شخصياتشخصيات كتابية

نحميا

الرجل الذي أعاد بناء الأسوار

نحميا اسم عبري معناه “تحنن يهوه” أو “الله تحنن”، وقد جاء في الكتاب المقدس ثلاث شخصيات يحملون هذا الاسم، نحميا بن عزبوق، وهو رئيس نصف دائرة صور، وأحد الذين عملوا في ترميم سور أورشليم (نحميا 3: 16)؛ أما الثاني فهو نحميا الذي كان ضمن الفوج الأول من جماعة المسبيين الذين عادوا إلى بلادهم بقيادة زربابل، وقد كان لهذا الفوج شرف إعادة بناء هيكل سليمان (عزرا 2:2، نحميا 7: 7)؛ أما الشخصية الثالثة فهي نحميا بن حكليا وهو قائد الفوج الثالث الذي عاد إلى أورشليم، وعمل هذا الفوج على إعادة بناء وترميم الأسوار المنهدمة لمدينة أورشليم.

خلفية تاريخية

كانت الأمة اليهودية أمة واحدة منذ نشأتها وحتى نهاية حكم الملك سليمان، لكن بعد موته وتولي رحبعام المُلك، لم يستطع هذا الملك قيادة الشعب بالكيفيّة التي تحافظ على وحدته، فحدث أن ثارت الأسباط الشمالية وعددها عشرة أسباط، وانفصلت تحت قيادة يربعام وأطلقت على نفسها اسم “المملكة الشمالية” أو “إسرائيل”؛ في حين أصبح رحبعام ملكًا على سبطين فقط وكوَّن مملكة تختلف عن المملكة الشمالية وأُطلق على هذه المملكة اسم “مملكة يهوذا” أو “المملكة الجنوبية”.

وقد استمرت مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا فترة من الزمن يتناحران فيما بينهما حتى تمت هزيمة وسبى المملكـة الشماليـة على يدِ شلمنآصر إلى آشور في سنة 722 ق.م، بينما هُزمت المملكة الجنوبية على يد نبوخذ نصر الذي دمرَّ هيكل سليمان وأخذ كل كنوزه وسبى الشعب إلى بابل سنة 586 ق.م، بعد فترة انهزمت الإمبراطورية البابلية أمام القوة الجديدة، “فارس” التي أصبح كورش حاكمًا لها، وكان إشعياء النبي قد تنبأ قبل نحو قرن من الزمان بمجيء كورش ملكًا (إشعياء 44: 28 – 45: 6).

عُرف عن كورش المرونة في سياسته تجاه الشعوب المسبَّية، لذا أصدر أمرًا يسمح بعودة كثير من الشعوب المسبِّية لبلادها بما فيها الشعب اليهودي، فعاد أول فوج بقيادة زربابل في عام 537 ق.م (راجع عزرا 1: 1- 6 :22)، وكان قوام هذا الفوج نحو خمسين ألف شخص، وعمل هذا الفوج على إعادة بناء هيكل سليمان، ثم عاد فوجٌ ثانٍ بقيادة عزرا وكان قوام هذا الفوج نحو ألفيّ شخص في عام 458 ق.م (راجع عزرا 7: 1-10: 44)؛ وعمل عزرا على صياغة الحياة الروحية للشعب من جديد بعد حالة من الدمار الروحي والبعد عن شريعة الله، أما الفوج الثالث والأخير فقد عاد بقيادة نحميا في عام 445 ق.م، وكان هذا الفـوج أقـل عددًا لكنه استطاع أن يبث روح الجماعة ويعيد ترميم وبناء الأسوار المنهدمة لمدينة أورشليم.

من هو نحميا؟!

كل ما نعرفه عن نحميا أنه وُلِد أثناء السبي، وعاش وتدرج في الحياة المهنية حتى وصل ليكون ضمن سُقاة أرتحشستا الملك الفارسي، وقد حظيَّ نحميا بحياة سعيدة هانئة، ومركزًا مرموقًا في الحكومة الفارسية، استطاع من خلاله أن يفوز بحب الملك والقرب منه. فقد كان ساقي الملك مركزًا مُحاطًا بكثير من الكرامة والثقة، لأهميته في حماية حياة الملك، نظرًا لحدوث اغتيالات كثيرة للملوك عن طريق دسَّ السُمّ لهم في الطعام أو الشراب.

ولا يذكر لنا الكتاب الكثير عن أسرة نحميا، أو من هم أقرباؤه لكننا نعرف أن أباه هو حكليا، ويظُن البعض أنه كان من سبط لاوي، وأنه كان ذا قلب متعلق بمدينة آبائه، حيث هيكل الله، فكان دائم السؤال عنها وعن أهلها وأحوالها، وحدث أنه عندما جاءه أحد أقربائه واسمه حناني وسأله عن أحوال أورشليم وعرف ما وصل إليه حال المدينة وشعبها، حزن وصلى من أجل مدينته وكان سببًا مباشرًا في عودة المجموعة الثالثة من السبي واستخدمه الله في بناء وترميم أسوار أورشليم المنهدمة، بالرغم مما تعرض له من مضايقات وعقبات سواء خارجية، متمثلة في أعداء شعب الله، أو داخلية متمثلة في النظام الاجتماعي غير العادل وما كان سيسبَبه من تراخٍ وعدم استكمال البناء، وقد تخطى نحميا كل هذه العقبات والصعوبات ونجح بمعونة الله في الانتهاء من بناء السور في اثنين وخمسين يومًا فقط (نحميا 6: 15)، وبعدها دَشَّنَ السور الجديد وأعاد البهجة والحياة الروحية، والاحتفال بالأعياد من جديد.

تقلد نحميا الولاية على أورشليم اثنتي عشرة سنة، وعمل واليًا على يهوذا من السنة العشرين إلى السنة الثانية والثلاثين لحكم أرتحشستا الملك (نحميا 5: 14). عاد نحميا راجعًا إلى بابل في عام 433 ق.م، ولكنه سرعان ما عاد إلى أورشليم في العام التالي مباشرة ليعمل مع شريك خدمته عزرا على قيادة الشعب في طريق الله، وتطهير البلاد من الخطية، مما أدى إلى إعادة تأكيد الإيمان بالله، وبث النهضة الروحية وسط شعب الله.

نحميا رجل الصلاة

تميَّز نحميا بحياة الصلاة، فتبدأ قصته بمعرفة ما وصل إليه حال إخوته وشعبه  ومدينته من تدهورٍ وعارٍ ومآسٍ، وكان رد فعله الطبيعي أنه حزن حزنًا عميقًا، لكنه بدلًا من أن يُحبط أو يفشل أو يلجأ إلى وضع خطط إنسانية، لجأ إلى الله، يقول “فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلَهِ السَّمَاءِ” (نحميا 1: 4).

كُتِب عن نحميا أنه صلَّى لله نحو ما يزيد عن عشر مرات خلال سِفره. نراه يصلي عندما أزعجته الأخبار السيئة عما وصلت إليه حال بلاده، وسور مدينته المحبوبة (نحميا 1: 4)، وصلى –في قلبه- عندما سأله الملك أرتحشستا “مَاذَا طَالِبٌ أَنْتَ؟!” (نحميا 2: 4)، وصلى عندما واجهه أعداؤه بالاحتقار والسخريّة والهزء (نحميا 4: 1-6)، وقبل أن يُقيم الحراسات، صلى (نحميا 4:7-9)، وحين اشتكى له الشعب عن مدى الظلم الاجتماعي الذي يئنون تحت وطأته نراه يُصلي (نحميا 5: 1-19)، ولما عرف بحيلة ومكر طوبيا وسنبلط أعدائه وما يحيكونه ضده من مكايد أتي لله مصليًا (نحميا 6: 9-14)، وحين يشجع الكهنة واللاويين والشعب على تبعية الله والسلوك حسب شريعته ووصاياه كان يصلي قبلها (نحميا 13: 14،22،29،31).

إن ما يميز صلوات نحميا، لجاجته واستمراره في الصلاة، دون مللٍ، فقد استمر في صلاته الأولى ما يقرب من أربعة شهور كاملة، فحين سمع من حنَّاني أخبار الأسوار المنهدمة، وابتدأ الصلاة كان ذلك في شهر كسلو، الذي يقابل شهر كانون الأول أي شهر ديسمبر، ولما وقف أمام الملك كان ذلك في شهر نيسان، الذي يقابل شهر مارس، كان نحميا يدرك قول السيد المسيح حين قال “يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ” (لوقا 18: 1).

كان نحميا يعرف كيف يصلي، وما يجب أن تكون عليه الصلاة المستجابة، فالصلاة المستجابة لا بُد وأن تشتمل على الاعتراف، يقول نحميا “لِتَسْمَعَ صَلاَةَ عَبْدِكَ الَّذِي يُصَلِّي إِلَيْكَ الآنَ نَهَارًا وَلَيْلًا لأَجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدِكَ، وَيَعْتَرِفُ بِخَطَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخْطَأْنَا بِهَا إِلَيْكَ. فَإِنِّي أَنَا وَبَيْتُ أَبِي قَدْ أَخْطَأْنَا. لَقَدْ أَفْسَدْنَا أَمَامَكَ وَلَمْ نَحْفَظِ الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَمَرْتَ بِهَا مُوسَى عَبْدَكَ” (نحميا 1: 6،7)، قارن (نحميا 9: 2-3). أدرك نحميا أن “مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ” (أمثال  28 : 13). على أن صلوات نحميا تميَّزت ليس فقط بالاعتراف بالخطايا، لكنها تميَّزت بمعرفة وعود الله والتمسك بها، اسمعه وهو  يقول “اذْكُرِ الْكَلاَمَ الَّذِي أَمَرْتَ بِهِ مُوسَى عَبْدَكَ قَائِلًا: إِنْ خُنْتُمْ فَإِنِّي أُفَرِّقُكُمْ فِي الشُّعُوبِ، وَإِنْ رَجَعْتُمْ إِلَيَّ وَحَفِظْتُمْ وَصَايَايَ وَعَمِلْتُمُوهَا – إِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّونَ مِنْكُمْ فِي أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ فَمِنْ هُنَاكَ أَجْمَعُهُمْ وَآتِي بِهِمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي اخْتَرْتُ لإِسْكَانِ اسْمِي فِيهِ” (نحميا 1: 8-9).

عرف نحميا كيف تكون صلاته حياة، وحياته صلاة، وتنوعت صلواته بين الطول والقصر، بين المسموعة والغير مسموعة، حين سأله الملك “ماذا طالب أنت” يقول نحميا “فَصَلَّيْتُ إِلَى إِلَهِ السَّمَاءِ” (نحميا 2: 4). لم يذكر لنا الوحي تفاصيل تلك الصلاة، لكننا رأينا استجابة الله السريعة الفورّية، وعلى قدر ما نحتاج لأوقات خاصة نختلي فيها مع إلهنا لنرفع له أصواتنا بالصلاة، على قدر ما نحتاج أيضًا لصلوات سريعة مختصرة، قد تكون صلاتنا همسًا، أو أن الظروف والمواقف المختلفة لا تتيح لنا أن نمارس الصلاة بطريقتنا المعتادة، فلا نفشل، لأن الله يسمع لنا طلباتنا المُلِحة والعاجلة، بل إنه يسمع أيضًا تنهداتنا ويسرع لمعونتنا.

إن الصلاة تغير قلب الإنسان، وتغير من نظرته للأمور، وتجعله مُهيًأ لاستقبال وفهم ما يعمله الله، كما تمنحه أن يرى أعمال ومعجزات وتدخل الله في التاريخ وأيضًا وسط مشاكلنا الشخصية، كانت صلاة نحميا هي المفتاح الحقيقي لنجاحه خلال مسيرته، وقيادته الناجحة لبناء أسوار أورشليم، وعودة الروح لأبناء شعبه.

نحميا القائد

كان نحميا قائدًا ماهرًا عرف كيف يقود أٌمة قد أعيتها المحن، ودمرتها الخطية، إن أول ما تميَّز به نحميا في قيادته لشعبه هو تواضعه وانضمامه للشعب، ففي صلاته يضع نفسه ضمن الشعب الخاطئ، فلم يُصَّلِ قائلًا: “اغفر يا رب خطايا الشعب”، لكنه وضع نفسه واحدًا ضمن الشعب المحتاج لغفران الله، كذلك أظهرت صلاته، عمق المحبة التي ملأت قلب نحميا تجاه شعبه، وهكذا كان قادة شعب الله العظماء دائمًا، موسى (خروج 32)؛ ويشوع (يشوع 7)، وغيرهم.

وكان نحميا أيضًا على استعداد لترك منصبه والتضحية به، وتحمل المشقة وعناء السفر وغيرها من صعوبات واجهته، وكان ذلك دليلًا آخر على تواضعه وحبه لشعبه، كان بمثابة واحدًا منهم، لم يتعال عليهم، وحين أصبح واليًا لم يترفع عليهم ولم يثقل كاهلهم بالضرائب التي وضعها الولاة السابقون. يقول: “وَأَيْضًا مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي أُوصِيتُ فِيهِ أَنْ أَكُونَ وَالِيَهُمْ فِي أَرْضِ يَهُوذَا مِنَ السَّنَةِ الْعِشْرِينَ إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّلاَثِينَ لأَرْتَحْشَسْتَا الْمَلِكِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، لَمْ آكُلْ أَنَا وَلاَ إِخْوَتِي خُبْزَ الْوَالِي. وَلَكِنِ الْوُلاَةُ الأَوَّلُونَ الَّذِينَ قَبْلِي ثَقَّلُوا عَلَى الشَّعْبِ .. وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ أَفْعَلْ هَكَذَا مِنْ أَجْلِ خَوْفِ اللَّهِ، وَتَمَسَّكْتُ أَيْضًا بِشُغْلِ هَذَا السُّورِ، وَلَمْ أَشْتَرِ حَقْلًا. وَكَانَ جَمِيعُ غِلْمَانِي مُجْتَمِعِينَ هُنَاكَ عَلَى الْعَمَلِ .. وَمَعَ هَذَا لَمْ أَطْلُبْ خُبْزَ الْوَالِي لأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ كَانَتْ ثَقِيلَةً عَلَى هَذَا الشَّعْبِ. اذْكُرْ لِي يَا إِلَهِي لِلْخَيْرِ كُلَّ مَا عَمِلْتُ لِهَذَا الشَّعْبِ” (نحميا 5: 14- 19).

كان نحميا رجلًا ذا رؤيا واضحة ومحددة المعالم، فحين سأله الملك عن طلبه الذي يزيح حزنه، كانت إجابته تنم عن رجل يعرف ما يريده، كانت لديه رؤيا عما سيفعله، وما هي احتياجاته، وكم من الوقت سيستغرق العمل، وحين وصل لأورشليم عرف كيف يبدأ، فقام ليلًا ليتفحص الأمر في واقعه الطبيعي، وليطابقه بخطته المزمع إتمامها، وحين تحرى الأمر جيدًا استطاع أن ينهض الشعب واضعًا نفسه كواحد منهم قائلًا: «هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارًا». وَأَخْبَرْتُهُمْ عَنْ يَدِ إِلَهِي الصَّالِحَةِ عَلَيَّ، وَأَيْضًا عَنْ كَلاَمِ الْمَلِكِ الَّذِي قَالَهُ لِي» (نحميا 2: 17،18)؛ كانت رسالة نحميا رسالة مشجعة، كما كان اختباره دافعًا آخر شجع به سامعيه، أكد لهم أن الله وراء هذا العمل، وما أجمل أن تكون القيادة على يقين من أن ما تعمله مؤيد من الله، مما ينعكس على الرعية ويستنهض همتها للعمل، وحين يكون القائد نفسه عضوًا فعالًا في العمل فمن الطبيعي أن يكون رد الفعل هو “.. «لِنَقُمْ وَلْنَبْنِ». وَشَدَّدُوا أَيَادِيَهُمْ لِلْخَيْرِ”.

كان نحميا يدرك حجم العمل وصعوبته، فوضع خطته معتمدًا على روح الفريق، فالعمل هائل، ويحتاج لمشاركة الجميع، ولا عجب في ذلك!

كانت طريقة نحميا هي تقسيم العمل على الجميع، ومن خلال تنظيم دقيق قسَّم العمل على بيوت وعائلات الشعب، فكان لكل واحدٍ نصيبه من العمل، مما جعل للشعب قلبٌ للعمل، فحين يكون العمل في القلب، يكون هناك قلبٌ في العمل (نحميا 4: 6)؛ هذه الخطة ساعدت في إتمام بناء السور في اثنين وخمسين يومًا فقط، يكتب نحميا فيقول:  “وَكَمِلَ السُّورُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَيْلُولَ فِي اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ يَوْمًا” (نحميا 6: 15).

كان نحميا قائدًا يعرف الأزمات والمضايقات التي ستعترضه، لكنه كان يعرف أيضًا قوة إلهه والنجاح المضمون حين يبدأ، هذا ما جعله واثقًا في الرد على أعدائه، حينما هزأوا به وبمجموعة العمل من حوله قائلًا: “فَأَجَبْتُهُمْ: إِنَّ إِلَهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ نَصِيبٌ وَلاَ حَقٌّ وَلاَ ذِكْرٌ فِي أُورُشَلِيمَ” (نحميا 2: 20).

كان نحميا قائدًا شجاعًا استطاع أن يقود شعبه للعمل وسط  كل التهديدات التي تعرض لها سواء من الخارج أو الداخل، فحين اجتمع “سَنْبَلَّطُ وَطُوبِيَّا وَالْعَرَبُ وَالْعَمُّونِيُّونَ وَالأَشْدُودِيُّونَ أَنَّ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ قَدْ رُمِّمَتْ وَالثُّغَرَ ابْتَدَأَتْ تُسَدُّ، غَضِبُوا جِدًّا، وَتَآمَرُوا جَمِيعُهُمْ مَعًا أَنْ يَأْتُوا وَيُحَارِبُوا أُورُشَلِيمَ وَيَعْمَلُوا بِهَا ضَرَرًا” (نحميا 4: 7- 8)، صلى نحميا إلى الله، وأقام حراسًا نهارًا وليلًا، لم يُرِد نحميا عملًا متراخيًا فأقر شعارًا يحمي به العمل “. بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ وَبِالأُخْرَى يُمْسِكُونَ السِّلاَحَ” (نحميا 4: 17). ولما تحول الأعداء في مكيدتهم للخبث واستغلال الضعفاء من الشعب وعملوا الحيل الماكرة، وأرسلوا في طلبه بمكرٍ أربع مرات، كان جوابه “إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلًا عَظِيمًا فَلاَ أَقْدُِرُ أَنْ أَنْزِلَ. لِمَاذَا يَبْطُلُ الْعَمَلُ بَيْنَمَا أَتْرُكُهُ وَأَنْزِلُ إِلَيْكُمَا؟” (نحميا 6: 3). ولما أشاعوا أنهم سوف يأتوا ليقتلوه قال بكل شجاعة “أَرَجُلٌ مِثْلِي يَهْرُبُ؟!” (نحميا 6: 11).

وحينما تعرض نحميا للمقاومة الداخلية سواء من ضعف الروح المعنوية وضعف قوة الحمَّالين لكثرة العمل، أو بسبب الظلم الاجتماعي واستغلال الأغنياء للفقراء، يقول “فَغَضِبْتُ جِدًّا حِينَ سَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ وَهَذَا الْكَلاَمَ. فَشَاوَرْتُ قَلْبِي فِيَّ، وَبَكَّتُّ الْعُظَمَاءَ وَالْوُلاَةَ وَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تَأْخُذُونَ الرِّبَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَخِيهِ. وَأَقَمْتُ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً عَظِيمَةً” (نحميا 5: 6-7).

كان نحميا مثلًا حيًا أمام القادة والشعب، فقبل أن يجتمع بهم أو أن يسمع شكواهم وصراخهم، كان قد اشترى -حسب طاقته إخوته- الذين بيعوا للأمم كعبيد، وأقرض هو وغلمانه كل من كان في احتياج، فلما سمع الشعب والقادة، والأغنياء ما قاله ورأوا ما عمله حسن كلامه في أعينهم وسبحوا الرب وعملوا حسبما قال لهم (نحميا 5: 12- 13).

كان سر نجاح نحميا أنه عرف كيف يوجه أنظار تابعيه إلى السيد العظيم، إلى الله، نبع القوة، ومصدر الغَلَبة، اسمعه وهو يقوي شعبه قائلًا: “وَنَظَرْتُ وَقُمْتُ وَقُلْتُ لِلْعُظَمَاءِ وَالْوُلاَةِ وَلِبَقِيَّةِ الشَّعْبِ: لاَ تَخَافُوهُمْ، بَلِ اذْكُرُوا السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الْمَرْهُوبَ..” (نحميا 4: 14).

نحميا رجل الإيمان والنهضة الروحية

كان نحميا رجل إيمانٍ أحدث الله به نهضة روحية عظيمة، وهذا ما تُظهره حياته ومواقفه المختلفة، إن الحياة الروحية تبدأ بوجود علاقة حقيقية بالله، علاقة تَبنيّ من الله للإنسان، وهكذا كان نحميا، إنسان يُدرك أنه ابنٌ لله، ورغم أنه كان في السبي وبعيدًا عن موطن هيكل الله، إلا أن الله معه يسمعه ويستجيبه حين يُصلي، كانت المهمة التي سيقوم بها كبيرة، وعوائقها أكبر، لكن إيمان نحميا وثقته في إلهه كانت بلا حدود، فقام وذهب إلى أورشليم وهناك واجه الأعداء والروح الانهزامية في الشعب، لكنه بإيمان الواثق تخطى كل تلك المعوقات وأنجز المهمة التي من أجلها جاء، ألا وهي بناء السور، لكنه وهو الرجل ذو العلاقة الخاصة بالله، أدرك أن مهمته الأكبر، ليست الأسوار المنيعة، ولا المصاريع الآمنة، ولا حتى الروح المعنّوية التي أعادها  في الشعب. لم تكن كل هذه كافية لبناء أُمة متماسكة، إنما الأهم من ذلك كله هو الحياة الروحيّة العميقة بين الإنسان والله، وكما قام ببناء الأسوار ورمم الثُغر، شرع في بناء الحياة الروحية لدى الشعب، متعاونًا مع عزرا. وهكذا “اجْتَمَعَ كُلُّ الشَّعْبِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ، وَقَالُوا لِعَزْرَا الْكَاتِبِ أَنْ يَأْتِيَ بِسِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ إِسْرَائِيلَ. فَأَتَى عَزْرَا الْكَاتِبُ بِالشَّرِيعَةِ أَمَامَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكُلِّ فَاهِمٍ مَا يُسْمَعُ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ، وَقَرَأَ فِيهَا أَمَامَ السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ أَمَامَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْفَاهِمِينَ. وَكَانَتْ آذَانُ كُلِّ الشَّعْبِ نَحْوَ سِفْرِ الشَّرِيعَةِ” (نحميا 8: 1-3).

لم يحدث أن تجمّع الشعب حول سفر الشريعة منذ زمنٍ بعيد، لكنهم اجتمعوا كلهم، ليسمعوا وليفهموا ما يقوله لهم، وكان تجاوبهم رائعًا، يقول الكتاب “وَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: «آمِينَ آمِينَ!» رَافِعِينَ أَيْدِيَهُمْ، وَخَرُّوا وَسَجَدُوا لِلرَّبِّ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ” (نحميا 8: 6).

أمام كلمة الله عرف كل الشعب مدى خطيئتهم، فبكوا وناحوا، ولما رأى نحميا وعزرا واللاويون هذا المنظر “قَالُوا لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: «هَذَا الْيَوْمُ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ. لاَ تَنُوحُوا وَلاَ تَبْكُوا». لأَنَّ جَمِيعَ الشَّعْبِ بَكُوا حِينَ سَمِعُوا كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ. فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا كُلُوا السَّمِينَ وَاشْرَبُوا الْحُلْوَ، وَابْعَثُوا أَنْصِبَةً لِمَنْ لَمْ يُعَدَّ لَهُ لأَنَّ الْيَوْمَ إِنَّمَا هُوَ مُقَدَّسٌ لِسَيِّدِنَا. وَلاَ تَحْزَنُوا لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ” (نحميا 8: 9- 10).

على أن اليوم التالي شهد اجتماعًا على مستوى “رُؤُوسُ آبَاءِ جَمِيعِ الشَّعْبِ وَالْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيُّونَ إِلَى عَزْرَا الْكَاتِبِ لِيُفْهِمَهُمْ كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ” (نحميا 8: 13).

لقد أعاد نحميا الحياة الروحية المفتقدة للشعب، أعاد لهم علاقتهم مع الله، أعاد لهم أعيادهم، فلأول مرة -منذ زمن  يشوع بن نون- يحتفل الشعب بعيد المظال (نحميا 8: 14)؛ أعاد التوبة والاعتراف (نحميا 9: 1- 5)؛ عمل على تطهير بيت الله (نحميا 9: 9)، أعاد تكريس تقديم العشور، وشجعهم على العطاء (نحميا 13: 5، 12)، وأعاد تقديس يوم الرب (نحميا 13: 15- 22)، وحرَّم الزواج بالغرباء والأمم (نحميا 13: 23- 28).

بث نحميا في الشعب روحًا جديدة، وحياةً جديدة، وأسلوبًا جديدًا لجعل النهضة الروحيّة واقعًا معاشًا بين الناس، استطاع بخبرته الروحية، وبرؤيته الواضحة، ودقة تخطيطه، وروحه المتضعة، ومثابرته في العمل، أن يكون نموذجًا يُلهب في تابعيه شرارة الحركة ويُلهمهم النهضة الروحية.

دروس من حياة نحميا

  1. غالبًا ما تبدأ النهضة، والرؤى العظيمة بشخصٍ واحد، وقد تكون أنت هذا الإنسان، فلا تقلل من شأن نفسك.
  2. يستطيع الله أن يمنحنا رؤاه، لكن علينا أن نكون مستعدين، لاستقبال هذه الرؤية بالحياة الروحيّة النقية، وحياة الصلاة الدائمة.
  3. استخدم نحميا موقعه لمساعدة شعبه، ويستطيع كل منا في موقعه أن يكون أداه فعَّالة في يد الله يستخدمها لإتمام مقاصده. (نحميا 1: 11).
  4. عندما يدعوك الله لعملٍ عظيم، فإنه سوف يمنحك القوة اللازمة لتحقيقه.
  5. الصلاة تعنى الانفتاح على كل قوى الله، وهي البداية الجيدة لتحقيق رؤية الله من خلالك، صلى نحميا فعرف رؤية الله وخطته لحياته.
  6. الأمنيات والتوقعات الجيدة لا تكفي ولا تصلح لأن تكون بديلًا عن العمل لتحقيقها.
  7. لا تعتبر نفسك الإنسان الوحيد الذي يعمل الله من خلاله، فكثيرًا ما يستخدم الله شخصًا واحدًا لعرض الرؤية، ويقوم الآخرون بتحويلها إلى واقع.
  8. عندما يغرس الله فكرة في عقلك، أو يمنحك رؤية لإنجاز عملٍ ما، شارك الآخرين، وثق أن الله سيمنحهم أفكارًا مماثلة.
  9. عندما تكون جزءًا من عمل كبير، اعمل ما يُوكَلُ إليك بجدٍ واجتهد في إنجازه، تكون أمينًا في نظر الله الذي سيكافئك، ويكون عملك إسهامًا متميزًا لتحقيق العمل كله، وشبعًا به ترتوي نفسك لما قُمتَ به، وكما بنى كل واحدٍ ما أوكِلَ إليه أمام بيته، فأُنجِزت مهمة بناء سور أورشليم وصار فرحًا في الشعب. (نحميا 3).
  10. عندما تواجه السخرية من إيمانك، أو النقد الجارح لما تقوم به من عملٍ، لا ترد بالمثل، بل افتح قلبك وفكرك بالصلاة واستجلب قوة الله لمواصلة العمل، فهكذا نجح نحميا في عمله (نحميا 4: 4، 6: 9).
  11. كثيرًا ما يتعرض القادة للنقد أو الهجوم عليهم، فاجعل من عادتك الصلاة لأجل القادة والحكام ومَن بيدهم الأمر “فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ، لأَنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ” (1تيموثاوس 2: 1-2).
  12. القادة الصالحون هم الذين يقودون تابعيهم من خلال ما يعملون، فليس بالأوامر والتوجيهات فقط تُنجز المهام!.
  13. النهضة الروحية تُعيد العلاقة السليمة بين الإنسان والله، وتُصحح المفاهيم الاجتماعية الخاطئة والظالمة، وتقود للإصلاح الاجتماعي (نحميا 5).
  14. الاعتراف الصادق يسبق العبادة الحقيقية، إذ لا يمكن أن تكون لنا علاقة سليمة مع الله ونحن نختزن خطايانا ولا نعترف بها. يقول الكتاب “مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ” (أمثال  28 : 13).
  15. الله رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة، ولا يضع حدودًا لعدد المرات التي نلجأ فيها إليه طلبًا لرحمته (نحميا 9 : 28-31).

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى