إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 09 | إيماني بكتاب الله

في الواقع إن هذا الكتاب يبدو فريدا لا بالنظر إلى الزمان الذي كتب فيه، إذ كتب في أكثر من إلف وخمسمائة عام، ولا للكتاب المتعددين الذين اشتركوا في كتاباته في هذه الحقبة الطويلة من الزمان.. بل لأنه أولا وأخيرا ليس كتاب إنسان بل كتاب الله، ودور الإنسان فيه، على عظمته وجلاله، ليس هو الدور الرئيسي الهام، بل هو دور الله المهم والموحى والضابط والحائط الموجه. ومن ثم جاءت إسفاره المختلف المتعددة في وحدة متماسكة متناسقة منظمة!!. كما انه الكتاب الذي يعالج اخطر قضية في حياة الإنسان، ونعني به قضية وجوده ورسالته ومصيره.. ومن ثم تعين أن نقف من هذا الكتاب، وقفات متعددة لترى الحاجة إليه، وهدفه، ووحيه، وسلطانه، وتأثيره العجيب، واستعماله الصائب!!. وستكشف بعد هذا كله انه المنجم الفياض بالكنوز التي لا تقدر بثمن!!

الكتاب المقدس والحاجة إليه

ولعل أول سؤال يواجه الذهن البشري هو: هل نحن في حاجة إلى هذا الكتاب؟ وهل هو ضرورة حتمية له؟  وهل يمكن أن نجد عنه عوضا أو بديلا؟ أم ما يزال هو الكتاب الجوهري الهام الذي لا يوجد ما يحل محله أو يأخذ مكانه على الإطلاق؟ في الواقع إن الإجابة على هذا كله تقتضي بادئ ذي بدء، أن نتأمل الأنوار أو المصابيح التي كانوا البشر يستضيئون بها، وهم في سيرهم في مواكبهم على هذه الأرض ؟ وهل كانت هذه كافية  لهم، أو ما تزال، في إضاءة الطريق المجهول الذين يندفعون فيه، وهم في سبيلهم المجهد المضني الممتلئ بالإخطار والمتاعب والمآسي إلى المصير الأبدي المحتوم.. إن للإنسان كما هو معلوم دينا طبيعيا – إن صح  هذا التعبير- يأتيه من ينابيع أربعة أساسية : أولها الطبيعة التي تكشف عن مجد الله وتتحدث بقدرته العظيمة السرمدية، إذ السموات تحدث نمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، كما تتحدث في الوقت نفسه بصغر الإنسان وتفاهته إزاء مجد الخالق السرمدي!!. كما تفصح عن وجوده وعنايته وحنانه ومحبته- كما اشرنا إلى ذلك سالفا-  كما أن الينبوع الثاني هو التاريخ الذي يسجل عظم الحوادث وتسلسلها ومصرع الشر ونهايته، أخر الأمر طال الزمان به أو قصر، مما يقوي الوازع العظيم بفكرة الخالق وارتفاع الحق ومجد الفضيلة في أعماق النفس البشرية!! إما الينبوع الثالث فهو العلم الذي إذ يزداد توغلا في فهم الإسرار المختلفة الممتدة في الكون والوجود إنما يكشف في الوقت نفسه عن عظمة ومجد العلة الأولى لكل شيء!!. وهناك الينبوع الرابع الذي هو الوجدان أو الضمير البشري يتحدث في رجل الأدغال كما يتحدث فيمن يدعون اعلي الطبقات البشرية، وأكثرها حظا من المدنية والنور والمعرفة والحضارة.. هذه هي الينابيع المروية للدين الطبيعي في حياة  البشر. وقد ترتفع بالإنسان مرات كثيرة، وتبلغ مراحل ممتازة وضيئة في الفهم والإدراك والمعرفة والنور. ولكن السؤال الهام هو: هل تكفي أو تغني هذه المعرفة الآتية من الوحي أو الإعلان..لقد وجدت في التاريخ أقوال مأثورة فاه بها أناس لم يصل الكتاب إلى علمهم أو يدر بخلدهم، ومع ذلك فهي مستقاة ولا شك من هذا النور الطبيعي الذي ينير حياة كل إنسان على هذه الأرض.. والتاريخ القديم في الشرق أو الغرب على حد سواء يشهد على ذلك، الم يقل مكسيموس تيريوس الفيلسوف الأفلاطوني : “أن ارتكاب الشر طواعية هو موضوع كراهيتنا!!؟ ” كما إن ابيكتيتوس الفيلسوف الرواقي، والذي كان يؤمن إن الإنسان يحمل في نفسه وازعا أكيدا من المسئولية قال: “ومن ذا الذي يأتي إلى العالم ويحمل في نفسه فكرا فطريا عن الخير والشر، والملائم وغير الملائم، والسعادة والشقاء، والصائب وغير الصائب، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يعمل؟”. وقد صرح أرسطو الفيلسوف اليوناني الأشهر بالقول: “إن الإنسان الطيب والذي يعيش منصاعا لمبادئ الشرف، غنما يطيع في الواقع العقل، أما الرجل الرديء فهو ذالك الذي يتبع شهواته ويروض بالألم كالوحش!!؟ ولخص بلوتارك واجبات الناس تلخيصا دقيقا ملحوظا في القول: ” ينبغي أن نعبد الآلهة، ونكرم أبائنا، ونحترم شيوخنا، ونطيع قوانين، ونقدم من هم اعلي منا، ونحب أصدقاءنا”. وليس اقل من هذه كلها ما جاء في كتابات الفلاسفة والكتاب الآخرين أمثال سقراط وأفلاطون وستانيوس وسينكا وشيشرون وغيرهم من فلاسفة اليونان أو الرومان الأقدمين.. فإذا اتجهنا صوب الشرق سمعنا كونفوشيوس الصيني يقول: ” إن من قلبا بارا، ويتمنى الخير للآخرين كما يتمناه لنفسه، ولا يهمل واجب الناموس الأدبي المطبوع في الناس بواسطة طبيعتهم العقلية، لا يعمل مع الآخرين ما لا يرغب أن يعمله معه”.. كما نجد الأمر عينه في الأشتات المتناثرة هنا وهناك، في الديانات المصرية والبابلية والهندوسية والأشورية القديمة..ولكن السؤال مع ذلك يبقى منتصبا وقائما أمام الذهن أو الفكر البشري وهل تغني هذه كلها عن الوحي أو الإعلان الأتي من السماء؟…

من الواضح إن المعرفة الناهضة من هذا الدين الطبيعي مهما سمت وامتدت وعلت، لا يمكن أن تنير الطريق بوضوح وجلاء أمام الإنسان، إذ هي أشبه الأشياء في أبهى لمعانها ووهجها وضوئها المتناثر في الليل، والتي لا يمكن أن تغني عن وضوح النهار ونور الشمس، وفي ذلك يقول  دكتور هـ. جراتان جوينيس في كتابه “الخليقة تتركز في المسيح” عن الفلسفة والطبيعة وعلاقتها بالنفس البشرية ما يلي: “الفلسفة.. وماذا تعلم إلا إن الإنسان لا يعلم شيء عن الأمور التي يتعين عليه أن يعرفها حقا؟.. هذا هو اكتشافها الأعظم، إنها تضيء شمعتها الواهنة المستدقة الطرف، وترفعها إلى اعلي لترى.. كونا غارقا في الظلام المدلهم، إنها تقرع بضرباتها المنظمة الرتيبة أعماق الجهل البشري!! وتضعنا بمجهود مضن، ولكن في مستوى اعلي في وسط الأشياء التي نشتغل بها.. وعبثا نسألها عن “ماذا” و “من أين ” و “إلى أين” إذ وحيها أصم!! وعندما نتحول في يأسنا القانط من معرفة الحق والعزاء والقداسة والحياة عن طريق الذكاء الإنساني الخائب، إلى مظهر الطبيعة الجليل، ونرفع أيدينا في فضاء الكون الشاسع غير المحصور ونسال، من يعطينا النجاة؟!!؟ نجد الجواب الوحيد إن كان هناك ثمة جواب، في صمت النجوم الأبدي المرتفع فوقنا، وفي سكون القبر الدائم الرابض تحتنا “. على أن الأمر أكثر من ذلك إلى حد بعيد. إذ ليس يكفي أن يعرف المرء الفرق بين الخير والشر، والحق والباطل، والمقبول وغير المقبول، بل يلزم آن يعرف كيف يختار الخير والحق والمقبول، ويرفض ما دونها في كل المجالات والأوقات والأزمنة!!  وهنا يعجز الدين الطبيعي في ذروته وقمته عن التحقيق العملي لما ينشده الإنسان في هذا السبيل، انه لا يستطيع أن يصلح في كل محاولاته ومجهودا ته الطبيعية الخربة المتصدعة المنهدمة في الإنسان. وقد صدق من قال أن الإصحاحات السبعة الأولى من رسالة رومية تكشف إلى ابعد حد عن الحقيقة الصادقة للإنسان الطبيعي، وعجزه الكامل الشامل عن تحقيق إي صلاح أو سمو أو كمال، إذ صرخته الدائمة: “15لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.. 18فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. 19لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. 24وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟ (رو7: 15و 18و 19و 24).. فإذا أضيف إلى هذا كله ذلك اللغز الرهيب المحير الذي يحيط بالحياة البشرية ويحف بها، بل ويثخنها بالجراح المروعة القاسية، ونعني به لغز الألم، وسألنا هل من طبيب أو علاج أو بلسان ؟. لوجدنا الجواب المتردي في هاوية الشقاء: أن لا سبيل إلى ذلك في الدين الطبيعي وفي استعداد الإنسان وقوته الشخصية!. وكل فلسفة الرواقيين تجاه الألم: أن احتمل وامتنع عن التذمر!. وفلسفة بوذا أن اصبر فان هذا هو القاسم المشترك الأعظم بين الناس، وفلسفة كونفوشيوس المشاركة في إلام الآخرين بالإحساس والدموع، لعل في ذلك نوعا من المساهمة والتعزية.. إزاء هذا كله كانت الحاجة والضرورة إلى كتاب الله، أمرا لا مناص منه، ولا سبيل إلى الاستغناء عنه، أو التغيير أو التبديل أو التحوير فيه.

الكتاب المقدس وهدفه

أما وقد أدركنا الحاجة إلى هذا الكتاب، تعين علينا أن تتبين في المعنى الأدق، هدفه وغايته والرسالة التي عليه أن يقدمها للجميع الناس، وكل كتاب وتبدو قيمته، كما هو معلوم من الغاية والهدف أو القصد الذي وضعه الكاتب  أو المؤلف نصب عينيه، وهو يعده ويخرجه للناس ؟ فما هو هدف هذا الكتاب الإلهي العظيم!؟ الذي لا شك فيه، أن الله لم يقصد أن يجعل من هذا الكتاب نوعا من الكتب الأخرى التي تعالج هذا الموضوع أو ذاك من التاريخ أو الجغرافيا أو الطبيعة أو الفلسفة أو الاجتماع أو ما أشبه، وان كانت قد جاءت هذه كلها أو غيرها في ثناياه، إذ لا يمكن أن يكون بهذا المعنى هو الكتاب الوحيد الفريد الموحى به من الله، إذا كانت هذه كلها أو بعضها هي الهدف النهائي أو الغاية الرئيسية  من وجوده في هذا التاريخ أو الأجيال.. فإذا قيل بعد هذا لماذا لم يشرح موسى بأكثر إفاضة عن قصة الخلق كما يحدثنا عنها الجيولوجيون!؟ لأجبنا : لان الكتاب لم يكن في يوم من الأيام كتابا في علم الجيولوجيا أو التاريخ الطبيعي، وان كان موسى في الوقت عينه قد كشف عن الخطوط والمبادئ الأساسية في الجيولوجيا، وهو يحدثنا عن الخليقة كما اشرنا إلى ذلك في (صفحة 218) وإذا قيل بان العلماء الذين يدركون مكانة التاريخ السياسي بين الناس ما يزالون إلى اليوم ينتحبون لضياع أكثر من سبعين بالمائة من مؤلفات ليفي التاريخية، وثمانين في المائة من مؤلفات تاسينوس ويوربيوس، والجزء الأكبر من كتابات سوفوكليس، وإنهم يحيون على الدوام كل مكتشف أو بحث يلقي النور على زوايا ومنعطفات التاريخ المجهولة، فلماذا لا يهتم الكتاب المقدس بعرض التواريخ المتعددة لشعوب العالم  لأجبنا لان الكتاب لم ينشا في الأصل ليكون كتاب تاريخ، وان كان هو الكتاب الوحيد الذي كتب في أكثر من إلف وخمسمائة من الأعوام، وجمع تاريخا مركز للبشرية من أدام إلى يوم المسيح.. وإذا كان السؤال لماذا لا تنهض من الكتاب هذه المتعة والرنين السحري الأتي من الشعر والأدب والفن والفلسفة ؟. لقلنا لان الكتاب لم يكن هدفه الأول هو التيجان الشعري، أو الرنين الموسيقي أو المتعة الفلسفية، وان وضح كما يقول بروفسوفيلبس : “أن الشعر الوجداني العبراني كان في عصره الذهبي قبل أن يولد هوراس الشاعر اللاتيني بألف عام على الأقل، كما أن دبورة غنت أغنيتها قبل ميلاد سافو بخمسمائة عام أيضا، كما أن أمثال سليمان كانت معروفة قبل لمؤلفات سنيكا بثمانمائة عام تقريبا”. أن رسالة الكتاب كانت شيئا اعلي وأعظم من كل هذه الاتجاهات التي عرفها الإنسان وشغف بها في تاريخه الطويل على الأرض. أن هدف الكتاب كان في كلمة واحدة: هو خلاص الإنسان نفسه، وصنع طبيعته المحطمة من جديد.. فإذا وضعنا هذه الحقيقة نصب أعيننا أمكننا أن نفهمه ونفسره وندرك مكنونات حقائقه ومرمى اتجاهاته، ولعل هذا التعميم يحتاج إلى شيء من التفصيل.

يقول بنيامين كيد الباحث والفيلسوف الاجتماعي العظيم : أن أهم عامل في حياة إي امة على الأرض ليس هو العامل التجاري أو الاجتماعي أو الفكري بل هو العامل الأدبي والروحي فيها، فحاجة الناس الأولى والقصوى قبل المعيشة والتمدين والتعليم هي إصلاح الخلل والعطب في طبيعتهم الروحية، أو في لغة أخرى حاجتهم الأولى والأساسية إلى ما يدعوه كتاب الله “بالخلاص”  وليس على الأرض كلها من مرشد ودليل إلى هذا الخلاص إلا الكتاب المقدس. الم يقل الرسول: “15وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. 16كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، 17لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ.” (1تي3:  15-17). فإذا كان العهد القديم قد تحدث عن الخطية والسقوط والذبائح الدموية، فما هذه كلها إلا تمهيدا ورمزا أو إعلانا لما جاء في العهد الجديد، عن حمل الله الذي يرفع خطية العالم، ومن هنا أدركنا كيف كان المسيح في العهدين هو الإلف والياء، البداية والنهاية، إذ هو في العهد القديم المرموز إليه في الكثير من الصور والفرائض والطقوس وألوان العبادة، وهو في العهد  الجديد الحقيقة الكبرى التي أكملت أتمت جميع هذه الرموز على الوجه المطلق الكامل الحاسم النهائي، ومن ثم جاء الإيمان المسيحي مرتبطا ومقترنا بهذه كلها..وحقا قد وصف احدهم هذا الإيمان بالقول: ” أن الإيمان المسيحي هو الإيمان بالكتاب المقدس، الأمر الذي يربط جميع الكنائس على وجه الإطلاق في العالم من الكنائس الكاثوليكية إلى “الكويكرز”  ومن لوثر إلى الكاردينال نيومان، وفي كل عصور التطورات والتغيرات المختلفة في الكنيسة المسيحية، بقي الكتاب كما هو، المصدر والأساس الذي تستقي منه الكنيسة كل قواعدها للتحديد، وخلال التسعة عشر قرنا التي مرت بالكنيسة جاءت أوقات وأزمان أصيب فيها بإمراض قاتلة حتى أن فولتير تنبأ بالنهاية القريبة لكتاب الله، ولكن المعروف انه من ذات البيت الذي صدرت منه هذه النبرة يوجد في الحاضر جمعية التوراة البريطانية  التي توزع ملايين النسخ من الكتاب المقدس في إرجاء العالم كل عام،انه الكتاب الذي جعل من الكنيسة مرات ومرات شابة وصحيحة، وحقا لا يمكن أن يوجد الكتاب المقدس بدون كنيسة، ولكن العكس صحيح أيضا، إذ لا يمكن أن توجد الكنيسة من دون الكتاب المقدس، فالمسيحية من دون الكتاب كان من الممكن أن تكون من زمن بعيد صورة هزيلة شوهاء. وعندما نقول أن الإيمان المسيحي هو الإيمان بيسوع المسيح فإننا نقصد ضمنا انه هو الإيمان بالكتاب المقدس، فحيث لا كتاب مقدس لا مسيح، وحيث لا يوجد كتاب مقدس لا توجد كلمة الله”.ولعل هذا ابلغ وأدق تعيين لهدف الكتاب المقدس.

الكتاب المقدس وقانونيته

وكلمة قانون بالنسبة للكتاب المقدس مأخوذة من كلمة يونانية معناها “مسطرة” أو “قصبة” أو “عصا مستقيمة” وقد استعملت في فجر المسيحية، بمعنى قياس الرأي المستقيم وأخذت بمعنى بيان الإسفار التي قبلتها الكنيسة المسيحية واعتبرتها أجزاء الكتاب المقدس”.. وقد استلمت الكنيسة المسيحية من اليهود أسفار العهد القديم التي قرر اليهود في مجمع “يمينة” عام 90م قانونيتها. ولابد من الإشارة هنا لماذا رفضت الكنيسة البروتستانتية ما يطق عليه إسفار “الابوكريفا ” وأبعدتها عن الدرج في قانون الوحي المقدس، فنقول أن الابوكريفا لم تضف على إطلاقا إلى النص العبراني للكتاب المقدس في العهد القديم، ولكنها أضيفت إلى الترجمة السبعينية اليونانية.. وبعض الإباء الأوائل قد استعملها ككتب أدبية دينية. ولكنها لا يمكن أن تكون كتبا مقدسة موحى بها من الله، وعندما زار ملتو الساردي عام 170م ارض فلسطين رجع يقول أن النص العبراني وحده هو الذي يعتبر وحيا مقدسا، وقد رفضت الكنيسة الشرقية بوضوح درج هذه الإسفار في الكتب المقدسة، فاثناسيوس وكيرل الأورشليمي وغريغوري النازينزي وابفانيوس أخرجوها من الإسفار المقدسة، وان كان اثناسيوس قد ذكر انه لا يمانع من استعمالها ككتب دينية تعليمية. بينما رفض كيرل الأورشليمي حتى مجرد  استعمالها ككتب خاصة، ولم يمانع الذهبي الفم، وثيودور ويوحنا الدمشقي من أخذها ككتب مفيدة للحياة الدينية، دون أن يكون لها أدنى اثر في العقيدة المسيحية، إذ لا تدرج عندهم في الكتب المقدسة… وفي الكنيسة الغربية ذكر جيروم أن كل ما خرج عن النص العبراني يعتبر من الابوكريفا ولا يجوز اعتباره قانونيا.. وأيا كان الاتجاه الضيق أو الواسع الذي عوملت به الابوكريفا في فجر التاريخ المسيحي، فان النص العبراني للعهد القديم الموجود عند اليهود  المسيحيين يقطع بسلامة الكتاب من كل تحريف، لأنه نص واحد بين يدي جماعتين عاشتا على خلاف فكري وعقائدي مدى إلفي عام في التاريخ المسيحي.

فإذا أضيف إلى هذا اكتشاف “مخطوطات وادي قمران ” في الشمال الغربي للبحر الميت بفلسطين، الاكتشاف الذي هز العالم كله، وأمدنا بأقدم نسخ عرفت حتى اليوم للعهد القديم وترجع إلى القرن الأول قبل المسيح.. كانت أقدم مخطوطة عبرانية للعهد القديم قبل ذلك ترجع إلى سنة 916 م، غير أن احد الرعاة العرب دخل عام 1947م إلى مغارة وادي قمران، وعثر على مخطوطات قديمة، ما أن عرضت على البحث العلمي، حتى أثارت أبحاث العلماء في المنطقة كلها، ومن العام 1947 إلى العام 1953م عثر في إحدى عشر مغارة على مكتبة دينية كاملة وعثر على أقدم مخطوطات للعهد القديم ترجع إلى أكثر من  إلفي عام، وقوة الشهادة العلمية لهذه المخطوطات اقوي واعلي من كل مناقشة ومجادلة.

وما أن انتهى القرن المسيحي الأول حتى كانت جميع إسفار العهد الجديد، قد أصبحت بين يدي المسيحيين، ولعل الرسول بطرس هو أول من أشار إلى مركز هذه الإسفار وقانونيتها عندما أشار في رسالته الثانية إلى كتابات بولس، وقد ساوى اغناطيوس بين الإنجيل والأنبياء، وفي عام 115م قارن بوليكاربوس بين المزامير ورسالة افسس بكيفية تؤكد انه يعتبر الاثنين في مركز واحد من الوحي المقدس. وقد ذكر اكليمندص السكندري أن الله أعطى شعبه الجديد “العهد الجديد” واقتبس ايرانيوس عن بولس الرسول مائتين وستة اقتباسات كسند كتابي موحى به، واستعمل تعبير العهد الجديد لأسفار الإنجيل، بذات المعنى الذي استعمل فيه لفظ العهد القديم للتوراة اليهودية، ومن الغريب أن أقدم من ذكر أسفار الإنجيل بالصورة التي بين أيدينا كان مارسيون الاسفوبي الذي عاش على البحر الأسود  عام 144م، وكان ماسيون مفتونا بالإنجيل، إلا أن الكنيسة رفضته، لأنه كان يميل إلى الغنوسية، ويحتقر العهد القديم.. ولكن شهادته التاريخية. شهادة إنسان تحول عدوا للمسيحية، والحق ما شهد به الأعداء.. أما اثناسيوس فقد كان أول من وضع التقويم الرسمي لأسفار العهد الجديد من بين آباء الكنيسة الأوائل.

وما دمنا بصدد التاريخ، فمن اللازم أن نشير إلى الكتاب المقدس غير قابل للتحريف بالدليل المادي الملموس، إذ أن هناك أربعمائة مخطوطة قديمة في شتى أنحاء العالم لا يتسع المجال للحديث عنها، وسنكتفي بالإشارة، إلى أشهرها “1” المخطوطة السينائية التي وجدها العالم الألماني تشندروف في دير القديسة كاترين في سيناء وترجع إلى القرن الرابع الميلادي، وتشمل العهدين القديم والجديد معا، وقد أهديت هذه المخطوطة إلى القيصر نيقولا الثاني إمبراطور روسيا الذي أمر بطبعها ونشرها عام 1862م ثم بيعت بعد ذلك للمتحف البريطاني حيث توجد فيه حاليا.. “2” المخطوطة الفاتيكانية وترجع إلى القرن الرابع الميلادي وهي موجودة ألان في الفاتيكان “3” المخطوطة السكندرية وقد كتبت في القرن الخامس الميلادي، وقد بقيت في حوزة بطاركة الإسكندرية حتى أهديت عام 1628 إلى تشارلس الأول ملك انجلترا “4” مخطوطة افرام ريسكنس الآتية إلينا من أوائل القرن الخامس والتي استخدمها افرام السرياني في ترجمة الكتاب “5” مخطوطة بيزا والآتية أيضا من القرن الخامس والتي ورد فيها النص اليوناني على الشمال والنص اللاتيني على اليمين “6” مخطوطة يوسالينوس والتي تحمل طابع القرن السادس، هذه المخطوطات وغيرها من المخطوطات التي جاءت في اللغة اليونانية بعد ذلك، وكلها تشير إلى أصالة وصدق الكتاب المقدس من الوجهة التاريخية.

وقد كان اليهود الذين نسخوا الكتاب المقدس من أدق الناس على ظهر الأرض في الحفاظ على نصه وقد قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي : “أن لدينا البرهان على احترامنا لكتبنا المقدسة فمع انه قد مضت أزمنة طويلة إلا أن احدهم لم يجرؤ أن يضيف أو يمحو أو يغير، جزءا من إي كلمة فيها، وإنها غريزة عند كل يهودي من مولده، أن يعتبرها قوانين الله التي يمسك بها، وإذا لزم أن يموت بفرح من اجلها، والزمن يشهد ألان، ومن قبل، على منظر المسجونين الذين تحملوا العذاب والموت من كل نوع، على أن يقولوا كلمة ضد النواميس والوثائق المماثلة “… وكان التلمود يقرر أن كل من ينكر على التوراة مصدرها يعتبر مرتدا لا يمكن أن يرث السماء في الدهر الأتي والحياة الأبدية، كما أن اليهود أكثر من ذلك كانوا يؤمنون بان هناك ثلاثة أشياء لها قدسيتها الخاصة عندهم وهي الهيكل، والسبت، والتوراة.

فإذا انتهينا إلى الفكر المسيحي رأينا أمعن وأدق من اليهود في الإجلال والاحترام لكلمة الله ونصها، وهناك أمثلة غير قليلة في هذا الشأن، فإذا كان جيروم وهو يريد أن يترجم النص العبراني، إلى الترجمة اللاتينية المعروفة بالفولجاتا يعيش في مغارة في بيت لحم لمدة خمسة وثلاثين عاما ما بين 386- 420 ميلادية ليقوم بهذا العمل العظيم.. وإذا كان بعض النساخ الذين توافروا على نسخ الكتاب المقدس، قيل أن بعضهم قضى عمره بأكمله لإتمام نسخة واحدة حتى تكون على أروع ما تقع عليه العين جمالا وخطا.. فإذا اخذ من مخطوطة غارقة في القدم، وجاء أمام حرف بلت بعض أطرافه، كان عليه أن يرسمه كما هو، وربما يشير في الهامش إلى احتمال حرف أخر، دون أن يحمل نفسه اجتهادا أو تفسيرا خاصا!!

ومن الثابت على إي حال أن المسيحيين الأوائل، في اختلافهم حول تفسير النصوص الكتابية، لم ينازع واحد منهم قط، في أصل النص الكتابي أو صحته أو قانونيته، مما يبين معه أن قانونية الكتاب، ارتفعت فوق كل نقاش أو جدال أو نزاع.. وهذا ما ثبت  في مجمع نيقية والمجامع التالية اللاحقة له.

الكتاب المقدس ووحيه

أما وقد تبينا قانونية الكتاب، تعين علينا أن نتحول إلى قضية من أعمق وأخصب القضايا الدينية، ونعني بها “وحي الكتاب المقدس” وما مدلول العبارة “موحى به من الله” والى مدى تسير، والى إي اتجاه تبلغ، ولعلنا نستطيع الوصول إلى هذا كله متى أدركنا الحقائق الثابتة الآتية:

1- الفكر اللغوي عن الكتاب

يقول الرسول بولس: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، 17لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ. “(2تي 3: 16و 17) ويقول الرسول بطرس : “19وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، 20عَالِمِينَ هَذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ، 21لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. (2بط1: 19-21) والكلمة “موحى به” في الأصل اليوناني تعني “نسمة أو نفخة أو نفس” وسواء كانت الصفة في الأصل كما يعتقد اللغويان المشهوران ايوالد وكريمر أو كانت ساكنة كما يصر وورفيلد ؛ فان الله نفخ في الإنسان بالكتاب المقدس، أو ساق أناس الله القديسين بروحه الذي سيطر عليهم وحركهم ودفعهم دفعا لكتابة الوحي الإلهي، وهنا يثور السؤال البديهي، وما نصيب الله، ونصيب الإنسان في هذا الكتاب؟!!؟ والى إي مدى عملت نفخة الله أو نسمته في هذا الإنسان عندما أوحي إليه بالكتاب المقدس!!؟

من المهم أن نشير هنا إلى الأصل في هذا الكتاب، هو الله لا الإنسان، ولأجل ذلك دعي كتاب الله، وان الله كان متحركا ونشطا ومسيطرا تمام السيطرة على الكنيسة الموحى إليهم به، وهو يقدم كتابه للإنسان في كل عصور التاريخ المسيحي، ولهذا لا يتعجب ايرانيوس، لما قد يوجد فيه في كثير من الأحايين، ما قد يعلو على الفهم، إذ انه “في كماله روحي”. كما أن غريغوري النيسي كان يؤمن أن عقيدة بولس في الكتاب، انه بكامله من عمل الروح القدس، واوريجانوس وغريغوري النازينزي كانا يؤمنان بتدخل روح الله في اصغر الألفاظ الكتابية، إلى درجة أن اوريجانوس كان يصرح بأنه لا يوجد مقطع واحد في الكتاب، لم تكتب دون أن تؤدي الغرض المقصود فيها، وقد سار جيروم في ذات الاتجاه إلى درجة انه قال انه لا توجد عبارة واحدة، أو كلمة أو مقطع من غير معنى، والذهبي الفم امن بأهمية الأرقام والأسماء الواردة في الكتاب إلى درجة انه وعظ مرتين على الأسماء الواردة في رومية الإصحاح السادس عشر يقنع سامعيه بخزائن الحكمة في كل كلمة من كتاب الله.

وغير خاف أن فيلو السكندري كان يعتقد أن روح الله عندما كان يستولي على الأنبياء كان يفقدهم وعيهم إلى درجة لا يعلمون معها ما يتكلمون بل كان الله يتكلم على لسانهم، وقد سار في ذات النهج من الوجهة المسيحية لثيناجوراس المدافع المسيحي، إذ اعتقد بان الأنبياء عند النبوة يصيبهم نوع من النشوة، فيرون أنفسهم يرددون الوحي كما ينفخ الموسيقي في المزمار، على أن الرأي الواضح في الفكر المسيحي،  لا يتجه هذا الاتجاه عللا الإطلاق إلا في حالة واحدة، وذلك عندما يدخل الأمر في نطاق الإعلان عن أمور مستقبلة مجهولة ليس في قدرة الإنسان أو علمه أو وقته أو زمنه التنبؤ بها أو الكشف أو الإعلان عنها، وعندئذ لا مناص في هذه الحالة وفي هذه الحالة وحدها، من أن يكون الوحي إليه أشبه بالآلة التي لا تملك إلا أن تسجل وتلتقط ما يذاع أو يقال لها، ومن هذا القبيل نبوات الأنبياء الذين تنبؤا عن أحداث أو أشخاص، جاءت أو تجيء بعدهم بمئات أو ألاف السنين، أو حتى أولئك الذين نطق الله على لسانهم، بما لم يكونوا يرغبون أو يدرون كبلعام بن بعور أو قيافا أو أشياء عظيمة متصلة بالمسيح!!..

والمسيحية في غير هذه الجزئية المحددة لا ترى كتاب الوحي مجرد آلات صماء ساكنة جامدة تسجل ما يذكره الله، بل هم على العكس أناس مختلف المواهب والملكات والوزنان، وقد دفعهم الله وحركهم وساقهم ونفخ بروحه القدوس فأشعل ما فيهم من مواهب أو وزنات واستغل جميع ما لهم من  ملكات أو إمكانيات وقد صور وورفيلد العلاقة الإلهية البشرية في الكتاب بذلك الضوء الذي نفذ خلال زجاج الكاتدرائيات الملون، والذي وان كان في حد ذاته نورا علويا يأتي من الشمس،  إلا انه يحمل معه لون الزجاج عندما ينفذ خلال النوافذ إلى داخل الكاتدرائية، على أن الكاتب لم ينس أن يتحفظ في القول لئلا يكون في لون الزجاج كأنما ينكرون على الله – عند تطبيق الأمر على الوحي الإلهي – قدرته الإلهية على تجهيز وحماية وصيانة هؤلاء الكتاب، ليؤدوا رسالتهم على الوجه الدقيق المصون والمعين والمرتب من قبل الله”..

أن نسمة الله في الوحي ونفخته تعني في الواقع تلك العناية الإلهية الدافعة والحافظة، والعاصمة، والمنقية، والمحددة لما يكتب، بل تعني مرات كثيرة صيانة التذكر، فيذكر الكاتب ما يريده الله أن يكتب، وتعني في الوقت عينه صيانة الترك فيما لا يرغب الله أن يذكر أو يكتب.. كما نعني صيانة التفصيل فيما يريد أن يكتب مفصلا، أو صيانة الإجمال فيما يكتب مجملا دون أن يتعارض مع إي تفصيل علمي أو غير علمي يمكن أن يلحق به مع الأيام”..

وخلاصة الأمر بعد هذا كله، أن الوحي الإلهي ذو عنصرين،عنصر الهي، وعنصر سماوي، فإذا جاز أن نصوره كما صوره الإباء الأولون، كنفخ في مزمار أو إيقاع على وتر معين، فان كل مزمار أو وتر يصدر الإلحان أو الأنغام حسب حجمه وسمكه وصنعه بصورة تختلف عما يصدره مزمار أخر أو وتر أخر.. وإذا رأينا كما إلف التاريخ المسيحي بعد ذلك أن يراه قدرات معينة في الإنسان يسيطر الله عليها، ويعصمها من الزلل والخطأ، فتكتب ما يشاء الله وما يريد، حتى تأتي الحكمة السوية والغاية المنشودة من كتاب الله الموحى به لهداية الإنسان في الأرض!!…

2- الفكر العلمي عن الكتاب

 فإذا كان الأمر في المعنى اللغوي الدقيق على ما سلفت الإشارة إليه، فكيف تقبل الناس أو يقبلون هذا الكتاب على مر الأجيال والعصور، وعلى اختلافهم في الأفكار والمشاعر والعقائد!!..

من الواضح بادئ ذي بدء أن المسيح والرسل والتلاميذ قبلوه جميعا بدون تحفظ، ولعل الكنيسة المسيحية في مسارها التقليدي مدى إلفي عام ترى في هذه الحقيقة حجتها الكبرى في قبول الوحي الإلهي دون أدنى تحفظ، فإذا كان المسيح قد استند إلى الكتاب، وكرر قول المكتوب، وأكد انه “إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (مت5 :18) مما يبين مدى رأيه وعقيدته في الوحي الإلهي المنسوب إلى هذا الكتاب، وإذا كان الرسول بولس يقول: ” كل الكتاب هو موحى به من الله ” (2تي3 :16) والكلمة كل تفيد الكتاب بجملته وتفصيلا في شتي محتوياته ومشتملاته ونواحيه.. وإذا كان الرسول بطرس يقول: “عالمين أولا أن كل نبوءة الكتاب ليست من تفسير خاص لأنه لم تأتي نبوة قط بمشيئة إنسان” (2بط 1: 19-20) مما يفيد يقينه بمصدر كل نبوة إلهية، وإذا كان يوحنا الرسول في ختام سفر الرؤيا يقول : ” أَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هَذَا يَزِيدُ اللهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. 19وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ يَحْذِفُ اللهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. “(رؤ22: 18 -19).. أو في معنى أخر انه يختتم على صحة وصدق العهدين القديم والجديد، فإذا كان السيد والتلاميذ قد قبلوا الكتاب بهذا المعنى، فلا عجب أن تقبله العصور اللاحقة لفظا ومعنى بما اشرنا إليه سابقا في أقوال القديسين القدامى.

ولعله من المثير والعجيب معا أن هذا الكتاب قد زاد تألقا ومجدا، وما يزال إلى اليوم، كما تعرض للبحث والدرس والنقد العلمي، إذ هو كالجوهر الدري النفيس يزداد بالاحتكاك لمعانا ونورا، وانه لا يجوز حمايته من البحث والدرس والنقد العلمي، بوسائل قهرية أو مصطنعة، بدعوى انه كتاب الله، لأنه أما أن يكون هذا الكتاب كتابا لله حقا، لا يخشى النور، أو يجفل من النهار، أو يفزع من الحجة والمقارعة، أو لا يكون كذلك، وعندئذ تكون مهانة الله أو الإنسان أن يحمي الكتاب بالقوة الغاشمة، أو قتل البديهة والمنطق والتفكير!!..

وقد تصور البعض أن النقد العلمي لهذا الكتاب جاء متأخرا في القرن الثامن عشر وال.ع عشر في إعقاب النهضة العلمية الأوربية فيما عرف بالنقد الكتابي Biblical Criticism”   لكن هذا غير صحيح على الإطلاق، إذ أن النقد العلمي للكتاب بدا منذ فجر المسيحية، وقد اخذ به المدافعون المسيحيون في القرن الثاني الميلادي ليتمكنوا من إدراك النص، وصحته، وحجيته، وكيف ينفعهم في بنيان حياتهم المسيحية، والدفاع عن عقيدتهم في مواجهو الوثنيين، واليهود، والفلسفات المتعددة المختلفة التي شاعت في تلك العصور.. وعلى العكس من ذلك فان المحن الكبرى التي تعرض لها تاريخ هذا الكتاب، ومنع تداوله في العصور الوسطى، وحرمان تفسيره أو ترجمته أو الاجتهاد فيه،.. وما أن عاد النور في النهضة العلمية، حتى رأى فيه الكثيرون من رجال الإصلاح أمثال لوثر وملانكثون وزونجلي وارزاموس أعظم فرصة لكشف الحق الإلهي في كلمة الله.

وقد انقسم النقد الكتابي إلى نوعين مختلفين من النقد العلمي فيما أطلق عليه علميا “Lower Criticism”النقد الأدنى، “Higher Criticism” النقد الأعلى، وقد قام بحث النقد الأدنى على دراسة مخطوطات دراسة علمية دقيقة، ووزن اللغة، والآية الكتابية، وتاريخ المخطوطة، وعصرها، وإمكانية الاعتماد بحلها علميا، وقد كان موفقا في ذلك كل التوفيق، لأنه ألقى ابهر الأضواء وأمجدها على الكتاب المقدس، وخدم قضية الكتاب أجمل خدمة واجلها على وجه الإطلاق، أما النقد الأعلى فقد تجاوز هذا الحد، ولم يكتف بالدراسة الواقعية الملموسة،بل مزجها بما يمكن أن يتخيلها الناقد أو يقبله عقله وذهنه وخياله، ومن ثم عيب على النقد الأعلى، خلط الواقع بالتصور،والحقيقة بالخيال، حتى لم نر بين النقاد جميعا، اثنان منهم اتفقا على شيء واحد، وقد لاحظ البرت شويترز على سبيل المثال في كتابه المعروف :  “السؤال عن المسيح التاريخي” إنهم لم يصورا المسيح، كالمسيح الذي جاء تاريخيا في القرن الأول، بل كالمسيح الذي تخيلوه في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين، ومهما حاولنا تصفيفهم، فان إعدادهم لا يمكن أن تتحد أو تتفق على شيء، وتكفي الإشارة إلى الجماعات الصغيرة، منهم التي انشقت على القافلة المسيحية فيما أطلق عليها من بدع “المرمونية” وأصحاب “العلم المسيحي” أو “الثيوصفية” أو مذهب التصوف أو الاتصال  أو الفناء في الله ا “المذهب الروحاني” أو “العقليين” الذين يعتمدون فقط على العقل البشري أو “الباطنيين” وهم ممن يرون إنارة الله للإنسان عن طريق الصمت والسكون أمامه.

ومهما اختلفت الآراء المنبثقة عن هؤلاء جميعا، ومما يطلق عليه حركة النقد الأعلى، فمما لا ريب فيه أن تضاربهم فيما يتعلق بكتاب الله واضح ومكشوف، إذ وجد فيهم من تمادى في أفكار الوعي كالعقليين والباطنيين أو مفكري الوحي، فان الضربة القاضية التي قد أصابت حركتهم كانت من الفيلسوف عمانوئيل كانت الذي هاجم جميع المعتقدات التي تؤمن بالوصول إلى إدراك الله عن طريق البحث أو العقل البشري، أما جان لوك الفيلسوف فقد هاجم مهاجمة عنيفة الإلحاد والملحدين وكان اقل صبرا في الإبقاء عليهم باعتبارهم أنهم عقبة كأداء في طريق المدنية والحضارة الغربية،.. ولكننا فيما اعتقد لم نكن في حاجة  إلى إسعاف كانط أو لوك للدفاع عن وجود الله والحاجة إليه أو وحيه، فان هذه الحقائق العظيمة موجودة ومؤكدة، قبل وبعد فلسفة الشرق والغرب معا، ولكننا ذكرنا من قبيل ذكر المشاهد لحلبة الصراع يتصارع فيها ويتقاتل المتصارعون والمقاتلون!!..

فإذا وجد بعد ذلك من سلم بالكتاب وامن به، ولكنه اتخذ نظرية أخرى مفادها أن الكتاب المقدس يحتوى على كلمة الله، وانه يجوز للإنسان أن يأخذ منه ما يراه كلمة الله، وان يرفض ما يراه غير ذلك، إي كلمة الناس، تعين أن نسال ولكن ما هو  الفيصل بين هذه وتلك، وهنا نرى المؤمنين بهذه النظرية يختلفون، فمنهم من يسلم بالكتاب بالفكر والمعنى دون اللفظ، أو أمور الإيمان دون الإعمال، أو إسرار الإيمان غير المكشوفة والتي تتعلق بالمستقبل، وما إلى ذلك من أفكار مبهمة متناقضة،.. وكما شاهدنا حلبة الصراع بالنسبة للفكرة السابقة، يمكن أن نشاهد هنا حلبة أخرى مماثلة، فقد تصدى لهذه الأفكار ثلاث مدارس فكرية متتابعة قوضتها من الأساس مدرسة شيلر ميخر التي أسسها شيلر ميخر (1768- 1834م) والتي تركز فهمها الديني على الحسن لا العقل، ومدرسة البرخت رتشل (1882-1889م)  والتي تعتمد في فهمها الديني على الإرادة  أو التطبيق العملي دون الحس أو العقل، والمدرسة الثالثة مدرسة كارل بارت وإميل برونر والتي تأخذ بما يطلق عليه “اللاهوت المنطقي” والذي سنتعرض له وشيكا.. والمدارس الثلاثة مع اختلاف الفكر المحافظ معها من نواح متعددة، إلا إنها تذكر في جهدها في مواجهة النقد العالي من حيث حريته فيما يختار أو يرفض من كلمة الله بدون تحديد أو ضابط أو دليل.

والرأي الثالث العصري الذي ينادي به كارل بارت وإميل برونر، والذي يقوم على ما يطلق عليه اللاهوت المنطقي، والذي يعتقد أن الكتاب المقدس يصبح كلمة الله على قدر ما يأخذ الإنسان هذه الكلمة موجهة إليه مباشرة، وهذا الرأي قول أن كلمة الله في الكتاب المقدس تقوم على أساس إنها الخطاب المباشر للإنسان لان الله ليس سلبيا أو صامتا بالنسبة للبشر،بل يتحدث إليهم ويتكلم، فكلمة الله عند بارت ليست حالة موضوعية، أو ليست شيئا يمكن أن تضع يدك عليه وتقول هذه كلمة الله،أن الكتاب المقدس عند بارت، هو كلمة الله على قدر ما يتكلم الله فيها  إلى لإنسان… ومع أن كارل بارت يعتبر نفسه محافظا وعدوا لدودا للآراء العصرية والطبيعية والمادية،وجماعته تطلق على نفسها الأرثوذكسية الحديثة،إلا انه في عرف الكثيرين  من المحافظين يمثل تيارا عصريا، إذ أن كلمة الله في مشتملاتها التاريخية والعلمية والنبوية والتعليمية هي وحي الله سواء كانت حالة موضوعية، أو كانت خطابا مباشرا يوجه إلى النفس البشرية أو يشهد عليها!!..

فإذا انتهينا إلى هذا كله عدنا إلى السؤال: ولكن ما اثر هذا النقد العلمي في الكتاب المقدس!!؟ وهل كشف عن تعارض أو تناسق، عن تضارب أو تأييد بين الوحي والفكر العلمي!!؟.. في الواقع أن أخر الاكتشافات العلمية الحديثة جاءت كلها في النصف الثاني من القرن العشرين إلى جانب الكتاب والكنيسة أكثر من إي وقت مضى في كل التاريخ المسيحي، وهناك اقتراب في الميادين العلمية المختلفة يصل إلى التلاحق بين العالم والكتاب، ففي علة الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي حيث زعم النقد الأعلى أن هناك تعارضا بين النظرية والكتابة وعلم الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي ثبت بشهادة احد الدراسات العلمية أن هذا التعارض لم يكن إلا وهما قائما في أذهان المعترضين أو تفسيرا خاطئا للإجمال الذي ورد في النصوص الكتابية،أو جهلا بالحقائق التي لم تكن قد اكتشفت بعد، وتكفي الإشارة هنا إلى شهادة الدكتور ارنولد جيوت الذي ظل أستاذا لعلم الجيولوجيا في جامعة برنستون لمدة ثلاثين عاما وكتب كتابه الشهير ” الخليقة ونظرية تكوين العالم في الكتاب المقدس في ضوء العلم الحديث”  ودكتور الفونسو سميث في دراسته النقدية للإصحاح الأول من سفر التكوين، وكيف يشهدان هذان العالمان العظيمان إلى أن الإصحاح الأول من سفر التكوين بلا مثيل أو ريب في سرد الحقيقة العلمية في كل كتب العالم، مما اشرنا إليه عند التعرض للخليقة والعلم في هذا الكتاب (صفحة 219 -220)… وفي علم الجغرافيا أو التاريخ قال النقاد أن التاريخ لم يذكر شيئا عن مدينة أو الكلدانيين التي ذكر الكتاب أن إبراهيم خرج منها إلى حاران في طريقه إلى ارض كنعان، وانه لا توجد إلا مدينة واحدة سميت باسم “أو عرفة” وهي على بعد ستمائة ميل من المدينة المذكورة في الكتاب  وظل هذا في أوهام هؤلاء القائلين حتى جاءت الاكتشافات الحديثة  فكشفت  عن مكان المدينة وحددته بذات المكان التي ذكرته القصة الكتابية الصادقة… كما أن رينان بعد زيارته لأرض فلسطين كتب في كتابه “حياة يسوع”  ما يلي: “أن كل ذلك التاريخ الذي يبدو من على بعد كأنما يسبح في غيوم عالم غير حقيقي اخذ صورته وشكله الحقيقي بكيفية أثارت تعجبي واندهاشي فالموافقة التامة بين الآيات الكتابية والأمكنة والانسجام العجيب بين أمثال الإنجيل والبلاد التي احتوها كإطار لها كان كل هذا بمثابة الرؤيا العجيبة لدي، أن أمام عيني إنجيلا خامسا ممزقا- يقصد الأرض المقدسة- ولكنه واضح ومقروء، وسيستمر كذلك على الدوام خلال القراءات في متى ومرقس”.. وفي علم الإحياء عندما خرج داروين بنظريته المشورة في النشوء والارتقاء عام 1859م، حدثت المعركة الكبرى ي أصل الإنسان، وهل هو صنعة يد الخالق، أم نتاج جرثومة تطورات على ملايين السنين.

وهل هناك حلقه تربطه بالقرود، أم أن هذه الحلقة مفقودة، الأمر الذي ناقشناه في أكثر من موضع في هذا الكتاب، عند الخليقة، وعند الحديث عن أصل الإنسان، ومع ما استقبلت به هذه النظرية عند ظهورها من حماس، إلا أن معاول الهدم أخذت تعمل في كثير من أوضاعها وبنيانها، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد ما أشار إليه بروفيسور فيرنون كليوج في دراسته عن الدارونينية والوقت الحاضر عندما قال: “نحن في جهل رهيب وجهل غارق، وكل علمنا أن نتعلم وان نلاحظ وان نختبر وان نبوب وان نسبب وان نستنتج، ولم يكن علم الإحياء يوما ما أدنى إلى الوضوح، أو الحقل الذي يدعو أو يرغب في العمل المتسم بالبهجة والفرح والمسرة والرجاء..انك قد تسال عن الحياة بأساليب جديدة، ومن زوايا جديدة، ومن آماد اقرب، وتحت أوضاع أرقى واضبط، هذا ما يحتاج إليه عالم الإحياء اليوم، أو هذه فرصته، ولكن لعل هذا الجيل يسمع بعض الهمسات من أبي الهول رمز الصمت العتيد”.. فإذا كانت الحقيقة عند اكبر علماء الدنيا ما تزال في امتدادها وحواشيها من الوجهة العلمية الخالصة ألغازا محيرة رهيبة حتى أن اينشتين عندما سئل عن ما أدرك الإنسان من الحقيقة العلمية أجاب انه أدرك واحد على سبعة من البليون في المائة… ومن ثم سمعنا احد كبار العلماء، ويعود إلى كتاب الله ليقول: ” أن من الأجدر والاوفق بجميع المتصدين للنقد العلمي للكتاب إلا ينسوا، أو يغفلوا هذه الحقيقة الواضحة الأساسية، أن العلماء أو المفكرين أو  الفلاسفة ما زالوا عاجزين إلى اليوم عن الانتهاء إلى أراء ثابتة علمية موحدة فيما بينهم، وانه حتى في الأبحاث التجريبية الخالصة ما تزال هناك المجالات الواسعة المتعددة للافتراض المختلف عليه، إذا أن المعروف من الحقائق ما زال إلى ألان اقل من المجهول والغامض والغيبي وغير المعروف، ومن ثم فان الادعاء بان الوصول إلى حقيقة ما لا يمكن أن تتبدل أو تتغير هو ادعاء منقوص شهادة التطور العلمي الصحيح نفسه “.. ولا عجب بعد هذا إذ نرى ليس هذا العالم فحسب، بل أعظم علماء الدنيا يشهدون – كما سنرى وشيكا – لهذا الكتاب العجيب العظيم!!..

وليس اقل من هذا علم الأدبيات والأخلاقيات في هذا الكتاب، وقد كانت موضوع درس عميق للنقد الأعلى، بل كانت الموازنة بين الأدبيات والأخلاقيات في العهد القديم والجديد موضوع أبحاث أعداد كبيرة من رجال الفكر والفلسفة والعلم والآداب في العصور الحديثة، وكانت الحجة الكبرى التي انتهى إليها الفكر الحديث أن هذا الكاتب عاصر الإنسان في تدرجه التاريخي من طفولة الحياة البشرية حتى النضوج الكامل، وانه من غير الطبيعي، أن يطلب من الإنسان في مهد الدين، ما يطلب منه في نور المسيحية الكامل، ومن ثم سمعنا السيد المسيح في الموعظة على الجبل يقف على ربى المبادئ الأخلاقية ليقول إعلانه الخالد : ” قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون متوجي الحكم… أما فأقول لكم أن كل من يغصب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم… سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن وأما أنا فأقول لكم أن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه.. سمعتم انه قيل عي بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأخر… سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم… فكونوا كاملين كما إن أباكم الذي في السموات هو كامل” (من الموعظة على الجبل الإصحاح الخامس من إنجيل متى)… والسؤال بعد هذا أي قمم في الوجود اعلي من قمم هذه الأخلاق والمبادئ التي انفرد به الكتاب المقدس!! ؟.. نحن نعترف انه قد يخرج في التاريخ بين الحين والأخر كاتب أو أديب أو فيلسوف، يهاجم هذه المبادئ المسيحية المثلى، كما هاجمها الفيلسوف نشتيه، وهو يبحث عما اسماه الإنسان السوبر مان، ولكن السوبر مان الذي كان يحث عنه نيتشه،كان رجلا وحشيا تمخض في السياسة الألمانية عن الهتلرية التي رأت في الألماني تفوقا على جميع الشعوب، وأدت إلى مأساة الحرب العالمي الثانية”… وكما هاجمها بعض الوجوديين الذين نادوا بالتحلل والاستباحة المجون والعربدة، التي تنضح لها المدنية الغربية هذه الأيام”… ولكن المسيحية عاشت وبقيت وتبقى كالصخر الأشم تتكسر عند أقدامه موجات من الفلسفات أو الفلاسفة الذين ينادون بالقسوة أو الوحشية أو العنصرية أو المادية أو المجون أو ما أشبه. وسندحر الباطل، وسيبقى الحق المسيحي كما أعلنه الكتاب في مثالية الإنجيل العظيمة الخالدة..

فإذا تحولنا أخر الأمر إلى السؤال الذي أثاره البعض من رجال النقض الأعلى، عن الصور أو الاقتباسات التي كتبها رسل أو أنبياء لاحقون عن الذين جاءوا قبلهم، ولماذا لم يأخذوها بنصها  وفصها كما وردت في السابق،.. لأجبنا إن النبي أو الرسول أو الكاتب عندما كان يلجا إلى نص قديم، كان وهو ملهم من روح الله أيضا يضمن هذا النص موجزا أو مفسرا أو مكملا.. ولقد عجز النقد الأعلى على أن يجد نصا واحدا مضادا أو مناقضا أو متعارضا مع نص أقدم.. أو على العكس كما يقول أبراهام ليبر: ” إن الإحداث والحقائق المتنوعة، اجل نفس هذه  الإحداث الحقائق على أهميتها من جوانبها المتعددة،عندما عرضها الرسام الأعظم (يقصد الله) في ألوانها المختلفة، وتفسيراتها المتعددة الجوانب، قد تربك في مطلع الأمر القارئ القصير النظر، ولكنها على العكس تبعث أروع ألوان الانسجام في عيني الفنان الأصيل الذي يمتلئ نظره بها من على كثب، إذ تعطيه في الواقع رؤى السماء”… فإذا عرض متى ومرقس مثلا لما فعلا اللصان اللذان صلبا مع المسيح، في مطلع الأمر، فان لوقا قد عرض بتفصيل أوفى إصرار احدهما على شره، وندم الأخر وتوبته، وإذا كان مرقس قد ذكر قصة تلميذي عمواس وهكذا.فان لوقا قد ذكرها بتفصيل كبير… وهكذا… لو عرضت أي اقتباسات أو صور بمجرد نصها وفصها لما كان هناك مبرر لتكرارها على الإطلاق..

وفي نفس الاتجاه قد يكون من اللازم أن نشير إلى إن مقتضى قبول الوحي والإيمان بسيطرة روح الله فيه يستلزم قبوله كما تنادي إقرارات الإيمان المتواترة لفظا ومعنى، عقيدة وادبا، إيمانا وعملا، كما فعلت القافلة المسيحية الكبرى طوال ألفي عام في التاريخ الكنسي المسيحي!!..

بعد هذا كله يبدو – من الوجهة العلمية الخالصة – إن هذا الكتاب سيبقى المنار الهادي للإنسان، عندما تحيط بسفينته غيوم من شك، أو ضباب من حيرة، أو ظلمة من ليل يأس أو ضيق أو عذاب أو ما يمكن أن يواجه من حياته المجهدة على هذه الأرض!!…

الكتاب المقدس وسلطانه

وإذا عرفنا الآن وحي هذا الكتاب ومصدره الإلهي، ويأتي ولا شك السؤال الأخر اللاحق، ما علاقتنا به؟ وما سلطانه علينا؟  وهل من حقنا أن نقبله أو نرفضه بملء الاختيار والطواعية دون أن يكون هناك عقاب  أو جزاء؟.. وهل قواعده جوازية أو وجوبية؟.. تكميلية أو مرآة؟ إن القواعد التكميلية أو الجوازية قواعد يجوز الخروج عليها في عرف القوانين المدنية المصطلح عليها، على العكس من القواعد الوجوبية الآمرة  التي يبطل وينعدم كل اتفاق للخروج عليها، فما نوع قواعد هذا الكتاب أو سلطانه؟.. لعل الإجابة على هذا كله تتضح في المعنى العلمي الدقيق متى أدركنا طبيعة أو موضوعية هذه القواعد.. وفي تلك يتفق الشراح على إنها ثلاث قواعد. أولها متصلة بالعهود، وثانيهما متصل بالتصرف، وثالثتها متصلة بالعقيدة والإيمان.

إما الأولى فتختص بتلك العهود التي تقوم بين الله والإنسان في العصور المختلفة المتتابعة في التاريخ، كعهد الأعمال في جنة عدن حيث أمر الله ادم إلا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وإذ تعدى العهد واكل، طرد وطردت معه البشرية كلها للعهد المنقوض، وعهد الناموس في سيناء،العهد المصحوب بالنار والتهديد والعقاب الصارم لمن تجاوز أو يتحلل من تنفيذه كما فعل الإسرائيليون مرات كثيرة، فروا الويل والعذاب والتشريد والنفي والآلام  التي لا توصف، وعهد النعمة الذي قيل فيه: “1لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَتَنَبَّهَ أَكْثَرَ إِلَى مَا سَمِعْنَا لِئَلاَّ نَفُوتَهُ، 2لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً، وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً، 3فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هَذَا مِقْدَارُهُ” (عب2: 1-3)  “28مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. 29فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟ 30فَإِنَّنَا نَعْرِفُ الَّذِي قَالَ: «لِيَ الاِنْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ». وَأَيْضاً: «الرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ». 31مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ! “(عب10: 28 -31). فهل بعد هذا كله تعد هذه القاعدة جوازية أو وجوبية؟! ما من شك بأنها قاعدة آمرة لا يمكن الخروج عليها دون نهوض فكرة الجزاء والعقاب الأكيد.

إما القاعدة الثانية فتتصل بالتصرف، وقد تصور البعض إن الله أمر بهذا أو بتلك من الأوامر والنواهي والوصايا لان سلطان الله مع هذا كله هو الجواد والمشبع والمحسن للناس، وانه لم يصنع واحد من الأوامر والنواهي والوصايا لان له سلطانه الأمر بمقتضى كونه الخالق والحاكم والسيد للجميع، وما علموا بان الله مع هذا كله هو الجواد والمشبع والمحسن للناس وانه لم يصنع واحد من الأوامر والنواهي والوصايا لمجرد إظهار سلطانه وسيادته عليهم،  بل لأنه يريد لهم السعادة والخير والمسرة والبهجة والسلام.. ومن ثم فهناك رابطة أكيدة وحتمية بين قبول الناس أو رفضهم لما أمر الله أو نهى أو أوصى به، وما يواجهون في الحياة من سعادة و راحة أو تعب وشقاء. ومن ثم فالقاعدة المتصلة بالتصرف هي قاعدة آمرة أيضا.. فإذا انتهينا إلى القاعدة الأخيرة المتصلة بالعقيدة والإيمان، رأينا هذا الإيمان يدور على الدوام وجوبا وعدما مع فكرة الجزاء. الم يقل الكتاب: “إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا “(اش7 :9) ومن هذا نتبين إن قواعد الله في الكتاب هي قواعد آمرة.. كل هذا يعطينا أن نفهم سلطان الكتاب ولغته ولهجته للناس إذ هو في الواقع فصل الخطاب لكل فكر مختلف عليه، استعمله المسيح في النزاع مع الشيطان عندما جربه هذا الأخير في البرية، واستعمله في منازعاته المتكررة المختلفة  مع الفريسيين والكتبة، استعمله التلاميذ والرسل كالوسيلة الأولى والفعالة والأكيدة في الإقناع بصدق الرسالة المسيحية وصحتها  وسلامة أفكارها ومبادئها ومعتقداتها، واستعملته الكنيسة في صراعها الطويل في كل أجيال التاريخ في القضاء على الهرطقات والخرافات والخزعبلات التي حاولت أن تتسلل إليها أو تأخذ الطريق إلى الصميم من مبادئها وتعاليمها ومعتقداتها وإيمانها.. فإذا ما تبينا هذه كلها، سهل علينا أن ندرك بان الكتاب المقدس لا يمكن أن يكون مجرد كلمات أو حروف متراصة، أو حتى مبادئ عامة أو مثل عليا يقراها الإنسان  مستمتعا أو منتشيا أو ما أشبه من العواطف التي تسود علينا عندما نقرا  شيئا رائعا وعظيما.. بل هو أكثر من ذلك إذ هو خطاب الله إلى النفس البشرية، فالكتاب في لغة أخرى هو كلمة الله وصوته إلى كل نفس، لان الله لا يمكن أن يكون سلبيا أو ساكنا أو منشغلا عن الإنسان على الإطلاق، بل دائما هو ايجابي يوقف الإنسان كل يوم ليتحدث إليه،ويتخاطب معه وينذره ويحذره وينصحه ويعلمه ويوجهه، وهذا هو المعنى المفهوم لما جاء في الكتاب: “12لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ (عب4 :12) فالله يتكلم إلى كل إنسان في الكتاب، كما كان يتكلم إلى الأقدمين مباشرة، فإذا ظهر الأمر بهذا الوضوح كان سلطان الكتاب علينا، كذلك السلطان الذي أحس به الصبي الصغير صموئيل عندما قال لله  راكعا في هيكله: “تكلم يارب لان عبدك سامع” (1صم 3 :10) أي السلطان المطلق التام الكامل الحاسم النهائي الذي يستقبل بكل طاعة وخضوع وامتثال ويقين وإيمان وتعبد.

الكتاب المقدس وتأثيره

وبعد إن استعرضنا ما سبق عن الكتاب بقي أن نسال هذا السؤال الجوهري الهام: “ما تأثير هذا الكتاب وفاعليته في حياة الناس؟..” ولابد أن ندرك حقيقة هذا التأثير وعمقه وقوته وجلاله ومجده أن نتابعه في حياة أعداد وأنماط مختلفة من بني البشر وفي عصور متفاوتة من التاريخ!!.. على انه من الواجب أن نقول بادئ ذي بدء، قبل أن نأتي، بالشهادات المتعددة عن هذا التأثير انه شامل عام لكل نواحي الإنسان العقلية والأدبية والروحية.. فما أكثر ما ألقى شعاعه على الفكر الإنساني، وقاد بآلاف الوسائل المباشرة، وغير المباشرة، أفكار الناس في مختلف نواحي الفن والأدب والعلم والشعر والفلسفة وغيرها مما أشرتا إليه ونحن بصدد الحديث عن شهادته عن وجود الله بل ما أكثر ما استمد الكثيرون من الفلاسفة والعلماء ورجال الأدب والفن أسس نظرياتهم أو برهانها ودليلها من هذا الكتاب العظيم..

فإذا انتقلنا إلى تأثيره الأدبي فيمكنك أن تتحدث دون تحفظ أو حرج عن أثره العميق البعيد الغائر في المجتمع الإنساني، فما أكثر ما صاغ من مبادئ وهذب من قوانين وأبدع من عادات. ولعل أقوال هنري فان ديك في هذا الصدد هي خير ما يقال على وجه الإطلاق: “ولينما اتجه فانه يرفع ويطهر الإنسانية جمعاء، فالبر والسلام ينتعشان في ظله، وهو حصن الحرية المدنية والدينية، وحجر الزاوية في المستشفى والملجأ، والملاذ والأمان للبيت السعيد.. على أساسه الراسخ تؤسس الحكومات، وبموافقته المقدسة تأخذ القوانين قدسيتها، انه ينبوع العدالة العام، والفضيلة الخاصة، وهو يجعل الناس مطيعين خاضعين عادلين، ويربطهم في رباط موحد لخدمة بلادهم والمجموع البشري، ويحفزهم للدفاع عن المظلوم ومقاومة الطغيان، ويوحي إليهم أعمال البطولة  والجسارة، ويمد ساعد الحماية للفقير والمتألم، ويفتح الينابيع الحلوة والرحمة في القلب البشري… والنساء على الدوام أنقى وارق، والرجال أشجع وأفضل عندما تأتي هناك كلمة الله”… فإذا ما صعدنا أكثر إلى تأثيره الروحي وجدناه على الدوام خلف الفرد المحرر من الخطية والمختبر الولادة الجديدة، ورأيناه داخل البيت المتعبد في الشركة مع الله… وعرفناه في الكنيسة الحية القوية المدركة لرسالتها على الأرض،  واركناه العامل البعيد العميق الأثر في امتداد رسالة المسيح في كل مكان وزمان.. ولعل الشهادات التالية الآتية من أناس مختلفين تؤكد كل هذا بالمعنى المطلق الدائم الكامل المستمر. فهناك شهادة السياسيين، إذ قال جون كوينزي بصددها: ” من أي جانب تفحصنا الكتاب المقدس سواء من ناحية الإعلان أو التاريخ أو الآداب وجدناه منجم معرفة، وأكد دانيال وبستر باحترام عميق: ” إن الكتب المقدسة موضوع درسي اليومي وتأملي المتعمق، ولو إننا تمسكنا بالمبادئ المأخوذة من الكتاب، فان بلادنا ستنجح وتستمر على الدوام في النجاح” كما إن جنرال جرانت عندما كان رئيسا للولايات المتحدة كتب يقول : ” تمسكوا بالكتاب المقدس كالمرساة المؤتمنة لكل ما نملك من حريات، واكتبوا أجزاءها على قلوبكم، واختبروها في حياتكم، فنحن مدينون بتأثير هذا الكتاب لكل تقدم ونمو في المدنية الحقيقية، ومن ثم ينبغي أن نتطلع إليه كمرشدنا في المستقبل ”  وذكر غلادستون في كتابه ” الحصن المنيع في الكتاب المقدس”، هذه الحقائق: ” إن إعلان الله لا ينير فحسب ولكنه يلزم أيضا، وكأوراق الاعتماد للسفير الأرضي، من الضرورة والعدالة أيضا أن تفحص أوراق الوحي والإعلان الإلهي، فمتى وجدت صحيحة، وتبرهن لنا على صحتها في ذات المستوى المألوف والمنشود لما يمكن أن تكون عليه سائر أمور الحياة الأخرى، فان العقل لابد أن يعترف ويقبل  ما لها من صفة إلزامية.. ولا نجد أنفسنا بعد ذلك أحرارا في الانطلاق كما نشاء من دون قيد  أو شرط، بل خداما لسيد، وتلاميذ لمعلم وأبناء لأب، وكل واحد منا مرتبط بذات الربط التي يرتبط بها هؤلاء.. ومن ثم فالرأس والركبة ينبغي أن ينحنيا إما الله الأبدي كما إن المشيئة الإلهية ينبغي أن يخضع لها الإنسان، ويقبلها من كل قلبه، وكل فكره، وكل نفسه، وكل قوته”.. فإذا تركنا السياسيين واتجهنا صوب العلماء، استمعنا إلى الكثير والمتعدد من الشهادات المتماثلة.. فالعالم المشهور سرجون هارشال كتب يقول: ” إن كل الاكتشافات البشرية وجدت كما يخيل اليّ لغرض واحد إلا وهو تثبيت وتأكيد الحقائق الموجودة في الكتب المقدسة” بل أن دارون نفسه عندما زار قبائل الفيجو عام 1833م كتب يقول : ” أن الفيجيين في حالة من البربرية التعسة بالصورة التي لم أكن أتوقعها على الإطلاق في أي مخلوق بشري” ولكنه عندما زار البلاد مرة أخرى عام 1869م اندهش من التغيير الذي حدث في حياة الناس  هناك عندما عملت بينهما الإرساليات المسيحية، حتى انه أرسل لجمعية لندن التبشيرية مظروفا بداخله خمسة وعشرون جنيها مع هذه الكلمات : ” إني شديد الشعور بالفخر لو إن مجتمعكم يمكن أن يفكر في اختياري عضوا فخريا في جمعيتكم : وقد كان من اللازم أن أتكهن انه ليس من المتوقع أن تفعل كل الإرساليات في العالم مثلما قطعتم فعله..

وإذا انتهينا إلى أعظم فلاسفة في الدنيا سمعنا عمانوئيل كانت يقول: “انك تصنع حسنا إذا أسست سلامك وتقواك على الإنجيل.. ففي الإنجيل هناك الينبوع والمصدر لكل الحقائق الروحية والعميقة بعد أن أعيا العقل وأفلس في كل الميادين والاتجاهات.. وجون لو يصرح : ” في سبيل إعطاء الإنسان معرفة كاملة عن الآداب الحقيقية لا يلزمني أن أرشده إلا إلى كتاب العهد الجديد ” والرئيس كيرد يهتف ويردد: ” إن روح الله في القصة الكتابية المقدسة يعلمنا ويبنينا في كل ما يتصل بمبادئ الحكومة الإلهية.. القوة الفطرية والغريزية الحق، والغلبة والانتصار أخر الأمر للخير على الشر وعلى كل الميول الأنانية والخاطئة والتي ترغب في ازدياد الحيوية والقضاء على الرفاهية العالة والكريمة لشعوب الأرض!!.. وهذه المبادئ لم توضع في القصة الكتابية لتكون كلمات، ولو إنها الصفة الامرة الملزمة في الكتاب، بل لتحيك وتصنع حياة الإنسانية بأكملها”.. فإذا انتهينا أخر الأمر إلى أقوال رجال الدين، وجدنا دافقا من الأحاديث والشهادات التي لا يمكن أن تعد وتحصر، فإذ ا ما ذكرنا البعض منها، فإنما نذكره على سبيل القياس فحسب دون الحصر أو التحديد أو الإكثار أيضا، قال جيروم: “أحب كتابك المقدس ولن تكمل بعد ذلك شهوة الجسد”.. وقال الذهبي الفم: “إن من يعرف كتابه المقدس كما ينبغي أن يعرف، لن يتعثر في شيء، بل سيتحمل كل شيء بصبر نبيل” وقال دكتور و.م. كلاو : “أنها الكلمة التي استطاع بها اثناسيوس أن يحاب بها الهرطقة التي قامت ضد لاهوت المسيح.. وأمكن أن ينتصر بها اغسطينوس على فيض الخلاعة التي أوشكت أن تقضي على الآداب المسيحية.. وأعانت لوثر للوقوف في مواجهة البابوية في إبان قوتها وسيطرتها العاتية والمناداة بإنجيل نعمة الله المجانية العظيمة.. ودفعت كيرو لغزو المعاقل الوثنية وفتح الباب أمام الإرساليات الحديثة”.. حقا ما اقدر وما افعل الله في التاريخ البشري!!..

الكتاب المقدس والانتفاع به

والآن لم يبق إلا كلمة أخيرة موجزة نختم بها الحديث عن الكتاب المقدس، ونعني بها كيف ننتفع به، ونستعمله ونستخدمه الاستخدام الدقيق النافع الصائب؟.. ولعل من العجيب أن نعلم إن نابليون اخذ يصنف كتبه ويرتبها، وضع  والكتاب المقدس بين كتب السياسة،  إذ لم يكن هذا الكتاب في نظره كتاب دين وعلم وأدب وفن واجتماع فحسب بل كتاب سياسة أيضا،يعلم من يقرؤه أن يكون خبيرا بالحياة وسياستها من طراز ممتاز..وفي الواقع إن كتاب الله يهدينا ويرشدنا وينيرنا ويقودنا في كل لون من ألوان الحياة الإنسانية على مختلف الألوان.. والسؤال القائم هو كيف ننتفع بهذا الكتاب على الوجه الأكمل والأمثل؟.. ربما تعنينا إلى حد كبير هذه النصائح التي أفادت الكثيرين  من محبيه وقارئيه:

  1. اقرأ الكتاب يوميا : وهذا ينشأ فيك عادة من أجمل العادات وأبدعها، وإذ تتمكن فيك هذه العادة تشعر إن حاجتك إلى الكتاب تعتدل، إن لم تزد عن حاجتك اليومية إلى الطعام والشراب والنوم، واني لا أود أن أشير عليك في إي ساعة تتفرغ لدرس الكتاب، أفي المساء أم في الصباح أم في منتصف الليل أم في منتصف النهار، فذلك أمر يتكيف بحسب طبيعتك في الحياة وظروفك وأوضاعك، مع ملاحظة إن هذا لا يدخل طبعا في نطاق الصلاة العائلية الصباحية أو المسائية، إنما يلزم أن تقرا الكتاب في اصفي ساعات الذهن وأرهفها، وينبغي أن يكون لك كتابك الخاص، ومن المناسب أن تحتفظ بنسخة صغيرة في جيبك  وأنت في زحمة الحياة والنهار ليكون صديقك في مختلف المناسبات والأحوال..
  2. اقرأ الكتاب بنظام، فلا تقرا كيفما اتفق، بل تعود أن تقرءاه بترتيب وتتابع، كي تتمكن من دراسة الكتاب كله على الأقل بكيفية دورية كل عام.. ويرى بعض علماء النفس انه يحسن بك أن تختار المكان والمصباح والمقعد والكيفية التي تدرس بها الكتاب، ولا ينبغي أن يفرض عليك وقت معين غير قابل للزيادة أو النقص في درس الكتاب،فذلك أمر موكول لظروفك، إنما لا ينبغي أن يقل وقت دراستك بأي حال عن ربع ساعة، وإذا كان من الممكن الاستعانة بشروح أو تفاسير مختصرة فلا بأس، وإذا لم يتيسر هذا يحسن الالتجاء إلى راعيك أو صديقك أو غيرهم من المتعمقين في درس الكتاب للاستنارة فيما يواجهك من صعوبات ومعضلات كتابية..
  3. اقرأ الكتاب بتعمق، ولتعلم أن كتاب الله هو الكتاب الوحيد الذي سيصاحبك مدى الحياة، وانه عميق كالبحر، ممتد كالأفق، عال كالسماء، وستكف كلما قرأت فيه على الدوام أشياء جديدة، فلا تقراه قراءة سطحية عابرة، أو لمجرد العادة، أو كالملهاة والتسلية لمعرفة حظك أو بختك في الحياة، بل اقرأه قراءة المدقق المتخصص، وكن إزاءه كالغواص الذي يغوص في أعماق البحار ليكشف الكنوز واللآلئ!!.. أن إي كتاب في الدنيا في إي فن وعلم لا يمكن أن نلم به إلا إذا أجهدنا النفس وتعمقنا في درسه.
  4. اقرأ الكتاب بتعبد: ولتدرك يقينا انه كتاب الله الذي ينبغي أن تقرءاه بروح الخشوع والتعبد والصلاة، إذ هو صوت الله إليك، وحديثه معك، ونداءه إلى مشاعرك. ولا مانع من  أن تفعل ما يفعله الكثيرون من وضع الخطوط هنا وهناك تحت هذه وتلك التي لها الفكر الخاص أو العناية الخاصة أو المطلب الخاص أو الأمر الخاص أو التشجيع الخاص في العلاقة القائمة بينك وبين الله على هذه الأرض، ولتعلم بان هذا الكتاب لا يمكن أن يفهم أو تكشف إسراره ومخابئه على الإطلاق ما لم تقرءاه بروح الوقار والاتضاح، طالبا من المولى أن يكشف عن عينيك لترى عجائب من شريعته، وما أكثر ما اكتشف الأطفال الذين أقدموا على دراسته بروح التواضع ما عجز عنه الحكماء والفلاسفة والفهماء الذين تناولوه بروح الكبرياء والاعتدال والشموخ والأنفة!. انه كتاب الذهن المتفتح والنفس الصافية والروح الوادعة والقلب المفعم بالأشواق والانتظار والرجاء الفائض في حضرة الله. تكلم يارب فان عبدك سامع من ذا الذي لا ينضم بعد هذا كله إلى الركب القديم ليقول: ” 7نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيماً. 8وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طاهرا يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. 9خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. 10أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ. 11أَيْضاً عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ.” (مز19: 7-11). ” خبأت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك” (مز119: 11 ). “إلى الشريعة والشهادة أن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر” (اش8: 20). “وجدت كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي” (ار15: 16).

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى