إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 14 | إيماني بأصل الإنسان

الإنسان ووجوده

متى وجد الإنسان على هذه الأرض؟ ومتى أبدع وخلق؟ هذا هو السؤال الذي اختلفت إجابة الناس عليه اختلافا متباعدا كبيرا حسبما أتيح لهم من فهم أو ما توصلوا إليه من نور.

فهناك اللاادريون الذين يخرجون عن نعم ولا بلا ادري.. فهم لا يعلمون كيف وجد الإنسان أو خلق، ومع ذلك  فقد طرحهم اليأس من الفهم إلي القول بأنه لابد أن يكون صادر عن قوة مجهولة، وان تكون هذه القوة غير قوة الله المعلن عنها في الكتاب المقدس، ونحن لا نعلم كيف أتيح لهم أن يقطعوا بهذا وهم في طبيعتهم لا ادريون. والبس هذه مناقضة في حد ذاتها للاادرية الجاهلة!.. وهناك الحلوليون الذين يعتبرون كل شيء في الكون جزء من الله لان الكون هو الله، فالإنسان بذلك جزء من هذا الكون، كما إن الغصن جزء من الشجرة وكما إن قطعة الأثاث جزء من البيت، وقد بيننا انحطاط وسخافة هذا الرأي عندما تحدثنا عن إلوهية الكون،كيف لا وهناك فارق حاسم تصرخ به كل ذرة في الكون بين الإنسان والجماد أو الحيوان على حد سواء؟!

وهناك الماديون الذين لا يعتقدون بإلوهية الكون، ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون إن الإنسان نشا عن التطور المادي خلال ملايين السنين حتى انتهى إلي ما وصل إليه من دون تدخل خالق على الإطلاق، وقد بينا فساد هذا الرأي عند مناقشة الخليقة، كما إن صعوبة تصوره اقسي واقدح من تصور وجود خالق خلق الإنسان. وإذا اتضحت صعوبة هذا الرأي أمام الكثيرين اضطروا إلي القول بان الخالق انشأ الجرثومة الأولى للكائنات، ثم ترك هذه الجرثومة لنفسها تتوالد وتتنوع وتتفرع حتى انتهت إلي ما انتهت إليه من ملايين الجراثيم.

وقد اخذ دارون بهذا الفكر استنادا إلي ما اسماه : “ قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب” مما ذكرناه أنفا عند مناقشة الخليقة، والظاهر إن دارون  قد اضطر  اضطرارا إلي أن يدخل الإنسان في نطاق هذه النظرية، دفعا لما يمكن أن ينشا من اعتراض على تكاملها وصحتها، وقد خبا لمعان هذه النظرية، الأمر الذي اشرنا إليه في حينه عند الكلام عن الخليقة والعلم لسير اوليفر لودج مما لا نحتاج معه إلي مزيد من التكرار، وكل  ما يمكن أن نشير إليه إلي إن إتباع دارون قد اختلفوا فيما بينهم في الأمر، فمنهم من حاول أن يخرج الإنسان إطلاقا من النظرية، كولس الانجليزي، لما لاحظه من ضعف النظرية وقصورها في التطبيق على الإنسان، ومنهم من حاول أن يثبت موافقة النظرية للكتاب المقدس على الزعم بان القصة الكتابية كلها أما إنها قصة رمزية أو تمثيلية، أو إنها لم تكن تناقش حقائق علمية، ولعل هذه المحاولات نفسها هي أول البراهين على المناقضة الصريحة بين قصة الكتاب ومزاعم الدارونيين، ومنهم أخر الأمر من لم يجد بد من الإعلان الصريح  بالتخلي عن الكتاب والتمسك بالنظرية المذكورة، لأنه لا يمكن أن يلتقي الاثنان في الفكرة أو الاتجاه أو الغاية.. وعلى أي حال، فان القصة الكتابية تزداد كل يوم وضوحا وثباتا إذ تجد تأييدها من الاكتشافات العلمية، على العكس من النظرية الداروينية التي أخذت فيها معاول الهدم، ولعل تحسن الإشارة هنا لاشى أقوال أخر العلماء بهذا الصدد،  إذ قال  البروفسور جورج ميفرت : “ إن الإنسان يرتفع عن القرد كما يرتفع القرد على ورقة من أوراق الحشائش” كما إن جون فيسك عبر تعبيرا مماثلا بالقول: “ انه لا مندوحة عن قسمة الكون إلي قسمين، الإنسان في جهة وبقية المخلوقات في جهة أخرى”.. وعندما تأمل لورد كالفن الإرادة الحرة في الإنسان قال: “ إن كل عمل من أعمال الإرادة الحرة هو خارقة في الإنسان لا يمكن ربطها بعلم الطبيعيات”.

فإذا أضيف إلي هذا إن الإنسان تفرد عن بقية المخلوقات والحيوانات ببعض حقائق واضحة، فمن ناحية البنية والتركيب هناك مسافة لا يمكن عبورها بين جمجمة الإنسان البدائي واعلي أنواع القرود، إذ تبلغ جمجمة الإنسان البدائي ثلاثة إضعاف جمجمة الغوريلا، كما إن عقل الإنسان مقطوع الصلة ومن غير نظير أو مثيل في جميع المخلوقات أو الحيوانات القائمة على هذه الأرض، ولا يمكن ربطه متقرب أو من بعد ببعض التصرفات أو الانفعالات الغرائزية في أفضل الحيوانات…  فإذا انتقلنا إلي الجانب الأدبي في الإنسان ونزعة الإحساس  بالخير أو الشر التي لا يمكن أن تعدم أو تنكر حتى في رجل الأدغال البدائي، وقوة وصلة الضمير في  البشر على مختلف العصور والأجناس، تبين إن الإنسان كانسان هو قطعة فريدة في ذاته في الخليقة يصح معها القول: إن القصة الكتابية المتحدثة عن خلق الإنسان في الأرض هي وحدها الجديرة بكل ثقة ويقين، وإنها المرجع الأول عن كل فهم صحيح عن هذا المخلق، الذي أبدعه الله ليحمل في ذاته ومعه أروع قصة سطرت في هذا الوجود!!..

الإنسان وخلقه

والقصة الكتابية تكشف عن عدة حقائق أساسية جديرة بكل تأمل وتفكير في خلق الإنسان إذ ترينا:

  1. افتراق الإنسان في الخلق عن بقية المخلوقات، إذ إن هذه كان الإنسان يقول لها: “لتكن” فتكون على العكس من الإنسان الذي قال إزائه الله: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك126). وقد اختلف الشراح في المقصود بصيغة الجمع الواردة في هذه العبارة، فذهب البعض إلي إنها دليل التعظيم والإجلال اللائقين بشخص الله، وهو دليل ضعيف فيما نعتقد، لان صيغة الجمع لم تظهر في صيغة البشر كدليل التعظيم  والإجلال عند الملوك وغيرهم من السادة والعظماء إلا في وقت متأخر نسبيا من التاريخ. ولو صح هذا المعنى لكانت كل كلمة تقال عن الله أو توجه إليه تعالى ترد في صيغة الجمع، لأنه هو المنفرد في عظمته الدائمة الأبدية.. وذهب آخرون إلي إن الله كان يخاطب الملائكة، وذهب غيرهم إلي انه كان يتحدث إلي الأرض ذاتها وما بها من مخلوقات، على إن الرأي الأرجح إن المقصود بصيغة الجمع هو إن الله يتحدث إلي ذاته في الثالوث الأقدس العظيم، وان الإنسان بهذا المعنى لم يخلق كغيره من المخلوقات السابقة، بل جاء نتيجة تدبير ومشورة وحكمة إلهية خاصة تجعله فريدا في بابه في كل الخليقة.
  2. مماثلة الإنسان وشبهه لله، وإذا كان الإنسان قد انفرد في الخليقة عن سائر المخلوقات، فانه قد اقترب إلي الخالق وصنع على صورته وشبهه، والسؤال القائم ولا شك هو: كيف يمكنان يكون الإنسان على صورة الله وشبهه!؟ وإذا كان من المتفق عليه إن الصورة والشبه يفيدان معنى واحد، وإذا كانت كلمة ألسبه تعتبر تأكيدا وتخصيصا للصورة، إذ تعبر عن التماثل القوي القائم بين الأصل والصورة، إلا إن الخلاف قام على نوع التماثل القائم بين الله والإنسان. وقد اتفق الجميع عل استبعاد التماثل في الجانب المادي إذ أن الله منزه عن اللحم والدم، وهذا أم بديهي ولا شك، لا يمكن أن يثور معه  نزاع  ما.. غير أن الخلاف ظهر عندما حاول البعض أن يحددوا هذا التماثل في الثالث في الله، والثالوث في الإنسان إذ قالها انه كما إن الله الواحد له ثلاثة اقانيم هي الأب والابن والروح القدس، هكذا الإنسان له نفس وروح وجسد، هذه الثلاثة تكون شخصا واحدا، وقد أبى الكثيرون أن يسلموا بهذا التشبيه لقصوره شكلا وموضوعا عن تعيين التماثل بين الإنسان والله، إذ إن النفس والروح والجسد ليست في ذات المساواة القائمة بين الأب والابن والروح القدس في الجوهر الإلهي العظيم، كما إن العلاقة القائمة بينهم جميعا تقوم على التدرج فالجسد أدنى الجميع، وفي خدمة الكل، والروح أعلاها مما يمتنع معه التشبيه من هذا القبيل.. ضاف إلي ذلك إن الكثيرون لا يسلمون على الإطلاق بان الإنسان ثلاثي الطبيعة يقوم على ثلاثة عناصر هي النفس والروح والجسد، بل هو ثنائي يقوم على اثنين لا ثالث لهما، هما الجسد والروح، وانه إذا كان قد جاء في الكتاب ألفاظ مختلفة عن النفس أو الروح  فان الاثنين يفيدان معنى واحد. ولعل الأمر يزداد وضوحا متى تأملنا مدلول الكلمات الثلاثة للجسد والنفس والروح، فالجسد مثلا قد يشير:

1– إلي الجنس البشري كله أو الطبيعة البشرية بما فيها من نفس وروح كما قيل: “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان الاثنان جسدا واحد” ( تك324)  “ ولو لم يقصر الرب تلك الأيام لم يخلص جسد” ( مر1320) “ الكلمة صار جسدا” (يو1:14) أي أصبح إنسانا ذا طبيعة بشرية!1“والخبز الذي أعطي هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم” (يو6:51).

2– كما انه يشير إلي الفكر أو المجهود أو النشاط البشري في مواجهة الحق الإلهي كالقول: “إن لحما ودما لم يعلن لك” (مت16: 17) “لم استشر لحما ودما” (غل116).

3– كما قد تشير إلي المادي والأدنى في مواجهة الروحي والأعلى: “نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” (رو84) “فإذا أيها الإخوة نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد” (2كو102). ومن هذا نفهم إن الجسد قد يشير إلي معنى جزئي في كيان الإنسان كله.

ومثل هذا يمكن أن يقال عن النفس أيضا، أكثر من معنى فقد جاءت:

1– إشارة إلي النفس كما قيل عن لوياثان: “نفسه يشعر جمرا ولهيب يخرج من فمه” (أي3121) أو كما قبل “ويتنفس ابن أمتك” (خر2312) “وفي اليوم السابع استراح وتنفس” (خر31:17) وهذه الكلمات قد وردت في الأصل لذات الكلمة نفس أو مشتقاتها.

2– كما إنها تعني أيضا الكائن الحي: “فصار ادم نفسا حية” (تك37) “وكل ما دعا به ادم ذات نفس حية فهو اسمها” (تك219).

3– كما قد يقصد بها الحياة ذاتها: “واطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان واطلبه من يد الإنسان واطلب نفس الإنسان “(تك 95) “صنعت لطفا باستبقاء نفسي” (تك1919) “مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك” (خر119) “وإذا حصلت أذية تعطى نفسا بنفس” (خر1223) “لأنه قد مات الذين يطلبون نفس الصبي” (مت 220) “وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مر1015).

4– وتعني النفس أيضا الأشخاص كأشخاص: “فقال ملك سدوم لابرام أعطيني النفوس” (تك1521) “فقد أذنبت تلك النفس” (عد56).

5– وقد تعني الذات: “لتمت نفسي موت الأبرار” (عد2210). لتمت نفسي مع الفلسطينيين” (قض1620) “ يا أيها المفترس نفسه في غيظه” (أي184) “على أيوب حمى غضبه لأنه حسب نفسه ابر من الله ” (أي322).

6– وقد تعني تعبيرا عن مركز الشهوات والغرائز الجسدية: “وليس لنفسه عوز من كل ما يشتهيه” (جا62) “وكل تعب الإنسان لفمه ومع ذلك فالنفس لا تمتلئ” (جا67).

7– وقد تشير إلي كونها مركز العاطفة: “ولا تضايق الغريب لا نقم عارفون نفس الغريب” (خر2319) “لأنه فقير واليه حامل نفسه إلي يصرخ عليك إلي الرب فتكون عليك خطية” (تث2415).

 وقد تشير إلي العلاقة بالخلود: “نفوس الذين قتلوا” (رؤ69) “ ورأيت نفوس الذين قتلوا” (رؤ204).

وأما الروح فقد تستعمل في ذات التعبير الذي تدل عليه النفس كما قيل في أيوب: “الذي بيده نفس كل حي وروح كل البشر” (أي124).

1– والروح هنا في الأصل “نسمة” وكما قيل: “لان الروح يغشى عليها أمامي والنسمات التي صنعتها” (اش5716).

2– وقد جاءت إشارة إلي النسمة: “كل ما في انفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات “(تك7: 22) “من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلي فوق وروح البهيمة هل تنزل إلي أسفل الأرض” (جا312)

3– كما تشير إلي نوع الحياة الروحية للإنسان أو الاتضاح: “وقبل السقوط تشامخ الروح. تواضع الروح مع الدعاء.  تواضع الروح مع الدعاء خير من غنيمة” (أم 1618، 19) أو الحكمة او الفهم ” ويشوع ابن نون كان قد امتلأ روح الحكمة” (تث249) أو الإحساس بالضعف أو النقص أو المسكنة إزاء الله: “طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السموات” (مت52).

ومن المسلم به على أي حال أن الروح تشير في الإنسان إلي السمو والقمة في كيانه الشخصي، فإذا ما عدنا للتاء بعد ذلك هل الإنسان ثنائي التكوين أم ثلاثي لكان الجواب إن ظاهر النص يقف إلي جانب الثلاثة، إذ يقول الرسول : “23وَإِلَهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.(1تس523) ومن ثم فقد فرق ترتليانوس بهذا الصدد: “أن الجسد جسم النفس وان النفس جسم الروح” وقال غيره: “إن الجسد مركز الإحساس النفسي، والروح مركز الإدراك الإلهي”.

غير انه قد تبين لنا من الدراسة الشاملة للنفس والروح والجسد إن هذه التفرقة غير حاسمة، وان النفس والروح قد تشيران إلي معان متبادلة، وان كانت الروح تشير على الوجه الأشهر إلي النفس في علاقتها الروحية بالله، بينما تشير النفس مجردة إلي الحياة في نشاطها وحركتها وانفعالاتها الحسية والعاطفية، مما شجع على القول إلي صلاة الرسول للتسالونيكيين بقصد منها أن يحفظوا جسدا ونفسا بكل ما في النفس من مشتملات، وعلى وجه اخص الروح التي هي الجانب الأعلى في النفس والكيان الإنساني كله … والذي يشجع على قبول هذا الرأي إن التفصيل الوارد في العبرانيين أيضا، والذي ترادف فيه القول: “مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ” يمكن أن يشير في الشطر الأول منه إلي الجانب الروحي، بالمقابلة مع الشطر الثاني، والذي تدخل فيه المخاخ والمفاصل في نطاق الجسد، وان كان التعبير في كلا الشطرين قد ورد على وجه التفصيل والتخصيص لا الإجمال والتعميم كمثل القول: “وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك” (مر1230) ومع إن القلب والنفس والفكر والقدرة ليست بالضرورة عناصر مستقلة بعضها عن بعض تمام الاستقلال، وان كانت تعبر بالبداهة عن معان خاصة لكل منها. يضاف إلي هذا إن قصة خلق الإنسان تتحدث عن عمليتين واضحتين احدهما خاصة بالجسد والأخرى خاصة بالنفس وليس عن ثلاثة، كما إن مصير الإنسان مرتبط أيضا بعمليتين مشابهتين أخريين: “فيرجع التراب إلي الأرض كما كان وترجع الروح إلي الله الذي أعطاها” (جا137) مما يقطع أن الإنسان ثنائي الطبيعة، وان كانت النفس في علاقتها الروحية مع الله يجوز أن يطلق عليها على وجه التخصيص أو التحديد الروح.

وعلى أي حال فان التماثل بين الله والإنسان مستبعد من هذه الوجهة. والرأي المسلم به إن التماثل قائم أولا بين الإنسان كشخص وبين الله كشخص، وان للإنسانية مقومات الشخصية الثلاثية. الفكر، والشعور، والإرادة، مع هذا الفارق الحاسم إن الله له هذه المقومات في كمالها اللانهائي الذي اشرنا إليه في دراستنا عن طبيعة الله ( صفحة 49)بينما يجوزها الإنسان في المعنى الجزئي المحدود، ويكفي الإنسان مجدا أن يكون على صورة الله وشبهه في هذه كلها، مهما يكن الفرق بينهما كالفرق بين شعاعة النور والشمس الكاملة، على أن التماثل قائم أكثر من ذلك بين الإنسان من الوجهة الروحية وبين الله، أن الإنسان لا يمكن أن يستريح أو يهدا أو يشبع بعيدا عن الله ولو أعطيته الدنيا بأكملها! الم يقل اوغسطينوس لله قولته المشهورة وهو يمجده كخالق ” لقد خلقتنا لنفسك وقلوبنا لن تجد الراحة إلا بين يديك”.فإذا انتهينا من هذا كله عنا لنذكر كيف خلق الله الإنسان جسدا ونفسا وروحا، أما الجسد فقد خلقه من تراب الأرض إذ يقول الكتاب : “وجبل الرب الإله ادم ترابا من الأرض” (تك27).

ومن الملاحظ أن كلمة ” جبل” هي ذات أكلمة التي تشير إلي عمل الفخاري المذكور في سفر ارميا، وهنا تبدو المقارنة واضحة، إذ أن الله هو الفخاري الأعظم، وان الإنسان بين يديه هو الكتلة  من الطين التي يشكلها كما يشاء وكيفما يريد، أما النفس فقد جاءت من نفخة القدير ونسمته إذ قيل: “ونفخ في انفه نسمة حياة فصار ادم نفسا حية” (تك27) وهذه النسمة هي التي أكسبته الحياة والروحانية والخلود. ولعل هذا هو الذي يدعونا للهتاف مع شكسبير:

أي قطعة من العمل هذا الإنسان؟

كل هو رائع في عقله!!

لانهائي في ملكاته!!

وفي صورته وحركته!!

وكم هما مندفع ومثير!!

في أعماله كملاك!! وفي إدراكه كاله!!

الإنسان ورسالته

على أن السؤال الهام والأخير هنا: لم خلق الإنسان؟ ما الرسالة التي عليه أن يؤديها؟ يبدو أن قصة الخل تشجع على أن رسالة الإنسان الموضوعة له من الله كانت:

1– الشركة مع الله: إذ أن الله وضعه في الجنة وأحاطه بمختلف الظروف والأحوال التي تمكنه من الشركة، وقد تبين لنا وان كان عنصر من التراب، إلا أن عنصره السماوي من نفخة الله، وان ذات الكلمة “إنسان” تعني في اللغة  اليونانية “المرفوع النظرة” وفي اللغة الانجليزية “الكائن المفكر” وعند علماء فلسفة اللغات “الكائن النبيل الطالعة”. فإذا أضيف إلي ذلك أن مستواه الأدبي كان رائعا وممتازا إذ يقول الكتاب في وصف حالته الأولى: “أن الله صنع الإنسان مستقيما” (جا729) اتضح  لنا ولاشك انه تمتع قبل سقوطه في الخطية بأجمل وأبدع مظاهر الشركة مع الله. وإذا كان يلتقي بالله في الجنة كما يلتقي الابن بابيه المحب الودود، ومع إننا لا نستطيع أن نقطع على وجه الإطلاق كم بقي الإنسان على هذه الحالة – وان كنا في الوقت ذاته نستبعد التقليد القائل انه لم يبق في الجنة سوى يوم واحد – إلا إننا يمكننا القول بأنه كان على حال من الإدراك العقلي والاستعداد الأدبي تمكنه من الشركة الممتازة مع الله، فلم يكن كما توهمه البعض، أو صوره، في صورة الإنسان البدائي الساذج، أو الوحش رجل الأدغال، إذ لا يمكن أن يكون هكذا، وهو المصنوع في الصورة الرائعة التي أجملناها فيما سبق، وله القدرة التي أمكنته من أن يطلق على جميع بهائم الأرض وطيور السماء وحيوانات البرية الأسماء التي دعيت بها فيما بعد!!. على انه من الواجب إلا نغرق في الخيال في الوقت ذاته فنذهب مذهب التقليد اليهودي القائل بأنه أوتي من الحكمة ما لم يؤته الأولون والآخرون!!. لقد خلقه الله في الجنة ليعملها ويحفظها، وبذلك تكون ميدان ومجاله ونموه العقلي والأدبي على حد سواء.. وعلى أي حال فان رسالته الأولى كانت التعبد والشركة والقدسية المجيدة مع الله!!..

2– الوكالة عن الله: وأما رسالته الثانية فكانت الوكالة والنيابة عن الله، إذ أعطاه الله السلطة والسيادة على جميع المخلوقات الأرضية ليكون حاكم الأرض، ووكيل الله عنها، ومن هنا ندرك أن السلطة المعطاة له، لم تكن لمجرد الإمتاع واللذة، بل كانت لخيره وخير المخلوقات معا، أو كما قال جورج ادم سميث: “أن علاقة الإنسان بالحيوان نوع من العناية فهو يرعاها بحكمته فلا تهيم، وهي تخدمه وتعينه”. ومن هنا ندرك مدى امتياز الإنسان، ومسئوليته الكبرى، وهل هناك امتياز اعلي أو اسمي من أن يكون وكيل الله وممثله على الأرض!؟ وان كان في الوقت عينه يحمل في مواجهة هذا الامتياز، المسئولية الكبرى المماثلة… وقد زود الله الإنسان بكل ما يجعله يرحب بهذا الامتياز، ويقدر هذه المسئولية، ومن ثم فمن الحماقة أن يقال أن الإنسان الأول قد جبل بدون صفات أدبية كما زعم البيلاجيون ممن صوروه على الحياد بين الخير والشر، دون حب أو رغبة في هذا أو ذاك.. الأمر الذي لا يستطاع تصوره ما دمنا نؤمن انه خلق على صورة الله وشبهه، وانه بذلك لابد أن يكون قد خلق مزودا بالميل الأدبي والروحي لكل بر وحق وقداسة وخير!!.

ومن لا يقول بعد هذا كله مع دكتور ديان عندما قال: “إني ارفض أن أتنازل عن عظمتي وسيادتي في مواجهة الكون المادي، إذ إني أعظم من الشمس وأعظم من البحر، وأعظم من الكواكب، وأعظم من النجوم، أعظم منها جميع، إذ إنها خاضعة لي، وأنا سيد، وهي مربوطة وأنا حر” أو مع المرنم: “4فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! 5وَتَنْقُصَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. 6تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. 7الْغَنَمَ وَالْبَقَرَ جَمِيعاً وَبَهَائِمَ الْبَرِّ أَيْضاً 8وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَسَمَكَ الْبَحْرِ السَّالِكَ فِي سُبُلِ الْمِيَاهِ. 9أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ!(مز849).

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى