لِلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ١: ١٢) وتهييجهم غضب مضطهديه بتنديدهم به افتراء. وفي قوله «ظانين الخ» تلميح إلى أنهم لم يبلغوا مرادهم منه.
أُولٰئِكَ الخ أشار بهذا إلى القسم الثاني المذكور في الآية الخامسة عشرة وهو «أكثر المؤمنين» (ع ١٤) وهؤلاء اعتبروا بولس سفير المسيح سُجن ظلماً من أجل ربه فرغبوا في أن يساعدوه على عمله ومحاماته عن الإنجيل كما جاء في (ع ٧) حباً للرسول ولسيده ولنفوس الناس الهالكين. فكان عملهم من أحسن معزيات الرسول في وُثقه.
١٨ «فَمَاذَا؟ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقٍّ يُنَادَى بِٱلْمَسِيحِ، وَبِهٰذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضاً».
فَمَاذَا؟ أي فما نتيجة عمل المعلمين الذين نادوا بالمسيح «عن حسد وخصام».
عَلَى كُلِّ وَجْهٍ… يُنَادَى بِٱلْمَسِيحِ كان تعليم الإخوة الذين مالوا إلى حفظ الرسوم الموسوية من متنصري رومية يختلف عن تعليم الذين مالوا إلى حفظها في كورنثوس لأن أولئك كانوا «يكرزون بيسوع آخر وبإنجيل آخر» (٢كورنثوس ١١: ٤). وعن تعليم الذين مالوا إلى حفظها في غلاطية لأنهم كانوا كذلك (غلاطية ١: ٦) ولعل علة حفظ الذين كانوا في رومية من ضلال الذين كانوا في كورنثوس وغلاطية وجود رسالته إليهم عندهم منذ خمس سنين قبل كتابة هذه الرسالة. ومع أن غاية أولئك المبشرين المقاومين لم تكن عن إخلاص لأنهم نادوا بالإنجيل عن تحزب لم يقل بولس أنهم غيّروا حقائق تعليم أمور المسيح وطريق الخلاص إلى حد لا ينتفع عنده السامعون يتعليمهم فإنه فضل أن يتعلم منهم وثنيوا رومية الإنجيل ناقصاً مثقلاً بالرسوم اليهودية على أن يُتركوا في ظلمة الوثنية الكثيفة ونتائجها الفظيعة التي أبانها في الأصحاح الأول من الرسالة إلى رومية. ونظر في ذلك إلى ما يوافق قول المرنم «غضب الإنسان يحمدك» (مزمور ٧٦: ١٠). وقول إشعياء في أشور أنه «قضيبه غضب الله وعصاه سخط الله أَمَّا أشور فَلاَ يَفْتَكِرُ هٰكَذَا، وَلاَ يَحْسِبُ قَلْبُهُ هٰكَذَا» (إشعياء ١٠: ٥ و٧).
بِهٰذَا أَنَا أَفْرَحُ رغب بولس في أن ينادى بالمسيح وإنجيله لأنه قوة الله وحكمة الله لخلاص سامعيه لكنه لم يرغب في شرفه بين الناس ولا كثرة الذين يحسبون أنفسهم من تابعيه فإنه كان يرغب في أن تصل الناس البشرى بيسوع مصلوباً ويخلصوا بها بأي طريق كانت. فكان شأنه كشأن موسى إذ سأله يشوع أن يردع ألداد وميداد من التنبئ وهم ليسوا في خيمة الاجتماع فقال له: «هَلْ تَغَارُ أَنْتَ لِي؟ يَا لَيْتَ كُلَّ شَعْبِ ٱلرَّبِّ كَانُوا أَنْبِيَاءَ» (عدد ١١: ٢٩) وشأن يوحنا المعمدان يوم قال له تلاميذه «يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الإردن الذي أنت قد شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه فقال لهم: «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا ٣: ٣٠). فلو كان كل المبشرين بالإنجيل مثل بولس في ذلك لم يكن من تحزب في الكنيسة كما هو الواقع وكان الاتفاق والمحبة بين كل فرق النصرانية وكان الإنجيل تقدم بسرعة عجيبة لأن ليس من الموانع لدخول الإنجيل بين الكفرة وغير التائبين أعظم من الاختلاف بين المسيحيين.
بَلْ سَأَفْرَحُ مهما يقع عليّ من التجارب الناشئة عن تنديد هؤلاء الأعداء ومقاومتهم على أن ينادوا بالمسيح.
١٩ «لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
٢كورنثوس ١: ١١ رومية ٨: ٩
هٰذَا أي تنديدهم به ومقاومتهم إياه.
يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ أي خلاص بولس كما تدل القرينة لأنه تيقن أن تلك المضادة تكون سبيلاً إلى تقوية حياته الروحية وتأهيله لأمجاد السماء التي هي عاقبة الخلاص. ولم يرد بذلك خلاص جسده من خطر أو موت لأنه قال في الآية التالية إن الموت ليس خسارة له بل ربحاً. فاعتقد أن كل المصائب وسيلة إلى تقديسه وتمجيده (٢كورنثوس ٤: ١٧) وحسب تلك المضادة من جملتها.
بِطِلْبَتِكُمْ الخ قال هذا تواضعاً وبياناً لوفرة اعتباره صلاتهم. فتوقع انه يُعطى نعمة الروح القدس إجابة لتلك الصلاة «بمؤازرة» (غلاطية ٣: ٥). وبذلك تتحول عداوة مقاوميه في الكنيسة إلى نفعه الروحي. وسمى الروح القدس هنا «بروح يسوع المسيح» كما في (رومية ٨: ٩ وغلاطية ٤: ٦ و١بطرس ١: ١١) لأنه يرسله ولأنه امتلأ به حين كان على الأرض واقتيد به (لوقا ٤: ١). واعتبر الروح القدس هنا الهبة والواهب لأنه حيث كان هو كانت النعمة. وأصل التعزية الحقة في كل نازلة هو روح المسيح يناله المؤمن إجابة لصلاته وصلاة إخوته من أجله.
٢٠ «حَسَبَ ٱنْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذٰلِكَ ٱلآنَ، يَتَعَظَّمُ ٱلْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ».
رومية ٨: ١٩ رومية ٥: ٥ أفسس ٦: ١٩ و٢٠
حَسَبَ ٱنْتِظَارِي وَرَجَائِي الانتظار والرجاء في أصلها اليوناني يعنيان أنه يرجو أن لا يعمل في أثناء ما يقع عليه من الأرزاء شيئاً يستوجب الخجل عليه أو على أحد من أصدقائه لا حين يقاومه أعداؤه ولا حين يقف أمام نيرون للمحاكمة ولا حين يكون في خطر الموت فلا ينكر حق الإنجيل ولا يخاف أن يشهد بكل مبادئه. رغب الرسول في شيئين أكثر من سواهما وهما نجاح الإنجيل على يده وخلاص نفسه فتيقن أنه لا يخزى من نتائج تبشيره بمقاومة بعض الناس إياه وإن رجاءه الخلاص لا يبطل بذلك.
أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ من عملي لأجل المسيح وعمل المسيح فيّ. والمعنى أنه يرجو أن لا يعمل في أثناء ما يقع عليه من الأرزاء شيئاً يستوجب الخجل عليه أو على أحد من أصدقائه لا حين يقاومه أعداؤه ولا حين يقف أمام نيرون للمحاكمة ولا حين يكون في خطر الموت فلا ينكر حق الإنجيل ولا يخاف أن يشهد بكل مبادئه. رغب الرسول في شيئين أكثر من سواهما وهما نجاح الإنجيل على يده وخلاص نفسه فتيقن أنه لا يخزى من نتائج تبشيره بمقاومة بعض الناس إياه وإن رجاءه الخلاص لا يبطل بذلك.
كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ إنه منذ ابتدأ بولس يعلّم ويبشر منحه الله القوة على المجاهرة لكي يتكلم بكل مشورة الله كما منح سائر الرسل (أعمال ٤: ٣١ و١٤: ٣ و١٨: ٢٦).
يَتَعَظَّمُ ٱلْمَسِيحُ يظهر من سياق الكلام أنه كان الوجه أن يقول أمجد المسيح بمجاهرتي لكنه لم يرد أن ينسب شيئاً إلى عمله فقال «يتعظم المسيح».
فِي جَسَدِي معتبراً جسده آلة لتمجيد المسيح بكلامه إن بقي حياً ولتمجيده بآلامه وموته إن مات شهيداً. وهذا موافق لقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ٱلْمَائِتِ» (٢كورنثوس ٤: ١٠ و١١). وكثيراً ما جاء الجسد في الإنجيل كآلة للخطية ولكنه جاء هنا آلة لتمجيد الله كما في قوله «فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ» (١كورنثوس ٦: ٢٠). وقوله «لْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١تسالونيكي ٥: ٢٣). وقوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (١كورنثوس ٦: ١٩).
بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ انتظر أنه إن بقي حياً يعمل للمسيح فيتمجد بمناداته وإن مات شهيداً يتحد معه في السماء ويمجده هنالك بتسابيحه.
٢١ «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ».
لِيَ أفاد بذلك أنه ليس كغيره ممن يرون في الموت أو الحياة ما يحملهم أن يفضلوا أحدهما على الآخر لكنه حُصر بين الأمرين فلم يعلم أيهما يختار لأنه رغب في أن يترك خيمة جسده ويكون مع المسيح في السماء ورغب أيضاً في أن يفيد إخوته المحتاجين إلى تعليمه ومساعدته وأنه ما دام في هذه الحال يشعر أن صوتاً يخاطب روحه ويحقق له أنه يبقى حياً إلى حين ليثبت إيمانهم ويزيد فرحهم.
ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ أي إني أحيا بالاتحاد بالمسيح فليس لي حياة بالانفصال عنه. وهذا موافق لقوله «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (غلاطية ٢: ٢٠) كان المسيح مصدر حياته الروحية منذ آمن به لكنه لم يقصد ذلك هنا بل بيان حاله حين كتب هذه الرسالة. فإن ظواهر حياته لم تكن إلا ظواهر حياة المسيح فيه ولذلك لم تكن أفكاره إلا الأفكار التي أنشأها المسيح فيه ولا أقواله ولا أفعاله إلا مما أمره المسيح به وقدّره عليه. وهو لم يحيَ ليكسب العلم أو الشرف أو اللذة أو المال فلم تكن غايته إلا إرضاء المسيح وتمجيده. وهذا يتضمن أنه قصد أن يعرف المسيح كل المعرفة وأن يقتدي به ويطيعه وأن يجعل غيره يعرف المسيح ويحبه ويتكل عليه.
وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ يريد أنه إن قُتل في محاكمته أمام نيرون لم يكن بذل حياته خسارة بل ربحاً على أنه لم يرد أن الموت نفسه ريح لأنه كان يخشى ألم الموت كسائر الناس بل أراد الحال التي يصير إليها بعد الموت. والموت عند الإنسان الدنيوي خسارة كل محبوب إليه لكنه عند المسيحي عكس ذلك لأنه بالموت يزيد اتحاده بالمسيح وشعوره بذلك الاتحاد. وهذا أول أسباب حسبانه الموت ربحاً لأن الذي يحبه وإن لم يره وجهاً لوجه ويبتهج بمشاهدته. ومن أسباب كون الموت ربحاً للمؤمن انه يتخلص من الخطيئة وكل متعلقاتها الجسدية والروحية ومن التجارب والأحزان والآلام والأتعاب والأعداء والمضطهدين ومنها اجتماعه بالأصدقاء في السماء ونيل سعادة السماء التي تفوق سعادة الأرض بما لا يوصف. فيكون ربحه أعظم من ربح الأسير المهان إذا أُطلق من السجن إلى القصر ضيفاً مكرماً وأوفر من ربح المريض المتألم إذا نال الشفاء التام وأسمى من ربح المنفي من وطنه وأحبائه إذا رُد إليهما. وتيقن بولس ذلك شجعه على أن يتوقع الموت مسروراً.
٢٢ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي!».
إِنْ هي هنا للقطع لا للشك.
ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ أي الحياة على الأرض. قال هذا مقابلة للحياة في السماء التي رآها ربحاً.
هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي أي هي شرط ضروري لإثمار عملي فكأنه قال إن الله وهب لي الحياة لتكون أتعابي مثمرة. قال آنفاً «إن الموت ربح» له لكنه كان يشتهي كثيراً أن يكون تعبه مثمراً كقوله «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَاراً كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى ٱلآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ» (رومية ١: ١٣). وقوله «اطلب الثمر المتكاثر لحسابكم» (ص ٤: ٧). وبقاؤه ضروري لإثمار أعماله ونضجه. وهذا جعله يتردد في ما يختاره من الموت والحياة فإنه ينال بالموت سعادة في السماء أوفر من السعادة التي له على الأرض ولكنه ببقائه حياً يخلص كثيرون من الفيلبيين من الموت الأبدي في جهنم وينالون الحياة الأبدية في السماء. فلا عجب من أن يتوقف عن أن يؤثر الربح لنفسه على ربح كثيرين من النفوس.
فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي أي إن خيّره الله بين الموت والحياة لم يدر أيهما يختار فإنه يرى أسباباً ليريد كلاً من الأمرين لكنه لم ير سبباً لإيثار أحدهما على الآخر.
٢٣ «فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ: لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً».
٢كورنثوس ٥: ٨ و٢تيموثاوس ٤: ٦ ورؤيا ١٤: ١٣
فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ رغب في الموت مع السعادة ورغب في الحياة مع العمل لنفع غيره وذكر الأمرين لبيان صعوبة اختيار أحدهما على الآخر.
لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ أي بالنظر إلى نفسي دون النظر إلى غيري. وبقوله «أنطلق» اعتبر حياته على الأرض كالسكن في الخيمة (٢كورنثوس ٥: ١) أو كحياة بني إسرائيل في البرية يرحلون من موضع إلى آخر حتى بلغوا أرض الميعاد وسكنوها. واعتبر السماء أرض الميعاد العلوية التي هي الميراث الأبدي لشعب الله.
وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ من تعليم الإنجيل أن نفوس المؤمنين عند الموت تدخل حالاً السماء وتصير في حضرة الرب (لوقا ٢٣: ٤٣ وأعمال ٧: ٥٩ و٢كورنثوس ٥: ٦ – ٨ وعبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣). وهذا عند الرسول الجزء الأعظم من الربح الذي ذكره في الآية الحادية والعشرين. فانطلاقه يُدخله إلى حضرة المسيح وهذا يؤكد قداسته وسعادته كقول يوحنا الرسول «نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وكثيراً ما عُبر في الإنجيل عن موت المؤمنين «بالنوم» (١كورنثوس ١٥: ٥١ و٥٢ و١تسالونيكي ٤: ١٤ – ١٦ ورؤيا ١٤: ١٣). والمراد بذلك بيان أن ذلك الموت راحة من تعب تعقبه القيامة لا إن النفس تفقد إحساسها كالجسد الميت إلى يوم الدين.
ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً من الحياة في الجسد على الأرض وهذا يمنع من القول بأن النفس المتوفاة تبقى بلا حس إلى يوم المعاد وفي هذا بيان شدة محبته للمسيح ورغبته في أن يكون معه وعظمة الربح بذلك. لكن لا يكون كذلك إلا موت الذين اتحدوا بالمسيح بالإيمان وهم على الأرض وموت غيرهم كل الخسارة الأبدية. هذا وإن اشتهاء الموت في نفسه ليس بدليل على استعداد مشتهيه له فربما اشتهى الإنسان الموت للتخلص من الألم أو اليأس أو شدة الندم أو جهد البلاء.
٢٤ «وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ».
أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أي حياً على الأرض وهذا مبني على أن للنفس حياة مستقلة عن الجسد فتقدر أن تحيا بدونه كما تحيا فيه.
أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ علم الرسول أن الله استحسن أن يستخدم البشر وسيلة إلى خلاص الناس مع أنه غني عنهم وعلم أن الكنائس التي أنشأها هو (وإحداها كنيسة فيلبي) مفتقرة إلى عنايته بها ليستفيدوا من اختباره وسيرته ونصائحه وإنذاراته وتعزياته. واشتهى هذا النفع لهم لكي يتمجد المسيح بخلاصهم علاوة على انتفاعهم. فهو نظير والد له أولاد قاصرون يحتاجون إلى أن يغذيهم مدة طفوليتهم فاشتهى أن يبقيه الله حياً إلى أن يبلغوا سن الرشد.
٢٥ «فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهٰذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي ٱلإِيمَانِ».
ص ٢: ٢٤
فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهٰذَا لم يقل أن ذلك مما أعلنه الله له صريحاً لكنه تحققه بقلبه ورأى أنه لا يكون إلا بإرشاد الروح القدس. فثقته هنا كثقته في قوله في (ص ٢: ٢٤). وعلم أيضاً أن بقاءه حياً مما تحتاج إليه الكنائس وهذا حمله على اعتقاد أن الله يقضي بما احتاجت إليه الكنائس أي ببقائه حياً. والنتيجة أثبتت صحة ثقته (انظر ١تيموثاوس ١: ٣).
أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ أي لا أزال حياً لنفعكم ونفع سائر الكنائس.
لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي ٱلإِيمَانِ توقّع أنه بواسطته يتقوى المؤمنون بمعرفة الإنجيل وبإيمانهم بالمسيح وينتج من ذلك ازدياد فرحهم لأنه به تتبدد ظلمتهم وتُغلب تجاربهم ويشتد اتحادهم بالمسيح فاعقتد أن فرحهم يزيد أيضاً بوجوده بينهم.
٢٦ «لِكَيْ يَزْدَادَ ٱفْتِخَارُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضاً عِنْدَكُمْ».
٢كورنثوس ١: ١٤ و٥: ١٢
لِكَيْ يَزْدَادَ ٱفْتِخَارُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ إن افتخار الإنسان بنفسه إثم ناشئ عن الكبرياء لكن افتخاره بالمسيح اعتراف رحمته تعالى إياه ووسيلة إلى تمجيد الله. ومقصود الرسول أن الفيلبيين ينالون بواسطة تعليمه وسيرته وصلواته زيادة نعمة من الرب يسوع المسيح وهذا يحملهم على الشكر والحمد والتمجيد للمسيح.
فِيَّ أي بواسطتي. قال ذلك لأنه إن بقي حياً على الأرض نسب الفيلبيون بقاءه إلى المسيح وحمدوه عليه.
حُضُورِي أَيْضاً عِنْدَكُمْ اعتقد أنه إذا أُطلق من السجن صار إليهم كما قال في (ص ٢: ٢٤).
حث الرسول على الثبات في أثناء الضيقات ع ٢٧ إلى ٣٠
٢٧ «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِباً أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ ٱلإِنْجِيلِ».
أفسس ٤: ١ وكولوسي ١: ١٠ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و٤: ١ ص ٤: ١ و١كورنثوس ١: ١٠ ويهوذا ٣
فَقَطْ أي ما يأتي هو الأمر الأهم الذي أمركم به (حاضراً كنت أو غائباً) ليكمل فرحي فيكم.
عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ أي لتكن سيرتكم كما يليق بعبيد المسيح وبإخوة في الكنيسة وبأعضاء ملكوت الله على مقتضى السنن المعلنة في الإنجيل. فهذا كقوله «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ… أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا» (أفسس ٤: ١). وقوله «لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ» (كولوسي ١: ١٠). فيجب على المسيحي أن يعيش بمقتضى مبادئ الإنجيل في بيته وفي متجره وفي عبادته في بيت الله وفي كلامه وهيئة ملبوسه ونوعه في شغل وقته واستعمال ماله وتصرفه مع المؤمنين وغيرهم حتى يعتبره جميع الناس صادقاً مستقيماً فاعل الخير غير محب لذاته بل تابعاً لذلك «ٱلَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً» (أعمال ١٠: ٣٨).
حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ قال ذلك على فرض أنه يُطلق من السجن فإنه قصد بعد ذلك إن أمكن الإتيان إليهم.
أَوْ كُنْتُ غَائِباً ببقائي في سجن رومية أو بدعوة الله إياي إلى الخدمة في غير فيلبي أي في رومية أو غيرها بعد إطلاقي من السجن.
أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أي نبأ أموركم. إن محبته لأولاده الذين ولدهم بالبشرى حملته على أن يسأل دائماً عن أحوالهم كالوالد المحب الذي يسأل عن أولاده بعد المفارقة.
أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ أي متحدين كأعضاء جسد واحد وأهل بيت واحد على وفق طلب المسيح إلى أبيه لتلاميذه وهو على وشك أن يفارقهم وهو قوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١) فإنهم إذا ثبتوا كذلك عاشوا كما يحق لإنجيل المسيح.
مُجَاهِدِينَ مَعاً الخ هذا الشرط الثاني لكي يعيشوا كما يحق للإنجيل فيجب أن لا يكتفوا بمعرفته والتمتع بآماله وبركاته بل أن يبذلوا جهدهم في نشره بين غيرهم لينتفعوا به وبذلك يتمجد الله. وقوله «مجاهدين» يستلزم وجود الحرب بين الحق والباطل وبين الله والشيطان يجاهد فيها كل جنود المسيح يداً واحدة لكي ينتصر الحق ودين الله.
والمراد «بإيمان الإنجيل» الدين المسيحي المعلن بالإنجيل.
٢٨ «غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ، ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ، وَذٰلِكَ مِنَ ٱللّٰهِ».
٢تسالونيكي ١: ٥ رومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١١
غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ هذا ضروري لكي يثبتوا وقصد أعدائهم تخويفهم عالمين أن الخوف مما يحمل الإنسان على الرجوع عن الإيمان.
مِنَ ٱلْمُقَاوِمِين من الوثنيين كالذين اضطهدوا بولس في أول إتيانه إلى فيلبي (أعمال ١٦: ١٩ – ٢٢) ومن اليهود كالذين قاوموه في تسالونيكي وبيرية (أعمال ١٧: ٥ و١٣). فلا عجب من أن ما أصاب بولس أصاب مؤمني فيلبي أيضاً وأشار إلى مقاومة أولئك المقاومين في (ع ٢٩ و٣٠).
ٱلأَمْرُ أي ثباتهم زمن الاضطهاد.
لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ يريد أن ثباتهم دليل على هلاك المقاومين لأنه آية على أن ليس لهم من سلطان عليكم وإنهم يقاومون قوة أعظم من قوتهم أي قوة إلهية لا بد من أن يسقطوا بها إلى الموت الأبدي «عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (٢تسالونيكي ١: ٧).
وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ من الموت الثاني كقوله لمؤمني تسالونيكي إن آلامهم لأجل ملكوت الله بيّنة على أنهم حُسبوا أهلاً لأن يكونوا من أعضاء ذلك الملكوت. ولا ريب في أن هذه البيّنة عزّت بولس وسيلا في سجن فيلبي حتى أمكنهما أن يسبحا الله في شدة ضيقهما وآلامهما على إعطاء الله إياهما ذلك آية لخلاصهما.
لم يقل أن آلامهم واسطة لخلاصهم بل بيّنة من الله على أنهم من جملة المخلصين بالإيمان بالمسيح.
وَذٰلِكَ مِنَ ٱللّٰهِ الذي وحده يمنحكم القوة لكي تثبتوا غير مخوفين أمام مقاوميكم. إن شجاعتهم وثباتهم كانا شهادة من الله بأنهم يخلصون.
٢٩ «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ».
أعمال ٥: ٤١ ورومية ٥: ٣ أفسس ٢: ٨
قَدْ وُهِبَ لَكُمْ من نعمة الله على سبيل البركة. وجاءت «الهبة» بهذا المعنى في (أعمال ٢٧: ٢٤ و١كورنثوس ٢: ١٢ وغلاطية ٣: ١٨).
لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ إن الله وهب لهم الشجاعة والثبات لنسبتهم إلى المسيح ولتألمهم من أجله وشهادتهم بحقه فلم تكن شجاعتهم طبيعية أو ناشئة عن الشعور بالخطر ولا عن العناد ولا عن الجنون كما قال الوثنيون مراراً كثيرة حين قتلوا المسيحيين لامتناعهم عن تقديم الذبائح للأوثان إنما هي ناشئة عن نعمة الله ومحبتهم للمسيح (أعمال ٥: ٤١).
لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ إن الإيمان عطية الله ينشئه الروح القدس في المختارين (يوحنا ١: ١٢ و١٣). وهذا لا ينفي أن الإيمان من فعل الإنسان أيضاً فإن الله يضع موضوع الإيمان أمام الإنسان ويقدّره على أن يؤمن به.
بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ يعسر على أهل العالم أن يدركوا كيف أن المؤمنين يعتبرون الآلام من أجل المسيح نعمة ولكن الإنجيل صرّح بذلك وعليه قول لوقا «أَمَّا هُمْ (أي الرسل) فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ ٱلْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ (أي اسم المسيح)» (أعمال ٥: ٤١). وقول بولس «أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي» (كولوسي ١: ٢٤). وقول بطرس «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (١بطرس ٤: ١٣ انظر مرقس ١٠: ٣٠ ويعقوب ١: ٢). إن المسيحيين يحسبون ما يقع عليهم من الاضطهاد علامة رضى الله عنهم لتبيينه أنهم متحدون بالمسيح ومشاركون له في ضيقاته. ولأنهم أحبوا المسيح وإنجيله يحبون كل ما يشهد بصحة دعاويهما فيثبت أنهم للميسح بدليل قوله تعالى «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ لَكَانَ ٱلْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلٰكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ، بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ، لِذٰلِكَ يُبْغِضُكُمُ ٱلْعَالَمُ» (يوحنا ١٥: ١٩). ولأنهم يعلمون أن عاقبة حمل الاضطهاد لأجل المسيح إكليل الحياة (رؤيا ٢: ١٠) وأن المسيح كُمّل بالآلام ليهب الخلاص للمؤمنين فلاق أن يكملوا بها ليقبلوا الخلاص (عبرانيين ٢: ١٠).
٣٠ «إِذْ لَكُمُ ٱلْجِهَادُ عَيْنُهُ ٱلَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، وَٱلآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ».
كولوسي ٢: ١ أعمال ١٦: ١٩ الخ و١تسالونيكي ٢: ٢
ٱلْجِهَادُ عَيْنُهُ أي المحاربة الروحية في سبيل المسيح وإنجيله التي دُعي إليها كل المسيحيين في كل العصور.
ٱلَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ أشار بذلك إلى سجنه في فيلبي وجلده هناك (أعمال ١٦: ١٩) ولم يُرد أنهم أُصيبوا بما أُصيب به من الشكاية الباطلة والضربات بل إنهم اضطهدوا اضطهاداً شديداً كاضطهاده وللغاية التي هو اضطُهد لها.
وَٱلآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ وأنا في رومية فإنهم سمعوا نبأ سجنه هناك وأرسلوا أبفرودتس ليخدمه وكانوا على وشك ان يسمعوا أنباءه أيضاً بعد رجوع أبفرودتس حاملاً رقيم الرسول.
السابق |
التالي |