
أولًا: أبانا الذي في السماوات.
الصلاة التي علّمها المسيح لتلاميذه لهي من الصلوات الهامة في تاريخ الإيمان، وفيها يُقدم المسيح تعاليمًا ورؤى جديدة على الإنسان:
- من الأمور الهامة التي ركز عليها المسيح في كل تعاليمه، هي علاقة الإنسان بالله، تلك العلاقة التي أكد فيها السيد المسيح كيف أن الله هو آب محب للإنسان، والإنسان ما هو إلا ابن لله، ولأنه يعرف ما قد يشوه علاقة الأباء بالأبناء فقد أوضح أن علاقة الإنسان بالله مثلها مثل علاقته هو بالآب، كما أوضح كيفية أن يُصبح الإنسان ابنًا لله.
- أعلن المسيح في تعاليمه حقًا جديدًا لم يتناوله أحد من قبل، هو أن الله خالق السماوات والأرض، القائم منذ الأزل، وإلى الأبد، له كل القدرة والقوة والسلطان. هو أبونا السماوي، ونحن أبناؤه. أكد هذه العلاقة، علاقة الأب بالابن، العلاقة بين الله والإنسان في تعاليمه وقال: “وَلاَ تَدْعوُا لَكُم أَبًَا عَلَى الأَرَضِ لأَنَ أَبَاكُمْ وَاَحِدُ الَذَّي فيِ الَسَمَاوَاتِ” (متى 23: 9).
- وللحصول على هذه البنوَّة، يكون بالمسيح يسوع وحده، الذي نولد فيه ولادة جديدة، ونَتَّحِد به بالروح. جاء نيقوديموس إلى المسيح ليلًا، وسأله عن الطريق إلى ملكوت الله، فأجابه المسيح: “إِنْ كَاَنَ أَحَدُ لاَ يُولَدُ مِنَ المَاءِ وَالرُوح لاَ يَقْدِر أَن يَدْخُلَ مَلَكُوتَ الله” (يوحنا 3: 5) والإنسان يصبح ابنًا لله، بالإيمان بالمسيح: “إِلىَ خَاَصَّتهُ جَاءَ وَخَاصَّتهُ لمَ تَقْبَلَهُ. وَأَمَا كُلُّ اَلَّذِينَ قَبِلوه فَأَعطَاهُمْ سُلْطَاَنًا أَن يَصِيروُا أَولاَدَ الله أَي المَؤُمْنُونَ بِاسمِهِ” (يوحنا 1: 11،12).
- لم يقدم المسيح وصايا وشرائع وحدودًا تُتَّبع بحذافيرها، ومَن يعصى ينل العقاب، ومَن يُطِع ينل الثواب، المؤمن “ابن لله” يطيع وصايا الله، لأنه أباه الذي يحبه، ويسعى لإرضائه. المؤمن في كل سلوكياته وتصرفاته يسلك ويتصرف ويحيا حياة ابن الله. وهذه الصفة والهوية، تحكم حياة المؤمن، وتشكل أفعاله حسب انتظارات الله، لا انتظارات الناس.
ثانيًا : قال في العبادة والطقوس الدينية
كان اليهود يمارسون طقوسًا كثيرة متعددة حددها الناموس… وكان من يَكْسِر وصية واحدة منه، يكون مذنبًا في الكل.. مستحقًا لأقصى عقاب، وجاء المسيح وعَلَّم وقال:
- في الصدقة (متى 6: 1 – 4)، بمفهوم بنوَّة المؤمن لله، وتصرفاته ارضاءًا لله لا للناس، أوصى أن تكون الصدقة في الخفاء، بعيدًا عن التظاهر أمام الناس، والآب الذي في السماء، الذي يرى في الخفاء، يجازى علانية. وعَلَّم المسيح أن الفقراء والمحتاجين إخوة له، والإحسان إليهم إحسان له (متى 25: 31-46).
- في الصلاة (متى 6: 5 – 8) كان الناس حين يُصَلُّون، يقفون في الشوارع ويرفعون أصواتهم، ويبالغون في السجود والقيام؛ ليلفتوا أنظار الناس إليهم.. أما المسيح فقال : “مَتَى صَلَّيتَ فَادْخُلَ إِلىَ مخَدْعَكَ وَأَغْلِقَ بَابَكَ وَصَلِّ إِلىَ أَبِيَكَ الَّذي فيِ اَلخَفَاءِ فَأَبُوكَ الّذيِ يَرَى فيِ الخَفَاءِ يجُاَزِيكَ عَلاَنِيةً” ولما كانوا يطيلون ويكررون الكلام باطلًا، وضع أمامهم نموذجًا جديدًا للصلاة، هو الصلاة الربانية. (متى 6 : 9-13)
- في الصوم (متى 6: 16 – 18) وفي نفس المفهوم ولنفس السبب، أننا نمارس العبادة والطقوس الدينية، إرضاء ومحبة لأبينا السماوي، أوصى المسيح ألاَّ نصوم عابسين صارخين غاضبين، بل فرحين مبتهجين سعداء، فالصوم لله لا للناس. يُخطئ البعض، حين يتصورون أن الصوم إذلالًا للنفس وتعذيبًا لها، لمشاركة مشاعر الجياع المحتاجين. الصوم عبادة.. والعبادة ابتهاج.. وأبونا السماوي لا يُذِلُّ أو يُعَذِّب بل يرى في الخفاء، ويجازي علانية.
ثالثًا : قال في السلوك والحياة اليومية
- في محبة المال (متى 6: 19 – 24) يطلب المسيح منَّا ألا نكنز أموالًا على الأرض، فكل ذلك للزوال يضيع ويتبخر سريعًا.. بل الأوْلَى أن نكنز كنوزًا في السماء، حيث البقاء وعدم الفناء. ويصور من يسعى للحصول على المال بكل الوسائل، كعبد يخدم سيدًا هو المال، ولا يستطيع أحد أن يخدم سيدين هما الله والمال.
- في الاهتمام بالأمور المادية (متى 6: 25 – 33) ابن الله لا يحيا حياة القلق والخوف من المستقبل. يقول المسيح “لاَ تهَتْمَوُا لحِيَاتَكُمْ بمِاَ تَأَكُلُونَ وَبمِاَ تَشَربُونَ. وَلاَ لأَجْسَاَدِكُمْ بمِاَ تَلبَسُونَ أَلَيْسَتِ الحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالجَسَدُ أَفضَل مِنَ اللَّبَاسِ” ويضرب المسيح المثل بطيور السماء وزنابق الحقل كيف أن الله يهتم بها ويرعاها، ثم ينتقل للإنسان مؤكدًا على أهمية الإنسان الذي هو صورة الله، وكيف أن الله يرعاه بأكثر من كل الطيور والزنابق، إنما ما يطلبه الله من الإنسان فقط هو الاهتمام بملكوت الله وكيفية تحقيقه، وهو سيتولى أمر الطعام والشراب والمسكن وغيرها، اسمعه يؤكد : “أَطْلُبَوا أَوَلًا مَلَكُوتُ الله وَبِرَهُ وَهَذِهِ كُلْهَا تُزَاَدُ لَكُمْ “. على أن هذا التأكيد لم يكن دعوة للكسل والتراخي بل هو دعوة من رب الكون لأن يكون اهتمامنا الأول انعكاس لمحبته نحونا، وهو سوف يزيد على ما نحتاجه ما لم نطلبه أو حتى نفتكر فيه.
- في التعامل بين الناس (متى 7: 1 – 5) ينزلق الإنسان بسرعة نحو دينونة الغير، غير عالمٍ انه في الوقت الذي يدين فيه غيره قد يكون في وضعٍ يتطلب فيه دينونة أقسى، لذلك علَّم المسيح أن لا يدين أحد أحدًا… فالذي يَدِين غيره، في واقع الأمر هو مُدان، والذي يكيل للغير فبالكيل الذي يَكُيل به يُكالُ له. ونصيحة السيد هنا هي أن الإنسان قبل أن يتسرع في دينونة غيره، يقف قبلًا ليحاسب نفسه أولًا و ينقي ما بداخله ليرى الأخر بعينٍ طاهرة لا تحمل ضغينة أو دينونة، اسمعه حين يقول : “وَلمِاَذَا تَنْظُرُ القَذَىَ الَذي فيِ عَيْنُ أَخِيكَ وَأَمَا الخَشَبَةُ الَتيِ فيِ عَيْنَك فَلاَ تَفْطِنْ لهَا أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأِخَيِكَ دَعْنيِ اُخْرِجُ الَقَذَىَ مِنْ عَيْنكَ وَهَا الخَشَبَةُ فيِ عَيْنِكَ يَا مُرَاِئي اَخْرِجُ أوَّلاَ الخَشَبَةُ مِنَ عَيْنِكَ وَحِينَئَذٍ تُبْصِرُ جَيَّدًَا أَنْ تخُرِجُ الَقَذَى مِنَ عَينَ أَخِيَكَ”
- القانون الذهبي (متى 7: 7 – 12) وينحصر ذلك القانون الذي وضعه المسيح في الأساس الذي يجب أن تقوم عليه علاقاتنا بالأخرين، فحين نتوقع أو نريد معاملة حسنة من الغير لنا، يجب علينا أولًا أن نُظهر نحن تلك المعاملة نحوهم وهذا ما قصده المسيح حين قال : “فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَاسَ بِكُمْ اْفَعَلُوا هَكَذَا اَنْتُم أَيْضًَا بهِمِ لأَنَ هَذَا هُوَ النَامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ”
- في الطهارة (متى 15: 1 – 20، مرقس 7: 1 – 23) وجاء اليهود يشتكون إليه، أن تلاميذه لا يغسلون أيديهم قبل تناول الطعام. واحتجوا بأهمية تطهير الجسد بالغسل والتنظيف، إلا أن المسيح قال لهم: “لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الَفَّمِ يُنَجِسُ الإِنَسَانَ. بَلْ مَا يخَرُجُ مِنَ الَفُّم هَذَا يُنَجِّسُ الإِنَسَانُ ” ثم قال: “كُلُّ مَا يَدْخُلُ الَفُّم يمَضْيِ إِلىَ الجَوفِ وَأَمَا مَا يخَرْجُ مِنَ الَفُّمِ فَمِنَ الْقَلبِ يَصْدُرُ”، إن مصدر الطهارة الحقيقة في تعليم المسيح هو القلب، والنظافة نظافة النفس لا الجسد.
رابعًا: كلمهم كثيرًا بأمثال
استخدم المسيح في تعاليمه القصص والأمثال، والحياة الطبيعية من حوله، لِيُسهل على سامعيه فهم ما يقصده، ويجعل من تعاليمه واقعًا ملموسًا مرتبطًا بحياة تابعيه ليكون سهلًا عليهم تطبيقه في حياتهم وليعلموه أيضًا لأولادهم ولغيرهم.
- مثل السامري الصالح (لوقا 10: 25 – 37)، حين سأل أحد الناموسيين المسيح عن الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية، كانت أجابه السيد: أن محبة الله ومحبة القريب هي الطريق للحياة الأبدية، فسأله الناموسي: “وَمَنْ هُوَ قَرِيبيِ” فحكى له قصة المسافر الذي وقع بين لصوص، فسرقوه وجرحوه وتركوه بين حي وميت.. ومَرَّ به كاهن ثم لاوي، ولم يقدما له أية مساعدة.. أما السامري الغريب الجنس والدين، فضَمَد جراحه واعتنى به. فالقريب هو كل شخص تستطيع أن تقدم له معروفًا وتمنحه محبتك بغض النظر عن مستواه المادي أو الاجتماعي، أو لونه وشكله، أو دينه وعقيدته، فقد أكد المسيح بذلك، أن جميع البشر أخوة، أقرباء، وأن محبة القريب لابد أن تشمل الجميع.
- مثل الزارع (متى 13: 1 – 9، 18 – 23)، أراد المسيح أن يُعَلِّم تلاميذه عن طبيعة الإنسان، الذي يسمع كلمة الله، وردود فعله نحوها، فقص عليهم قصة زارع خرج ليزرع، وألقى بالحبوب، فسقط بعضها على الطريق ، وجاءت الطيور وأكلته.. وسقط بعض آخر على أرض محجرة.. نبت حالًا ثم احترق. وسقط بعض آخر على الشوك الذي خنقه. ثم سقط بعضه على الأرض الجيدة فأعطى ثـمرًا وفيرًا. وفسر المسيح المثل؛ بأن كل من يسمع الكلمة ولا يفهم، يأتي الشيطان ويخطفها. ومن يسمع ويقبل بفرح دون عمق فهم، تحترق الكلمة، وذلك عندما يواجهه الاضطهاد. ومن يسمع، لكن هَمْ العالـم وغرور الغِنى يخنقان الكلمة، فهذا مثل الشوك. أما الذي يسمع ويفهم ويقبل فهو كالأرض الجيدة.
- مثل الابن الضال (لوقا 15 :11 – 32)، وأراد المسيح أن يُعَلِّم مستمعيه عن محبة الله، وغفرانه لخطايا الإنسان، وأهمية الخاطئ بالنسبة لله.. فقص عليهم قصة الابن الضال، الذي أخذ نصيبه من المال وسافر، وأنفقه على شهواتِه ومُتَعِهِ. فلما جاع عاد إلى بلده وبيته فاستقبله أبوه بمغفرة وترحاب، وأكرمه قائلًا : “ابْنيِ هَذَا كَاَنَ مَيِتًَا فَعَاشَ وَكَاَنَ ضَالًا فَوُجِدَ “
- مثل العشر عذارى (متى 25 : 1 – 13)، وحَذَّر المسيح من عدم الاهتمام بالعبادة، وعدم الاستعداد لنهاية الحياة فصَوَّر عُرسًا وعشر عذارى ينتظرن مجيء العريس. ومع كل واحدة منهن مصباح مضيء، وأحضرت خمس من العذارى زيتًا إضافيًا لمصابيحهن، بينما لم تستعد الخمس الأخريات لاحتمال تأخر العريس. ونمن جميعًا، وجاء العريس، والمستعدات دخلن معه وغير المستعدات أُغلق في وجوههن الباب.
- مثل الغني ولعازر (لوقا 16: 19 – 31)، وشرح المسيح أهمية الثواب والعقاب، فحكى عن رجل غنـي، وآخر فقير يدعى لعازر. عاش الغنـي في عز وتنعم، ولعازر المسكين في فقر ومرض وقروح… مات الغنـي، ومات لعازر وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. وهناك رفع الغنـي نظره من الجحيم، ورأى لعازر يتمتع في النعيم، وطلب أن يرسل إبراهيم لعازر، ليبل طرف إصبعه بماء ليبرد لسانه، فهو معذب في اللهيب، وأجابه إبراهيم وقال: “يَاْ ابِنيِ اُذْكُرُ أَنَكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاَتَكَ فيِ حَيَاتَكَ وَكَذَلِكَ لِعَاَزْر اَلبَلاَيَا. وَالآَنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذْبُ “.
- أمثال عديدة ( في البشائر الأربعة)، وتحتوى البشائر الأربع على العديد من الأمثال التي ذكرها المسيح، ليقَرِّب إلى فهم مستمعيه ما يريد أن يُعَلِّمهم إياه. وقد نستطيع في المستقبل تناول هذه الأمثال بالشرح والتفسير بتفصيل أكثر.
خامسًا : تلخيص
أعلن المسيح حقيقة هامة في تعاليمه، هي أن الله الخالق القادر العظيم هو أبونا السماوي، وفى نطاق هذه الحقيقة، عَلَّم المسيح كيف نعبده، ونمارس الطقوس الدينية، ونسلك في حياتنا اليومية. إطاعة العبد للسيد، تختلف تمامًا عن طاعة الابن للأب. وفى سبيل تقريب أقوال المسيح لفهم المستمعين، استخدم أمثالًا من الحياة الطبيعية حولهم.
سادسًا : دعاء
أبي السماوي، أشكرك من كل القلب من أجل أبوَّتك لي، التي لم أحصل عليها لفضل فيَّ أو لتميز خاص، بل بالنعمة الخالصة التي هي في المسيح يسوع. املأ قلبي بروحك لأفهم ما تريد أن تعلمني إياه… واجعلني ضمن أولئك الذين يسمعون ويفهمون ويتغيرون. آمين