إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 11 | إيماني بعناية الله

 العناية ومدلولها

والعناية في المعنى المعروف هي مداخلة الله وتعامله مع الكون بكل ما فيه من أحياء وأشياء، وقد قسمها البعض إلى ثلاثة أقسام، إلى العناية العامة، والخاصة، والأخص.. أما العامة فتلك التي تتصل بالكون كله وتعم الأشياء والأحياء والمخلوقات جميعًا على كافة أنواعها وألوانها، وهي العناية التي لابد أن تحدث من خالق خلق الكون ليضبطه ويحفظه ويصونه ويدفعه لإتمام الغرض الذي وضع له والرسالة التي عليه أن يؤديها، وليس شيء في هذا الكون كله مهما يكن صغيرًا ودقيقًا بعيدًا عن عينيه وفكره.. فإذا ظن الإغريق قديمًا أن الشمس لا تشرق كل صباح إلا لأن آلهة معينة من الآلهات تسوقها وتدفعها كما يدفع السائق مركبته وخيله.. فإن العناية الإلهية تسوق وتدفع كل يوم – صدقًا وحقًا – جميع الأشياء والأحياء بأساليب منوعة ومختلفة مباشرة وغير مباشرة، إذ تدفع الجماد والماديات بالنواميس الطبيعية والمادية حتى ليصح أن يُقال في لغة لمسيح: “فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (مت5: 45) أي أ، إشراق الشمس أو إمطار الأمطار يرجع إلى العناية العامة الشاملة لجميع الناس.. كما أن العناية بالحيوانات والدبابات والطيور وسائر المخلوقات والعجماوات غير العاقلة ترجع كل يوم أولا وأخيرًا إلى رحمة الله وعينه التي لا يمكن أن تغيب عن نظرها أصغر وأضعف الكائنات أو المخلوقات، وهذه العناية تتحقق وتتم مرات متعددة بتحريك الغرائز والقوى المعطاة والممنوحة لهذه العجماوات، كما تتحقق مرات أخرى بتدخل الله وسيطرته العظيمة المباشرة على الجزيئات والتفاصيل في كل ما يمكن أن يجري أو يحدث في الطبيعة والوجود… وليس أدل على ذلك من القول الإلهي لأيوب: “اتصطاد للبوة فريسة أم تشبع نفس الأشبال، حين تجرمز في عريسها وتجلس في عيصها للكمون. من يهيئ للغراب صيده إذ تنعب فراخه إلى الله وتتردد لعدم القوت” (أي38: 39-41). أو قول المرنم: “المفجر عيونًا في الأودية بين الجبال، تجري. تسقي كل حيوان البر. تكسر الفراء ظمأها. فوقها طيور السماء تسكن. من بين الأغصان تسمع صوتًا… المنبت عشبًا للبهائم… صنع القمر للمواقيت الشمس تعرف مغربها. تجعل ظلمة فيصير ليل. فيه يدب كل حيوان الوعر… الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها تشرق الشمس فتجمع وفي مآويها تربض… ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك. هذا البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار. هناك تجري السفن. لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه. كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه. تعطيها فتلتقط تفتح يدك فتشبع خيرًا. تحجب وجهك فترتاع. تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود. ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز104: 10-12، 14، 19-22، 24-30) أو قول المسيح: “انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها” (مت6: 26) “أليس عصفوران يباعان بفلس وواحد منها لا يسقط على الأرض بدون أبيكم” (مت10: 29).

أما العناية الخاصة فتشمل جميع الكائنات الحية العاقلة والتي يتعامل معها الله ويعتني ويتدخل بأساليب ووسائل متعددة، وعلى الوجه الأدق بالسيطرة والتوجه لما فيها من أفكار ومشاعر وإرادة حرة، فالوزنات والمواهب والملكات المعطاة لجميع الناس جزء من هذه العناية الخاصة التي تبسط ظلها على كل امرئ على سطح الأرض، كما أن الانفعالات والمشاعر وضروب وألوان التصرفات المتعددة للإنسان تخضع لها كما قيل: “ثم قال الرب لموسى أدخل إلى فرعون فإني أغلظت قلبه وقلوب عبيده لكي أصنع آياتي هذه بينهم” (خر10: 1) “إن الله أعطاه قلبًا أخر” (1صم10: 9) “لأن الله أضعف قلبي والقدير روعني” (أي23: 16) “قلب الملك في يد الرب كجدول مياه حيثما شاء يميله “(أم41: 1)… وهذه العناية هي التي تدفع التاريخ وتوجه الحوادث وتصرف أمور الناس، أو كما قالت حنة في صلاتها العظيمة: “لأن الرب إله عظيم وبه توزن الأعمال قسى الجبابرة انحطمت والضعفاء تمنطقوا بالبأس، الشباعى آجروا أنفسهم بالبز والجياع كفوا، حتى أن العاقر ولدت سبعة وكثيرة البنين ذبلت، الرب يميت ويحيي يهبط إلى الهاوية ويصعد. الرب يفقر ويغني. يضع ويرفع. يقيم المسكين من الترب. يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء ويملكهم كرسي المجد” (1صم2: 3-8) أو كما قال دانيال: “ليكن اسم الله مباركًا من الأزل وإلى الأبد، لأن الحكمة والجبروت وهو يغير الأوقات والأزمنة. يعزل ملوكًا وينصب ملوكًا. يعطي الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهمًا” (دا2: 20-21) أو كم أقر نبوخذ نصر في أقواله: “وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذ نصر رفعت عيني إلى السماء فرجع إلى عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيء، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل” (دا4: 34-35).

أما العناية الأخص فهي تلك التي ترعى أبناء الله وتهتم بظروفهم وتشبعهم من الخير والجود والإحسان على الوجه المذهل العجيب الذي صاح إزاءه المرنم: “يا رب قد اختبرتني وعرفتني، أنت عرفت جلوسي وقيامي فهمت فكري من بعيد مسلكي ومربضي ذريت وكل طرقي عرفت، لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها، مكن خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت على يدك. عجيبة هذه المعرفة فوقي، ارتفعت لا أستطيعها. أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوي فها أنت. إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضًا تهديني يدك وتمسكني يمينك” (مز139: 1-10) أو كما ذكر الله على لسان النبي إشعياء: “هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك، خوذا على كفي نقشتك، أسوارك أمامي دائمًا” (إش49: 15-16) أو كما جاء في أقوال زكريا النبي: “لأنه من يمسكم يمس حدقة عينه” (زك2: 8).. والواضح بعد هذا كله أن لا مجال هناك لمن يدعي بـ “الصدفة” أو “العارض” أو “الحظ” أو ما أشبه من مرادفات، عند الله.. إذ هذه كلها إذا ذكرت أو فهمت عند الناس، فإنما تذكر أو تفهم أو يصطلح عليها لما فيهم من عجز أو نقص أو قصور أو جهل أو ضعف لا يمكنهم من متابعة العناية ودقتها ورقتها وشمولها ومجدها وجلالها وعظمتها الجديرة بالله… كيف لا وغير المعروف في العناية أكثر في الواقع بما لا يقاس من المعروف والمدرك!! فهذا المرنم في المزمور الحادي والتسعين أجمل عدة مظاهر عن العناية أغلبها خفي ومباغت وسري ومجهول، ففخ الصياد والوباء الخطر وخوف الدجى والسهم الطائر في النهار والألوف والربوات الساقطة عن اليمين واليسار، كلها تتحدث عن الفصول العظيمة المجيدة الخفية عن العناية التي يشمل بها الله أولاده، وهم لا يدرون.. كما أن سفر أستير، السفر العظيم الذي رصد للعناية في الكتاب، لم يذكر فيه اسم الله قط، ومع ذلك فكل سطر في هذا السفر يكشف ويفصح عن عمل الله وتدخله العجيب ورعايته الشاملة وعنايته الدقيقة، العناية التي ترمز على الدوام لاهتمام الله الأخص بأبنائه وأتباعه والمؤمنين ومريديه من كل جنس وأمة وشعب وقبيلة على اختلاف العصور وتوالي الحقب والأجيال والأزمان…

العناية وعظمتها

ولعله لا يوجد شك بعد كل ما ذكر عن عظمة هذه العناية وروعتها ومجدها. وإن كان لابد أن نفصل بعض الإجمال في هذه العظمة فإننا يمكن أن نقول أنها:

1) عظمة العناية الموجودة في كل مكان، إذا ليس مكان أو مجال في الوجود كله يبعد عن فعلها وأثرها، ولقد رأينا المرنم يتخيل نفسه والعناية تلاحقه سواء صعد إلى أعلى السموات أو هبط إلى أعماق الهاوية أو أخذ جناحي الصبح أو صار إلى أقاصي البحر… وحقًا صدق، ففي اختبارات الناس رؤى الله في عنايته العجيبة في أرهب الأماكن وأقساها وأقصاها وأبعدها عن الظن أو التصور أن هناك عناية.. ألم ترد هاجر وهي هاربة مشردة طريدة في الصحراء عندما صاحت: “أنت إيل رئى، لأنها قالت أههنا أيضًا رأيت بعد رؤية” (تك16: 13) وألم يبصره يعقوب في بيت إيل عندما هتف: “حقًا أن الرب في هذا المكان وأنا لا أعلم، وخاف وقال ما أرهب هذا المكان، ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء” (تك28: 16-17) وألم تمتد يده القوية إلى يونان وهو في جوف الحوت في أعماق البحار عندما صاح: “نزلت إلى أسافل الجبال مغاليق الأرض على إلى الأبد، ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الري إلهي” (يون2: 6) وألم يظهر في بابل في أتون وسط النار.. “ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار وما بهم ضرر ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة” (دا3: 24-25). بل ألم يرسل ملاكه إلى دانيال في جب الأسود عندما قال لداريوس: “إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود لأني وجدت بريئًا قدامه وقدامك أيضًا أيها الملك، لم أفعل ذنبًا” (دا6: 22-23) وألم يهتف بولس في زنزانته الضيقة في رومية: “في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني. لا يحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة فأنقذت من فم الأسد” (2تي4: 16-17)..

2) عظمة العناية في كل زمان، إذ أن الله أزلي أبدي سرمدي وهو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، وعنايته تبسط ظلالها على الفرد، كفرد، من المهد إلى اللحد، فهو الإله الذي تستطيع النفس أن تقول إزاءه ما قاله يعقوب: “الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم” (تك48: 15) أو ما قاله المرنم: “لأنك أنت جذبتني من البطن جعلتني مطمئنًا على ثديي أمي. عليك ألقيت من الرحم. من بطن أمي أنت إلهي” (مز22: 9-10) “اللهم قد علمتني منذ صباي إلى الآن أخبر بعجائبك وأيضًا إلى الشيخوخة والشيب يا الله لا تتركني حتى أخبر بذراعك الجيل المقبل وبقوتك كل آت” (مز71: 17-18).. بل هو الإله الذي قال لشعبه على لسان إشعياء: “اسمعوا لي يا بيت يعقوب وكل بقية بيت إسرائيل المحملين على من البطن المحمولين من الرحم وإلى الشيخوخة أنا هو وإلى الشيبة أنا أحمل. قد فعلت وأنا أرفع وأنا أحمل وأنجي” (إش46: 3-4).. وإلى جانب هذا فهو الإله الذي يتمشي في كل مواكب التاريخ والأجيال.. وليس جيل أو عصر أو زمن ببعيد عن عينيه ورعايته وعنايته، فهو إله آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وداود والأنبياء وبطرس وبولس والتلاميذ جميعًا، وهو إله اوغسطينوس ولوثر وكلفن وإلهي وإلهك! وهو في القرن الأول الميلاي كالقرن العشرين سواء بسواء لا يتغير ويكل أو يضعف أو يتراجع أو ينهزم أو يقصر عن العناية أو المعونة أو المساعدة… بل إنه في ظاهرة الزمن والأوقات لا يمكن أن يفاجأ أو يباغت، إذ هو السباق على الدوام في الإعداد بالترتيب والتجهيز لكل تغير أو حادث آت… فقد أعد يوسف وأرسله إلى مصر وجهزه هناك قبل أن تحدث المجاعة القاسية المهددة لكافة الشعوب بعشرين من الأعوام.. وقد أعد موسى وجهزه للخروج المرتقب قبل أن يحدث هذا الخروج بثمانين من الأعوام… كما أعد أستير وجهزها للقصر الملكي قبل أن تتم مؤامرة هامان الأحاجي بتسع سنوات على الأقل… أجل وفي الواقع إن أدق ساعة على الأرض في تعيين أو ضبط الزمن لا يمكن أن تقارن أو تقاس بدقة ساعة عناية الله في الاستعداد لأحداث والحوادث ومواجهتها بالترتيب الإلهي العظيم!!..

3) عظمة العناية في تسخير كافة القوى، إذ هي العناية التي تسخر قوى البشر بما فيهم الطاغية والرقيق والمستبد والوادع والقوي والضعيف والجميل والقبيح والماكر والساذج والكبير والصغير والغني والفقير والمؤمن والشرير والرجل والمرأة والملك والصعلوك. ألم تستغل هذه العناية فرعون وموسى وشمشون وياعيل ودبورة وأستير وهامان ومردخاي وأحشويرش وسنحاريب وحزقيا وإشعياء وغيرهم وغيرهم من مختلف الشخصيات والطبقات في العد القديم أو الجديد على حد سواء. بل هي العناية التي تسخر قوى الطبيعة جميعًا كالريح التي شقت البحر الأحمر يوم الخروج، والشمس والقمر اللذين وقفا بأمر يشوع، والزلازل والنيران والزوابع، كما قد تستغل أبسط المواد وأيسرها كعصا موسى صانعة المعجزات، والملح الذي غير به اليشع مرارة الينبوع، ودهنة الزيت المالئة الأوعية، وقرص التين الشافي من العلة، وطمي الطين المستخدم في شفاء الأعمى المرسل إلى بركة سلوام، وزنبيل بولس للنجاة في دمشق، وغيرها وغيرها من الوسائل والأساليب التي يستخدمها الله في إتمام عنايته. وفي الواقع إن عناية الله لا تعجز في أي وقت من الأوقات عن إتمام المقاصد الإلهية بشتى الوسائل والطرق المباشرة وغير المباشرة وسواء سخرت في ذلك القوى العاقلة أم القوى الخفية أم القوى الصماء على حد سواء.

العناية وبرهانها

وهناك دلائل وبراهين كثيرة على هذه العناية لعل أهمها:

1)   التطابق الأكيد بين العناية وجود الله ومحبته وحكمته ورحمته، إذ لا يعقل أن يكون إله كامل أزلي أبدي قادر غير محدود له مثل ما ذكرناه من سجايا وصفات دون أن تكون هناك عناية واضحة ثابتة أكيدة آتية ولا شك، وفي الواقع إن الإيمان بالله يستنتج منه بالضرورة الإيمان بنايته الباهرة السرمدية على الجميع!!

2)   شهادة التاريخ، ولعل هذه الشهادة تصحح في الكثير من الأحايين ما يمكن أن يراه الناس من أوضاع نختلفة متعددة مقلوبة، إذا التاريخ يؤكد أن غلبة الشر إلى حين، وأنه ما من طغاة أو مستبدين أو الأشرار إلا وكما ارتفعوا سقطوا، وحق عليهم ما قاله آساف النبي: “وانتبهت إلى آخرتهم، حقًا في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتةً؟ اضمحلوا، فنوا من الدواهي، كحلم عند التيقظ يا رب عند التيقظ تحتقر خيالهم” (مز73: 17-20).

3)   الاختبار البشري الذي حدث مع الآلاف والملايين من الناس الذين جاءت عليهم لحظات دقيقة قاسية نفذ فيها كل معين بشري، وإذا باليد الإلهية العجيبة تتدخل بقوة خارقة تفوق حد الخيال أو التصور!! كما حدث مع يوسف وموسى وجدعون وشمشون وداود وصموئيل وغيرهم من رجال الله، وكما حدث أو يحدث مع أعداد لا تحصى أو تعد من الناس في شتى العصور، وفي عصرنا الحاضر، ولقد قيل أن شابًا كان يستحم في أحد الأنهار الأفريقية وكان من عائلة مسيحية، وكانت أمه تصلي من أجله على الدوام من مطلع حياته حتى الشباب، ولكن الشاب مع ذلك كان موغلا في الشر، مندفعًا في الإثم، وسار في رحلة إلى أواسط أفريقيا وعن له ذات يوم، وهو في أحد القوارب النهرية أن ينزل من القارب ويسبح في النهر وإذ بعد عن القارب تلفت وراءه فأبصر تمساحًا يسعى إليه مقتربًا منه، فأسرع بكل ما يملك من قوة ليخرج إلى الشاطئ وعلى مقربة من الشاطئ أبصر نمرًا يتحفز للوثوب عليه، وعندئذ صرخ إلى الله قائلا: “ليس من حقي أن أطلب منك النجاة، ولا أعلم كيف أنجو!!؟ ولكني أعلم أنك على كل شيء قدير!! فأنقذني وخلصني!!” وما كان أن أتم صلاته حتى اندفع إليه النمر قافزًا بكل قوته ومن قوة القفز تجاوزه وسقط فوق التمساح، ونشب بين الاثنين صراع قتل فيه أحدهما الآخر، وخرج هو إلى الشاطئ ليركع ويسلم حياته لله من أجل العناية الخارقة العجيبة التي حفظت روحه. وليس اختبار هذا الشاب كما ذكرنا بالاختبار الفريد حتى يمكن أن ينسب إلى هذا أو ذاك من العوارض أو الصدف، ولكنه اختبار الكثيرين من الناس في كل جيل وعصر، الذين يمكن أن يقول الواحد منهم ما قاله بولس: (أع26: 22).

4)   النبوات والمواعيد والتهديدات الكثيرة العدد التي تمت في وقتها المعين من الله، مما يفيد بأن يده ممسكة بكل الحوادث الصغيرة والكبيرة والحاضرة والمستقبلة. والكتاب زاخر بمثل هذه النبوات التي ظفرت فيها عناية الله وأمانته وصدق مواعيده. ألم يتحدث الله عن كورش الملك الفارسي ومجيئه وسلطانه وانتصاراته قبل أن يولد كورش بمائتي عام على الأقل (إش45: 1-7)!!؟ وألم يتحدث رجل الله يربعام بن نباط، ويربعام واقف لدى المذبح لكي يوقد قائلا:” 12فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: [مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ ذَهَبَ؟] وَكَانَ بَنُوهُ قَدْ رَأُوا الطَّرِيقَ الَّذِي سَارَ فِيهِ رَجُلُ اللَّهِ.(1مل13: 2). وألم يحكم على زكريا بالصمت حتى يولد ابنه يوحنا المعمدان لأنه لم يستطيع تصديق كلام الرب وهو شيخ فان عقيم!!.. كل هذه وغيرها تؤكد صدق العناية وقوتها ومجدها وثباتها بين الناس.

5)   شهادة الوجدان، وهي تؤكد  أن الإنسان الضعيف العاجز مفتقر إلى العون الدائم التام الكامل من الله، وأن صلواتنا وإيماننا ورجاؤنا وانتظاراتنا وتوقعنا تدخل القوى الخفية غير المنظورة في الحياة، كل هذه تضحي عبثًا ما لم نؤمن بوجود العناية الحية العاملة المتداخلة في حياة الناس. أو في لغة أخرى أن كل صلاة أو إيمان أو رجاء يشهد بصحة هذه العناية وانتظار عملها!!

العناية والتفسير الخاطئ لبعض مظاهرها

على أنه من اللازم أن نشير، ما دمنا بصدد العناية، إلى أن كثيرًا من عدم الفهم والأخطاء تقع عند النظر إلى مظاهرها المتعددة، فهناك مثلا حادثتان حدثتا مع داود عند مطاردة شاول له، وقد فسر رجال داود الحادثتين تفسيرًا يختلف عن تفسير داود لهما، إذ اعتقد هؤلاء الرجال أن وقوع شاول في قبضة يد وداود أن هو إلا ترتيب من العناية الطيبة في القضاء على الخصم العنيد!! ألم يقولوا:” 4فَقَالَ رِجَالُ دَاوُدَ لَهُ: «هُوَذَا الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ لَكَ عَنْهُ الرَّبُّ:هَئَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ فَتَفْعَلُ بِهِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ». فَقَامَ دَاوُدُ وَقَطَعَ طَرَفَ جُبَّةِ شَاوُلَ سِرّاً.” (1صم24: 4) “فقال أبيشاي………… أضربه بالرمح إلى الأرض…………أثني عليه” (1صم26: 8) ولكن داود لم ير هذا الرأي إذ قال لرجاله: “6فَقَالَ لِرِجَالِهِ: «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا الأَمْرَ بِسَيِّدِي بِمَسِيحِ الرَّبِّ, فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ لأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ».(1صم24: 6). “9فَقَالَ دَاوُدُ لأَبِيشَايَ: «لاَ تُهْلِكْهُ, فَمَنِ الَّذِي يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى مَسِيحِ الرَّبِّ وَيَتَبَرَّأُ؟» 10وَقَالَ دَاوُدُ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ, إِنَّ الرَّبَّ سَوْفَ يَضْرِبُهُ أَوْ يَأْتِي يَوْمُهُ فَيَمُوتُ أَوْ يَنْزِلُ إِلَى الْحَرْبِ وَيَهْلِكُ. 11حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَمُدَّ يَدِي إِلَى مَسِيحِ الرَّبِّ! وَالآنَ فَخُذِ الرُّمْحَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ وَكُوزَ الْمَاءِ وَهَلُمَّ».(1صم26: 9-11). أجل وما أكثر ما يفهم الناس في كل جيل وعصر عناية الله فهمًا خاطئًا فمثلا:

1-   ليست الظروف المواتية دليلا لا يقبل النقض على عناية الله، إذ أن وقوع شاول في يد داود لم يكن دليلا على أن عناية الله قد أعطته الفرصة المواتية للقضاء على خصمه. كما أن وجود السفينة الذاهبة إلى ترشيش، وقدرة يونان على دفع الأجرة.. لم يكن هذا بالطبع دليلا على العناية التي تساعد النبي المتمرد على الهروب من وجه الله. أجل فليست الفرصة الميسرة المواتية دليلا أكيدًا على عناية الله، وهذا شكسبير الذي كان يمجد الفرصة على الدوام حذر في أحد أشعاره من الفرصة التي تقود إلى الخطية، إذ حذر الخائن من استغلال الفرصة ليخون، وحذر الذئب الخاطئ من السقوط في التجربة أو الخطية المحيطة به بسهولة إذا ما كانت هناك خطية أو شبه خطية في الظروف المواتية، فإن هذه الظروف لا يمكن أن تكون بحال ما دليلا على العناية الإلهية!!

2-   ليست آراء الأغلبية على الدوام دليلا أكيدًا على عناية الله. فكثيرًا ما تكون الأغلبية على ضلال والأقلية على حق. ألم يتفق رجال داود على رأي وكان داود بفرده على رأي آخر!! ألم يقف أثناسيوس فترة من الزمن فريدًا أو شبه فريدة ضد هرطقة آريوس وجماعته، وشهد التاريخ أن الرجل الوحيد كان على حق وأن الأكثرية المناوئة كانت على ضلال بل أشنع ضلال!!؟ ألم يقف لوثر في جانب وأوربا كلها في جانب آخر، ومع ذلك فقد أدار هذا عجلة التاريخ نحو الإصلاح، إذ كان هو على حق وخصومه المتعدين على باطل.

3-   ليس النجاح السريع دليل العناية الدائمة!!.. فلقد كان أمام داود أن يقضي على خصمه بضربة واحدة، أليس شاول هو الرجل الذي فارقه روح الله وانتابه روح شرير؟ بل أليس هو الرجل الذي يقود بلاده بعيدًا عن الله، ومن ثم يقودها يومًا إلى الهلاك والدمار!! بل أليس هو الرجل الذي يطارد داود ظلمًا وعدوانًا؟ وها ضربة واحدة تقضي على هذه كلها، وتخطو بداود في خطوة واحدة إلى العرش!!.. ولكن داود لم ير في هذا الطريق القصير أو النجاح السريع دليلا من أدلة عناية الله على الإطلاق!!

ليس التعليق بالشكليات والطقوس والفرائض دليلا صادقًا أو حقيقيًا عن عناية الله. فلقد كان اليهود يربطون بين العناية وبناء الهيكل في بلادهم حتى جاء قول الرب على لسان إرميا:” 3هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: أَصْلِحُوا طُرُقَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ فَأُسْكِنَكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. 4لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى كَلاَمِ الْكَذِبِ قَائِلِينَ: هَيْكَلُ الرَّبِّ هَيْكَلُ الرَّبِّ هَيْكَلُ الرَّبِّ هُوَ!” (إر7: 3-4). وقد دمر الله الهيكل وأورشليم معًا عندما لم يتحول اليهود عن شرورهم وآثامهم ومفاسدهم وخطاياهم!! ومثل هذا الأمر حدث عندما دق محمد الفاتح أبواب القسطنطينية في الوقت الذي تجمع فيه أهلها الأشرار في الكاتدرائية الكبرى آملين أن ترسل السماء ملاكًا لإنقاذهم ورد الجيوش الغازية عنهم، وإذ كان فهمهم ولا شك فهمًا قاصرًا خاطئًا عن عناية الله!! وناهيك بأولئك الذين يظنون أن العناية مرتبطة بحجاب يعلق أو علامة صليب ترسم أو كتاب مقدس يوضع في الجيب أو تحت وسادة!! والعناية عن هذه الشكليات المجردة من العمق أو الجوهر بريئة وبعيدة بعد السماء عن الأرض. إن عناية الله الصادرة عن شخص الله لابد أن تكون عناية مقدسة حكيمة رحيمة كذات قداسة الله وحكته ورحمته ومجده وجوده وسلطانه وعظمته!!

العناية وصعوبة تصور بعض الناس لها

وقد تبدو العناية مرات كثيرة صعبة التصور عند بعض الناس لأسباب متعددة لعل أهمها:

1- صعوبة تصورها إزاء الأوضاع المقلوبة في الأرض، إذ مرات كثيرة ما يزهو الشرير ويتسع ويرتفع في الوقت الذي يضيق فيه البار ويتعذب ويتألم.. ألم يحدث هذا مع يوسف الصديق الشاب التقي النقي البار، وكيف أخذ إلى العبودية والغربة والسجن والآلام في الوقت الذي كان فيه أخوته المعتدون الظالمون الأشرار يمرحون ويهنأون ويتندرون بأحلامه الضائعة وأمانيه المفقودة، وكانت زوجة فوطيفار تتجنى وتسخر وتعربد!!.. بل ألم يتساءل أيوب في نكبته ومأساته بالقول:” 7لِمَاذَا تَحْيَا الأَشْرَارُ وَيَشِيخُونَ نَعَمْ وَيَتَجَبَّرُونَ قُوَّةً؟ 8نَسْلُهُمْ قَائِمٌ أَمَامَهُمْ مَعَهُمْ وَذُرِّيَّتُهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ. 9بُيُوتُهُمْ آمِنَةٌ مِنَ الْخَوْفِ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عَصَا اللهِ. 10ثَوْرُهُمْ يُلْقِحُ وَلاَ يُخْطِئُ. بَقَرَتُهُمْ تُنْتِجُ وَلاَ تُسْقِطُ. 11يُسْرِحُونَ مِثْلَ الْغَنَمِ رُضَّعَهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ تَرْقُصُ. 12يَحْمِلُونَ الدُّفَّ وَالْعُودَ وَيُطْرِبُونَ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ. 13يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ. فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. 14فَيَقُولُونَ لِلَّهِ: ابْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ. 15مَنْ هُوَ الْقَدِيرُ حَتَّى نَعْبُدَهُ وَمَاذَا نَنْتَفِعُ إِنِ الْتَمَسْنَاهُ!. “(أي21: 7-15). بل ألم يهتف آساف في حيرته الشديدة:” 2أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي 3لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ. 4لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. 5لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَّاسِ وَمَعَ الْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ.”(مز73: 2-5).. ولكننا نعلم أن هذه الصعوبة تحل متى أمكن أن ننظر إلى النهاية القريبة أو البعيدة فندرك أن الوضع المقلوب لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، وأن الله لابد أن يتدخل إن آجلا أو عاجلا لترفع كما فعلت مع يوسف، أو تعوض كما فعلت مع أيوب، أو تغير كما كشفت لآساف!!..

2- صعوبة تصورها إزاء التوزيع الذي لا يخضع لميزان!! إذ مرات كثيرة ما يأخذ المكثر أو المغني ما يفيض عن حاجته في الوقت الذي لا يجد فيه المحتاج أو الفقير ما يكفي أو في طلباته.. ألم تعط فننة أولادًا كثيرين في الوقت الذي كانت تشتاق فيه حنة المؤمنة إلى ولد واحد؟!! وألم يفض الطعام عن الغني المترفه في الوقت الذي لم يكن يجد فيه لعازر المسكين ما يكفيه من الفتات المتساقط من مائدة هذا الغني!!؟ غير أن هذا التوزيع سيتوزن كما نعلم، أما في الحياة الحاضرة أو العتيدة أو كليهما معًا، فقد أعطيت حنة صموئيل وأولادًا آخرين، عوضًا عن العارية التي أعارته الله، وتغير التوزيع في الأبدية فأصبح الغني محتاجًا والمحتاج غنيًا!!.. والصعوبة في الأ/ر على الداوم ليست قاصرة على التوزيع في حد ذاته، بل قاصرة على العين التي تبصر أو ترى مراحل أو طرق التوزيع في الحياة الحاضرة والأبدية..

3- صعوبة تصورها إزاء المجهود أو التعب أو الذكاء!! إذ مرات كثيرة ما يتعب المكدود ويجاهد حتى الإعياء أو الكلل دون أن يحصل على نتيجة ما ويأتي آخر ليحصد ما لم يزرع ويحق فيه قول السيد:” 37لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. 38أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ”(يو4: 37-38).. كما أن الكثيرين قد أخذوا من المراكز أو المناصب ما لم يكونوا يتصورون على الإطلاق أنهم سيأخذونها في يوم من الأيام، فهذا واشنطون الرئيس الأول للولايات المتحدة كان أقصى أحلامه أن يكون بحارًا، وتحول في آخر لحظة عن المشروع تحت ضغط أول للولايات المتحدة كان أقصى أحلامه أن يكون بحارًا، وتحول في آخر لحظة

أمه وإلحاحها ليتغير تاريخه بأكمله التغير الحاسم العجيب!!.. كما أن امرأة كانت تسخر ذات يوم من أبراهام لنكولن لشكله القبيح وقالت له في سخرية لاذعة: “ترى ماذا ستكون في المستقبل؟” فأجابها هو أيضًا ساخرًا بالقول: “سأكون رئيس للولايات المتحدة!!” ولم يكن يعني في ذلك الوقت بالطبع ما يقول، لأن هذا كان أبعد من مجرد أحلامه!! غير أن السخرية قد تحولت مع الأيام حقيقة رائعة عجيبة!!. ولعل حل هذه الصعوبة يرجع في الأساس الأول إلى أنه من واجبنا أن نذكر بأن نصيب كل إنسان يقرره الله أكثر مما يقرره الذكاء أو الاجتهاد أو التعب أو الإعياء!! كما أنه من المحتم أن ندرك بأن الفرد ليس منقطعًا أو منعزلا عن المجتمع الذي يعيش فيه، وأن علاقته بالمجتمع ووضعه فيه يتدخلان ويتشابكان مع ما له من وزنات أو ملكات، ومن ثم فإن العناية ليست هي العناية بالفرد مجردًا من المجتمع أو المجتمع غير متأثر بالفرد، بل هي العناية الحكيمة الضابطة للفرد والمجتمع في الحاضر والمستقبل والأبدية معًا!!.

4- صعوبة تصورها إزاء الآلام الكثيرة المترعة في الحياة البشرية!! وما أكثر ما يصعب على الناس الإيمان بعناية الله إزاء هذه الآلام الفياضة المنهمرة من الجراح البشرية دون تقطع أو توقف أو هدوء!! ومع أن مشكلة الألم من أعقد ألغاز الحياة، بل أن الألم في حد ذاته هو الضريبة التي ينبغي أن يدفعها كل إنسان، إذ أن الألم للإنسان كالجناح للطائر أو كما يقول الكتاب:” وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَوَارِحَ لاِرْتِفَاعِ الْجَنَاحِ.” (أي5: 7) إلا أن عناية الله هي التي تتحكم في الآلام وتصقلها وتضبطها وتوجهها وتصنع منها أفضل ما يمكن ترجمتها في الأقوال:” أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً.” (تك50: 20). “فَقَالَ لَهُمْ: «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أَكْلٌ وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ». فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَحُلُّوا الُّلغْزَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.”(قض14: 14). “10لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا.”        (مز76: 10). “وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ.”(رو8: 28).. وفي الواقع أن الله كثيرًا ما يستخدم الآلام للتأديب أو التنقية أو التكريس أو التدريب أو التمجيد، فتكون هذه الآلام ذاتها دليل العناية لا دليل الضد لها!! ولنفرض أن الآلام التي عرفها يوسف وموسى وشمشون ويفتاح وداود ومنسى وبولس وغيرهم من الأبطال والقادة لم تحدث، فأية خسارة كان يمكن أن تصيبهم، بل كانت تصيب العالم كله إلى جانب خسارتهم!!. إن معظم مآثر التاريخ ودوافعه وحوافزه ونتائجه جاءت قبل وبعد كل شيء عن طريق الآلام…

5- صعوبة تصورها إزاء بعض الصلوات والانتظارات!! ولقد يحدث أن يفقد الناس يقينهم بالعناية لأنهم صلوا أو طلبوا من جهة شيء معين، ولكن الله لم يجبهم كما كانوا يتصورون الإجابة، كذلك الفتاة التي كانت تصلي بإيمان وحرارة من أجل أمها المريضة، ولكن الأم ماتت، وإذ حاولت إحدى صديقاتها تشجيعها وتعزيتها علمت منها أنها فقدت الإيمان بعنايته تعالى، وعندئذ قالت لها الأخرى: “العناية وتصورها، إذ هبى أن الله أجاب كل صلاة يصليها الناس من أجل حياة الآخرين أو أنفسهم، فماذا تكون النتيجة؟ تكون أن الموت ينعدم من الأرض! وتطول حياة الناس الفائضة بالضيق والتعب والمآسي والأحزان ويضج الناس بالحياة، ويضيقون بها أكثر من ضيقهم من الموت نفسه، لا يا صديقتي لا: إن الله يجيب الصلاة في ضوء حكمته وجوده ومسرته ومشيئته مجتمعة معًا، ومن واجبنا أن نؤمن ونصلي ونسلم لله، وبذلك نفهم مدلول العناية الآتية من إله طيب صالح!”.. أجل ولو درس الناس جميعًا هذه الصعوبات وغيرها في الضوء الكتابي الجليل لهتفوا لكل عناية وغنوا لها، بدلا من أن يتحيروا إزائها أو يتذمروا منها أو يتمردوا عليها!!

العناية والتمتع بها

على أنه يتبقى ثمة سؤال أخير وهو لماذا يتمتع الناس بالعناية؟ وكيف يتمتعون بها؟

وللجواب على السؤال لابد أن نشير إلى أن الله لم يمنح هذه العناية ليتمتع بها الإنسان عبثًا أو لهوا أو من غير هدف أو غاية، ولكنه يضع على الدوام مقابلة تامة بين الامتياز والمسئولية، والفرق بين الشرير والمؤمن إزاء العناية، هو أن الأول استعمل الامتياز وانحرف به وتباعد عن المسئولية أو قصر دونها، والآخر استخدمه لمجد الله ولخير الآخرين… إن الله لم يعط المال أ, الصحة أو المعرفة أو الموهبة أو ما أشبه لإنسان ما لكي يستخدمها في شهواته الأنانية وغاياته الذاتية، ولكن ليقدمها على مذبح الخدمة الخالدة لمجد الله!!.. ومن هنا نعلم أن العناية التي أعطت الخمس وزنات أو الوزنتين أو الوزنة لم تعطها لمن أخذوها إلا للاتجار والبذل والتضحية والخدمة! وطوبى لمن يفهم أو يدرك أو يستمتع بالعناية بهذا المعنى، وويل لمن يتصورها في ضوء أو معنى آخر!! أما كيف نتمتع بهذه العناية على الوجه الأصح أو الأكمل فيكون:

أولا: بالسير الأمين مع الله، وها نحن لا نتمتع بالعناية العامة أو الخاصة بل الأكثر من ذلك بالعناية الأخص، وقد نمتحن ونحن في طريق هذه العناية الأخيرة كما امتحن إبراهيم عندما طلب إليه أن يقدم ابنه إسحق على المذبح، وإذ أطاع الامتحان ونجح، وجد رضا الرب وعنايته في الكبش المقدم عوضًا عن ابنه!!.. من أجل ما حدث واقعيًا قصة شاب نزح مع أمه إلى مدينة شيكاغو، وكان الاثنان في أشد حالات الضنك والضيق المالي، ولكن الأم كانت تعلم ابنها أن يتمسك بالله في وسط كل الظروف، وأتيح للشاب أن يجد عملا بعد بحث في أحد المتاجر الكبرى ككاتب صغير وبأجر ضئيل، وقبل تحت ضغط الظروف وقسوتها، وبعد قليل رفع راتبه وعهد إليه بالعمل كبائع في فرع الأحذية بالمتجر، غير أن مدير المتجر فصله من العمل لأنه رفض أن يتكلم كذبًا أمام إحدى السيدات عن نوع من الأحذية!! ثم أعيد إلى العمل الأول بالأجر الضئيل إذ توسل له بعض الخيرين!! وضاقت نفس الفتى وتساءل مرات كثيرة هل يا رب هذا جزاء الأمانة والصدق؟ وبينما هو يسير في أحد الشوارع لفت نظره كتاب شلدون المشهور الذي يقوم على سؤال واحد: ماذا يفعل يسوع لو كان في محلي!!؟ وآمن بأن المسيح كان سيفعل تمامًا مثلما فعل هو، فسار هادئًا مطمئنًا آمنًا في الطريق… وبعد عامين جاءه المدبر الأعلى للمتجر واستدعاه ووجه إليه عدة أسئلة منها: متى جاء إلى شيكاغو؟ وإذ أجاب منذ تسع سنوات سأله: ومنذ كم من الزمن التحقت بالمتجر؟ فأجاب: منذ ثلاث سنوات.. فسئل وهل فصلت قبل ذلك من العمل؟ أجاب: مرتين، الأولى لأني رفضت أن أشتغل يوم الأحد، والثانية لأني رفضت أن أكذب!!.. ولدهشته قال له المدير: إن الذي فصلك سجين الآن لأنه ضبط يسرق.. وقد تقرر أن تحل محله رغم أنك أصغر جميع موظفي المتجر سنًا!! ورد الله سبي الشاب الذي آثر أن يسير مع الله رغم قسوة التجارب العاصفة التي أحاطت به.. إن أعظم من اعتني بهم الله كانوا من أولئك الذين ساروا معه بأمانة في الطريق. ومن المحقق أن يوسف ويفتاح ودانيال والثلاثة فتية وغيرهم وغيرهم ما كانت لتختص بهم عناية الله العجيبة بالصورة العظيمة المدونة في كتاب الله لو لم يكونوا أمناء مع الله وملتصقين به وممسكين بجوده ومحبته ونعمته وشركته وعنايته!!..

ثانيًا: الانتظار والصلاة. ومع أن عناية الله تأتي فضلا ومن غير مقابل أي ثمن، إذ هي كما سلف القول في العناية العامة، الشمس والمطر وما أشبه، وفي العناية الخاصة والأخص تأتي من جود الله الكريم.. إلا أن الانتظار والصلاة والإيمان ضرورية في الكثير من ألوانها المتعددة، فالله لم يظهر عنايته لشعبه القديم إلا عندما صرخوا وصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية.. ولم ينقذ الله أورشليم من قبضة سنحاريب إلا بعد صلاة حزقيا.. ولم ينج بطرس من السجن بالكيفية المعجزية إلا بعد أن صارت من الكنيسة صلاة بلجاجة إلى الله من أجله.. إن عناية الله وإن كانت جاهزة على الدوام إلا أن الله يسر كثيرًا أن يسمعنا ونحن نسأل ونطلب ونقرع من أجلها..

ثالثًا: الشكر وعدم التذمر. إذ من واجب الإنسان أن يشكر على العناية مهما يكن لونها، فأيا كان موقفنا منها في النور أو في الظلال، في الراحة أو في التعب، في القوة أو في الضعف، فمن الواجب أن نتقبل كل شيء بالشكر والحمد والتعبد والإجلال لله!! بل من الواجب أن نمجد الله حتى في أسوأ الظروف التي يمكن أن نكون عليها..

أصيب شاب بالشلل وقضى في الفراش خمس سنوات، ولكنه لم يشك أو يتذمر بل كان يعمل وهو في فراشه في إصلاح الساعات والراديو، وكان يبعث بعشوره إلى الكنيسة ولم يستطع المرض أن يقضي على يقينه برحمة الله ونعمته!!.. وقضى آخر خمسة عشر عامًا في الفراش، وكان قبل ذلك أستاذًا ومعلمًا في إحدى الجامعات وكان يدرس مادة الصحافة، وإذ سقط في الفراش، آلى على نفسه أن يكون صديقًا ومعينًا للعاثرين والمنكوبين والفاشلين، وكان الداخل إلى غرفته يرى ابتسامة السماء المنطلقة من شقتيه.. ما أكثر ما نحتاج إلى روح الشكر حتى يمكن أن نتمتع بل نستمتع بعناية الله العظيمة الشاملة لجميع ظروفنا وحياتنا على هذه الأرض.

وهل نقصر بعد هذا كله أن نقول:” 12مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي.”(أي10: 12). “19مَا أَعْظَمَ جُودَكَ الَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ تُجَاهَ بَنِي الْبَشَرِ. 20تَسْتُرُهُمْ بِسِتْرِ وَجْهِكَ مِنْ مَكَايِدِ النَّاسِ. تُخْفِيهِمْ فِي مَظَلَّةٍ مِنْ مُخَاصَمَةِ الأَلْسُنِ. 21مُبَارَكٌ الرَّبُّ لأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ عَجَباً رَحْمَتَهُ لِي فِي مَدِينَةٍ مُحَصَّنَةٍ. 22وَأَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: [إِنِّي قَدِ انْقَطَعْتُ مِنْ قُدَّامِ عَيْنَيْكَ]. وَلَكِنَّكَ سَمِعْتَ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ صَرَخْتُ إِلَيْكَ. 23أَحِبُّوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَتْقِيَائِهِ. الرَّبُّ حَافِظُ الأَمَانَةِ وَمُجَازٍ بِكَِثْرَةٍ الْعَامِلَ بِالْكِبْرِيَاءِ. 24لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ يَا جَمِيعَ الْمُنْتَظِرِينَ الرَّبَّ.”(مز31: 19-24)!!

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى