إيماني 01 | مقدمة إيماني

أجل فالإيمان المسيحي ضرورة رائعة حاسمة لمن يطلبون الحياة في أروع وأمل وأبهج ما يمكن أن تكون عليه الحياة… ولو أتيح للإنسان أن يدرك الحياة من جوانبها جميعا، لأدرك أن هذا الإيمان هو أول وأضخم ضرورة له على الأرض، ولسهل عليه أن يتخلى عن أمس الضروريات، قبل أن يتخلى عنه، إذ هو الضرورة الأولى قبل ضرورة الشمس والنور والهواء والماء، وكل مقومات الحياة جميعا!!؟ لم يصح روبرت ج. انجرسول الملحد الكبير وهو يبكي أخاه، عندما مات بالقول: “أن حياتنا تجتاز واديا مظلما مخيفا باردا بين أبديتين رهيبتين، وعندما نرفع أصواتنا في اتجاه السماء، لا نجد إلا صدى هذه الأصوات يرتد ألينا” .. وهل تخل احد عن هذا الإيمان وعبث به، إلا وكان كانجرسول وأفينا.من غير المؤمنين، أشبه بالدواب المتعب في صحراء الحياة، أو الملاح التائه في محيطها الواسع!!
أن الإيمان المسيحي ضرورة تتطلبها مقومات الطبيعة البشرية فينا.. فالعقل يطلبه والمشاعر تبحث عنه، والإرادة لا تفتأ تجد أثره!!
فالعقل الذي يفرق بيننا وبين الحيوانات الأخرى، العقل الذي تشهى منذ فر الإنسانية، ثمره “شجرة معرفة الخير والشر”. والذي ما يزال طوال أجيال التاريخ في صراع دائم مستمر مع المجهول. هذا العقل لا يمكن أن يسكت أو يهدا في عالم امتلأ حوله بالإسرار والعوائص، ومن ثم فهو دائم البحث والتساؤل يصرخ ذات الصخرة التي جاءت على لسان ميتا في قصة: “الإخوة كورمازوف” لديستوفسكي والتي تقول: “لست في حاجة إلى الملايين، ولنني في حاجة إلى من يجيبني على أسئلتي!!” . وليس العقل وده في الإنسان هو الذي يتطلع إلى التوغل وراء إسرار المجهول بل” المشاعر” أيضا، ولا نقصد بالمشاعر، تلك الغرائز الدنيا التي يشترك فيها الإنسان والحيوان، كالجوع والألم والخوف والحنين واللذة وما أشبه من انفعالات، بل تلك المشاعر التي ينفرد بها الإنسان، والتي تسعى به دائما إلى الارتقاء والاستعلاء عن حام الدنيا وغرورها وأباطيلها، والتي هي قبس من نور الله ونسمة القدير فيه، اللانهائية التي لم يستطع أن يغطيها ويدنها تحت نهايته، ولو أن وزراء المال في العالم الحديث تكاتفوا مع تجار الأثاث والرياش والأطايب، لما أمكنهم أن يحققوا السعادة لإنسان واحد من ماسحي الأحذية”.. هذه المشاعر جائعة وظمأى على الدوام، إلى ما هو أكثر من طعام الأرض وشرابها المادي، إذ هي جائعة إلى الطعام والشراب الروحي!!..
والى جانب العقل والمشاعر يجد الإنسان بإرادته في البحث عن حكمة وجوده على الأرض، ورسالته فيها، فهو كائن حي حر مسئول، تتشعب إمامه الطرق، وتتنازعه الأهواء، وقد يشترك في صراع عنيف مع الطبيعة أو الآخرين أو نفسه نومن ثم فهو دائب السؤال: من هو!!؟ ولماذا جاء إلى الأرض!!؟ وكيف جاء!! وكيف يمكنه أن يحيا أكمل حياة وأمثلها!؟ ما إلى ذلك من أسئلة ترهقه، وتلح عليه، وتضغط على قواه جميعا، حتى يجد لها جوابا في الإيمان المسيحي!!..
2- حقيقة إيماني
إما أدركنا ضرورة هذا الإيمان، فلا محيص عن التوقف قليلا لنسال: ما هو هذا الإيمان؟ وما معناه.. اهو مجرد مجموعة من الأفكار والتعاليم والمبادئ، احتواها كتاب الله، وتداولنها العصور والأجيال، كما تتداول غيرها من العلوم والفلسفات؟ … أم هو شعور وجداني يهف على الروح البشرية، ويطرق أوصال القلب فيها، فيكون أشبه بالحب والحنان والرقة والجود، وما إلى ذلك من عواطف تتملكنا وتهز كياننا دون أن نملك لها وصفا و تحليلا؟ … أم هو قوة حية فعالة تطبع إعمال الناس، وتوجهها حيثما شأت وأنى تريد؟ اغلب الظن أنها الثلاثة معا!! أو كما وصفه احدهم بالقول: “انه اقتناع وإحساسا وولاء”.. فهو أول كل شيء اقتناع امتلأ به الفكر الحي المستنير، الفكر الذي لا يتبع خرافات مصنعة، بل هو مستعد لمجاوبة من يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه، ومن ثم عاش الإيمان المسيحي على طوال الأجيال دون أن يرهب أو يفزع أو يرتاع من أن يطرح على بساط البحث أو النقد أو الجدل، بل ما من إنسان ناقشه في صدق وهدوء وإخلاص وعمق وأناة دون أن يخضع له أو يستجيب لندائه. خير مثال على ذلك جنرال “ليو ولاس” فبدا يقرا الكتاب المقدس سنين وشهورا، وتطورت الفكرة عنده من إعجاب بالمسيح المثالي إلى ولاء وتعبد، وهكذا كتب كتابه العظيم،الذي نعرفه جميعا إلا وهو كتاب “ابن حور” بعد أن اجتذبه الفكر المخلص والرأي السديد والحجة الصادقة إلى الإيمان المسيحي!! ..
على أن الاقتناع وحده لا يجدي أو ينفع إذا اقتصر على الفكر أو العقل. إذ هو أشبه بإيمان “هتي سوريل” الذي تصفه الكاتبة جورج اليوت بالقول: “أن هتي على غرار الكثيرين من الناس، الذين لهم أجداد وجدات طيبون، والذين حفظوا أصول الإيمان، وعمدوا وألفوا الذهاب إلى الكنيسة كل يوم احد، ومع ذلك فمن الوجهة العملية ليس للفكر أو الشعور المسيحي أية قوة في حياتهم أو ادني يقين عند موتهم… ومن ثم كان لابد أن يصحب الفكر فيه الشعور الغمر والإحساس العميق وكان لابد أن يتمشى فيه العقل مع وجيب القلب وإحساس الفؤاد.. وليس أدل على ذلك من الدين المسيحي دين فكر وترنم، أو دين عقل وقلب له منطق الاثنين معا، وألبس للقلب في بعض المواطن منطق قد لا يعرفه المنطق ذاته كما يقول بسكال الفيلسوف؟! ..
مع أن الإيمان المسيحي مع ذلك أكثر من مجرد اقتناع وإحساس، إذ هو ولاء تعبد لشخص المسيح، أو كما لاحظ احد الربيين اليهود، إذ قال: “أن الفرق بين اليهودية والمسيحية إن الأولى دين فكر بينما الثانية دين شخص”.. وقال السيد في معنى اصح وأعمق: “ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ اصرخ لهم: إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم ” (مت 7: 12- 22)…
3- نوع إيماني
فإذا انتهينا من هذا كله، علينا أن نسال ما هو نوع الإيمان، الذي يتعين على الإنسان أن يمسك به كما يمسك بالحياة نفسها، انه أولا وقبل كل شيء ليس مجرد “الإيمان النقلي” الذي ينقله الإنسان عن آباءه وأجداده، كأن يعد أكثر من عشرات الإباء والأجداد الذين عاشوا وماتوا مسيحيين، وكان بينهم كثيرون من إبطال المسيحية ذاتها، أن العلاقة بين الإنسان وربه، ليس مجرد علاقة وراثية تاريخية، وان كان التاريخ يلعب دورا من أهم أدواره أو أمجاده، وكاتب الرسالة إلى العبرانيين، يبين دور التاريخ في ذلك، إذ انك عندما تقرا الإصحاح الحادي عشر من الرسالة،الذي فرده الكاتب لإبطال الإيمان، الذين كتبوا أجمل قصة يمكن أن يكتبها إنسان في موكب الحياة والتاريخ … في مدينة جنيف يوجد جدار مشهور يعتبر من معالم المدينة، ويمر به كثيرون من السائحين والزائرين لها، والجدار مرسوم عليه أعظم رجال الإصلاح البيورتاني، من رجال الدين، أو السياسة الذين اخضعوا نفوسهم لسلطان الإيمان وتأثيره، والمار بهذا المكان عندما يقف في لحظة صمت أو سكون، تصغر ضوضاء الدنيا لديه، ويدرك قيمة الحياة في دخول الإنسان إلى العالم وخروجه منه، وان ما ألف الناس أن يجروا وراءه أو يسعوا في سبيله من مادة أو شهوة وقتية عابرة، مهما كانت قوة إغرائها أو لمعانها، ليست إلا زبدا أو باطلا أو قبض ريح، في الوقت الذي تضحي فيه كل دقيقة من أعمارنا تدفعنا إلى علام الأبد من غير عودة أثمن من ذهب الدنيا بأكملها .. أن الوقت في الدنيا و اغلي ما في الوجود، واغلي ما في هذا الوقت الإيمان الذي يقدم الخدمة لله والإنسان في الأرض!! ..
على أن الإيمان إذا كان نقليا أو مجرد انتساب إلى الإبطال المسيحيين دون أن تجدد سيرتهم وحياتهم، فهو في نظر الله والحقيقة، حجة على الإنسان، لا حجة له، وهو شهادة عليه، لا شهادة معه، .. والمسيحية الحقة لا تعرف مجرد الإيمان النقلي .. كما أن المسيحية أيضا لا تعرف مجرد “الإيمان النظري” أو العقلي.. فالمسيحية ليست عقيدة نظرية يكفي أن يعرفها أو يتمثلها الإنسان لتكون كما له أمام الله الناس، لقد سخر مارك توين في إحدى قصصه من رجل لأهم له كل اليوم إلا أن يجثوا ويصلي، دون أن يفعل شيء أخر على الإطلاق، وكان يصلي في العادة على مقربة من ساقية، واقترح الكاتب أن يربط الرجل إلى الساقية بحبل، حتى إذا قام أو ركع في الصلاة، يدير الساقية لتخرج ماء، والسخرية كما نرى لاذعة، إذ أن الدين النظري أو الكلامي أو العقلي ليس له ادني قيمة أمام الله إذ تجرد من الأثر أو الخدمة العملية!! .. ومثل هذا الكلام يمكن أن يقال للذين يحفظون قانون الإيمان غيبا أو أدعيات أو صلوات أو ترانيم أو ما أشبه.. “.. كما أن “الإيمان الوجداني” أو العاطفي، لا ينفع الإنسان شيئا، كمن يتأثر من رسالة الحق وينفعل معها بعض الوقت، فهو كما شبه السيد المسيح بالمزروع على الأماكن المجرة الذي يسمع الكلمة وحالا يقبلها بفرح ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين… مثل هذا الإيمان لا يلبث أن يتعثر، عندما تنتهي النشوة. وتسكن العاطفة، ويواجه المرء الحياة بما تحفل من تعب وألم وجهد وضيق !!
فالإيمان المسيحي يرفض مجرد هذه الأنواع الثلاثة،من صنوف وإشكال الإيمان “الإيمان النقلي” أو “الإيمان العقلي” أو “الإيمان الوجداني” ليؤمن بما هو أكثر “الإيمان الخلاصي” الذي يخلص الإنسان ويستولي على الحياة تاريخا وعقلا وحسا وإرادة وكيانا” ..
4- اثر إيماني
هذا هو الإيمان العظيم، ذو الفعل الحي والأثر الثوري في حياة الإفراد والشعوب والأجيال قاطبة، بل هذا هو الإيمان الذي كتب صفحات التاريخ واستحق بذلك شهادة الخصوم والأصدقاء والأعداء والمريدين على حد سواء !! .. الم تجزع ورج اليوت في أخريات حياتها، عندما تحدث إليها “ف. ب . ه . مايرز” في أمسية من أمسيات مايو في إحدى حدائق كامبردج، عن الله والخلود والواجب، كالقوى الناهضة بالقلب البشري !!. إذ عادت بذكراها إلى إيمانها المحطم المفقود على ركام الحياة !! . وألم تقل مدام اكرمان إحدى أميرات الفكر الغربي: “أن الإنسان بغير إنجيل بطل رواية محزنة يمثلها في كون مظلم، خاضعا لقوانين عمياء، أمام طبيعة مهملة، وفي النهاية يبلغ البلى والعفاء”.. تنظيم الحياة الإنسانية. من وجهتي الفكر والعمل،فإنما ينصب هذا الأمل على الديانة وحدها!!” .وألم يكتب تورجنيف الروائي الروسي المشهور إلى الكونتيسة لامبرت عندما فجعت في ولدها قائلا: “أن من له إيمان له كل شيء، ولا يمكن أن يفقد شيء، ومن لا إيمان له لا شيء له على الإطلاق.. وأحس هذا في عنف وشدة إذ إني على وجه الخصوص وللأسف ممن لا إيمان لهم! ” .. اجل فمن غاسلة الثياب التي أبصرها وير الشاعر الغربي والذي تمنى أن تتبادل وإياه ثروته وعلمه وفنه وبإيمانها الوديع الساذج، إلى بسكال الفيلسوف الذي صاح: “لست استحي أن اعترف بالمسيح سيدي، ولن أتراجع عن الإيمان به تحت ضغط القوى الدافعة التي تدفعني إلى ذلك” .. ومن أسقف الإسكندرية الذي وصف ما فعله المسيح به والمسيحيين الأوائل إذ قال: “حوّل غروب شمسنا إلى شروق”.
وإذا كان العصر الحاضر قد اتسم بسمة العصر الصناعي من الوجهة المادية، كما انه العصر الذي تتصارع فيه قوى الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والديمقراطية من الوجهة السياسية، والعصر الذي ينضح بالشهوة والمجون والمتاع اللذة من الوجهة الاجتماعية، فهو عصر الحيرة والقلق والتساؤل والشك من الوجهة الدينية !!
وإذا كانت المكتبة الغربية قد أخرجت ما لا يحصى أو يعد من الكتب المتصلة بالعقيدة أو الإيمان المسيحي، فان المكتبة الشرقية أو بالأحرى العربية فقيرة فقرا ملحوظا في هذا الشأن الطير، إذ ليس فيها من المراجع أو المؤلفات المؤسسة على نهج علمي منظم ما يغني أو يشفي غليلا. وإذا استثنينا نظام التعليم في علم اللاهوت، الذي كتب في أواخر القرن الماضي، وبعض الكتب القليلة الأخرى، التي كتبت مؤخرا، فإننا لا نكاد نعرف إلى اليوم على وجه الإطلاق كتابا واحدا حديثا جامعا من هذا النوع!! .
ومع أن كتاب “إيماني” اصغر جدا من يكون مرجعا نهائيا كاملا في هذا الموضوع، إذ ليس هذا فوق مقدور كاتبه إلى ابعد حد فحسب، بل لعله أيضا فوق مجهود المكتبة العربية في استعدادها الراهن.. غير أن الكتاب مع ذلك في عرف صاحبه ليس إلا محاولة جدية مخلصة منظمة صادقة في هذا السبيل، حرص الكاتب فيها أن يرسم خطوط فيها خطوط العقائد المسيحية وجه عام، والعقائد التي تتصل بمشاكل العصر بوجه خاص. كما حرص أن يدون فيها ليس فقط دراساته المتعددة الشاقة المضنية من هذا القبيل، بل مشاعره مخبرته وإيمانه أيضا … ومن ثم أطلق عليه “إيماني” على وجه التخصيص والتحديد، وغاية ما يرجوه أن يجد فيه القارئ من النفع والفائدة واللذة والمتاع ما يجعله يأخذ موضوع صاحبه، فيدعو الكتاب لنفسه أيضا “إيماني” عن صدق وحق ويقين وشعور.. ورئيس الإيمان ومكمله يسوع يسدد ما يمكن أن يكون قد شابه من قصور أو اعتراه من ضعف أو نقص، انه السميع المجيب.أمين …