إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 03 | إيماني بطبيعة الله

وهي النظرية القديمة التي أملاها الخيال الوثني، عندما كان اغلب الناس في العصور المختلفة من التاريخ يؤمنون بآلهة لا عدد لها ولا حصر، بل يكادون يرون في كل شيء في الطبيعة ألها ينحنون أمامه ويسجدون لديه !!.. فالشمس والقمر والنجوم والرياح والزوابع والجبال والصخور والبحار والأنهار والأشجار والواحات والبرق والرعد والوحش والزحافات والدواب والملوك والكهنة والأنبياء والإبطال وما أشبه كانوا عند هؤلاء الوثنيين الآلهة بذاتها، أو المظهر أو الرمز التي تظهر فيه هذه الإلهة!! وغير خاف إن البشر اتخذوا من هذه الأشياء والإحياء ما جعلوه موضوع تأليههم وعبادتهم تباعا لحاجياتهم وأمانيهم وأشواقهم ومخاوفهم وأحلامهم، أو في لغة أخرى لم تكن هذه الإلهة سوى الصور النفسية المرسومة في أعماق مشاعرهم ووجدانهم، والتي عبّروا عنها، يدرون أو لا يدرون، بمختلف المظاهر التي تعبدوا لها، وسجدوا عند موطئ أقدامها أو أقدام التماثيل أو الرسوم أو الأصنام التي ترمز وتشير إليها .. وليس أدل على ذلك من أن المصريين واليونانيين والرومان التصقوا أكثر بالآلهة التي كانوا يرون فيها أصداء حياتهم ومشاعرهم، فاتخذ المصريون من الإلهة ما كان يتصل بطبيعة الأرض وخصوبتها،  واتخذ اليونانيون ما كان يشير إلى الجمال والحب والمتعة  وما أشبه واتخذ الرومان ما كان يتحدث عن القوة و العنف والبطش، إذ كانت هذه كلها وما يماثلها اقرب إلى عواطفهم وأكثر وأدق تصويرا لما يشعرون به أو يحتاجون إليه ..

على إن هذا التعدد في الآلهة تطور مع الزمن وتبدل، فلم يعد كل منها قائما بذاته مستقلا عن الأخر لا تربطه به  ادني رابطة أو صلة، بل انضم اغلبها في مجموعات متعددة، تربط كل مجموعة منها رابطة القربى أو النسب، ويرأسها اله اكبر هو أبوها وسيدها جميعا، كما كان زيوس أبا الآلهة عند اليونانيين وبراهما عند الهند !!

على إن فكرة تعدد الآلهة سواء في أصلها أو تطورها، ذبلت عند الكثيرين من فلاسفة الفكر الوثني القديم أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين راودهم الشك فيها والظن مرات ومرات، ويكفي أن نعلم إن أفلاطون قال في معرض الحديث عن الله،بل الألوهية هي الواحد، مما يشعرنا ببعض اتجاهه الواهن الغامض الضعيف نحو التوحيد الذي نعرفه ونؤمن به … اجل وهل يمكن للإنسان إن يؤمن بآلهة كثيرة تتصارع وتتحاسد وتتنابذ وتتقاتل دون إن يكون عقله مظلما ومشعره سقيمة؟.. وهل هناك وصف ابرع أو أدق من وصف الرسول للمؤمنين بهذا التعدد من القول: “وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ. 24لِذَلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. 25الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. (رو1: 22 -25 ) ” ..

ثانيًا: اعتقاد وجود إلهين متضادين

وهي فكرة وجدت عند البعض قديما ممن عجزوا عن تفسير ظاهر الخير والشر في الأرض، ولعل الفرس أول من امن بها، إذ قيل أنهم في القديم امنوا بوجود الهين عظيمين، اسم الأول “ارومازد” اله الخير واسم الثاني “أهرمان” اله الشر، والأصل في الفكرة إن الناس لم يجدوا سبيلا إلى نسبة الشر إلى الله نسبوه إلى مصدر أخر مستقل عنه مضاد له في المادة، وقالوا إن كل ما هو خير وروحي يرجع دائما إلى اله الخير وكل ما هو شرير ومادي يرجع دائما إلى اله الشر .. وإذ رأوا إن  الصراع  بين الخير والشروالروح والمادة صراع دائم مستمر قائم، التزموا إن  يقولوا إن هذين الإلهين أزليان متساويان، وإلا أمكن لأحدهما إن يتغلب وينتصر أخر الأمر عللا الأخر، ولعله نقط الضعف في هذا الأمر أمران أولهما: الاعتقاد بأزلية المادة ،الأمر الذي يتناقض ويتضاد مع ما نلاحظه من ظاهرة التطور في الكون .. وثانيهما الزعم إن المادة أساس الشر واصله ومركزه، وهو زعم باطل غير صحيح، إذ إن الشر في حد ذاته ما هو إلا المادة المضادة الروحية والأدبية لله  والخير، وهو أمر لا يشترط استقراره في المادة أو انبعاثه عنها، كما تقضي بذلك بديهيات متعددة لا تحتاج إلى تدليل أو تفسير …

ثانيًا : ألوهية الكون

وهو الرأي الذي يزعم إن الكون هو الله، والله هو الكون، وقد انتشر أول الأمر بين الهنود والمصريين واليونانيين قديما، ثم لم يلبث إن ذاع في الإسكندرية بين الغنوسيين وأصحاب الفلاسفة الأفلاطونية الجديدة، وانتهى به المطاف أخر الأمر في ألمانيا إذ اعتنقه اسبينوزا الفيلسوف اليهودي الألماني في القرن السابع عشر، وجاراه في ذلك فختة وشلنج وهيجلمن فلاسفة الألمان !! والآخذون بهذا الرأي يقولون إن الكون هو الجوهر الأحد الأزلي الغير محدود، وهو الله ذاته، ولا شيء غير الله.. وكل ما يحدث فيه من إحداث وحوادث ما هو إلا مظهر من مظاهر التقلب والتغير والتعرية التي تحدث في الطبيعة والكائنات.. وعلى هذا الأساس  فليس هناك من فلاق أو تمييز بين العقل والمادة والجسد  إذ أنها جميعا – وغيرها مما لا نعرف –  كما يقول اسبينوزا، بعض صفات هذا الإله – الذي هو الكون – ولطالما شبهوه ومثلوه بشجرة الحياة الوارفة الباسقة، التي تختلف فيها إشكال الأغصان والإزهار والبراعم والأثمان، ولكنها من أصل واحد وفي أصل واحد الذي هو الشجرة – هكذا الكون في نظرهم يشتمل على النبات والحيوان والنبات والإنسان، ولا فرق بين الجميع إلا كالفرق بين الإشكال المختلفة في الشجرةالواحدة، ويقولون أيضا إن الفرق بين الإنسان الخيّر والإنسان والشرير هو الفرق بين الثمرة الناضجة والأخرى غير الناضجة في الشجرة، إذ لا تمييز عندهم بين الخير والشر، سوى إن الشر خير ناقص مبتور لم يكمل أو ينضج بعد !! ..وقد جاء في أوصافهم أيضا إن الكون شبيه بمحيط الحياة الواسع العميق اللجى، الذي تنطلق منه حياة الناس كما تنطلق منه حياة الناس كما تنطلق السحب والغيوم وتتحول إلى مطر ثم لا تلبث إن ترجع إليه أخر الأمر، لتثوى بين جنباته، وتغيب بين أحضانه .. ومن ثم فحياة كل إنسان على الأرض لا تزيد عن كونها قطرة من قطرات هذا المحيط ارتفعت عنه قليلا ثم عادت لتفنى وتتلاشى فيه…

وظاهر من الأمر كله إن الآخذين بفكرة إلوهية الكون لا عنه. على الإطلاق بوجود شيء اسمه “الشخصية” سواء كانت هذه الشخصية شخصية الله الحية العاقلة الحكيمة المفكرة الحرة الاختيار، أو شخصية الإنسان التي تنفرد عن غيرها من المخلوقات الأرضية بالعقل والفكر والإرادة، وبالتالي لا يؤمنون بوجود الله أو الإنسان بالمعنى المعروف عندنا، إذ إن الإنسان عندهم هو جزء من الله إذ هو جزء من الكون !! وان الله مجرد من الذاتية التي تميزه عن الكون وتفصله عنه.. ولا تحسب إن هناك غباوة وحماقة وامتهانا للفكر والشعور والمسئولية أكثر من هذه.. ولعل ما كتبه دكتور بوردن براون بهذا الصدد هو خير ما يمكن إن يكتب أو يذكر على وجه الإطلاق، إذ قال: “إن فكرة إلوهية الكون يواجهها من الصعوبات ما لا يمكن تخطيه أو التغلب عليه، فمسالة المعرفة لا يمكن إن تحل إلا إذا اعتنقنا الفكر، إن هناك حرية أمام الروح المحدود  أو الروح غير المحدود على حد سواء .. كما إن  الإيمان بان كل الأشياء تعتمد على الله يبدوا امرأ محتوما لا مفر للفكر من الأخذ به . إما القول بان كل الأشياء والأفكار وضروب النشاط هي ذات الله فهو أولا أمر غير مفهوم كما انه ثانيا وبيل وهدام، إذ من المعقول تماما إن يقال إن الله يعرف أفكارنا ومشاعرنا، ويقدر هذه الأفكار والمشاعر أكل تقدير. إما إن يقال إن أفكارنا ومشاعرنا هي ذاتها أفكاره ومشاعره ففيه مناقضة سيكولوجية من إي جانب جئناها. ولا سبيل إلا إلى انتحار المنطق والفكر قبل الإصرار على ذلك. فاجل فإذا كان الله هو الذي يفكر ويشعر في أفكارنا وشعورنا،وتبعا لذلك إذا كان الله هو الذي يخطئ في أخطاؤنا ويرتكب الحماقة في حماقتنا، وإذا كان هو الذي يناقض نفسه فيما لا يحصى أو يعد من متناقضات أفكارنا. فكل خطأ وجهالة وخطية تضحى شيئا إلهيا، كما ويتلاشى ويتبدد سلطان العقل والضمير تماما”.

وفي الواقع لا يمكن التسليم بإلوهية الكون دون إن نهدر اسمي الأفكار والمعاني والمعتقدات التي اخذ بها البشر منذ فجر الخليقة حتى اليوم، إذ إن الله الذي تخيله أصحاب هذه النظرية ومريدوها هو كل شيء إلا الله ذاته، كما قال احد إعلام المفكرين !! .. والإنسان في عرفهم ما هو إلا مسخ مادي مشوه تجرد من كل الخصائص والمزايا التي ينفرد بها الكون كانسان، والحياة بجملتها هيهات إن تكون في ظن معتقدات سقيم كهذا، أكثر من مجوعة تعسة مضللة من الأوهام والأباطيل والترهات !! .. ولا نحسب احد يحترم الفكر الإنساني والأوضاع الروحية والأدبية التي اصطلح عليها الناس ويتمسكون بها يمكن إن يرحب به أو يقبله على الإطلاق !!

رابعًا: قوة مجهولة

وأصحاب هذا الرأي يعتقدون إن الكون حدث مخلوق وبالتالي يرفضون الإيمان بإلوهيته، وان كانوا في الوقت ذاته يؤمنون بوجود قوة هائلة عارمة خلفه هي التي أوجدته وأبدعته بقوانين ونظم ميكانيكية غير معروفة، ويقولون إن هذه القوة ليست شخصا، بل هي قوة مجردة من الغرض والهدف والخطة المرسومة، وتسير كيفما اتفق سيرها، دون إن يكون لها عقل وروح.

وحس ومعنويات روحية أو أدبية تحدد إعمالها واتجاهاتها. وعلى هذا الأساس يبطل عندهم الدين جملا وتفصيلا، إذ كيف يمكن إن تنشا الصلة بين الإنسان وبين هذه القوة المجهولة العمياء التي لا تعقل أو تحس أو تريد !!؟ وكيف يمكن للبشر إن يودعوا عندهم آمالهم وانتظار ومخاوفهم وصلواتهم وما أشبه، إذ هي لا تسمع أو تجيب !!؟

هذا مجمل ما يعتقد به الآخذون بهذا الرأي، ومن الواضح إن خطاه وفساده وعيوبه وتناقضه اظهر من إن تحتاج إلى الإفاضة في الشرح أو التدليل، إذ كيف يمكن إن تدعى هذه القوة أو يصفونها بالقول أنها عمياء ومجهولة، الله!!؟ والله في العرف العام اسمي واعلي من أن يوصف بأنه قوة مجهولة عمياء. ثم كيف يمكن إن تكون هذه القوة عمياء مجردة من الهدف والغرض والخطة المرسومة وكل ما في الكون يتحدث العكس!!؟ إذ يتحدث عن قوة خالقة منظمة دقيقة لابد أنها صدرت عن عقل جبار حكيم مدبر !!؟ بل كيف يمكن لهذه القوة المجردة من الشخصية وغير العاقلة إن تصنع فيما يصنع هذا العقل الإنساني المفكر العظيم؟ إن الأخذ بهذا الرأي والتمشي وراء أصحابه اقل ما فيه انه عبث وسخرية قاسية بهذا العقل الإنساني ذاته!!.

خامسًا: الإيمان المسيحي بالله

وهذا يأتي بنا إلى أخر الأمر إلى العقيدة المسيحية العامة عن شخص الله وطبيعته وقد آثرنا إن ندرسها أخر الكل حتى يتاح لنا إن نرى ما بينها وبين سائر المعتقدات  والنظريات الأخرى من فروق واختلاف، وحتى يمكن إن نزنها بميزان دقيق صادق من غير مغالاة أو تحيز؟ والواضح أنها تختلف عن غيرها من المعتقدات على الأقل مما يلي:

1- الإيمان بوحدانية الله

والإيمان بوحدانية الله أساس العقيدة المسيحية وقاعدتها، وقد جاء هذا الإيمان إلى المسيحية كما هو معلوم من الديانة اليهودية التي اعتنقته وتمسكت به وتمسكت به في عالم امتلأ وقتئذ بما لا يعد أو يحصى من الإلهة المختلفة !! واحسب إن لا حاجة لنا إلا التوسع في التدليل أو الاستشهاد ، إذ إن صفحات الكتاب المقدس والتاريخ اليهودي والمسيحي تشهد كلها على ذلك بما لا يدع مجالا للبحث أو النقاش ، ويكفي إن نلمّح أو نشير إلى بعضها على سبيل القياس لا الحصر. فقد جاء في الكتاب المقدس في مواضع مختلفة: “اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد “(تث6 :4)  ” وصلى حزقيا أمام الرب أيها الرب اله إسرائيل الجالس فوق الكاروبيم أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض  “(2مل19 :19 ) “الباسط السموات وحده ” (اي9 :8) “إليك وحدك اخط ” (وز51 :4) “مبارك الرب  اله إسرائيل الصانع العجائب وحده “(مز72 :18) ليس احد صالحا إلا واحد وهو الله  “(مت 19 : 27)  “أنت الإله الحقيقي وحدك” (يو17 :3) “أنت تؤمن إن الله واحد حسنا تفعل “(يع2 :19) .

كما إن جميع قوانين الإيمان المسيحي صدرت بعبارات تصرح أو تشير إلى هذه الحقيقة. فالقانون النيقوي الصادر في 325 ميبدأ بالفصول :”نؤمن باله واحد …” والقانون النيقوي القسطنيطيني الصادر عام 381م يقول كذلك: “نؤمن باله واحد …” والقانون الذي تقلبه ألان جميع الكنائس الإنجيلية والتقليدية يقول أيضا: “أؤمن باله واحد..” وكذلك أيضا سائر القوانين والتعاليم الأخرى، والقانون الاثناسي والخلكيدوني والترنتي والاوكسبرجي والوستمنستري وغيرها من شتى القوانين القديمة والحديثة، كل هذه القوانين تؤكد وتفصح إن  الإيمان بالوحدانية لم يكن العقيدة المسيحية العامة التي يلتف حولها المسيحيون جميعا،بل العقيدة الأساسية التي تشاد عليها وتبنى سائر معتقداتهم الأخرى !!

وظاهر على الدوام إن كل ما في الكون أو الطبيعة يؤكد ويؤكد هذا الإيمان،  فالإله الذالي غير المحدود لابد إن يكون واحد، إذ لا يتسع الكون لسواه، ولا ينبغي إن يكون هناك غيره .كما انم كل القرائن والدلائل المستخلصة من اتجاهات الحياة والنواميس الطبيعية تشير إلى هذه الحقيقة أيضا إذ من غير المعقول إن يصدر هذا الكون الواحد المنظم الدقيق عن أكثر من عقل واحد وقصد واحد !!

2- الإيمان بشخصية الله 

على إن المسيحية لا تؤمن بوحدانية الله فحسب، بل تؤمن بشخصيته أيضا أو في لغة أخرى أنها لا تؤمن إن هذا الإله الواحد مجرد قوة أو شيء، بل تؤمن انه شخص حي عاقل واجب الوجود، له كل مقومات الشخصية في أكمل ما يمكن إن تشمل عليه هذه المقومات من معان. وإذا كان من المسلم به إن الشخصية تقوم على الدوام على ثلاثة أركان – لا أكثر ولا اقل- هي الفكر والشعور والإرادة، وان الله هو الشخصية الوحيدة الكاملة إذا قورن بغيره من شخصيات خلائقه ،كان لابد إن نعرف شخصية الله، بأنها الشخصية الكاملة الفكر والشعور والإرادة.. إذ هو أول كل شيء الإله المدرك لذاته، والمدرك لكل صنعه، وما إدراكنا نحن، مهما امتد أو اتسع كومضة ضعيفة باهتة إزاء نور معرفته الكامل وإدراكه النهائي .. بل إن المسافة الكاملة بين إدراك الإنسان نفسه وإدراك إي إنسان أو ملاك وإدراك الله أكثر بما لا يقاس بين إدراك الإنسان نفسه وإدراك الملاك.. أو المسافة القائمة بين إدراك الطفل وإدراك الرجل المحنك أو الفيلسوف!! .. الم يقل الكتاب انه ينسب إلى ملائكته حماقة ؟  ووصف لآساف نفسه في ضوئه بالقول: “وانأ بليد لا اعرف صرت كبهيم عندك “(مز73 :22) وقال مرنم إسرائيل الحلو :”الظلمة أيضا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور” (مز129:12) فإذا كانت الحقائق تبدو أمامنا كالأشباح،  وإذا كان ما نعرف اقل كثيرا وأضأل بالقياس إلى ما يغيب عن إبصارنا وإدراكنا، فمرد ذلك يرجع إلى التفاوت غير المحدود واللانهائي القائم بين شخصيتنا المفكرة وشخصيته هو. وإذا كان الذهن البشري مع هذا كله قد تفتق عما نعرف من هذه الروائع العظيمة التي سجلها التاريخ في كل ميدان من ميادين العلم والمعرفة والفن والاكتشاف والاختراع، فكم يكون إذا ذهن الله وفكره العجيب؟ إلا يصح إن نهتف مع الرسول بعد ذلك القول: “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما ابعد إحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، لان من عرف فكر الرب ومن صار له مشيرا “(رو11:33، 34). ومثل إن يقال عن شخصية الله المفكرة يمكن إن يقال عن شخصيته الشاعرة أيضا، والشعور هو ذلك الإحساس العام الذي ينهض في أعماق الشخصية، ويعبر عما بها من عواطف وانفعالات، وهو بهذا المعنى أساس كل ما نعرف أو نختبر من لذة أو شوق أو حنين أو حب أو كراهية أو نفور أو ما إلى ذلك من أحاسيس والذي من دونه يفقد الفكر حوافزه والإرادة دوافعها ومحركها، وإذا جاز للشعور البشري إن يتبلد أو ينقص أو يخمد أو يبيد، فان مشاعر الله هي النار الآكلة والوائد الأبدية . وإذا كان سمة تراجع أو تقلب في عواطف الناس، الأمر الذي ينزه عنه الله إطلاقا، فان هذا يرجع إلى مشاعرهم البدائية الساذجة الواهنة الضعيفة إذا قورنت بشعوره تعالى الكامل الغير محدود. وما يصح في القول عن شخصية الله المفكرة الشاعرة، يصح أيضا في القول عن شخصيته المريدة، وفي الواقع إن الإرادة – كما وصفها احدهم – ما هي إلا النفس في العمل أو النفس حين تضبط نفسها.  ولا يمكن للأفكار أو المشاعر إن تنساب إلى الواقع العملي، ما لم تكن هناك إرادة تحولها إلى ذلك. ونقص الشخصية البشرية يرجع إلى عدم التوازن بين القوى الثلاث في النفس، فقد يفكر الإنسان ما شاء له إن يفكر، وقد يبني في خياله قصورا، وعوالم لانهاية لها، وقد تتمشى عواطفه قليلا أو كثيرا مع كل هذه الأفكار والخيالات، ولكن هذه كلها لا يمكن إن تتبلور إلى حقائق، ما لم تكن هناك إرادة قوية تتكافأ مع هذه  جميعا، الأمر الذي لا يمكن إن نجده سوى في شخصية الله الكاملة فكرا وشعورا وإرادة، ومن ثم يحق له إن يقال عنه وحده “القادر على كل شيء الذي به كل شيء مما كان”.

وغاية ما نصل إليه من الإيمان بشخصية الله، إن إلهنا شخص حي عاقل ممتلئ العواطف والمشاعر قادر على كل شيء ولا يعسر عليه أمر، وانه تباعا لذلك، المشوق إلى خلائقه والذي يسعى إلى الاتصال بهم.  والتجاوب معهم في شتى الظروف والأحوال والذي يحق له الإجلال والإكرام والتعبد والسجود.

3- الإيمان بروحانية الله

والمسيحية تؤمن بروحانية الله، أو في لغة أخرى تؤمن إن الله الشخص الحي الواحد ليس جسما ماديا يمكن إن يرى ويلمس أو يدرك بالحواس البشرية، وهو بهذا الأساس منزه عما تخضع له  سائر المواد من تحول وتغير وتجزئة وتحدد وثقل وما أشبه . إن الله روح كما يقول السيد المسيح ،وهو أيضا أبو الأرواح، إذ أبدع هذه على صورته وشبه، وان اقتصرت الصورة والشبه في واقع الحال على النوع دون الكل ،كما تتماثل الشعاعة الواحدة الضئيلة، والحزمة الهائلة من النور أو تتفق الذرة التي لا ترى مع العنصر الكامل الذي تنتسب إليه .

4- الإيمان بالثالوث في الإله الواحد

وهذا يأتي بنا أخر الأمر إلى العقيدة الأساسية الرئيسية في الإيمان المسيحي بإلهه، ونعني بها إن الله الواحد، الشخص، الروح، ذو الثلاثة أقانيم . وواضح إن هذه العقيدة مما تنفرد به المسيحية عن غيرها من الديانات والفلسفات القديمة والحديثة، إذ لا مراء إن صفحات التاريخ لم تسجل على وجه الإطلاق عقيدة اعتنقها دين أو فكر كهذه التي يؤمن بها المسيحيون. ويكفي ما نشير إلى ما جاء في بعض الديانات والفلسفات من عقائد أو أفكار لنرى البون الشاسع بينها وبين عقيدة المسيحية، فالمصريون القدماء كانوا يؤمنون بثالوث مقدس، ممثل في اوزريس وايزيس وهوريس، ولكن هؤلاء لم يكونوا ألها واحدا، بل كانوا ثلاثة إلهة تمثل العائلة البشرية، إذ كان اوزريس الآب وايزيس إلام وهوريس الابن . كما إن الهنود –وهم كما نعرف أكثر الناس قبولا لعقائد التطور والتناسخ – قد أمنوا بالإلهة “براهما “و ” شيفوا” و “شيوا”، وهذه لم تكن عندهم سوى التطورات المتلاحقة في الكون من ناحية “وجوده” و “بقائه “و “فنائه “وكان كل واحد من هذه الإلهة يمثل منظرا منفردا من هذه المظاهر. وقد ابتدع بعض الفلاسفة من القدماء والمحدثين صورا غامضة خيالية فيها هذا المظهر أو ذاك من التثليث، كما ذكر أفلاطون في طيماوس، أو كما جاء في بعض كتابات فيلو وكومت وهيجل وغيرهم  .ولكن أين هذه جميعا من الفكر الواضح الحاسم الذي تؤمن به المسيحية عن الله الواحد الجوهر الأحد  ذي الثلاثة اقانيم من غير انقسام أو مزج أو انفصال ؟!

على إننا ونحن نتأمل هذه العقيدة بشيء من التفصيل والتوضيح لا مندوحة  لنا من الاعتراف إننا إزاء سر من أعمق إسرار الوجود والحياة، وإذا كان اغسطينوس وكلفن قد اعترفا إن اللغة اللاتينية على ما فيها من غنى وجمال عاجزة كل العجز عن التعبير عن كنهها وعمقها، فإننا نقول ما هو أكثر من ذلك إذ نقول إن بيان البشر أو الملائكة اعجز من إن يسبر غورها، إلا إذا أمكنه إن يبلغ المستحيل، ونعني به تفصيل الأعماق في طبيعة الله ذاتها . إن المسيحيين لم يؤمنوا بعقيدة الوحدانية والثالوث لأنها من رأي بشر أو إنتاج فكر، بل لأنها الحقيقة التي أعلنها الله، والتي تتمشى في رحاب الكتاب المقدس من مطلعه إلى نهايته ومع إن الكتاب لم يضع لها الصورة اللاهوتية محددة التي انتهت إليها الأجيال  .إلا انه رسم الخطوط الواضحة الصريحة الأكيدة التي تكونت منها هذه الصورة.

عقيدة الوحدانية والثالوث في التاريخ الطبيعي

ولعله من الأفضل حقا قبل إن ندرس هذه العقيدة أو نبحثها البحث الكتابي المجرد  إن تلم في شيء من الإفصاح بتاريخها في الكنيسة المسيحية والأطوار والملاحم الفكرية التي اجتازتها، حتى انتهت إلى وضعها النهائي الدائم غير المتغير، بل قد يكون من الصعب علينا إن ندرك ما استعمل من ألفاظ دقيقة حاسمة في صياغة أسلوبها، ما لم نلم بالأفكار المتعارضة التي ظهرت حينذاك في القرون الأولى في التاريخ المسيحي!!

كان المسيحيون أيام الرسل وحتى أوائل القرن الثاني الميلادي لا يفكرون في قليل أو كثير في وضع صيغة معينة محددة للعقائد المسيحية، إذ كانوا يتعلقون بموضوع هذه العقائد ويمارسون “مبادئها “كما جاءت في الكتاب المقدس دون إن يشغلوا بوضع “شكل” معين موحد لها، وكان مرجعهم في إي صعوبة أو مشكلة أو خلاف إلى الرسل أنفسهم أو إلى خلفائهم من بعدهم .. ولكن ما  إن انتشرت الكنيسة المسيحية شرقا وغربا، وما إن تعددت أفكار ومذاهب كثيرين من المسيحيين،  وما إن بدر الخلاف والنزاع بين هؤلاء حول نقاط متعددة أهمها “مركز المسيح أو الروح القدس” من اللاهوت، حتى باتت الحاجة ماسة إلى إن تقول الكنيسة كلمتها الفاصلة في هذا  النزاع الخطير ….

ومن العجيب إن مصر القدح المعلى فيه ،إذ كان ثلاثة ممن عاشوا فيها وأقلتهم أرضها من أقطابه ونعني به “سباليوس” و “اريوس” و “اثناسيوس “. وقد قامت نظرية “سباليوس” على الوحدة المجردة من الثالوث، ومع انه كان يؤمن بالمساواة المطلقة بين الأب والابن والروح القدس، ومع انه كان يقول أنهم واحد، وما الكلمة “الأب” أو “الابن ” أو “الروح القدس” إلا ثلاثة تجليات أو مظاهر لهذا الإله الواحد، وان الله دعي بهذه الأسماء أو الألقاب بالنسبة للعمل الذي قام به، ومن ثم قسم سباليوس عصور التاريخ إلى ثلاثة عصور، عصر الأب أو عصر ما قبل التجسد، وعصر الابن أو عصر المسيح على الأرض، وعصر الروح القدس أو العصر الذي بدا من يوم الخمسين … وقد رفضت الكنيسة هذا الرأي لوضوح مناقضته للكتاب المقدس، الذي يعلم على الدوام انه لم يكن هناك وقت لم يكن فيه كل واحد من الثالوث المقدس قائما بذاته، إذ كان الابن قائما مع الأب منذ الأزل  كما جاء في القول: “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موضع قدميك” (مز110: 1) . أو” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” (يو1: 1) أو  “قال لهم يسوع الحق أقول لكم قبل إن يكون إبراهيم إنا كائن” (يو8: 58 ) وما أشبه من شواهد وإشارات كثيرة تؤكد وجود الابن كابن قبل التجسد . وما يقال عن الابن يقال أيضا عن الروح القدس، إذ يقول الكتاب من بدء الخليقة: “وروح الرب يرف على وجه المياه ”  (تك1 :2) كما يقول السيد المسيح: “وانأ اطلب من الأب فيعطيكم معزيا أخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم إن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه “(يو14: 16 و17) . ويقول “ومتى جاء المعزي الذي أرسله إنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي” (يو15 :26) . هذه وغيرها من شواهد تقطع بوجود الاقانيم الثلاثة معا من الأزل إلى الأبد دون إن تكون مجرد مظاهر  أو صور متعاقبة لشخص الله الواحد … ولو أنها كانت تجليات لإعلان صفات الله أو إعماله لما اقتصر الأمر على كونها ثلاثة، بل لتعددت وتنوعت تباعا لإعمال الله وصفاته الكثيرة …

إما اريوس فقد نادى بعدم مساواة الابن أو الروح القدس للآب، إذ إن كليهما في نظره مخلوق من الآب، وعلى هذا الأساس يكونان اقل منه، وان كان الأب قد جعلهما معا مشابهين لطبيعته الإلهية، كما أعطاهما المقام الأول بين الخليقة، إذ خلقهما أولا وفوض إليهما خلق بقية الخليقة والعالم وفداء البشرية بعد سقوطها، ومن ثم خلق العالم وافتداه بواسطة الابن، وهذا بدوره استخدم الروح القدس في الإعمال الذي قام بها إتماما لمقاصد الله الأزلية.. وقد تفرع عن مذهب اريوس مذهب مماثل يدعونه المذهب الشبيه بالاريوسي، ويختلف عن المذهب الاريوسي على الأغلب في أمرين، إذ يعتقد الآخذون به إن الابن والروح القدس لا يشبهان الأب في طبيعته بل ينزلان إلى مستوى اقل، متوسط بين طبيعة الأب وبقية الخلائق … كما يعتقدون إن الروح القدس لم يخلق مباشرة من الأب بل خلق عن طريق الابن !! ..

إما اثناسيوس والذي يطلق عليه بطل الإيمان، فقد دخل المعركة مع اريوس حول كلمة واحدة، وان شئنا الدقة حول حرف واحد في اللغة اليونانية، ويطلق عليه لفظ “يوتا “في كلمة Homoousios”” “جوهر” فبينما كان اثناسيوس يريدها هكذا عن الابن ذات جوهر الآب ،إذ اريوس  يريدها “Homoiousios”مضافا إليه الحرف “i “  “يوتا” وتعني من جوهر يماثل ذاك الذي لله، والمسيح بهذا المعنى مخلوق وادني من الآب في الجوهر، وهذا ما رفضتها لكنيسة وقضت عليه وعدته هرطقة كاملة، وطاردت مبتدعيها، واعتبرتهم مضلين وخارجين عليها، وعلى الحق نفسه، ومع إننا لا نستطيع إن نجزم من الوجهة التاريخية الخالصة عما إذا كان القانون الاثناسي المعروف باسمه يرجع إليه أم لا، إلا انه على إي حال يعتبر اقرب القوانين إلى رأيه وعقيدته إن لم يكن هو صاحبه ومنشئه إما صورة هذا القانون فهي كما يلي :

1-     إن كل من ابتغى الخلاص وجب عليه قبل كل شيء إن يتمسك بالإيمان الكاثوليكي – إي الإيمان الجامع العام للكنيسة المسيحية.

2-     وهذا الإيمان كل منن لا يحفظه دون إفساد، يهلك بدون شك هلاكا أبديا.

3-     والإيمان الكاثوليكي هو أن نعبد ألها واحدا في تثليث، وثالوثا في توحيد.

4-     لا نمزج الاقانيم ولا نفصل الجوهر

5-     إن للآب اقنوما على حدة، وللابن اقنوما على حدة، وللروح القدس اقنوما أخر.

6-     ولكن الآب والابن والروح القدس لاهوت واحد ومجد متساو وجلال ابدي معا.

7-     كما هو الأب كذلك الابن وكذلك الروح القدس

8-     الأب غير مخلوق والابن غير مخلوق والروح القدس غير مخلوق

9-     الأب غير محدود والابن غير محدود والروح القدس غير محدود

10-الأب سرمدي والابن سرمدي والروح القدس سرمدي

11-ولكن ليسوا ثلاثة سرمديين بل سرمد واحد

12-وكذلك ليسوا ثلاثة غير مخلوقين أو ثلاثة غير محدودين، بل واحد غير مخلوق وغير محدود

13-وكذلك الأب ضابط الكل والابن ضابط الكل والروح القدس ضابط الكل

14-ولكن ليسوا ثلاثة ضابطي الكل بل واحد ضابط الكل

15-وهكذا الأب اله والابن اله والروح القدس اله

16-ولكن ليسوا ثلاثة إلهة بل اله واحد

17-وهكذا الأب رب والابن رب والروح القدس رب

18-ولكن ليسوا ثلاثة أرباب بل رب واحد

19-وكما إن الحق المسيحي يكلفنا إن نعترف بان كل من هذه الاقانيم بذاته اله ورب

20-كذلك الدين الكاثوليكي ينهانا عن إن نقول بوجود ثلاثة إلهة وثلاثة أرباب

21-فالأب غير مصنوع من احد ولا مخلوق ولا مولود

22-والابن من الأب وحده غير مصنوع ولا مخلوق بل مولود.

23-والروح القدس من الآب والابن ليس بمصنوع ولا مخلوق ولا مولود بل منبثق

24-فإذا آب واحد ولا ثلاثة إباء، وابن واحد ولا ثلاثة أبناء، وروح قدس واحد ولا ثلاثة أرواح قدس.

25-وليس في هذا الثالوث من هو قبل غيره أو بعده، ولا من هو اكبر منه أو اصغر منه.

26-ولكن جميع الاقانيم سرمديون معا ومتساوون .

27-ولذلك في جميع ما ذكر يجب إن نعبد الوحدانية في ثالوث والثالوث في وحدانية.

28-إذا من شاء إن يخلص فعليه إن يتأكد هكذا في الثالوث.

29-وأيضا يلزم له الخلاص إن يؤمن كذلك بأمانه بتجسد ربنا يسوع المسيح .

30-لان الإيمان المستقيم هو إن نؤمن ونقر بان ربنا يسوع المسيح هو ابن الله هو اله وإنسان.

31-هو اله من جوهر الأب، مولود قبل الدهور، وإنسان من جوهر أمه مولود في هذا الدهر.

32-اله تاما وإنسان تام كائن بنفس ناطق وجسد بشري.

33-مساو للأب بحسب لاهوته ودون الأب بحسب ناسوته

34-وهو وان يكن ألها وإنسانا إنما هو مسيح واحد لا اثنان.

35-ولكن واحد ليس باستحالة لاهوته إلى جسد ،بل باتخاذ الناسون إلى اللاهوت

36-واحد في الجملة لا باختلاط الجوهر بل بوحدانية الاقنوم .

37-لأنه كما إن النفس الناطقة والجسد إنسان واحد، كذلك الإله والإنسان مسيح واحد.

38-هو الذي تألم لأجل خلاصنا ونزل إلى الجحيم [1]  وقام أيضا في اليوم الثالث من بين الأموات

39-وصعد إلى السماء وهو جالس عن يمين الأب الضابط الكل.

40-ومن هناك يأتي ليدين الإحياء والأموات .

41-الذي عند مجيئه يقوم أيضا جميع البشر بأجسادهم.

42- ويؤدون حسابا عن إعمالهم الخاصة .

43-فالذين فعلوا الصالحات يدخلون الحياة الأبدية والذين فعلوا السيئات يدخلون إلى النار الأبدية

44-هذا هو الإيمان الكاثوليكي الذي لا يقدر الإنسان إن يخلص من دون إن يؤمن به بأمانة ويقين …

هذا موجز لا نزاع لا خطير، الذي دب في الكنيسة واشتد خلال القرن الثالث.ومع أن الرأي الاثناسي كان الأرجح والأقرب إلى رأي المسيحيين جميعا، إلا أن أفكار سباليوس وأريوس ومن دار في فلكهما، بلبلت إلى حد غير قليل أفكار السذج والبسطاء وحديثي الإيمان،  ومن ثم كان لازما على الكنيسة أن تصل إلى قرار واضح وصريح موحد، وهذا ما حدا بالإمبراطور قسطنطين إلى أن يدعو إلى عقد المجمع المسكوني  الأول العام في نيقية عام 325م، وقد أيد هذا الرأي الاثناسي، ورفض ما دونه من  أراء، واصدر القانون المعروف بقانون الإيمان النيقوي ونصه ما يلي:

“نؤمن باله واحد، آب ضابط الكل، خالق كل الأشياء، ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله، المولود من الآب، المولود الوحيد، إي من جوهر الأب، اله من اله، نور من نور، اله حق من اله حق، مولود وغير مخلوق ومساو للآب في الجوهر [2]  الذي به كان كل شيء  في السماء وعلى الأرض، الذي من اجلنا نحن البشر، ومن اجل خلاصنا، نزل وتجسد وتأنس وتألم ومات، وقام أيضا في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وسيأتي من هناك ليدين الإحياء والأموات . وبالروح القدس، وأما الذين يقولون انه كان زمان لم يوجد فيه، وانه لم يكن له وجود قبل أن يولد، وانه خلق من العدم، أو انه مادة أو جوهر آخر، أو انه ابن الله مخلوق، أو انه قابل للتغيير، أو متغير، فهم ملعونون من الكنيسة الجامعة الرسولية” ..

وقد أوضح المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية عام 381م بأمر الإمبراطور ثيودسيوس ما أجمله المجمع النيقوي الأول بخصوص الروح القدس، فقال في قانونه المعروف بقانون الإيمان القسطنطيني ما نصه:

” … وبالروح القدس الرب المحيي، المنبثق من الأب، الذي هو مع الأب والابن مسجود له وممجد، الناطق بالأنبياء…” .

وقد أقرت جميع المجامع اللاحقة في مختلف العصور على وجه قاطع ما ثبت في مجمعي نيقية والقسطنطينية كمجمع ترنت واوجسبرج ووستمنستر وادنبرة وبرنستن، كما أن جيوش المفكرين والمستشهدين قد أخذت بها إلى جانب الأنبياء والرسل، كاكليمندس  وايرانيوس، وترتليانوس وديونسيوس واثناسيوس واغسطينوس وانسلموس وكلفن وويسلي بكستر وبسكال وبتلر … حين سئل بيونيوس من محاكميه: “إي اله تعبد؟ ” أجاب: “اعبد ذاك الذي خلق السموات وجملها بالنجوم، واغني الأرض بالإزهار والشجر ” .وعندما قيل له:”أتعني ذاك الذي صلب ؟”بالتأكيد ذاك الذي أرسله الأب لخلاص العالم”.أنا امجد الثالوث الأقدس الذي ليس بجانبه اله … ولتهلك الإلهة التي لم تصنع السموات والأرض وكل ما فيها … أنا مسيحي.

وفي ظلال الاكربول كانت الأغنية القديمة في مستهل المسيحية والتي نقلها بازل في القرن الثالث، تمجد الأب والابن والروح القدس  . وفي منتصف القرن الثاني كتب بوليكاربوس في رسالته المعروفة : “ربنا يسوع المسيح الذي يخضع له كل شيء في السموات وعلى الأرض، والذي تخدمه كل نفس” .وفي القرن الخامس قال يوحنا الدمشقي :”الاقانيم متحدون دون اختلاط أو امتزاج، ومتميزون دون افتراق أو انقسام، إنهم الله الواحد” .. وفي القرن الثالث عشر قال توما الاكويني : “الثلاثة اقانيم هم الله الواحد، ولا ينفصل احدهم عن الأخر، لان جوهرهم الواحد هو اللاهوت غير قابل للانقسام ” .. كما إن ليبنتز الفيلسوف قال :”إن الذين ينكرون لاهوت المسيح ومع ذلك يصلون له ربما يكونون طيبين ولكنهم مع ذلك ليسوا أساتذة في المنطق” .. ولا يمكن أن ننسى ما قاله تشارلز كنجسلي حين صاح : “إن قلبي في حاجة إلى الثالوث كما يحتاج إليه فكري. فاني أريد أن اشعر أن الله يعتني بي وانه أبونا، وانه تدخل وتنازل وقدم نفسه .. إني أريد أن اشعر أن الله يعتني بي وانه أبونا، وانه تدخل وتنازل وقدم نفسه.. إني لا أريد أن أحب مسيحا هو خليقته وصنعة يديه.. مسيحا في إرادته وطبيعته هو اقل من الله !!.. إني أريد أحب وامجد اله الطاهر بنفسه . . وليس هناك ما يمكن أن ينتزع الراحة من نفسي حول يقيني في أن المسيح هو بهاء ذاك الذي به نحيا ونتحرك ونوجد.. واني أقول بقوة وشجاعة، انه إن لم يكن هناك الثالوث في الكتاب، فانه يلزم أن يكون، فكل ما في طبيعة الإنسان الروحية يصرخ في طلبه “.. وفي عام 1865 كتب كنجسلي إلى موريس أستاذ الفلسفة الأدبية بجامعة كامبردج يقول :”لقد علمتني يقينا إن عقيدة الثالوث حقيقة حية وليست مجرد وضع سفسطائي يهذر به اللسان، فأنت تعني إن الأب آب حقا، وكذلك الابن والروح القدس .. ولقد شققت السبيل من ذلك، وما زال اشق إلى كل دروسي العملية، بل سأجعل هذه الحقيقة منار خطواتي في الحياة”..

عقيدة الوحدانية والثالوث في الكتاب المقدس

والسؤال الجوهري الحاسم بعد هذا كله هو :ما هو عماد هذه العقيدة وأساسها ؟وما برهان صحتها وثباتها؟ ولم بلغت هذا الحد من القوة والرسوخ والاستقرار في التاريخ المسيحي ؟ وكيف علت كل منازعة ونقاش وجدل ؟ وكيف أمكن أن تتغلغل بهذا الجلال والعظمة والقوة، حتى يهب للدفاع عنها جيوش المفكرين والشهداء على كر الأجيال ومختلف العصور؟ ..

أن العماد الأول، بل الأوحد، كما أسلفنا القول في الكتاب المقدس.. إذ لا يمكن للإنسان مهما بلغ من قوة الفكر، وعظمة التأمل أن يدرك شيئا في طبيعة الله دون كشف أو إعلان من الله ذاته… وما جاء خارج الكتاب عن التثليث من أفكار فلسفية أو محاجات منطقية ن لم يكن إلا بسطا وعرضا لما في الكتاب، وعن الطريق القياس والماجة والمنطق.. . وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك،ما دمنا بصدد سر من أعوص الإسرار التي تواجه الإنسان في كل تاريخه الطويل على هذه الأرض !!؟

والمعنيون بدراسة هذه العقيدة في الكتاب آمنوا بها واستقروا عليها ورسموا صورتها في قوانين الإيمان الكنسية، بعد ما اتضحت لهم عدة من لحقائق الأساسية الجوهرية الدامغة، وإذا لم يكن من السهل الإلمام بهذه الحقائق جميعا، وفي عجالة ولمحة سريعة، فلا اقل من أن نشير إلى أهمها على سبيل المثال:

1-   أن أول اسم لله تعالى ورد في العهد القديم هو لفظ “الوهيم “.. ومن العجب أن يجيء هذا الاسم في الأصل العبراني بصيغة الجمع، لا المفرد… وقد حاولوا بعض المفسرين اليهود وغير اليهود أن يردوا صيغة الجمع هذه إلى التعظيم اللائق بشخص الله كما يفعل الملوك عادة عدما يتحدثون عن أنفسهم، ولكت هذا الرأي مردود لأكثر من سبب ،إذ أن علماء اللغات يقطعون بان هذه العادة لم تكن معروفة في العهد القديم ن والكتاب نفسه يشهد بان فرعون عندما تحدث إلى يوسف تحدث بلغة المتكلم المفرد إذ قال: “قد جعلتك على كل ارض مصر” (تك41: 41 )، كما أن نبوخذ نصّر قال: “قد صدر أمر مني بإحضار جميع حكماء بابل قدامي ” (دا4: 6) .. وداريوس المادي قال :”أنا داريوس قد أمرت فليفعل عاجلا” (عز6 :12)  .ولو أن هذه العادة كانت موجودة حقا، واستعملت في اللفظ “الوهيم”  للتعبير عن الإجلال لله والتعظيم له، لما قصر الأمر على هذا اللفظ وحده دون بقية أسماء الله الأخرى، ولزم أن ترد هذه أيضا بصيغة الجمع وللزم أن تأتي جميع النعوت أو الأفعال أو الضمائر المرتبطة باللفظ  “الوهيم” بصيغة الجمع !! ولكن من العجيب أنها جاءت مرات كثيرة بصيغة المفرد.أن اللفظ “الوهيم “الذي ورد في العهد القديم ألفي مرة يشير بجلاء إلى التثليث في شخص واحد، حتى أشرق نوره تماما في العهد الجديد !! ..

2-   ومما لا شبهة فيه أن الوحدانية  في طبيعة الله التي ينادي بها الكتاب المقدس ،والتي تعزو على كل منازعة وجدل، ليست وحدانية مجردة أو بسيطة كما يشهد بذلك العهدان القديم والجديد على حد سواء ،بل هي وحدانية شاملة تكشف عن طبيعة الثالوث التي يؤمن بها المسيحيون .. وإلا فكيف يمكن أن نفسر هذه الوحدانية المسلم بها، والتي اشرنا إليها فيما ذكرنا آنفا من آيات مع التعدد الواضح في كثير من آيات أخرى غيرها !!؟ . أو كيف يمكن في لغة أخرى أن نجمع بين الأقوال: “الرب إلهنا رب واحد “

“أنت هو الإله وحدك “. “أنت الإله الحقيقي وحدك”.. والأخرى القائلة : “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موضع لقدميك (مز110: 1) ” من صعد إلى السموات ونزل من جمع الريح في حفنتيه؟ من صر المياه في ثوب من ثبت جميع إطراف الأرض ما اسمه وما اسم ابنه أن عرفت ” (ام30 :4) ” لأنه يولد لنا ولد وتعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفيه ويدعى اسمه مشيرا عجيبا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام” (اش9: 6) . “أنا والأب واحد” (يو10: 20). “الذي رآني فقد رأى الأب” (يو14 :9) . “صدقوني إني في الأب والأب في” (يو14 :11) . “اخلي نفسه آخذا صورة عبد” (في2: 6و7). كيف يمكن أن نربط بين هذه وتلك دون الإيمان بالوحدانية الجامعة غير المجردة البسيطة؟!.

3-   وهذه الوحدانية الجامعة هي المعروفة في الكتاب المقدس :”الأب والابن والروح القدس” وقد التزم بها كل المسيحيون كإعلان عن الله الواحد ذي الثلاثة اقانيم، وليست كتجليات أو مظاهر في ذات الإله الواحد، مما نفيناه ونحن ندحض بدعة سباليوس، أو كالوحدانية البسيطة التي ذهب إليها اريوس، وهو ينكر مساواة الأب والابن والروح القدس بالأب، والتي سيتاح لها مناقشتها ورفضها أيضا عند دراسة لاهوت المسيح والروح القدس..

ولعله من اللازم أن نشير إلى أن المسيحية التزمت بصيغة الوحدانية في شعار المعمودية، الذي هو رمز الدخول في الإيمان المسيحي، إذ أمر المسيح أن تكون “باسم” وليس بأسماء “الأب والابن والروح القدس” (مت28 :19) كما أن البركة الرسولية تضم ثلاثة اقانيم على صعيد واحد في بركة واحدة : “ونعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الأب وشركة الروح القدس مع جميعكم أمين “(2كو 13 :14) .

4-   وكالنتيجة المنطقية الطبيعية لما يكشف عنه الكتاب، من انه لا يوجد إلا اله واحد أزلي ابدي سرمدي، وان لا اله سواه وان هذا الإله دعي مرات بالأب، ومرات بالابن، ومرات بالروح القدس، وان هذا لم تكن مجرد كتابات أو نسب أو صفات الله، بل هي ذات الله وجوهر الواحد، وان كلا من الأب والابن والروح القدس يستحق العبادة والإكرام والإجلال والتعظيم، وان كل من الثلاث اقانيم أزلي ابدي واجب الوجود وغير قابل للانقسام والتجزئة والانفصال عن الأخر، وفي الوقت عينه دون مزج أو تركيب أو تجريد، وكلا منهما يقول عن ذاته  :أنا، وعن الاقنوم الأخر  :أنت، كما أن بين الثالوث الأقدس تميزا في الوظائف والعمل، لان الكتاب يعلّم أن الأب يرسل الابن، وان الأب والابن يرسلان الروح القدس، ولم يذكر أن الابن يرسل الأب، ولا أن الروح القدس يرسل الأب أو الابن، مع أن الأب والابن والروح القدس واحد في الجوهر،ومتساوون في القوة والمجد.  كما أن بعض أعمال اللاهوت تنسب في الكتاب إلى الأب والابن والروح القدس معا، نظير خلق العالم وحفظه، وبعضها تنسب على الخصوص إلى الأب وغيرها إلى الابن وأخرى إلى الروح القدس. مثال ذلك ما قيل من أن الأب يختار ويدعو، وان الابن يفدي والروح القدس يجدد. كما أن بعضا من الخواص ينسب إلى إقنوم من الثالوث دون الأخر مثل الأبوة للآب،والبنوة للابن، والانبثاق للروح القدس..

كالنتيجة الطبيعية لكل هذه الحقائق الكتابية خرج المسيحيون إلى العالم بعقيدتهم المسيحية الكبرى، عقيدة الإيمان بالإله الواحد والثالوث الأقدس  :الأب والابن والروح القدس اله واحدّ!!.

عقيدة الوحدانية والثالوث أمام المنطق والعقل

أما  وقد الممنا بهذه العقيدة من الوجهة التاريخية والكتابة، فقد آن لنا أن نقف منها من الوجهة العقلية المنطقية،وكيف أمكن للفكر المسيحي أن يتقبلها ويسلم بها، مع ما هو مشهود عن هذا الفكر، مع انه أوسع الأفكار وأعمقها وأصدقها وجرأها بحثا عن الحقيقة، وانه لا يتقبل على الإطلاق ما يجافي البديهة والمنطق والعقل !! وذات الملاحم الفكرية – التي اشرنا إليها أنفا- تشهد على ذلك، بل تشهد على أن المسيحية لا تفزع أو ترهب من أن تضع قضاياها جميعا على بساط البحث، بل بالعكس ترحب وتسر بكل ما يغذي ويروي العقل الظمآن إلى معرفة الحق، إذ نؤمن أن الله لم يخلق هذا العقل، ثم يعطي ويصادر في الوقت ذاته ذاتيته وكيانه واجتهاده!!.

وقد واجه العقل المسيحي هذه العقيدة أول ما واجه على اعتبار أنها “سر” من أعمق وأعوص إسرار الوجود .. وكيف لا وهي تتناول طبيعة الله وشخصه!!؟ . وقد تقبلها هذا العقل كما يتقبل إي سر أخر من إسرار الحياة والكون بمزاج من التأمل والتسليم دون محاولة رفضها أو الانتقاص منها قبل سبر الأغوار البعيدة والعميقة فيها!!. ومن منا يرفض في الطبيعة سر الجاذبية والكهرباء والذرة، لمجرد انه لا يفهمها ولا يستطيع أن يدرك ما فيها من إبعاد وأعماق!!؟ . ومن منا يأبى أن يصدق حركات أو الفكر انه لمجرد  انه لا يستطيع أن يستوعب أن كتلة من الشحم أو الأعصاب هي المخ تفعل كل هذا !!؟ ومن منا يأبى أن يقبل عجائب المكتشفات والمخترعات كالراديو التليفزيون والتليفون وما أشبه لأنه لا يستطيع أن يفهم كيف ينتقل الصوت أو الضوء أو الكهرباء في الأثير والهواء !!؟ فإذا كان من المهانة للعقل والسخرية به، أن نرفض هذه جميعا، وهي بعض إسرار الطبيعة الطافية على وجهها، -لمجرد إننا – لا نعلم إلا بعض ظواهرها، فكم تكون مهانة وأية مهانة وسخرية وأي سخرية أن نرفض أمر يتعلق بطبيعة الله لمجرد إننا لا نستطيع أن نستوعبه وندركه تماما!!؟ ومن العجيب بعد هذا كله أن نرى الناس على استعداد أن تتقبل إسرار الطبيعة بخضوع ورضا ولو من غير فهم وعلم، ونرفض الإيمان بتاتا بأعمق سر في شخص اله وطبيعته !!..

ولا يغرب على البال أن العقل المسيحي واحة هذه العقيدة بأعمال القياس والمنطق .. وقد إلف المسيحيون في العصور الوسطى أن يقولوا أن عقيدة الوحدة والثالوث هي ” المدرسة العليا للمنطق والكلام” . ومن اللازم أن نقول أيضا هنا أن اللغة البشرية لا يمكن أن تعي المدلولات الكاملة لشخص الله، وذلك لمحدودية اللغة، ومحدودية البشر معا، وهل يمكن أن يعي المحدود غير المحدود؟ ومن ثم فاللغة في حقيقتها إزاء الكمالات واللانهائيان ليست إلا التعبير عما يستطيع البشر فهمه وإدراكه، وإلا فما معنى كلمات “عرش الله”و “يد الله” و “عين الله “؟ وهل لله من يد وعرش وعين، أن لم تكن هذه كلها تدل على سلطان الله وقدرته ومعرفته الكاملة!!؟ وبهذا المعنى اقترب الذهن المسيحي من عقيدة الوحدانية والثالوث، فهو أن عجز وعجزت معه لغة البشر عن سبر غورها وعمقها، إلا انه فهمها وامن بها، ووضع الكثير من حججها عن طريق المقابلة والقياس والمنطق لما يراه من حوله من حقائق متعددة … مع الفارق ولا شك بين العلة والمعلول والمطلق والنسبي والكمال والمحدود..

القياس المستمد من الكون

وهذا الكون كما نعلم واحد، ولكن من المسلم به انه يحمل في جوهره الواحد الحقائق الثلاثة المعروفة Law, manifestation and Force“الناموس”، “الظاهرة”، “القوة” وان هذه الثلاثة قائمة ومتميزة في الجوهر الواحد دون اختلاط أو انقسام.. فإذا صح أن يقال عن هذا الكون من غير ما اضطراب أو تضاد، أليس من الصحيح أن يجد فيه الكثيرون من رجال الفكر مثالا وقياسا يدنى إلى الذهن ما تنادي به المسيحية من الوحدانية والثالوث في الإله الواحد؟

القياس المستمد من الطبيعة

وهناك قياس أخر يؤخذ من طبيعة الإنسان نفسه، وهذه الطبيعة تمثل ظاهرة الواحد في الثلاثة، والثلاثة في الواحد!!. وسواء اعتبرنا هذه الطبيعة كما اعتبرها اغسطينوس في ثلاثية “الذاكرة والفهم والإدراك” أو ثلاثية “العقل والإدراك والمحبة” أو كما ينظر إليها غيره من زاوية “العقل والشعور والإرادة”أو كما يميل بعض اللاهوتيين إلى تصور أن الإنسان مكون من ثلاثية “النفس والروح والجسد” ممن يحاولون التفرقة بين النفس والروح .. لكنها على إي حال ترينا التعدد في الوحدة في ذات الإنسان الواحد !!. ويفضل كثيرون هذا القياس إذ هو في عرفهم القياس العملي اللصيق لذات الإنسان، ولعله القياس المغري والحاجز معا للفكر الإنساني، وهو بصدد التأمل في هذه العقيدة الكبرى .. أما انه يغري الإنسان على التسليم بما في طبيعة الله من وحدانية وثالوث فظاهر من انه إذا كان كل إنسان يحمل في ذاته الوحدة والتعدد من غير غرابة أو تناقض، فلم لا يمكن التسليم بوجود الأمرين في شخصية الكائن الأعلى السرمدي الكامل؟. أما مثل اللغز مع نفسه، فكيف له أن يتصدى لفهم أو حل السر الإلهي العظيم؟.

القياس المستمد من طبيعة الله

وهناك القياس المستمد من طبيعة الله ذاتها، وهو القياس الذي أخذه اغسطينوس من طبيعة “الله محبة” إذ تكون المحبة عاطلة وغير ذات موضوع ما لم يكن هناك محب ومحبوب وذاتية المحبة .. وهذا لم يجد لها اوغسطينوس حلا إلا في الثالوث القائم في ذات الإله الواحد !! ولعله استعان على ذلك بقول المسيح لأبيه في الصلاة الشفاعية : “لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو17 :24) .. بل لا مفر من الإيمان بهذه العقيدة، ونحن نتأمل الكثير من الصفات الذاتية في شخص الله، فمثلا إذا كانت كافة الأديان تسلم بان من صفات الله النطق، إذ هو الله الناطق المتكلم، تعين أن نسال:

ومع من كان يتكلم الله أو ينطق، قبل أن تكون هناك خليقة من ملائكة أو ناس!!؟

هذه وغيرها من الحقائق تساعد على اليقين بان الطبيعة الإلهية لا يمكن أن تكون في وحدانيتها مجردة أو بسيطة. ومن ثم أعانت الفكر المسيحي على قبول الثالوث في الوحدانية..

أما تلك الاقيسة الأخرى المستمدة من الطبيعة كالقياس المأخوذ من الشمس ،إذ أنها وهي ذات جوهر واحد، إلا أن فيها الجرم والشعاع والحرارة، وهذه الثلاثة لا تنفصم أو تنقسم فذ الذات الواحدة.. وهذه وغيرها من أقيسة في الطبيعة وما شاكل، وان كانت لا تبلغ في دقتها ومدلولها الاقيسة الأولى المشار إليها أنفا . إلا أنها قد تكون أدنى إلى فهم العامة، واقرب إلى تصورات أولئك الذين لم يؤتهم الله حظا كبيرا من الثروة الفكرية أو العمق الذهني ..

عقيدة الوحدانية والثالوث وحكمة التأمل فيها

وإذا انتهينا من بحث هذه العقيدة والإلمام بها من جوانبها ثلاث التاريخيات والكتابية والمنطقية.. بقي سمة سؤال أخير لابد من عرضه والإجابة عليه والسؤال هو: هل من ضرورة وفائدة من التأمل في هذا الموضوع كله؟ وما حكمة الله وغايته أن يفهم الناس أن الواحد الأوحد ذو ثلاثة اقانيم ؟ وهل يزيدهم هذا ويدفعهم نحو حياة اعلي واسمي واقرب إلى الله واتقى ؟. أن الله إذ يكشف عن سر ويزيح النقاب عنه لابد أن يهدف إلى غاية عظمى، وقصدا ساميا!! فما هو هذا القصد وهذه الغاية من هذا الإعلان المرّكز في قلب الديانة المسيحية؟ .. من المسلم به أن هذا الإعلان لم يصدر عن الله – خل جلاله- عبثا، بل كان حتما ولازما مع تزايد الإعلان الإلهي وتدرجه .. وكان لابد أن يتوج به الوحي الإلهي كالإعلان الأعلى والاسمي عن طبيعة الله التي ظلت مستغلقة دهورا طويلة على الجنس البشري.ولم يكن من السهل على البشر تبين هذه الطبيعة وهم في طفولة الحياة ومهد الأيام.. كيف لا والقول بغير ذلك معناه انسكاب النور في الظهيرة قبل مجيء الفجر أو الضحى؟ أو تعلم الطفل أخر المعلومات والفلسفات قبل إن يحبو أو يتلقن الحروف والمبادئ الهجائية!! إن تدرج الوحي وبلوغه السمو والكمال في العهد الجديد، كان لابد أن يصاحب بهذا الإعلان حتى يقترب الإنسان شيئا فشيئا من عظمة طبيعة الله المذهلة للعقول.. على إن الأمر أكثر من ذلك بكثير، إذ ليس المقصود من الإعلان عن الوحدانية والثالوث مجرد إمتاع الذهن أو إرواء العاطفة والمشاعر بالجلال اللانهائي في شخص الله، بل الإعلان الكامل عن عملية الفداء العجيبة، وكيف استقرت في قصد الآب الأزلي،، وتمت بفداء “الابن” وعمل وتقديس “الروح القدس” .. وكان من المتعذر بل من المستحيل، فهم هذه العلية وإدراك حكمتها ومعناها وغايتها ووسائلها، دون إدراك كيف أحب الله – الآب- العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به – بعمل الروح القدس- بل تكون له الحياة الأبدية !!.

بل أن هذا لإيمان يشجع ويدفع الإنسان إلى شركة أعمق وأجرا واقوي وأدق مع الإله الواحد والثالوث الأقدس العظيم.. إذ يدنيه من الآب السماوي بنعمة شفاعة الابن المبارك، وقوة وفاعلي الروح القدس. وفي الحقيقة إن هناك علاقة وثقى بين مجد الله في هذا الإعلان، وفائدة البشر ونموهم وتقدمهم، صوب المعرفة والنور والحق والجمال والكمال. وإذا كانت العقيدة الاثناسية قد عرفوها قديما : بأنها اللحن الرائع في الإيمان المسيحي الذي رفع أذهان وقلوب الكثيرين، فمن الحق إن نقول إن الموسيقى الصادحة المنبثقة من عقيدة الوحدانية  والثالوث، كانت وما تزال أعذب أنشودة وارق نغم، وتردد في جنبات الكنيسة طوال عصور وأجيال التاريخ المتعاقبة وستبقى هكذا حتى ننتهي جميعا، ونعبر في الموكب الأبدي إلى حضرة الله، ونراه في معرفة كاملة لم تتحقق لنا في تاريخنا الطويل على هذه الأرض!!.


[1]إي عالم الأرواح أو الهاوية أو بقاء المسيح تحت سلطان الموت إلى اليوم الثالث.

[2]المعنى في الأصل ذو جوهر واحد مع الأب.

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى