إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 04 | إيماني بصفات الله

هذا التصور في صفات الله لم يغب عن إظهار الكثيرين من رجال الإصلاح والتهذيب وعلم النفس والاجتماع، فراحوا ينبهون إلى وجوب تنشئة وتربية الصغار والإحداث على الفهم الصحيح والإدراك العظيم لهذه الصفات، ونحن نلقنهم التعاليم الدينية السامية عن الله، وفي ذلك يقول جورج هربرت رتس في كتاب : تعليم الدين اليوم” ما ملخصه: “إن الفكر عن الله ومعرفته مما نلقنه للطفل عامل قوي وفعال في تطوره ونموه، فاله “محبة” و “رحمة” في ذهن الصغير سيطبع ولا شك هذه الصفات في أعماق نفسه، ويعكسها على حياته وتصرفاته جميعا، واله يهتم بخير الإنسان ويعمل معه على تحسين العالم ينشئ في ذهن الصغير عزما ورغبة في العمل مع هذا الإله المحسن لتصحيح الأخطاء وتحسين الأوضاع اللازمة والضرورية للمعيشة الحسنة والخير العام !!.. فإذا اظهر الله أمام الصبي بوضوح كاله قانون ونظام وليس اله غموض وإبهام فان هذا ولا شك  سيدفعه ويوعز إليه بإمكان الاعتماد على الله في كل ما هو حسن وحق وجميل وعادل، كما سيدفعه إلى التمسك بهذه  الصفات والخلال في إعماله وسلوكه .. ولذلك فان الفكر عن الله يعد من أهم وأعظم ما ينبغي إن نقدمه للشباب خلال التعليم الديني”.

لقد ذكر بيبي لوتي انه كان يدخل وهو صغير إلى الحوش الخلفي لمنزله  ليقذف ويرمي الحجارة على الله في الجو، بسبب المطر الذي افسد يومه في النزهة والفسحة، إذ تعلم إن كل ما يطلبه في الصلاة مؤمنا يجده ويناله، وقد صلى هو بحرارة عبثا من اجل يوم صاف جميل.. إن الطفل الذي يلقن إن الله حي بعين لا تغفل أو تنام لتكشف أخطاءه وانه يسجل هذه الأخطاء ضده في كتاب، قد يستولي عليه من الإحساس ما يحجب شعور الإجلال عنده تجاه الله.. وليس حسنا إن نحث الشباب على محبة الله كواجب، فالمحبة لا يمكن إن تأتي كالإحساس بالواجب أو الإلزام إذ تنبع تلقائيا من القلب وهي تستجيب في ذلك للصفات المؤثرة والجاذبة في ذلك المحبوب!! .. والطريقة الوحيدة ليحب الشباب الله أن نقدمه لعقولهم و قلوبهم الإله المحبوب.. ومن ثم فأول سبيل يحتاج إليه الطفل إن يتصور الله كالأب المحب الذي ينشد من أولاده الثقة والولاء والطاعة.. الإله المؤثر والجاذب كصديق ومعين .. الإله القريب المتداني وليس الإله البعيد  في طبقات  الجو العليا .. الإله الذي يتفهم أولاده ويعطف عليهم ويشترك وإياهم في مسرات الحياة ومآسيها وإحزانها .. الإله الخالق مانح نور الشمس والإزهار، وفوق الكل الإله الذي يملأ القلب بالمحبة والفرح والسعادة . إن ديانة الطفل كديانتنا ينبغي إن يكون الله مركزها، إذا رمنا السيطرة الكاملة على حياته بأكملها.. فإذا عرفنا كل هذه الحقائق واستوعبها عقولنا وقلوبنا وضمائرنا جميعا، كان السؤال إذا عن صفات الله من أهم وأعمق الأسئلة التي لابد من الاستماع اله، والتأمل فيه، والإجابة عليه !!..

ولا احسب انه من اللازم أن نشغل أنفسنا كثيرا ونحن بهذا الصدد في تعريف:  ما معنى صفات الله؟ وما الفرق بين “طبيعة الله “و “صفاته “. أو كيف يقسم رجال اللاهوت هذه الصفات إلى مختلف التقسيمات التي درجوا عليها، كتقسيمات إلى “صفات ايجابية وأخرى سلبية” فالايجابية ما ينسب إليه تعالى من الفضائل والكمال، والسلبية هي ما تنفي عنه ما لا يليق بشأنه تعالى، كنفي انه مركب أو حادث أو متحيز أو محدود أو ما أشبه من السلبيات والنقائص !!.. أو تقسيمها إلى “صفات ذاتية وأدبية” فالذاتية كالأزلية والعلم والمشيئة والقوة وغير المحدودية، والأدبية كالعدل والقداسة والحق والرحمة!!.. أو تقسيمها إلى “مشتركة وغير مشتركة” فالمشتركة هي ما توجد في الله والبشر في حدودهم الخاصة، كالقوة والمعرفة والمشيئة والحق والجودة، وغير المشتركة ما ينفرد به تعالى، كالأزلية وعدم المحدودية وعدم التغيير!!.. أو تقسيمها إلى “حقيقية ونسبية”فالحقيقة هي ما يختص به الجوهر الإلهي بلا تعلق بما هو خارج عنه كالوحدانية والذاتية وعدم التغير والكمال المطلق، والنسبية هي ما تختص به ذاته الإلهية السامية متعلقة، كالسرمدية بالنسبة للزمن، وعدم التحيز بالنسبة للمكان، والقدرة بالنسبة للخلق، والجود والعدل والقداسة والكمال وما اسبه بالنسبة للأدبيات .. فهذه التقسيمات وغيرها على ما فيها من أهمية وأصالة وقوة رأي إلا أنها لا يمكن إن تكون جامعة مانعة.. وإلا فما الفرق بين الصفات الذاتية والأدبية عند من قسموها كذلك، وألبست ذات الصفات الأزلية أدبية والعكس صحيح !!؟ وما الفرق بين الحقيقية والنسبية ؟ وألم تكن النسبية حقيقية قائمة في ذات الله قبل إن يوجد ما يقال انه خارج عنه متعلق به، كالزمن والمكان والخلق والأدبيات وما اشبع!!..

الحق انه من الأفضل والأصح إن نعدل من هذه التقسيمات جميعا، لنأخذ من صفات الله ما نستطيع الإلمام به في يسر وعجالة وغير مشقة، مستهدين في ذلك بكتاب الله وأصول الإيمان، وما يحرص إليه عدد غير قليل  من أئمة الفكر ورجال الدين في العصور الحديثة ممن يضعون هذه الصفات تحت مجموعة محددة متقاربة متناسقة، وهاكم فيما اعتقد اظهر وأوفى هذه المجموعات:

الله السرمدي الأزلي الأبدي

والسرمدي لغة يعني الدائم . والله السرمدي هو الله الأزلي الأبدي غير المتغير، المنزه والمستقل عن الزمن والذي لا بداءة أيام له ولا نهاية، الإله الذي تعبد له إبراهيم في بئر سبع باسم الرب الإله السرمدي (تك21: 33) وغنى له موسى في مزموره العظيم: “من قبل إن تولد الجبال، أو آبدات الأرض والمسكونة، منذ الأول إلى الأبد أنت الله.. لان ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل ” (مز90: 2و4). وهتف له المرنم : “من قدم أسست الأرض والسموات هي عمل يديك هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير وأنت هو وسنوك لن تنتهي” (مز102: 25-27) . ولئن كان من الصعب على الناس قديما إن يفهموا معنى الزمن، إذ أخر ما وصلوا إليه انه: “امتداد موهوم غير مستقر الذات، متصل الأجزاء” أو “أمر اعتبار نسبي فيه ماض وحاضر ومستقبل بالنسبة لتوالي الحوادث وتسلسلها”. وإلا إننا بفضل تفكير اينشتين ونظريته قد أمكن إن نحدد معناه تحديدا عمليا دقيقا ميسور الفهم سهل الإقناع، ونظرية هذا العالم الكبير تقوم على ربط الزمن بالحركة!! فما الزمن عنده إلا مجموعة من الحركات وجد بوجودها، وارتبط بقيانها، إذ إننا نقيس “اليوم” على الأرض بأربع وعشرين ساعة لتمام دورة واحدة حول نفسها تجاه الشمس، غير إن هذا اليوم يبلغ اثنين وستين ساعة على كوكب سيار أخر،إذ يدور حول نفسه أمام الشمس بسرعة تختلف عن سرعة دوران الأرض !! وما يقال عن اليوم يمكن إن يقال أيضا عن “العام”. والخلاصة عند اينشتين إن الزمن ما هو إلا مجموعة من الحركات اصطلح الناس على قياسها بهذه الآلة التي تدعى “ساعة” فإذا وقف الحركة أو انعدمت بطل هذا الذي ندعوه في عالمنا باصطلاح “الزمن ” وانعدم بالتالي ما يمكن إن يقال عنه انه :”ماض وحاضر ومستقبل” . فإذا كان الزمن هو الحركة وإذا كانت الحركة لا يمكن للحركة إن تفسر إلا  “”بالحث” و”التطور” فان الله المزه عن “الحث” و “التطور” وعلة كل “حركة”  و”أساسها” لابد إن يكون سابقا للزمن ولاحقا عليه !!.. وهنا يلتقي أخر ما وصل إليه العلم بالحق الصريح القديم في كتاب الله. وما فكر اينشتين هذا أعظم عباقرة الدنيا في القرن العشرين، إلا تفسيرا علميا صحيحا لقول الرسول يعقوب عن الله في الوحي الأمين:” الذي ليس عنده تغييرا ولا ظل دوران” (يع1: 17) ! وهل فره هذا إلا التفكير العلمي الدقيق الرائع لقول الملاك ليوحنا في سفر الرؤيا عن نهاية الزمن والتاريخ :”ولا يكون زمان بعد”  (رؤ11: 7) . فإذا كان الوحي والعلم بعد يكشفان عن استقرار الله ودوامه قبل وبعد الزمن، بل يكشفان أن الزمن ما هو إلا يد الله في دفع التاريخ كان لنا إن نستخلص هنا المزيد من الحقائق والكثير من التعليم !! فنعلم أول كل شيء معنى اسم الله “أهيه الذي أهيه” الذي ذكره تعالى لعبده موسى عندما أعلن له ذاته في جبل حوريب أو الـ “الكائن الذي كائن” أو الغير متغير في طبيعته إذ هو الماضي كما هو الحاضر أيضا والمستقبل لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور أو عجز في لغة أخرى نعلم إن الزمن الذي يحمل للبشر –كما قال احدهم – التغير والفساد الذي يدهم قوتهم بالعجز والوهن الضعف إن آجلا أو عاجلا، ويسخر من حكمتهم إذ يمحو من الماضي عبرة الذكرى، كما يحجب عن المستقبل جلال الرؤية .. هذا الزمن ليس له من قوة البتة على الله الأزلي، إذ هو أمسا واليوم والى الأبد.. كما نعلم أيضا معنى القول: “له وحده عدم الموت” (1تي6: 16) إذ ينتفي عنه جلاله الظاهر”التطور” في الموت ومن ثم فهو الحي الدائم الذي لا فرق له بين ما يدعى الماضي والحاضر والمستقبل، إذ الجميع لديه سواء، يراها في أسرع من ومضة كما ترى العين قافلة من النمل تسعى سائرة متدافعة من أولها إلى أخرها في وقت واحد، مع إن النملة الواحدة منها لا تكاد تعرف إلا أنها مندفعة في خط طويل لا يمكن إن ترى له أول ولا أخر !!.. أو كما ترى ملايين من الجراثيم تحت المجهر في لحظة، مع إن الجرثومة الواحدة بالنسبة لباقي الجراثيم كأنما هي في عالم غير منته وبلا عدد أو حصر أو حدود.. ونعلم أخر الأمر إن رجاء المؤمن لا يمكن إن يعيش ويزدهر ويحيا إلا في الإيمان بالإله الأزلي السرمدي الدائم، إذ إن أجمل صفحات التاريخ لم يكتبها من الرجال والنساء إلا من آمن بالانعتاق من المحدود وتخطى الزمن والانطلاق العارم وراء ذلك الذي أبطل الموت وأنار الحياة الخلود بواسطة الإنجيل!!. وكيف لا وقد كان العاصم لهؤلاء من اليأس والقنوط والفشل هو اليقين بأنهم يحبون ويعيشون على هذه الأرض، في انتظار ما هو دائم وباق وابدي وخالد عند الله.. الحق والخير والجمال والمحبة !!. لقد نظروا إلى ما فوق وإذ فعلوا هكذا وجدوا القوة التي حررتهم ورفعتهم ومكنتهم من غلبة العالم، الانتصار على ما هو فيه من زهو أو غرور أو رعب أو فزع أو حماقة أو أباطيل .. إن من يتجاوزون الزمن ليولوا ظهورهم ما يمكن إن يفله من الخوف أو القلق أو الشك أو التغير أو الزهو أو الاعتداد أو ما أشبه مما يفجع الناس أو يقرضهم أو يقوض احلي واعز أمانيهم .. إن من يفعلون هذا أولئك الذين يدعون مع أبي المؤمنين إبراهيم كما دعي عند الاتلة القديمة في كنعان باسم الرب الإله السرمدي الدائم.. ويهتفون مع الصبي الباريسي الصغير الأصم ، الذي ارتفع فوق علته وأجاب عندما سألوه عن الله الأزلي الأبدي: “انه الدوام بلا بداءة ونهاية، والوجود بدون حدود أو إبعاد، والحاضر بدون ماضي أو مستقبل، كما إن أزليته شباب بدون طفولة أو شيخوخة، وحياة بدون موت أو ميلاد، وبوم بدون أمس ولا غد”..

الله الغير المحدود

والله الغير محدود هو الله الحاضر الدائم وفي كل مكان والمنزه والمستقل عن التحيز والتركيب والتجزئة والاختلاط والاندماج مع غيره من المخلوقات أو المصنوعات. المالئ السموات والأرض والمتداني، الإله الذي هتف إمامه المرنم القديم : “أين اذهب من روحك ومن وجهك أين اهرب . إن صعدت إلى السموات فأنت هناك . وان فرشت الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك” (مز139: 7-1).

فإذا صح أن يقال. ولكن هذا فوق مقدور العقل أو ألفه البشري، إذ كيف يمكن إن يملا الله كل مكان من غير اختلاط أو اندماج مع غيره من سائر المخلوقات أو المصنوعات!! اجبنا :بأنه إذا كان هذا حقا فوق مقدور العقل فليس سمة من الضرورة إن يكون منافيا له أو مضاد لأعماله واجتهاده ومنطقه، وها العلم الحديث يضع بين يدي الإيمان حجة لم تكن معروفة من قبل عن المادة والمكان إذ يقول: “إن أي منظر تراه في قطعة أثاث في بيتك هي في حقيقتها عبارة عن مجموعة من  الذرات . وكل ذرة هي عبارة عن شحنة من الكهرباء الموجبة والسالبة.. والكهرباء هو مجرد حركة وارتجاج وتذبذب في الأثير.. كل الفرق بين منظر وأخر هو اختلاف في عدد الذبذبات واختلاف في طول الموجات. وفي علاقة الموجات بينها وبين بعض.. فالموجات من طول معين تؤدي إلى الإحساس باللون الأحمر في العين وبنغمة غليظة في الإذن، وبلمس خشن عند الملمس وبكثافة معينة وكتلة معينة، فإذا تغيرت في الطول والذبذبة فان مدلولها الحسي سيتغير تماما ويعطي شيئا أخر بالنسبة للعين والإذن واللمس. والفرق بين أجسام الجماد والنبات والحيوان والإنسان، هو إن الذرات مركبة في كل منها بطريقة مختلفة عن الأخرى والذبذبات والموجات مختلفة في أطوالها  وعلاقتها بين نوع وأخرى، ومن ثم فهي تتجمع تارة على هيئة جماد وتارة على هيئة نبات وثالثة على هيئة حيوان ورابعة في تكوين إنسان!! . والتليفزيون استطاع إن يكشف عن هذه الحقيقة ويحل شفرة الصور فيلتقط أمواجها الأصلية، وينقلها عبر الفضاء يعكسها على الشاشة فنرى ونسمع من هم على إبعاد كثيرة في الأرض من دون حاجز أو عائق !! فإذا أضيف إلى ذلك بان العلم قد وضع مؤخرا بين يدي البشر حقيقة أصول الأشياء عندما أمكنه تقسيم الذرة وتفتيتها فلم تعد كما وصفها دالتون في نظريته المعروفة عام 1870م من أنها اصغر من جزئ دقيق غير منظور لا يقبل التجزئة، بل أمكن تفتيتها وتحويلها إلى طاقة اخرج منها في ذرة اليورانيوم ذلك الإعصار الهائل المعروف بالقنبلة الذرية .. وهل هذه الطاقة في الاصطلاح العلمي إلا قول الله “كن فيكون”. وهنا يلتقي أخر مطاف العلم بالصفحة الأولى في سفر التكوين، بل أن نفهم إن العالمين أتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى ما هو ظاهر!!..

وإذ يكشف العلم عن كل هذا مصداقا وتأييدا لوحي الله لم يعد من الصعب بعد ذلك إن نؤمن بالله الروح غير المحدود المالئ لكل مكان وزمان من غير ما ربط أو خلط أو مزج بغيره من سائر المصنوعات والموجودات والمخلوقات !!..

فإذا قيل أين هو الله!!؟ اجبنا أجبنا  دين هودج عندما قال في كتاب “تعليم الأطفال الدين” : “إن الله في العالم كما إن النفس في الجسد، ونفسنا تسكن في كل جزء من أجزاء الجسد وحياتنا هي التي تجعل أجسادنا حية، وأي الم في إي جزء من أجزاء الجسد يؤلمنا، ونفسنا في كل جزء من أجزاء الجسد في الوقت ذاته، وروحنا غير منظورة وغير ملموسة ونحن لا نقدر إن نرى أنفسنا كما لا نقدر إن نرى الله، وبهذا المعنى يمكن إن يكون الله غير المنظور موجودا في الكون، وهو هناك عند أضخم كوكب وهو هنا عند اصغر طفل، كما إن نفسنا في الوقت ذاته في الدماغ وفي اصغر أصبع، وهو موجود قائم في كل حياة، كما إن النفس في الجسد ومع ذلك ليست في الجسد .. هل اله هنا؟ هل الله في النار؟ هل الله في الشجرة؟ نعم إن الله في النار وفي الشجرة مثل الشمس، وهو فيك وفي صديقك عبر البحار كما إن النفس توجد في إبهام اليد !!؟ الله في السموات كما إن الشمس في الجو أو النفس في الجسد إذ هو يوجد ويملأ جميع العالمين..” أو اجبنا إجابة تلك الصغير الذي وعده احدهم إن يعطيه تفاحة إذا استطاع إن يقول:” أين يوجد الله؟”. فأجاب الصبي على الفور: “وأنا مستعد إن أعطي تفاحتين لمن يقول لي أين لا يوجد الله”. على انه لا مندوحة في الإشارة ههنا إلى هذا الوجود والحضور الدائم لله في كل مكان هو ما يطلق عليه رجال اللاهوت “الحضور العام” تمييزا وتخصيصا له عن “الحضور الخاص” والذي يقصد به إعلان الله ذاته لخلائقه العاقلة. فالحضور العام هو حضور الله الأزلي الأبدي السرمدي غير المحدود الذي لم يره احد قط، ولا يقدر احد إن يراه.. أما الحضور الخاص هو إظهار الله ذاته في أماكن مختلفة وأزمنة متباينة لغايات حكيمة ومسيئات سرمدية. فالله يظهر ذاته لملائكته التي ترى وجهه في السماء كل يوم، والله يعلن ذاته في الأبدية لخدامه وعبيده ” وهم ينظرون وجهه واسمه عل جباهه” (رؤ22: 4) . كما انه سيظهر ذاته في الدينونة للأشرار ممن يصيحون للجبال إن تسقط عليهم وتغطيهم من وجه الجالس على العرش، ومن غضب الحمل. وقد أعلن ذاته في أجيال متعاقبة للكثيرين من الأنبياء والرسل وكتبة الوحي، وما يزال إلى اليوم يعلن عن ذاته ويكشف عن حضوره في التاريخ والكنيسة والحوادث واختبارات القديسين.. قد حق لأحد المؤمنين إن يقول: “الله أمامي فهو مرشدي، واله خلفي فلا ضرر يمكن إن يلحق بي، والله إلى جواري لتقويتي وتعزيتي، والله حولي فلن افزع فلن افزع أو أخاف؟” . وحق الأخر وهو في ضجعة الموت  إن يغني أغنية اوغسطينوس توبليدي والتي مطلعها: “أيها المفادي الغفور.. ملجأي صخر الدهور”. وكان عاملا في منجم، وقد انهار المنجم فوقه وفوق عدد كبير من رفقاءه العمال وظلت فرق الإنقاذ تعمل ليلا نهارا، حتى أنقذت منهم من أنقذت ودفن هو في حفرة وده وإذ سمع صوته من بعيدا أتيا ضعيفا واهنا خافتا صاح واحد من فلاق الإنقاذ : “هل هناك احد؟” فجاء الصوت: “اجل ولكن قدمي سحقت تحت الصخرة ” .. فعاد السائل يقول: “وهل أنت وحيد؟” أجاب: “بالتأكيد لا، إني مع يسوع كما علمتني أمي في الأغنية الحبية، واخذ يغني وهو يجود بأنفاسه الأخيرة:

ومتى حل الأجل                 وانتهى كل العمر

فأناني في حماك                 منزلا قرب سناك

أيها المفادي الغفور             ملجأي صخر الدهور

وصمت الصوت ولم يسمع بعد !! وعندما عثروا على الجثمان، رأو وجها رائعا نديا، لم يستطيع الموت بكل قوته وقسوته أن يمحوا ما ارتسم عليه من هدوء وجلال ويقين وسلام… وجه إنسان نام هناك في الأعماق في حضن الله!!..

الله القوي والقادر على كل شيء والسيد

والكلمة “الله” و “إيل” و “ألوهيم” من أصل سامي يعني القوة !! ويبدو إن صفة القوة كانت من اسبق الصفات التي أدركها الإنسان في الله، إذ يقول لموسى: “وأنا ظهرت لإبراهيم واسحق ويعقوب باني “إيل شداي”  الإله القادر على كل شيء .وأما باسمي يهوة فلم اعرف عندهم (خر6: 3) .. وقد عرف الإنسان هذه القوة من وجهات ونواحي مختلفة، إذ أن اللفظ ” ألوهيم ” يشير على وجه اخص إلى الله في قوته الخالقة، والضابطة للكون والوجود.. كما إن اللفظ “عليون” يتحدث عن قوته في انفرادها وتساميها وعدم وجود نظير لها، إذ هو “الرب الإله العلي مالك السموات والأرض (تك14: 22) .. أما اللفظ “ادوناي” فيشير إلى الله في قوته وحقه في السيطرة والسيادة على سائر البشر والمخلوقات جميعا.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن هناك صفات ونعوتا بلا حصر جاءت في الكتاب المقدس تتحدث عن قوة الله المطلقة والخارقة، رأينا إن هذه الصفة إي صفة القوة المطلقة- كانت من ابرز الصفات التي عرفت عنه، جل جلاله، منذ القدم. على أن الإطلاق في هذه القوة لابد أن ينسجم ويتناسق مع سائر الكمالات الإلهية !!.. وهذا يرد على زعم الزاعمين بان قوة الله المطلقة تستطيع، ومن حقها أن تفعل المستحيل، حتى ولو كان هذا المستحيل شرا، أو فيه القضاء على الحياة ذاتها عند الله، إذ كيف يعقل إن إطلاقا في الله بعدم إطلاقا أخر !!؟ أو كيف يعتل في لغة أخرى إن قوة الله المطلقة تعدم أو تقضي على قداسته الكاملة أو سرمديته اللانهائية !!؟ إن قوة الله –على العكس من ذلك- هي قوته في الإعلان والإفصاح عن سائر كمالاته صفاته غير المحدودة.. أي فص صنع كل ما هو عدل وحق وخير وجود وصلاح جمال وما أشبه..

ولعل أول ما تشير إليه قوة الله في ذهن الإنسان العظمة والجلال وكيف لا يبهر الإنسان بهذه القوة وهو يرى مظاهرها الرائعة في الخليقة. وكيف لا يصيح وهو يرى سناها بالقول: “أيها الرب سيدنا ما امجد اسمك في كل الأرض حيث جلالك فوق السموات .. إذ أرى سمواتك عمل أصابعك والقمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن ادم حتى تفتقده”(مز8: 1و3) ” السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ” (مز19: 1). “1بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلَهِي قَدْ عَظُمْتَ جِدّاً. مَجْداً وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. 2اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ. 3الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ. الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. 4الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ نَاراً مُلْتَهِبَةً. 5الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. (مز104: 1-5) .

وإذا كان فيلو اليهودي السكندري عندما ذهب إلى روما ليشكو إلى الإمبراطور ما لحق ببني جنسه في مصر، ورأى المدينة العظيمة روما، وجحافل الرومان، وحدائق موسينس، حيث ذهب ليشرح شكواه للإمبراطور، وإذا كانت هذه المناظر قد أذهلته عن نفسه، حتى كاد أن ينسى لماذا  جاء هو إلى روما .. فماذا يمكن أن نقول عن عظمة الله في الكون كله؟ العظمة التي لم تكن روما فتنتها ومجدها وقوتها سوى نقطة من بحر، أو شعاع من نور شمس! أن هذه العظمة تجل في الواقع عن الوصف، وتجعلنا نهتف على الدوام  : “أيها الآب سيدنا ما امجد اسمك في كل الأرض” .

كما أن هذه القوة توحي إلى البشر على الدوام بالخضوع والاستسلام، إذ ماذا يفعل الإنسان العاجز الواهن الضعيف، مهما يتوهم انه قوي إزاء قوة الله وقدرته السرمدية !!؟ انه لا شيء أو لقل من لا شيء، إزاء قدرة القادر على كل شيء. ومن ثم فان التاريخ لم يعرف طاغية واحد ظن انه اله، أو في مرتبة اله، إلا وسمع الصوت المخيف الذي سمعه سنحاريب قديما: “من عيرت وجدفت، وعلى من عليت صوتا، وقد رفعت إلى العلاء عينيك على قدوس إسرائيل عن يد عبيدك . عيرت السيد وقلت بكثرة مركباتي قد صعدت إلى على الجبال عقاب لبنان، فاقطع أرزه الطويل وأفضل سروه وادخل أقصى علوه وعر كرمله، إنا قد حفرت وشربت مياها وأنشف ببطن قدمي جميع خلجان مصر… ولكنني عالم بجلوسك وخروجك ودخولك وهيجانك علي، لان هيجانك علي قد وعجرفتك قد صعدتا إلى أذني أضع خزامتي في انفك وشكيمتي في شفتيك وأردك في الطريق الذي جئت فيه “(اش 27: 32 -25، 28، 29) وضرب الله من جيش في تلك الليلة مائة وخمسة وثمانين إلفا بضربة واحدة مروعة، كما لقي هو مصرعه البشع على يد ولديه، وهو جاث وساجد في بيت نسروخ إلهه !!.. أو رأى المذلة القاسية التي أبصرها نبوخذ نصر عندما تعالى وقال : “أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري  ولجلال ملكي، فطرد من بين الناس واكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء حتى طال شعره مثل النسور وأظافره مثل الطيور” (دا4: 30 -31)  .وفي قصة رمزية قديمة إن احد الملوك ذهب مرة إلى احد الكنائس وسمع الواعظ يقول: ” إن الله يعز ويذل ويرفع الملك ويعزلهم” فصاح: “ما هذا إلا هراء وخداع. فن يستطيع أن يعزلني أنا” ؟ وتقول القصة إن الله انزل ملاكا من السماء وجعله على العرش. بعد إن أعطاه صورة الملك وشبهه تماما، وعندما ذهب الملك إلى بيته ورأى أخر مثاله قال: “من أنت وما الذي جاء بك إلى هنا، وأنا صاحب العرش والملك”؟ فأجابه: “كلا لن تكون الملك، بل ستكون مضحك الملك”. والبسوه ثيابا بالية قديمة، وكل من يراه كان يضحك منه، وكان الملاك يمر به ليقول له :”من أنت” ؟ فيجيب مختنق مغتاظ:”أنا الملك وأنت المخادع”.فيتركه. وأخيرا ضاقت نفسه، فمر به الملاك ذات يوم وسأله: “”من أنت” ؟ فأجاب:”أنا لا اعرف”. ثم ركع على قدميه ليقول لله: “أنا عبد ضعيف إزاءك يا مولاي”. فقال له الله من السماء: “الآن تصلح لرياسة شعبه”.

ومن اللازم إن نعرف إن قوة الله على الدوام لا يمكن إلا إن تكون مقترنة بالحكمة والمهابة !! وعندما أعلن الله هذه القوة الحكيمة لأيوب وهو في محنته القاسية بالقول:”من هذا الذي يظلم القضاة بلا معرفة، اشدد ألان حقويك كرجل، فاني أسالك فتعلمني 4أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ أن كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ. 5مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَاراً؟ 6عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا 7عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعاً وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟(اي38: 2-7) . لم يملك الرجل القديم إلا أن يصمت خاضعا وهو يقول: “ها أنا حقير فماذا أجاوبك. وضعت يدي على فمي . مرة تكلمت فلا أجيب  ومرتين فلا أزيد ” (اي40: 4) .

وأخر الكل فان هذه القوة، إذا كانت مرهبة للطغاة وقاسية على الفجار والمتكبرين على الدوام، فإنها في الوقت نفسه ملاذ البؤساء والضعفاء والمحتاجين والمنكوبين ومن لا سند لهم في  الأرض، من يمكنهم أن يصيحوا مع موسى : “أرنم للرب فانه قد تعظم . الفرس وراكبه طرحهما في البحر. الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي” (خر15: 1و2) اجل فما أكثر الضعفاء والقلائل والعزل منكل سلاح الذين استطاعوا بهذه القوة الإلهية العظيمة الانتصار على أضخم المشكلات واقسي العتاة. وارهب الأعداء، أو كما قال احدهم : “لا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية  والهزء  وينشئ جيش الخلاص العظيم!! ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم وهو اعزل نظام الرق ويطلق من عقالها القوة التي حررت أخر الأمر أربعة ملايين من العبيد !! وكم من سجل طويل لأعظم إبطال العالم، ممن يمكن أن يستعرضهم الذهن، وممن لم يستندوا في شيء على قوة بشرية، بل استندوا على قوة روح الله رب الجنود، فصنعوا الخوار ق والمعجزات!!.. لقد أدهشت جماعة وليم اورج في تسليح الفلاحين في هولندا والفلاندز للثورة ضد طغيان الملك فيليب وألفا الدموية.. لقد أدهشت هذه الشجاعة الملك الاسباني حتى انه تساءل عمن يمكن وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك فكان له جواب وليم الشجاع : “انك تسألني عما إذا كنت دخلت في حلف رسمي مع قوة أجنبية،إلا فاعلم باني قبل إن احمل على عاتقي قضية هذه الولايات المنكوبة قد دخلت في الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب”. حقا إن أعظم قوة في هذا الوجود واعجنها على استعداد دائم، بل وتسر إن تلبي نداء اضعف واصغر وأتعس مخلوق على هذه الأرض!!..

الله العالم والعارف بكل شيء

وما من شك من صفات الله وسجاياه العلم الكامل والحكمة اللانهائية، وهذا العلم إذ هو كامل شامل عام غير محدود، لا يقبل الزيادة أو النقص أو التطور، وهو بهذا المعنى عجيب دقيق رهيب من أي ركن أو جانب جئناه!!.. فهو بالنسبة لله، جل جلاله علم ذاتي مستقل مطلق غير مكتسب يعلم به الله من هو، وما ذاته وصفاته على وجه الكمال والإطلاق . وهو بالنسبة للزمن والتاريخ على علم دائم حاضر لا ماض فيه أو مستقبل :” مخبر منذ البدء بالأخير ومنذ القدم بما لم يفعل  قائلا رأيي يقوم وافعل كل مسرتي” (اش46 :10* .”معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله” (أع 15 :18) هذا هو متفق ومنسجم مع ما اشرنا إليه من سرمدية الله وعلاقتها بالزمن وهو بالنسبة للمكان علم كاشف نافذ متصل بكل ركن أو جزء من أجزاء الكون والوجود  :”وليست خليقة غير ظاهرة قدامه بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذاك الذي معه أمرنا” (عب4 :13) كيف لا وقد أدركنا معنى المكان وعلاقته بالله غير المحدود ؟ وهو بالنسبة للجزئيات والكليات علم واضح غير مبهم : “الظلمة أيضا والليل مثل النهار يضيء كالظلمة هكذا النُّورُ. 15لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الأَرْضِ16رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا. (مز139: 12، 15، 16) .. وهو بالنسبة للمعنويات علم دقيق عجيب، إذ هو العلم بالأفكار والنوايا والسرائر:” فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ 23اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي ( مز139: 2، 32). “هو يكشف الأعماق والسرائر يعلم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور.. لكن يوجد اله في السماء كاشف الإسرار ” (دا2: 22، 28) . وه  و في هذه كلها الإله الحكيم له المجد  والعظمة والقدرة والسلطان، الإله الذي هتف له المرنم قديما بالقول: “ما أعظم أعمالك يارب، كلها بحكمة صنعت، ملآنة الأرض بغناك” (مز104: 24) وغنى له الرسول :”يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما ابعد إحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” (رو12: 23). وهل نحن في حاجة إلى الشواهد والأدلة على هذه الحكمة الإلهية العجيبة !!؟ إلا يكفي أن ترفع النظر إلى فوق وتسرح الطرف مع أجور بن متقية مسا لتهتف مذهولا: “إني أبلد من كل إنسان وليس لي فهم إنسان ولم أتعلم الحكمة ولم اعرف معرفة  القدوس، من صعد إلى السموات ونزل . من جمع الريح في حفنتيه، من صر المياه في ثوب، من ثبت جميع أطراف الأرض ،ما اسمه وما اسم ابنه لن عرفت” (ام30: 2-4) . بل إلا يكفي أن ترى في العقل البشري نفسه برهانا على العقل الاسمي والأعظم؟  فإذا كانوا قد قالوا عن العقل الالكتروني يشهد ويفصح عن عقل الإنسان، فكم يكون هذا الأخير مفصحا ومحدثا عن عقل الله؟ . بل ما لنا وللطبيعة والعقل، وهناك ما هو اسمي واجل ونعني به “الفداء” مما قيل فيه بالمقابلة مع العقل البشري  :” 21لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ 22لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً 23وَلَكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! 24وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ. 25لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ (1كو 21: 25) وأي حكمة اعلي واجل منان يكون الصليب شعار الضعف أية القوة، ورمز الموت ومفتاح الحياة؟ ..

والى جانب هذا كله كانت هناك وما تزال حكمة الله المنتصرة والتي تصنع على الدوام من الشر خيرا ومن البؤس والتعاسة والدموع والألم والإحزان أروع ما عرف الإنسان من مجد وجلال وعظمة ونور وسؤدد، حتى أصبح إن نقول مع يوسف في قوله المأثور : “انتم قصدتم بي شرا إما الله فقصد بي خيرا لكي يفعل كما اليوم ليحي شعبا كثيرا “(تك50: 20)  .لم يعرف الولد الصغير وقد انحنى عليه الزن من كل جانب لماذا احتضنه الله بهذه الإحزان والآلام !!؟ وإذ اشتكى منها وتوجع قال له أستاذه : “يؤسفني يا بني إن تحمل النير وأنت صغير وتمتلئ بالحزن في السن المبكرة، ولكن صوتك الذهبي كان في حاجة إلى لمسة من الحزن ليضحى لحنا سماويا رائعا فريدا ” . وما أكثر ما تسمح حكمة الله إن ينبعث النغم الرائع عن القيثارة الباكية!!؟

الله القدوس البار

والكلمة”قدوس” من أصل لغوي يعني على الأقل أمرين.. أولهما: “الانفراد” والله القدوس بهذا المعنى و الله المنفرد المتعالي غير المدرك والذي يجل عن الوصف والفهم والتحليل والتصور.. أو في لغة أخرى إن الكلمة تشير إلى معاني العظمة والعلو والجلال والسمو والمجد والتفرد عند الله… ولعل هذا و المعنى المستفاد من القول: “فأتعظم وأتقدس واعرف في عيون أمم كثيرون فيعلمون إني أنا الرب “(خر38: 23) كما إن الكلمة تشير ثانية إلى: “الحصانة” و (العزلة” أي إن الله لا يمكن إن يخطئ إذ هو بطبيعته كاره للخطية منفصل عنها مضاد لها!!.. فإذا ضممنا المعنيين ظهر لنا أول كل شيء إن قداسة الله ن نوع منفرد رهيب مجيد عظيم لا يمكن للمخلوق إن يقترب منها أو يدنو إليها.. ومن ثم جاء القول:”الإنسان ابر من الله أم الرجل اطهر من خالقه؟ هوذا عبيده لا يأتمنهم والى ملائكته ينسب حماقة ” (أي 4 :17، 18) وقيل: “هوذا قديسوه لا يأتمنهم  والسموات غير طاهرة بعينيه (اي15 :15) “جلاله غطى السموات والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور له من يده شعاع  “(حب3 :3، 4) فإذا كرنا إن الملائكة لا تجرؤ إن  تحدق فيه، بل إن السرافيم وهم واقفون في خدمته في هيكل الله كما رآهم اشعياء: “2السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. 3وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ». (اش6: 2و 3) . وإذا علمنا إن موسى وهو يقترب من العليقة سمع الصوت : “لا تقترب إلى ههنا ،اخلع حذائك من رجليك لان الموضع الذي أنت واقف عليه ارض مقدسة” (خر3 :5) . وإذا عرفنا إن إيليا لف وجهه بردائه (1مل19: 13) عندما استمع إلى الصوت المنخفض الخفيف فوق جبل الله حوريب .. وإذ تبينا إن اشعياء صرخ عندما رأى مجده : “ويل لي لأني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وساكن  بين شعب نجس الشفتين، لان عينيي قد رأتا الملك رب الجنود “(اش6: 5) إذا  ذكرنا هذه كلها إلا نهتف بإجلال وتعظيم : “عَادِلَةٌ وَحَقٌّ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ. 4مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ، لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ (رؤ15: 3-4) . بل إلا نحتاج إلى ذات الجمرة التي مست شفتي اشعياء عندما قال: “6فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ 7وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ». ” (اش6 :6-7)

ما إن قداسة الله تشير إلى كراهيته الدائمة المطلقة للخطية، الكراهية التي لا تهدا أو تسكن أو تقل أو تضعف على طوال الأيام!! ولعل صفحات الكتاب المقدس والتاريخ خير شاهد على ذلك، فالملائكة الذين تركوا رياستهم حفظهم في قيود أبدية تحت الظلام. وعندما تلوثت الأرض بالخطية غسلها بالطوفان !!.. وعندما تمكن الشر  والإثم من سدوم وعمورة ومدن الدائرةقلبها واحرقها بالنار. وعندما انغمست المدنيات القديمة في بابل ونينوى وأثينا وروما ومصر في الأحوال والدنايا هوى بها وبمجدها إلى الحضيض والرماد وهو  ما يزال في كل جيل وعصر الإله القدوس الذي يكره الخطية ويعاقب الشر!!.

أما “البر” منسوبا إلى الله فيعني معنيين احدهما قضائي، والأخر أدبي. أما القضائي فيعني البراءة وعدم الأمانة !!. إذ حاشا أن يدان في عمل أو تصرف كما قال لأيوب:”أسال فتعلمني لعلك تناقض حكمي. ستذنبني لكي تتبرر أنت “(اي40،7و8)، أو كما قال الرسول : “3فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ؟ أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ اللهِ؟ 4حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ اللهُ صَادِقاً وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِباً. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي كَلاَمِكَ وَتَغْلِبَ مَتَى حُوكِمْتَ».(رو3: 3-4) !!.

ما أكثر ما يتصور الناس عندما تدهمهم الفواجع وتطوف بهم الماسي والإحزان إن الله قد غرمهم بما لا يستحقون ولسان حالهم ما قاله أيوب: “[قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي. أُسَيِّبُ شَكْوَايَ. أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي 2قَائِلاً لِلَّهِ: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي. فَهِّمْنِي لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! 3أَحَسَنٌ عند اعرفها.تَظْلِمَ أَنْ تَرْذُلَ عَمَلَ يَدَيْكَ (اي10: 1-3) ولكن ما أسرع ما تبينون حماقتهم فيما ينسبون إلى الله فيعودون مع الرجل نفسه للقول: “ولكني قد نطقت بما لم افهم . بعجائب فوقي لم اعرفها  .لذلك ارفض واندم في التراب والرماد “(اي40 :3و6) .

أما المعنى الأدبي فهو الكمال والنقاوة والطهارة إذ ليس كامل ونقي وطاهر مثل الله. والبر بهذا المعنى هو القياس والنموذج والمثال لكل بر في السماء وعلى الأرض، وليس من حق البشر أن يبتدعوا ويصوغوا قواعد أو مثالا للمبادئ والأخلاق، إذ بر الله هو قاعدتهم ومثالهم معا، ومن واجبهم لم يتبعوه  أو يسيروا وراءه، كما قال السيد المسيح: “فكونوا انتم كاملين كما إن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت5 :48) .

الله الحق العادل

والحق في لغة الكتاب عندما ينسب إلى الله يعني من المعاني أربعة على الأقل “الوجود” و “التمام” و “الصحة” و“الأمانة”. ولعل كل واحد منهم يقود إلى الأخر ويتفاعل معه ويقود به.فالحقيقة الأولى عن الله انه واجب الوجود دائم، تمييزا له عن الآلهة الكاذبة الموهومة التي ابتدعها خيال الإنسان توالي الحقب والعصور:” لان فرائض الأمم باطلة.لأنها شجرة يقطعونها من الوعر صنعة يدي نجار بالقدوم. بالفضة والذهب يزينوها وبالمسامير وبالمطارق يشددونها فلا تتحرك.5هِيَ كَاللَّعِينِ فِي مَقْثَأَةٍ فَلاَ تَتَكَلَّمُ! تُحْمَلُ حَمْلاً لأَنَّهَا لاَ تَمْشِي! لاَ تَخَافُوهَا لأَنَّهَا لاَ تَضُرُّ وَلاَ فِيهَا أَنْ تَصْنَعَ خَيْراً].  6لاَ مِثْلَ لَكَ يَا رَبُّ! عَظِيمٌ أَنْتَ وَعَظِيمٌ اسْمُكَ فِي الْجَبَرُوتِ. 7مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا مَلِكَ الشُّعُوبِ؟ لأَنَّهُ بِكَ يَلِيقُ. لأَنَّهُ فِي جَمِيعِ حُكَمَاءِ الشُّعُوبِ وَفِي كُلِّ مَمَالِكِهِمْ لَيْسَ مِثْلَكَ. 8بَلِدُوا وَحَمِقُوا مَعاً. أَدَبُ أَبَاطِيلَ هي الْخَشَبُ. 9فِضَّةٌ مُطَرَّقَةٌ تُجْلَبُ مِنْ تَرْشِيشَ وَذَهَبٌ مِنْ أُوفَازَ صَنْعَةُ صَانِعٍ وَيَدَيْ صَائِغٍ. أَسْمَانْجُونِيٌّ وَأُرْجُوَانٌ لِبَاسُهَا. كُلُّهَا صَنْعَةُ حكيمة. 10أَمَّا الرَّبُّ الإِلَهُ فَحَقٌّ. هُوَ إِلَهٌ حَيٌّ وَمَلِكٌ أَبَدِيٌّ. (اي10 :3-10)

والحقيقة الثانية عن الله هو أن هذا الإله الموجود هو الإله الكامل في كل شيء، في ذاته وفي صفاته، إذ هو “الصخر الكامل صنيعه “(تث32: 4) وليس مثل الله في هذا الكمال إذ إن الناس تنمو قواها وملكاتها بعضها على حساب بعض، فقد يكون الإنسان عادلا على حساب الرحمة، أو رحيما على حساب العدل  وقد يكون صارما على حساب اللطف، أو لطيفا على حساب الصرامة . ولكن الله على العكس من هذا كله، إذ هو الإله الحق الكامل في العدل والرحمة واللطف والصرامة وسائر صفاته معا، فلا تقومالواحدة منها على حساب الأخرى أو تعطلها أو تضعف مظاهرها في شيء على الإطلاق ،ومن ثم حق للمرنم أن يقول :”الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاءما “(مز85 :10)

والحقيقة الثالثة عن الله هو إن هذا الإله الكامل هو الإله الصادق المنزه عن الكذب، والذي لا غش فيه أو خداع أو رياء أو مداهنة أو بطل، لا يغاير فيه الظاهر الباطن أو الخفي المنظور، وتتم فيه الأقوال عن الإعمال، والإعمال عن الذات والصفات، بلا ازدواج أو حيرة أو تردد أو ارتباك.

والحقيقة الرابعة عن الله أن هذا الإله الصادق هو الإله الأمين الثابت في وعوده وإحكامه. ومن الحق إن نطالبه بما طالبه به يعقوب قديما عندما صاح: “صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك. وأنت قد قلت إني أحسن إليك (تك32: 10 و12) . كما من الحق أن نؤمن انه أمين في تحذيراته وتعهداته : “2فَأَجَابَنِي الرَّبُّ: «اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِيَرْكُضَ قَارِئُهَا 3لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَاناً وَلاَ تَتَأَخَّرُ. (حب2:2و3) . أما العدل إذ ينسب إلى الله فيعني على الأقل أمرين هما:الاستقامة والمساواة ” وفي اللغة يقال: العدل ضد الجور، وعدله تعديلا فاعتدل، إي قومه فاستقام. كما يقال: عادلت بين الشيئين أو عدلت فلانا بفلان إذ سويت بينهما. والمعنى الأول يفيد إن الله لا يمكنان يكون متحيزا أو جائزا أو منحرفا أو مغرضا أو مشوشا  أو ما إلى ذلك  مما يتعارض مع معنى الاستقامة  ودقتها  وعظمتها وجلالها. كيف لا وذات الكلمة “خطية “تعني فيما تعنيه معنى الانحراف، وحاشا لله أن يخطئ إذ هو المعصوم من كل خطية . بل أن نواميس الله ذاتها في الطبيعة والإنسان والتاريخ ليست إلا نتاجا وأعمالا لهذه الاستقامة الدقيقة العظيمة الرهيبة الكاملة. ويكفي أن ندرك كيف يسير الكون بهذه النواميس المتعددة البالغة الدقة كنواميسالجاذبية والمغناطيسية والكهرباء، وكيف تسحق وتبطش كل ما يقف في طريقها أو يعترض سبيلها أو يتعارض مع سيرها واتجاهها الدقيق المعين لها من عند الله. كما إن ناموس الله المودع في أعماق النفس البشرية – إي ناموس الضمير- يشهد ويفصح عن هذه الحقيقة عينها. إذ ليس أدق منه إذا همس، وارهب منه واقطع إذا احتج أو اشتكى أو اعترض أو دان. فإذا أضيف إلى هذا كله رهبة الناموس الموسوي وسطوته  وقسوته أدركنا  ما في دالة الله من جلال ودقة واستقامة  وصرامة .

كما أن العدل يعني أيضا المساواة، والمساواة لها أكثر من جانب، إذ ي أولا وقبل كل شيء المساواة أمام الطاقة !! أو بلغة أخرى المساواة أمام توازن الفرص وتكافئها، إذ قي مثل الوزنان المعروف :”فأعطى واحدا خمسة وزانات وأخر ورنتين وأخر وزنة. كل واحد على قدر طاقته “(مت 25: 15) والله لا يمكن أن يطلب من إنسان أكثر ما أعطاه من فرص أو إمكانيات أو وزنات، إذ هو اعدل وأكرم من أن يطلب من الأخرس لغة الكلام، من الطفل معرفة الرجال، ومن المعدم  وفرة المال، أو كما قال السيد “فكل من أعطي له كثيرا يطلب منه كثير ومن يدعونه كثير يطالبونه بأكثر ” (لو12: 48) أصاب الفرص المتساوية فهم طالبون ومسئولون أمام الله على حد ساء، من غير ما تمييز أو تفريق أو تحذير أو تفصيل.

المساواة أيضا تعني المساواة أمام المكافأة، إذ أن الله يعطي أكاليله وعطاياه، ليس عل ساس معيار لشري من هذه المعايير التي قد يتصور أصحابها انه تفضل أو تميزهم عن الآخرين، ما تصورت أم ابني زبدي هي تتقدم بولديها إلى المسيح وتطلب أن يجلس حد منهم عل اليمين والأخر على اليسار  ليس له أن يعطيه إلا لمن اعد لهم من قيل الأب السماوي . وإذ ذكر إن هذا الأعداد وان علا في سره عن ذهن البشر وفهمهم إلا انه يكن ن يقال من الوجه الأخر:” 10لأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ. 11وَلَكِنَّنَا نَشْتَهِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُظْهِرُ هَذَا الاِجْتِهَادَ عَيْنَهُ لِيَقِينِ الرَّجَاءِ إِلَى النِّهَايَةِ، 12لِكَيْ لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِالإِيمَانِ وَالأَنَاةِ يَرِثُونَ الْمَوَاعِيدَ. (عب6: 10 -12 ). أو في لغة أخرى إن الله العادل وهو يوزع ويمنح نصبة القديسين والمؤمنين لا يمكن إلا أن يدخل في الاعتبار مقدار ما بذلوه من الجهد أو المشقة أو الكفاح أو الدموع أو التعب أو الشدة على هذه الأرض. وهل هذه كلها إلا إعلام وإفصاح عن خلو مكافأة الله عن أدى تحيز أو تمييز أو محاباة أو استثناء؟.

والمساواة أخيرًا هي مساواة أمام الديان، هذا و المستفاد بمفهوم المخالفة – كما يقول رجال القانون – إذ ما دام الله هو العادل، عندما يجزل ويعطي هو لابد كذلك عندما يحكم ويدين. كيف لا والكتاب صريح من الله لا يمكن أن يحاكم انسانا إلاعلى مقدار ما اخذ من معرفة ونور ؟ الم يقل السيد لليهود: “لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية ،وإلا تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية ” (يو9 :41) كما قال :” 22لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خطي. … 24لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. 25لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: أنهم أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ. (يو15: 2 و24 و25) . وقد أكد الرسول بولس أن عدالة الله تأبى أن تحاكم بقانون لاحق، فالذين عاشوا قبل مجيء الناموس الموسوي، لا يكن أن يحاكمهم الله بهذا الناموس بل بناموس أخر، هو ناموس الضمير الموجود فيم، والمصاحب لهم :” 12لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ. 13لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ. 14لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ فَهَؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ 15الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً 16فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.(رو2 :12-16).كما إن هذه المساواة تفي الضرورة ،التفرقة بين الأشرار والإبرار، إذ إن أقسى ما يسمعه الله ويوجه إليه ما قاله اليهود أيام ملاخي :” أَقْوَالُكُمُ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: مَاذَا قُلْنَا عَلَيْكَ؟ 14قُلْتُمْ: عِبَادَةُ اللَّهِ بَاطِلَةٌ وَمَا الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَنَّنَا حَفِظْنَا شَعَائِرَهُ وَأَنَّنَا سَلَكْنَا بِالْحُزْنِ قُدَّامَ رَبِّ الْجُنُودِ؟ 15وَالآنَ نَحْنُ مُطَوِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَأَيْضاً فَاعِلُو الشَّرِّ يُبْنَوْنَ. بَلْ جَرَّبُوا اللَّهَ وَنَجُوا». 16حِينَئِذٍ كَلَّمَ مُتَّقُو الرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَالرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَةٍ لِلَّذِينَ اتَّقُوا الرَّبَّ وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي اسْمِهِ. 17وَيَكُونُونَ لِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً وَأُشْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُشْفِقُ الإِنْسَانُ عَلَى ابْنِهِ الَّذِي يَخْدِمُهُ. 18فَتَعُودُونَ وَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصِّدِّيقِ وَالشِّرِّيرِ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَمَنْ لاَ يَعْبُدُهُ.(ملا3: 13-18).

اجل فان العدالة في الأرض قد تبدو إلى د بعيد مضطربة ومقلوبة. ومع ذلك فلذكر ما قاله احدهم: “قد ينجو الناس من العقاب البشري كثيرا، فالعدالة البشرية – إذ هي بشرية – بعيدة عن الكمال ،غير إن من لا ينجون من العقاب أكثر كثيرا ممن ينجون . وقد يتأخر العقاب ولكنه يأتي في صورة ما، بهذه الكيفية أو تلك. ولنفرض إن الناس نجو من العقاب البشري، فل يمكن أن ينجو من مواجهة الضمير ؟ إذ أمكنهم إسكات الضمير فهل يمكنه أن يخلصوا أولادهم من نتائج ما ارتكبوا من خطايا وشرور  .كلا فليس هناك نجاة . إذا افترض المستحيل وأمكن أن يفلت البعض من هذه كلا، فمن يستطيع الإفلات ما لابد أن يكون: “10قُولُوا بَيْنَ الأُمَمِ: [الرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. أَيْضاً تَثَبَّتَتِ الْمَسْكُونَةُ فَلاَ تَتَزَعْزَعُ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ]. 11لِتَفْرَحِ السَّمَاوَاتُ وَلْتَبْتَهِجِ الأَرْضُ لِيَعِجَّ الْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ. 12لِيَجْذَلِ الْحَقْلُ وَكُلُّ مَا فِيهِ. لِتَتَرَنَّمْ حِينَئِذٍ كُلُّ أَشْجَارِ الْوَعْرِ 13أَمَامَ الرَّبِّ لأَن-13).َاءَ. جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ وَالشُّعُوبَ بِأَمَانَتِهِ (مز 96: 10 -13) .

الله الجميل الصالح الجواد

ولكن ما معنى جمال الله !!؟ وكيف يكن أن تتحسس أو تتلمس هذا الجمال لهتف مع المرنم:”4وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ.(مز27 :4) أو مع اشعياء: “الملك ببهائه تنظر عيناك” (اش33 :17) أو مع زكريا في القول” ما أجوده وما أجمله ” (زك9 :17) إننا قعا لا يمكن أن نتصور هذا الجمال كما تصوره اليونانيون الأقدمون، ممن أضفوا على إلهتهم جمالا ماديا محسوس ذ صورا افروديت في جمال أنوثتها ،وابولوا في قوته وعظته ورجولته، وزيوس كبير الإلهة في مجده المرتفع وق جبل الأوليمب، إذ أن الله ليس منزها عن الجمال المادي فحسب، بل هو كاره ومضاد لهذا التصور المادي المحسوس، ومن ثم جاءت وصيته القائلة”4لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. 5لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلَهَكَ إِلَهٌ غَيُورٌ أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ” (خر20: 4و5). كيف لا وهذا التصور يبلغ العظمة الجلال والفتنة والروعة، ليس إلا مسا قبيحا مشوها مضطرب لجمال الله البارع المذهل للعقول، والذي يحق معه الوصف الإلهي القائل ” وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات  “(رو1 :23) والذين راو الله ،حس جماله وتفوا لهذا الجمال وشادوا به، لم يروه بالعين المادية، بل ببصيرة النفس والروح !! الم يشد اغسطينوس بالقول له بعد التجديد : “أيها الجمال القديم وما تزال جديدا، يؤلمني إنني تأخرت كثيرا عن حبك” !! . وألم يقول ملتون وهو يتغنى بهذا الجمال أروع شره في الفردوس المفقود والمردود وهو كفيف !! بل الم يصيح شارلس كيجلي ي مرض الأخير هو ينادي نفسه بالقول :”كم هو ميل الرب، كم و ميل !” أن الله روح، والروح الذي يتميز به لابد أن يكون جميلا روحيا أدبيا أخاذا يملك القلب ويخلب الألباب وأولئك الذين راو واخذوا ب، رأوه ولا شك من أكثر من زاوية وجانب.

وإذا كان من المتعذر رؤية هذه الزوايا جميعا، فلا اقل من أن لمح إلى بعضها على سبيل المثال. فناك مثلا المفتنون واالمأخذون بمال الله البادئ والظاهر من عماله. وإذا كان لأحدهم قد قرأ لجون رسكن بعض كتبه فصاح:”يا لهذا الرجل من عقل جميل !!” فماذا يكن أن يقال عن جال عقل الله فبما أبدع أو سطر على صفحات الطبيعة والكون وهناك ا المتأملون والمفكرون في جمال نقاوة اله وطهارته الكلية ،وإذا كانوا قد قالوا أن أروع ما في سويسرا جبالها الشاهقة الشم المرتفعة المكللة بالثلوج، وانك لو فرضوا أخذت جبالها لما بقيت لها بعد ذلك من  جمال أو فتنة فبهذا المعنى بل وأكثر جدا، يمكن أن نقول إننا نجرد ذات الله من كل شيء إذا أغفلنا ولم نذكر جمال نقاوته الفائقة وطهارته الكلية!! وهناك أخر الأمر الهاتفون والمنشدون بمال النعمة  الإلهية من يقولون أن طهارة الله ونقاوته الكلي ترهبنا وتفرزنا كخطاة آثمة وأشرار، ولكن جمال نعمته وحده هو الذي يجذبنا ويأسرنا ويملك علينا كل شيء . هذه وغيرها من صور ومظاهر في جمال الله عندما نراها في ذاك الذي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره، لا نملك إلا أن نصيح مع النبي القديم : “أنت ابرع جمالا من بني البشر انسكبت النعمة على شفتيك “_مز45: 4) ونقول مع الأخر في شدو العروس الطروب الغريد  :”ها أنت جميل يا حبيبي وحلو “(نش1 :16) .

أما كلمة ” صلاح”أو “صالح “فلا يجوز في المعنى الدقيق أن يوصف احد سوى الله وحده. الم يقل السيد المسيح للشاب الغني :”ليس احد صالحا إلا واحد وهو الله ” (مر10 :18) ولعل هذا ما حدا بأحدهم  إلى القول: “أن الله وحده هو الصالح، وهذا التعبير –  إي الصالح – لا ينبغي أن يؤخذ في معناه الدقيق  الخاص سوى الله، انه لا يوجد صلاح خارج أو مستقل عن الله، بل أن الله ذاته لا يعتبر الصلاح  حقيقة  خارجية موضوعية بعيدة عنه، وليس هناك من معيار للصلاح إلا أن يعرف الناس  مشيئة الله، فحيث توجد هذه المشيئة يوجد هناك الصلاح!! . وما إعلان الله في التاريخ والحوادث إلا الإعلان والكشف الدائم والثابت عن هذا الصلاح. إذ ليس صلاح لا يعلنه الله!! . أليس ما أنجزه لشعبه قديما كالخروج ودخول ارض الموعد هو الصلاح بعينه؟ بل أليس إعطاء الناموس نفسه، في معنى أدق واعلي، إعلانا عن وجود الله وصلاحه: “إذا الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة “(رو7: 12) !!؟ بل الم تكن عهود الله المتوالية والمتكررة كالقول :”واقطع لهم عهدا أبديا إني لا ارجع عنهم  لأحسن إليهم واجعل مخافتي في قلوبهم  فلا يحيدون عني (ار32: 40)  وقوله :”7مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ الْقَائِلِ لِصِهْيَوْنَ: «قَدْ مَلَكَ إِلَهُكِ!» 10قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلَهِنَا. (اش52: 7و10). لم تكن هذه العهود إلا النبوة والإعلان عن الخلاص الأتي العتيد الذي هو أعظم برهان وأكمله عن صلاح الله ؟وإذ ننتهي إلى هذه كله لابد أن نصل إلى النتيجة الوحيدة الأكيدة: أن ما يعمله الله معنا،  ويشاؤه لحياتنا لابد أن هو الصالح  واللازم لهذه الحياة على الأرض، الصالح الذي لا نملك إلا أن نهتف معه بالقول: “ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده” (رو8 :28)!!

أما الجود لغة الكرم، فإذا قيل “جاد” المرء جودا إي “تكرم “و”جاد” بالمال إي بذله، و “جاد” بنفسه سمح بها عند الموت، وجادت السماء جودا إي “أمطرت”. ومن هذا الكلام نعلم معنى الجود منسوبا إلى الله  هو الإله الجواد  الذي يعطي “في المعنى العام “جميع الناس : ” فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ،ويمطر على الإبرار والظالمين “(مت7: 45)  “إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء “(اع17 :25) “الذي يعطي بسخاء ولا يعير” (يع1: 7) بل يعطي أكثر من ذلك اضعف وأدق المخلوقات إذ :”من يهيئ للغراب صيده إذ تنعب فراخه إلى الله وتتردد لعدم القوت” (اي38: 41) . “انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها “(مت6 :26) . وهو في هذه كلها لا يمكن إلا أن يعطي ويجود، كما أن الشمس لا يمكن إلا أن تشرق ،وكما أن المطر لا يمكن إلا أن ينهمر، وكما أن الينبوع لا يمكن إلا  أن يتدفق ويندفع، بل إذا فرض المستحيل، وجاز أن تمتنع الشمس عن نورها، وجاز للينبوع أو الوابل أن يكفا عن البذل والعطاء، فان جود الله مع ذلك هيهات أن ينقطع أو يمتنع أو يقل أو يضعف أو يتعثر، . إذ أن هذا الجود لا يرجع في شيء ما طبيعة الخلائق التي تأخذ، بل إلى كل شيء في طبيعة الله الذي يجود ويعطي ويبذل. كما ينبغي أن نذكر أيضا أن هذا الجود لا يقتصر على شيء دون شيء، أو على ميدان دون ميدان، إذ هو شامل دائم عام، يعطي الجميع الأشياء ويتبع كافة الميادين على هذه الأرض. الم يرى المسيح في ذات نور الشمس وغيث الوابل والمطر،منح الله وعطاياه، إذ قال “شمسه” و “يمطر” ! اجل فكل ما فينا ومعنا ولنا يجب أن يرجع إلى سبب واحد لا غير، إلا وهو جود الله وكرمه وإحسانه وعطاياه.هذا هو الجود في “المعنى العام” أما الجود في “المعنى الخاص” فهو ذلك الجود الرحب الدقيق الخاص بالمؤمنين أبناء الله، جود “الخلاص” و” النعمة” و”الرعاية” و “الإحسان” و “الهداية”. الم يقل الكتاب متحدثا عن هذا الجود: “واصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي “(خر20: 6) “لأنه من يمسكم يمس حدقة عينيه” (زك2: 8) .

وفي العام 1944 قبض النازي على أسقف هانوفر، وسجنه في الطابق الأعلى من مبنى البوليس في برلين، وعندما كانت برلين تتعرض للغارات الجوية العنيفة التي قام بها الحلفاء ضد ألمانيا كل الحراس يتركون  هذا الرجل القديس في زنزانته في اعلي المبنى ويغلقون عليه ثم يهربون إلى المخابئ، ولكنه ألف عند هذه الغارات أن يفتح نافذة الزنزانة ويتطلع في اشد الحالات وأقساها إلى السماء . ومع أن برلين تحولت إلى أنقاض وأكواممن الخراب والرماد، إلا انه نجا ورأى جود الله في المحنة القاسية !! إلا يمكن بعد ذلك أن نهتف قائلين  :”ما أجوده، وما أجمله،الحنطة تنمي الفتيان والمسطار العذارى” (زك 9 :17)

الله المحب الرحيم

ولعل خير ما نختم به الحديث عن صفات الله، الحديث عن محبته ورحمته. وليس من شك أن عبارة “الله محبة ” هي أجمل ما سمعته الآذان البشرية خلال العصور والأجيال.وقد كان في اللغة اليونانية عن مطلع المسيحية، ثلاث كلمات تفيد معنى المحبة الأولى:”AGAPE” وهي المحبة القوية الواعية الداخلية.الثانية وهي “EROS” وهي المحبة الراغبة المشتهية، والتي تنشد على الدوام الاقتناء والملك، وهي الباعث الرئيسي والدافع لكل ما نرغب اقتناءه في الحياة، إذ هي الدافع لحب الفضيلة في الحياة الأبدية ، وحب الجمال في الحياة الفنية، وحب الخلود في الحياة الروحية وما أشبه. والثالثة”PHILEO” وهي المحبة العاطفية المؤثرة ،والتي تهتم وتعني بالآخرين مجردة من الذات والأنانية. ومن الطريف أن نذكر أن المسيح استعمل اللفظ الأول وهو يقول لبطرس ” يا سمعان بن يونا أتحبني” AGAPAN” أكثر من هؤلاء” (يو21: 15) فرد بطرس مستعملا اللفظ الثالث إذ قال: “نعم يارب أنت تعلم إني احبك” PHILEN” وإذ كرر المسيح القول جاء في المرة الثالثة مستعملا ذات اللفظ الذي استعمله بطرس “PHILEN” وقد ذكرنا هذا حتى يسهل بعد ذلك فهم مدلولات المحبة عندما تنسب إلى الله إذ هي “

أولًا:وقبل كل شيء المحبة الأزلية السرمدية العميقة القائمة في الثالوث الأقدس وهي بهذا المعنى صفة ذاتية قائمة في شخص الله.وإلا فماذا كان يحب الله قبل الخليقة !؟الم يقل المسيح: “لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو17 :24)؟.

وثانيًا:هي المحبة الخالقة المبدعة، وهل الخليقة كلها إلا نتاج المحبة وعملها!؟ وكيف لا، وبناء البيت أو تكوين الأسرة أو إبداع هذا أو ذاك من الأعمال والفنون ليس إلا وليد المحبة التي ترغب في الاقتناء والملك. ولقد صنع الله الإنسان لان لذّاته مع بني ادم .

وثالثًا:يتفرع عن هذا ويفيض المحبة المعتنية الساهرة الراعية الحافظة .ومن لا يعتني أو يرعى أو يسهر أو يسوس أو يهتم بما تعبت فيه يداه؟ في الواقع أن رعاية الله وحمايته وحفظه وعنايته ترجع جميعا إلى محبة الله العاملة لخليقته التي صنعها.

ورابعًا: هل المحبة الغافرة النادية ؟” لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له حياة الأبدية” (يثو3 : 16) لكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا ” (رو5: 28).

وأخيرًا:فهذه المحبة جعلتنا أولاد لله وورثة مع المسيح، يمكن أن نهتف في قلب الزمن والأبدية  :”انظروا أية محبة إعطانا الأب حتى ندعى أولاد الله  “(1يو3: 1) .

وكل هذه المحبة تساعدنا أخر الأمر على فهم معنى الرحمة ومدلولها، وما الرحمة لغويا إلا الرقة واللطف والشفقة والعطف والإحسان والترفق. وترجع هذه الرحمة أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة الله نفسه، إذ هو رحيم ورءوف طويل الروح وكثير الرحمة لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر.ومع أن برنارد شو أخطا في كتاب ” الزنجية تبحث عن الله “إذ لم يستطع أن يرى الله الرحيم في العهد القديم، إذ تصور الإله القاسي المنتقم، إلا أن الحقيقة الثابتة أن الرحمة اللانهائية تكمن في أعماق جوهر اله- أليس هذا ما أعلنه لموسى عندما أخطا الشعب “الرب اله رحيم ورءوف. بطء الغضب وكثير الإحسان والوفاء “(خر34: 6) ؟ بل أليس هذا ما تبينه يعقوب الشريد الهاجع في ظلمة الليل، تلفه خطاياه وآثامه غير انه أبصر الله يطل عليه بالحنان والجود والرحمة، ويضمه كما يضم الأب طفله الخائف المرتاع بين ذراعيه ؟اجل.. الم يظهر الله ليعقوب بعد أن خدع أخاه وهرب في صورة الإله المنتقم المخيف ،بل في صورة الأب الداني العطوف. وداود نفسه قد اختبر رحمة الله العظمى ،عندما لاذ بها واعتصم في سقطته الكبرى وخطيئته الشنعاء  الم يقل :” ارحمني يا الله حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امح معاصي: (مز51: 1) . والعشار الآثم تعلق بها في صرخته عندما صاح: “اللهم ارحمني إنا الخاطئ “(لو18: 13) . وهل نريد أن نتنين هذه الرحمة في ابرع صورها واجل مجدها، إلا فلنذكر ذلك اللص التائب علق على الصليب إلى جوار المسيح وبدا مع الأخر يعيرانه. ولكنه ما أسرع ما تنبه إلى خطيته ،فطلب العفو والغفران ومع أن حياته بجملتها كانت مجموعة من الشر والإثم إلا أن رحمة الله تجزل لنا، لان الله يعلم ضعف طبيعتنا وقصورها وتصدعها ونقصها  أو كما يقول المرنم :”لأنه يعرف جبلتنا يذكر إننا تراب نحن” (مز103 :14)  .اجل فنحن جميعا ضعفاء، وقد حف بنا الضعف من كل ركن وجانب، وليس فينا من يستطيع النهوض مستقلا أو بعيدا عن الله، ولهذا :”لم يصنع معنا حسب خطايانا ولم يجازنا  حسب آثامنا لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه، كبعد المشرق عن المغرب ابعد عنا معاصينا “(مز103: 10-12) .

في التاريخ العربي القديم أن رجلا اسمه تميم ابن جميل، ثار ذات يوم على المعتصم، ولكن ثورته فشلت، فجيء به مقبوضا عليه مكبلا بالأغلال حتى وقف بين يدي المعتصم. وإذ تأمله المعتصم رق لحاله وأخذته الشفقة عليه، فإذن له بالكلام فانشد يقول:

أرى الموت بين السيف والنطع كامنا                            يلاحظني من حيث ما أتلفت

واكبر ظني انه اليوم قاتلي                                         وأي امرئ مما قضى الله يفلت

ومن ذا الذي يأتي بعذر وحجة                                    وسيف المنايا بين عينيه مسلّط

وما جزعي من أن أموت وأنني                                   لا علم أن الموت شيء موقن

ولكن خلفي صبية قد تركتهم                                       وأكبادهم من حسرة تتفتت

فان عشت عاشوا سالمين بغبطة                                  أزود الردى عنهم وان مت ماتوا

كأني أراهم حين انعي إليهم                                        وقد لطموا تلك الخدود وصوتوا

وقد قيل أن المعتصم ما سمع هذه الأبيات حتى أجهش بالبكاء وعفا عن المذنب والأسير.  فإذا صح أن يقال هذا عن إنسان، أفليس بالحري أولى واصح أن يقال عن الله الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أعظم  وارحم الراحمين!.

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى