إيماني 17 | إيماني بحياة المؤمن

أنهم يعيشون بأمانة وعفة كما أمرهم بذلك الرب إلههم، وفي كل صباح بل وفي كل ساعة يحمدون الله ويرنمون له مناجل حسناته لهم، وعند الطعام أو الشراب يشكرون!!..
وإذا ما انتقل عزيز لديهم من هذا العالم فأنهم يفرحون ويشكرون الله، ويسيرون وراء جثمانه كما لو كان منتقلا من مكان إلى مكان، وإذا ولد طفل لأحدهم يحمدون الله من اجله، ولو تصادف ومات في صغره فأنهم يشكرون الله أيضا كثيرا، لان الطفل قد اجتاز العالم دون أن يرتكب إثما أو خطية!!.
وكأناس يعرفون إلههم لا يسالون إلا عن الأشياء التي يليق أن يعطيها والتي يليق أن يتسلموها، وهكذا يسلكون سبيلهم في الحياة، وكل ما فيهم من فضل ينسبونه إلى الله. ولذا فالجمال الذي فيهم يشع وينبثق من حياتهم دون تكلف، وهم حقا من الذين اكتشفوا الحق على الأرض وسعوا إليه، والأفعال الصالحة التي يفعلونها لا يعلنون عنها أو يبوقون لها في آذان الناس، بل يفعلونها في صمت ويؤذونها في خفاء، تماما كما لو وجد احدهم كنزا وسعى ليخفيه.. وهم يجاهدون في سبيل البر كمن يتوقعون أن يروا مسيحيهم لينالوا ما وعدهم به مع مجد عظيم”..
هذه هي الصورة التي عرفها العالم القديم الوثني عن حياة المؤمنين، وهي الصورة التي ينبغي أن يكون عليها كل مسيحي مؤمن في كل جيل وعصر، وهي أن تحدثت فإنما تتحدث عن اثر المسيحية في حياة الإنسان وكيف تغيره تغييرا رائعا عجيبا، وترفعه إلى مركز ممتاز مجيد، وتعطيه من الوسائط والقوة ما يتيح له أن يحيا حياة القوة والنصرة، كما تحدد علاقته بالعالم تحديدا فذاً دقيقا. وأخر الأمر تكشف عن واجباته ورسالته في هذا العالم في مختلف الظروف والأوضاع التي يمكن أن تحيط به!!..
المؤمن والحياة الجديدة
1- المؤمن وبدء الحياة الجديدة
ومن الأهمية بمكان أن نعرف من هو المؤمن، ومن ذا الذي يصح أن نطلق عليه هذا التعبير: “مؤمن”؟وهل يجوز أن نطلق هذه الكلمة على أي إنسان دعي عليه اسم المسيح، ويقول عن نفسه عندما يسال عن دينه انه مسيحي!!..
في الواقع أن الكتاب حاسم وصريح في هذا الموضوع إذ إن “المؤمن” في تعريف الكتاب هو “إنسان جديد” “خليقة جديدة” تبدأ حياته بنقطة فاصلة بين ماضيه وحاضره ومستقبله دعاها المسيح “الولادة الجديدة” والمسيحية لذلك ترفض أن تطلق لفظ المؤمن على كثيرين ممن يتصور الجهلة بالفكر المسيحي. أو المخدوعون في فهمه أنهم كذلك. فالمسيحية مثلا لا تقرر:
1- المؤمن بالوراثة. إذ لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا لمجرد انه ولد في بيت مسيحي أو من أبوين مسيحيين أو في بلاد مسيحية أو لأنه يكتب مقابله: في شهادة الميلاد أو البطاقة الشخصية أو شهادة الزواج أو ما أشبه من شهادات انه مسيحي. أن هذه جميعا قد تصلح لكل شيء إلا لهذا الشيء الواحد: إنها ليست الدليل أو المعيار أو البرهان على إن الإنسان “مؤمن”… وهذا بديهي لان الإنسان لا يمكن إن يولد مؤمنا أو يرث الإيمان لسبب صغير دقيق بسيط. هو انه لا يمكن أن يرث من أبويه الخطية المنحدرة إلينا بالسقوط كما قال داود: “هاأنذا بالإثم صورن وبالخطية حبلت بي أمي” (مز51: 5)، فكيف يمكن أن يرث في الوقت نفسه عن هذين الأبوين الصق وأعمق من ميراث الإنسان لهما حسب القوانين الأرضية. إذ أن الإنسان لا يعتبر حسب هذه القوانين الأخيرة وارثا لأبويه إلا بالميلاد، أو بتعبير أدق لحظة ميلاده حيا. فإذا ولد سقطا أو جنينا ميتا فلا حق له في الوراثة. على العكس من ميراث الخطية الذي يلحق به من بدء تكوينه جنينا في بطن أمه. أو كما عبر داود لحظة الحبل والتصوير كجنين.. ومن هذا يمكن التأكد انه لا عبرة أو اعتداد أمام الله بوراثة لقب المسيحي من الأبوين!!..
ولعل هذا يذكرنا بذلك السؤال الذي وجهه مودي ذات مرة إلى أحدى السيدات عندما قال لها: “هل أنت مسيحية؟ ” فأجابته: “بالتأكيد إني مسيحية”فقال لها: “متى صرت مسيحية؟” أجابت : “إني ولدت فيها يا سيدس” فقال “انك أهنئك يا سيدتي. فأنت سعيدة الحظ ولا شك لأنك المرأة الوحيدة التي قابلتها وولدت مسيحية، إذ كان كل من قابلتهن ولدن بنات ادم وحواء.. لا يا سيدتي، انك لست مسيحية لأنك ولدت في انجلترا في بلد مسيحي، أو لأنك ولدت من أبوين مسيحيين، إذ لا يمكن أن تكوني مسيحية ما لم تولدي الميلاد الثاني!!..
2- والمسيحية لا تقر كذلك“المؤمن ” الذي يدعى مؤمنا لمجرد ممارسة مظاهر الإيمان المسيحي، ما لم يحدث تغيير أساسي داخلي في حياته. فليس مجرد تعود الحضور إلى بيت الله برهان الإيمان أو حجته أو دليله، إذ ليس كل رواد الكنائس مؤمنين، بل أكثر من ذلك أن ممارسة الفرائض الكنسية أو إتمام الواجبات الدينية لا يمكن أن يقوم مقام تغيير الحياة أو الولادة الجديدة، فكافة الصلوات الطقسية أو الاصوام التقليدية أو النذور أو الصدقات أو ما أشبه لا قيمة لها البتة عند الله. ولقد تطلق الأرض على الإنسان ألقاب “المحسن الأكبر” “المتمم جميع الواجبات الدينية ” وما أشبه من ألقاب وتقول السماء في الوقت نفسه لذات الإنسان: “وزنت في الموازين فوجدت ناقصا”. ومن اللازم أن نتقدم خطوة ابعد وأطول وأشجع وأصرح فنقول إن مجرد تقلد إن مهنة أو وظيفة منسية مهما يكن شانها وخطرها لا يمكن أن يعطي الإنسان لقب “المؤمن” فليس انتخاب إنسان أو تعينه أو رسامته شماسا أو شيخا أو قسا أو أسقفا أو بطريركا أو بابا يمكن أن يعطيه أو يمنحه ختم السماء وتصديقه على كونه “مؤمنا” إذ إن أي استحسان أو تقدير أو فعل ارضي لا يمكن أن يعبر بالضرورة عن رأي الله وقصده وفكره إذ ما أكثر ما يتباعد رأي الله ورأي الناس في هذا الأمر بعد السماء عن الأرض!. وهل ننسى إن المسيح رب المجد قد صلب وتألم بتدبير رجال الدين الأشرار من كتبة وفريسيين وكهنة؟. وهل ننسى أن الكثير من أبشع وارهب واقسي جرائم التاريخ قد ارتكب على أيدي رجال انتسبوا ظلما وعدوا إلى كنيسة المسيح؟ وهل ننسى إن المناصب الكنسية كثيرا ما أخذت في عصور متفاوتة بما يندى له الجبين خجلا وخزيا من رشوة واغتصاب وجون وفساد. ممن جعل الكثيرين يصيحون قائلين: أيه أيها الذين كم من الآثام ترتكب باسمك الجميل!؟
كل هذا يقطع بأنه ليس في الإنسان كانسان بطبيعة مولده أو ميراثه أو المظاهر التي تجري عليها حياته أو حتى المناصب أو الأعمال التي يتغلغل بها في الحياة الكنسية. ما يمكن أن يغني عما يسميه النقطة الفاصلة في الحياة بين الماضي والحاضر. وبين حياته قبل الإيمان وبعد الإيمان أو ما أطلق الكتاب عليه بحق الولادة الجديدة”
ب المؤمن وضرورة الحياة الجديدة
ولكن لماذا تبدو هذه الحياة الجديدة حتمية وضرورية ولا غنى عنها؟ ولماذا يتحتم أن يحدث في اختبار الإنسان وحياته هذه النقطة الفاصلة؟ ولماذا لا يمكن التجاوز عنها أو إيجاد البديل لها؟
إن ضرورتها تظهر من :
1- شهادة المسيح بحتميتها.ولعله من الملاحظ أن نذكر إن السيد المسح عندما تحدث عنها صدر حديثه بالقول: “إن كان احد لا يولد من فوق لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3:3) مما يبين حاجة كل مولود امرأة إليها. وتزداد هذه الصورة عندما نعلم إن المسيح عندما تحدث إلى الولادة الجديدة تحدث بها إلى رجل من رجال الدين لعله كان في نظر الكثيرين في ذلك الوقت من أفضل الناس في عصره. أليس اسمه نبقوديموس أو النقي الدم. والبس هو الفريسي المدقق بل لعله كان زعيم الفريسسين في ذلك الوقت في السنهدريم، فالأول الرئيس والثاني نائب الرئيس والثالث “الحكيم” أو” المعلم ” وهو لقب نيقوديموس وحيث إن الرئيس ونائبه كانا يجتازا في ذلك الوقت عادة من الصدوقيين، كان المعلم هو رئيس الحزب الفريسيي في المجلس، ولا يمكن أن يكون هكذا إلا إذا كان من أعظم رجال الدين في عصره.. لمثل هذا يقول المسيح “ينبغي أن تولدوا من فوق” (يو3: 7) أو في لغة أخرى: ” إن أعظم رجال الدين اشر الخطاة يتساويان في حاجتهما إلى الولادة الجديدة، وان أيا منهما لابد أن يحدث في حياته بشهادة المسح، هذا التغير الحاسم قبل أن يطلق عليه بحق لقب “المؤمن”.
2- إن الطبيعة البشرية الخاطئة لا يجد فيها أي تهذيب أو إصلاح أو ترويض ما لم تتغير أساسا بالولادة الجديدة،إذ قال السيد: “المولود من الجسد جسد هو والولود من الروح هو روح” (يو3: 6) أي إن الإنسان كمولود المرأة يولد بكل ما في الجسد من ملكات أو رغبات أو شهوات أو ميول أو خطية، إذ انه يولد وله كل استعداد أن يضحى عالما أو فيلسوفا أو عبقريا يضرب بسهم وافر في ميادين العلم والمعرفة والمدنية والحضارة. كما انه على استعداد أكيد ويجاهد ويشتغل وينغمس في الشهوات والآثام، ولكنه لا يمكن أن يتحرر مهما حاول العلم والأخلاق والتهذيب من ثقل الخطية ودينها ومرضها وسلطانها، ما لم يولد من الروح، ويحدث في حياته ذلك التغيير السماوي العلوي الفاصل في حياته كلها.
وهناك شهادات لا تحصى أو تعد أو تفصح بما لا يدع مجالا للشك أو الإبهام عن عجز كل مجهود ارضي عن إصلاح الإنسان وتقويمه، مهما تكن عظمة هذا المجهود أو جلاله أو جماله.. فالعلم مثلا بات عاجزا عن تغيير الإنسان أو الصلاح حياته الداخلية، وفي ذلك يقول الرئيس ودرو ولسون: ” لقد اخفق العلم في تحقيق الإصلاح وتوفير الفردوس الأرضي للناس، لقد افدنا في عالم المادة إذ حررنا من خوف الخرافة أو المرض، ولكنه فشل في تغيير الطبيعة البشرية وتخليصها من أدران الحقد والضغائن، وبذلك يظل الناس عبيد أنفسهم “. ولعل العالم لم يشهد إلى اليوم تقدما مذهلا في العلم كما شهد في القرن العشرين، ولكن هذا العلم مع ذلك لم يغير طباع الناس أو يبدل أو يهذب مشاعرهم أو يسيطر على الطبيعة الشهوانية أو الآثمة أو الشريرة فيهم.. ولعل هذا الكلام عينه يمكن أن يقال عن ضروب المبادئ الفلسفية أو الرياضية أو مناهج التربية أو الاقتصاد أو السياسة، إذ هذه جميعا لا يمكن أن تستأصل الشر في الإنسان أو تنتزع منه الطبيعة الفاسدة، إذ هي في أفضل حالاتها كما وصفها “هنري وورد بيتشر” بالقول: ” ضع ما يعجبك على حمار وحشي، ضع لجاما من ذهب أو سرجا من دمقس، هل هذا يغير من طبيعته أو يخضع روحه!؟ غطه بكل الزينات، هل يخرجه هذا عن وحشيته؟ هكذا الطبيعة البشرية لا يمكن تغييرها مهما بذل معها رجال الآداب والفلسفة والأخلاق”.
إن المسيحية بذلك لا تنادي بطلاء البناء أو ترميمه بل بإعادة بنائه من جديد، وهي لهذا السبب لا تقبل التغيير الظاهري أو الشكلي كما لا تقبل الإصلاح الوقتي أو الجزئي، بل هي تطلب الخليقة الجديدة بالميلاد الجديد!!..
(ج ) المؤمن وكيفية تحقيق الحياة الجديدة
وهنا ينهض أمامنا ذات السؤال القديم الذي سأله نيقوديموس : “كيف يمكن أن يكون هذا؟” (يو3: 9). والسيد المسيح إذ يرد على الجواب ينبر على ما يلي:
1- إن الولادة لا تحدث تدريجيا بل تحدث دفعة واحدة،شانها شان الولادة الطبيعة.. وهذا حق لان التغير الحادث في حياة الإنسان لا يمكن أن تتمن إلا إذا جاءت اللحظة المعينة التي فيها يقطع الإنسان قطعا حاسما صلته بالماضي الملوث الشرير الإثم، والتي يحس فيها إحساسا جازما باتا بالحياة الجديدة، وكما يقف الإنسان من ماض تعس وحياة فاسدة، وفي لحظة واحدة يقول: ” وداعا إلى الأبد أيتها الحياة فلن تكوني بعد اليوم في، ولن أمت إليك من الآن بسبب”. وهكذا تكون الولادة الجديدة في لحظة واحدة فاصلة قاطعة بين حياة وحياة. وهنا ينبغي أن نذكر بان الذي يظن أن تجديده يأتي على مراحل، أما انه جاهل لا يفهم معنى التجديد، أو انه مخدوع فيه، وإذا كان من الواضح إن كثيرين من الناس قد يدركون أو يعلمون تمام العلم الساعة التي تغيروا فيها. وتحولت حياتهم من النقيض إلى النقيض. غير أن البعض الأخر لا يستطيعون تحديد هذا الوقت بمثل هذا الدقة. ولكن العبرة في هذه الحالة أو تلك ليست بمعرفة الساعة المعينة، بل بحقيقة الولادة الثانية أو كما قال سبرجن: “قد يجهل إنسانا ما تاريخ ميلاده، ولكنه لا يمكن أن يشك في هذا الميلاد مادام يحس انه كائن حي موجود. ولا يعقل في هذه الحالة إن يقول عن نفسه انه غير مولود لأنه يجهل تاريخ ميلاده، وهكذا المؤمن يستطيع أن يتأكد بتاريخ ميلاده الثاني الجديد، ما دام قد وصل إلى الاختبار الأكيد انه تغير وتحول عن الشر إلى الله، وان صفحة جديدة قد بدأت في حياته وقطعت صلته بكل ماضيه “!!..
2- إن الولادة عملية خفية داخلية تحدث في قلب الإنسان وتتم بعمل روح الله فيه.وقد شبه المسيح هذه العملية بهبوب الريح: ” 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إلى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ». (يو3: 8). فهذا صحيح لان الإنسان يتغير لان شيئا حدث في قلبه فأقنعه بالتوبة، والإقلاع عن الماضي وكراهية الحياة القديمة الملوثة. وأعانه على الإيمان بالحقائق الإلهية العليا وقبول الخلاص الذي في المسيح يسوع. وهذا الشيء يتم بروح الله وتأثيره العميق الفعال في نفس الإنسان. ومع إن هذه الحقائق خفية وغائرة في أعماق النفس. إلا أنها هي التي تؤثر وتحكم جميع أفعال الإنسان وتصرفاته، وعندئذ تظهر من خلال تصرفاته وأعماله جميع خفاياه تماما. كما نسمعالريح ونحس بها عند هبوبها دون أن ترى أو تنظر… والأمر الهام والأساسي في الموضوع هو أن يحس الإنسان هذا التغيير ويتأكد اختباريا بكيفية ترتفع على كل منازعة ومجادلة!!..
(د) الاختبارات المختلفة للحياة الجديدة
على انه من اللازم أن نتبين أن هذا الاختبار لا يأتي للمؤمنين بصورة واحدة وبطابع واحد، بل قد يختلف الإحساس به من شخص إلى أخر، وقد ظل ريتشارد باكستر يعاني قلقا بالغا لسنوات عديدة، لان اختباره في التجديد لم يكن كاختبار غيره من القديسين أمثال بولتن وهوكر وروجرز، ولأنه لم يعرف بالضبط ميعاد تجديده، ولكنه أدرك فيما بعد انه كان مخطئا في هذا القلق، إذ إن الله يمس نفوس المؤمنين بآلاف الطرق تباعا لاستعداد الإنسان وأسلوب حياته ولون ظروفه وطريق الوصول المثلى لمشاعره ونفسه… فقد يأتي التجديد في حياة البعض في صورة التبكيت العنيف كمثل ما حدث مع سجان فيلبي، وقد يأتي في الهدوء الوادع كمثل ما تم مع ليديا بائعة الأرجوان، وقد يأتي في الإحساس بكراهية الحياة المبتذلة الدنسة الملوثة التي يعيشها الخاطئ، أو قد يصدر عن نفس تنزع إلى حياة الشوق العارم صوب الله.. ومع انه من المستحيل ذكر الكيفيات المتعددة التي يأتي بها هذا الاختبار إلى الناس، إلا انه يمكن الإشارة إلى ستة منها كما عددها جون ماكبث في كتابه ” حياة المسيحي” إذ قد يجيء للبعض:
1- في بهجة الغفران.. وقد عرفه مارتن لوثر بهذا الأسلوب إذ كان وهو راهب في الدير مضطربا معذبا قلقا من الإحساس بخطاياه، دون إن يجد سبيلا إلى الراحة والهدوء والسلام، لقد صلى وصام ومارس طقوسا كثيرة دون أن تستريح نفسه أو تهدا على الإطلاق.. وذلك يوم إن كان يتلو أمام صديقه الطيب الراهب استاوبتز. قانون الإيمان، وعندما وصل إلى القول : “أؤمن بغفران الخطايا”. وتوقف عندها قائلا، صاح صديقهالحب: “آه إننا لا ينبغي أن نؤمن بان الله غفر خطايا داود وبطرس فحسب، بل لابد أن نؤمن إن هذا الغفران يشملنا نحن جميعا. وانه من واجبنا أن نضع أنفسنا في ذات الوضع الذي وصل إليه غيرنا من الأقدمين عندما جاءهم هذا الغفران، وتمتعوا به”. وامن لوثر بذلك وامتلأ من تلك الساعة بسلام الله الذي يفوق كل عقل. سلام الإنسان الذي حصل على الغفران الشامل لجميع خطاياه!!..
2- وقد يجيء إلى البعض الأخر في الاستنارة من الظلام.. كما يأتي النور في أعقاب ليل عميق طويل، وحياة الشر في جملتها واصلها حياة ظلام، أو كما قال السيد له المجد: “وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لان أعمالهم كانت شريرة”” (يو3: 19) أو كما جاء في أمره ورسالته إلى الرسول بولس: “لتنفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور” (اع26: 18) أو كما جاء في قول هذا الرسول نفسه إلى أهل افسس : “لأنكم كنتم قبلا في الظلمة وأما الآن فنور الرب” (اف5: 8).
والإنسان في الظلام لا يستطيع التفرقة بين الأبيض والأسود، والجميل والقبيح، والخطر والأمن. وهو بهذا المعنى في الحياة الروحية اعمي عن كل حقائق الله وأعماله ووصاياه حتى يفتح الله عينيه، وينير دهنه، ويرفع الغشاوة عن قلبه، فينبلج أمامه النور، ويتضح الحق وتنكشف الروحيات ويعلم من هو. ولماذا جاء إلى الأرض، وما رسالته التي ينبغي أن يعيش لها في الحياة، أو في لغة أخرى تتفتح بصيرته، حتى ولو كان بالجسد مكفوف البصر أو أميا أو ساذج المعارف والإدراك في أمور الناس وأحوالهم. وقد شهد توماس بليني هذا الاختبار عندما اقتنى نسخة من ترجمة ارازمس اللاتينية للعهد الجديد، إذ قال: “لقد بزغ أمامي النور عندما تصادف أن وقعت عيناي وأنا افتح الكتاب على العبارة القائلة: “صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول، إن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا ” وقد فعلت هذه العبارة الواحدة فعلها العميق في نفسي، هذه النفس المحطمة المسكينة ترتفع وتنتصب حتى إنني أحسست كما لو أن عظامي بجملتها تكاد تقفز في فرح وبهجة!!.. لقد بدا كما لو إن لانهار قد بزغ فجأة في حياتي بعد ليل طويل”.. وكم كثيرون مثل هذا الرجل كان اختبار التجديد عندهم بمثابة الخروج من ليل دام مظلم طويل من القبح والفساد والإثم والشر والالتواء والانحراف والقذارة إلى نهار لامع صاف رائق من النقاوة والطهارة والنور والجمال والأخلاق السامية.
3- وقد يأتي إلى آخرون في صورة النهوض من الموتوذلك لما عدوا حياتهم البعيدة عن الله حياة ميتة كما يتحدث الإنسان عن ” الأيام الميتة” أو “الماضي الميت” أو كما تعد أية حياة حقيرة تافهة تخجل عن معنى وجودها ورسالتها على الأرض. والواقع إن الحياة لا تقاس عند الله بعدد السنين التي يعمر فيها الإنسان على الأرض نمهما تطل أو تمتد، بل تقاس بمقدار اتصالها بالله وخدمتها له وعملها من اجل مجده.. ومن ثم فان التجديد يأتي إلى هؤلاء عندما ينتقلون من هذه الحياة، أو بالأحرى من هذا الموت إلى معنى الحياة الحقيقية عند الله، ولهذا يقول الرسول: “وَأَنْتُمْ إذ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، 2الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، 3الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضاً، 4اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، 5وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ – بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ” (اف2: 1-5). اجل وهل تبدأ الحياة حقا، بكل ما في الحياة من معنى، إلا عندما تمسها يد الله، وتبدأ مع الله؟!.
4- وقد يجيء التجديد في صورة الانفلات من الأسر، إذ إن كل إنسان خاطئ هو في الواقع في قبضة الشيطان وتحت سلطانه، وعندما تحدث الله إلى بولس عن رسالته لم يقل له : “لتفتح عيونهم ليرجعوا من ظلمات إلى نور” فحسب بل قال له أيضا: “ومن سلطان الشيطان إلى الله” ( اع26: 18) وسلطان الشيطان واضح، فيما يجريه من أفعال آثمة وعادات شريرة وتصرفات لا يمكن أن تنسجم مع معاني الحق والعدالة والكرامة والنبالة والاستقامة والشرف!!.. كما لا تبعث على هدوء الضمير أو راحته.. وكثيرا ما يصحوا هذا الضمير ويستيقظ ويصرخ في طلب الخلاص والتحرر من هذا الأسر والاستعباد. ولن يتحقق هذا على الوجه الكامل إلا عندما يأتي يسوع المسيح المخلص بقوته المنتصرة إلى النفس البشرية ليفك عنها أغلالها ويحطم قيودها ويطلقها من الأسر إلى الحرية المارحة الواسعة، كما قال هو في مطلع رسالته الجهارية : “لأنادي للمأسورين بالإطلاق. وأرسل المنسحقين في الحرية” (لو4: 17) وكما قال في مناسبة أخرى: “فان حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا” (يو8: 36).وقد نالت أعداد من الناس لا تحصى أو تعد، هذا الاختبار فقالوا مع س. ف..اندروا عندما جاء إلى المسيح :”لقد تحطمت سلسلة العادات الشريرة التي كانت تغله، ولم تعد قبضتها ذات سلطان عليه”.كما شهد يوحنا نيوتن عندما اخذ طريقه إلى إفريقيا ليعمل بحارا في سفينة من السفن التي كانت تتاجر في العبيد ليكون بمنأى عن أي رقابة، وليعيش حياة حيوانية شهوانية قذرة كما يحلو له ويشاء، غير أن السفينة عصفت بها الرياح وطوحتها الزوابع، وفي 10مارس عام 1748 جاء السيد من الأعالي لينقذه من المياه العميقة وينجيه. لا من الغرق فحسب، بل من الحياة البهيمية التي كان يعيشها. ومن ذلك الوقت عاش ليكون خاما من أعظم خدام الله!!..
5- وقد يظهر في مظهر العودة من المنفى. وكل إنسان يبعد عن الله إنما يندفع بعيدا إلى مجاهل ومتاهات لا يعلم لها مدى أو نهاية. وقد كان قايين مثالا تعسا لهذه النتيجة المروعة،إذ خرج من لدن الله ليسكن ارض نود أي ارض البعد، وليندفع شريدا طريدا تائها معذبا لا يلوي على شيء.وقصة الابن الضال عندما خرج بعيدا عن بيت أبيه تردد الحقيقة عينها، وبل وذات قصة الحمل الضال التائه البعيد الذي يسعى ورائه الراعي المحب تكشف عن الوضع عينه، وفي الواقع أن الإنسان عندما يندفع في الشر والإثم والضلال إنما يندفع، يدري أو لا يدري، إلى منفاه بعيدا عن الله.
والتجديد يأتي لمثل هذا الإنسان في الرجوع إلى النفس والعودة إلى بيت الأب. “18أَقُومُ وَأَذْهَبُ إلى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إلى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ 20فَقَامَ وَجَاءَ إلى أَبِيهِ.”(لو15: 18، 20)وكما فعل الابن الضال، واخذ طريقه وعاد إلى البيت القديم بيت أبيه، هكذا يفعل الكثيرون في رحلة الحياة ووهادها وقفاره، ممن يتحولون عن طريق الخطية والشيطان والإثم والفساد والعالم إلى الطرق الأخر، طريق للعودة إلى الله، والمجيء إلى حياة النقاوة والطهارة والسعادة والمجد الأبدي!!}..
6- وقد يتم التجديد في صورة المصالحة من العداوة.. إذ أن الخطية تبني حاجزا فاصلا بين الإنسان والله، كما تجعل من هذا الإنسان كائنا متمردا عاصيا عدو الله في الفكر والقول والعمل، كما توقع البشرية كلها تحت الغضب من الله مخيف ورهيب، والتجديد يعيد الإنسان إلى الله، ويعيد الله إلى الإنسان وتتم المصالحة كما يقول الكتاب: “20وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ أم مَا فِي السَّمَاوَاتِ. 21وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً اجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ 22فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى أمامه” (كو1: 20-22) وهل هناكاختيار امجد وأروع من هذا الاختيار، الذي يتحول فيه الإنسان من العداء لله ليكون حبيبه وخليله وصديقه وأثيره!!..
هذه هي بعض الاختبارات التي يجتازها أولئك الذين ينالون الحياة الجدية. ومن ثم يمكن القول بان هذه الحياة من المستحيل أن تكون مجرد أوهام أو خيالات أو تصورات طافت بأذهان بعض الناس، أو راودت أحلامهم وأمانيهم، ولكنها الواقعة التي فصلت فصلا أبديا بين ماضيهم وحاضرهم. وبين حياتهم مع الجسد والخطية والعالم والشيطان. وحياتهم مع الله والحق والمجد والسعادة الأبدية..وقد عرف الملايين من البشر هذه الحياة في مختلف العصور والأجيال، ولا يمكن أن يدعي الإنسان مؤمنا ما لم يختبرها، ويتاكدها اختبارا حقيقيا لا شبهة فيه أو غموض أو جدل أو التباس على الإطلاق!1..
المؤمن والمركز الممتاز
والمؤمن إذ ينال الحياة الجديدة ينال معها وفيها مركزا ممتازا ودونه كل مركز يمكن أن يعرفه الإنسان على الأرض. ولعلنا نستطيع إيجاز تصوير مظاهرات وامتيازات هذا المركز الممتاز إذ هو أولا وقبل كل شيء:
1- مركز البنوة لله
مركز البنوة لله، وهذه الحقيقة هي التي ذكرها الرسول يوحنا في إنجيله بالقول ” 12وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ –أي المسيح- فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ اللَّهِ.” (يو1: 12، 13) وقال عنها في رسالته الأولى: “انظروا أية محبة أعطانا الأب حتى ندعى أولاد الله” (1يو2: 1) ولقد قيل أن احد المرسلين كان يترجم هذه الآية الأخيرة إلى أحدى القبائل الأفريقية، وإذ سمعها واحد من أبناء هذه القبيلة صاح قائلاًللمرسل: ” أحقا ما تقول؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان ابنا لله؟ ” وإذ أجاب المرسل بالإيجاب صاح الرجل : “وكيف تنطق هذه الكلمات دون دموع؟!”. اجل ومن ذا الذي يدرك هذه الحقيقة، ويعي معناها الدقيق دون أن تصدح حياته بأغنية أبدية لا تنتهي، فمن أنا وأنت وأي إنسان مهما يكن شانه أو اسمه، يمكن أن يبلغ هذه المرتبة.. وإذا صح أن الإنسان التعس البائس الفاشل عندما يتحول عن هذا البؤس أو الفشل أو التعاسة ليأخذ مجدا أو منصبا ارضيا يرى في ذلك يرى في ذلك رفعة أو أملا لم يحلم بالوصول إليه قط من فرط الشقاء والتعاسة، ويكون أشبه بذلك الرجل الذي كان يرمي في العام 1838م، وهو مسكين بائس ممزق الثياب بكومة من خشب في بدروم، وقد كسرت قطعه من الخشب لوحا زجاجيا من ألواح النوافذ، فانهالت عليه صاحبة المنزل بالشتائم والتقريع والاهانة، وقد سمع الرجل ما فاهت به دون أن ينطق ببنت شفة، وقد سمع الكلام رجل أخر اقبل على الصوت، وكان بدوره رجلا فاشلا جائعا متعبا بائسا، وكان منظر الرجلين في تلك اللحظة ينبئ عن فشل عميق وتعاسة كبرى، على إنهما بعد بضعة سنين كانا من المع الشخصيات في بالولايات المتحدة، إذ كان الأول الجنرال جرانت، والثاني الجنرال شرلمان، وقد تخطيا بالكفاح السنين السوداء في حياتهما!.. فإذا صح أن يعتبر هذا التخطي مجدا في حياتهما، فأي مجد يمكن أن يطلق على الواحد منا، الذي نقلعه الله من شره وإثمه وتعاسته وفشله إلى حرية مجد أولاد الله!1..
وفي الواقع أن الواحد منا أشبه بتلك الكتلة البشعة الصخرية التي كانت على قمة تل يشرف على واد في ايطاليا يعد من أجمل وديان العالم، وكان الزائرون لهذا الوادي يستمتعون بابهج مناظر الطبيعة هناك، ولم يكن يشوش المنظر سوى هذه الكتلة الصخرية التي ضاق الناس بها وتأذوا من منظرها جميعا، ما خلا إنسان واحد، فهذا كان يذهب إليها ويطيل النظر فيها ثم يعود إلى بيته، وبعد بضع زيارات حما أزميله وبدا يعمل فيها، وبعد مدة صنع تمثالا رائعا لملاك منها، وكان هذا الرجل ميشيل أنجلو المثال الايطالي العظيم!!.. وقد ألف الناس أن يذهبوا إلى هناك لا ليتمتعوا بجمال الوادي الخصيب فحسب، بل ليروا التمثال الجميل هناك!1.. وهل أنا وأنت إلا تلك الكتلة الصخرية البشعة التي رضي الله أين يصنع منها ما هو امجد وأعظم من ملاك، إذ صنع منها ابنا لله!1.. أي مركز اعلي من هذا، وأي مجد يداني هذا المجد!1.. ومن لا يتغنى ويترنم ويفخر بعد ذلك بالإله العظيم المجيد..
2- مركز الكهنوت الملوكي
وإذا كنا قد تحدثنا عن المؤمن كابن الله، فلابد أن نوضح مركزه كملك وكاهن في الأرض، وهذه الصفة المزدوجة، ليست قاصرة على مؤمن دون أخر، بل هي حق كامل لكل مؤمن مسيحي، مهما كان حظه أو ظرفه في تلك الحياة.. والأصل الكتابي في ذلك، أن الله جعل الشعب كله في العهد القديم ملوكا وكهنة: “تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. 6وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً.” (خر15: 5،6) أو كما ذكر اشعياء بالنبوة على الكنيسة كلها: “أما انتم فتدعون كهنة للرب تسمون خدام إلهنا” (اش61: 6)أو كما جاء في العهد الجديد في أقوال الرسول بطرس وهو يصف جميع المؤمنين: ” وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إلى نُورِهِ الْعَجِيبِ. 10 الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ.” (1بط2: 9، 10).. وفي سفر الرؤيا: ” الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، 6وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ.´”ة (رؤ1:5، 6 ).. لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، 10وَجَعَلْتَنَا لِإِلَهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ».(رؤ5: 9، 10 )..
لعل أروع ما كتب مؤخرا عن هذا الموضوع ما جاء في كتاب “الكنيسة” لعالم لاهوتي كاثوليكي هو الدكتور هانز كونج السويسري وعميد كلية اللاهوت الكاثوليكية في جامعة توبنجن في الفصل الذي افرده في الكتاب تحت عنوان: “كهنوت كل المؤمنين صفحة 263 – 387 طبعة 1967”.. ومع انه ليس من السهل ذكر كل ما جاء في هذا الكتاب ههنا، إلا أن الكاتب، في درسه العميق للكهنوت الملوكي، ناقش أولا الحقيقة المسيحية الأساسية التي تؤكد أن المسيح هو رئيس الكهنة والشفيع الوحيد، وانه احدث تغييرا أساسيا في النظام الكهنوتي، بما جعله يختلف في كل شيء، عن النظام اليهودي، أو النظم الأممية!!..
يقول الكاتب أن الكلمة الحديثة “كاهن” وفي الانجليزية Priest” ” وفي الاسبانية “Presbitero ” وفي الفرنسية ““Pretreوفي الايطالية Prete”” وفي الألمانية والهولندية Priester”” وهي المشابهة للكلمة اللاتينية “Presbyter” والمأخوذة من الأصل اليوناني الذي هو “شيخ ” وبمعنى القائد في الجماعة!!.. لكن الكلمة على العكس من ذلك تطورت في اللغة الكنسية اللاتينية وتباعدت عن هذا المعنى، حتى انصرفت إلى الكلمة اللاتينية Sacerdoأو الايطالية والاسبانية Sacerdote وهي تعبير يقصد به من وظيفته الأساسية تقديم ذبيحة… ولعله من المثير أن الكلمة “كاهن ” لم تطلق على أي شخص في العهد الجديد اخذ وظيفة في الكنيسة، كما أن السيد المسيح كان واضح النقد للكهنة الذين كانوا في وقته،.. كما انه أنهى النظام الكهنوتي الذي كان معروفا في العهد القديم، فلم يأت على رتبة هارون بل على رتبة ملكي صادق، كما انه كان يختلف عن الكهنة، الذين كانوا عاجزين بالذبائح المتكررة عن أن يكفروا عن خطايا أنفسهم وخطايا الشعب، أما هو فقد كان الكاهن والذبيحة معا، وبقربان واحد أكمل إلى الأبد المقدسين، ومن ثم فهو رئيس الكهنة القادر، والذي لا يمكن أن يحل محله أخر، وعمله كامل وشامل، ولا يحتاج إلى إضافة أو تكرار أو تحسين، والملائكة أو الناس لا يمكن أن تقوم مقامه على الإطلاق من هذا القبيل!..
والمسيح هو الوسيط الوحيد،وليس في اللغة العبرانية أو الآرامية، ما يعطي كلمة وسيط مدلولا معينا، وقد جاءت في اللغة اليونانية بمعنى يقف بين اثنين،ر وليس مجرد موقف المحايد بل الوكيل، ولا يمكن أن يصلح لهذه الوساطة، وعلى وجه الخصوص، غفران الخطايا، سوى شخص المسيح ولهذا قال الرسول: ” 5لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، 6الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ،” (1تي2: 5، 6).. والمسيح هنا يعلو على موسى: ” يقدر ما هو وسيط أيضا لعهد أعظم قد تثبت على مواعيد أفضل “(عب8:6).” 15وَلأَجْلِ هَذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ – إذ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ – يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ.” (عب9 :15).. “وَإلى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ: يَسُوعَ، وَإلى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ.” (عب12: 24).. ولا يمكن للمؤمن أن يثق أو يطمئن إلى وسيط أخر غبر المسيح الذي هو وحده بفدائه الجنس البشري يصلح دون غيره لهذه الوساطة، ويحذر الكاتب من الخطر الذي يمكن أن تقع فيه الكنيسة، أن تضعها نفسها ونظمها في مركز الوسطاء، وإذا كان العهد الجديد قد كشف عن وسائل متعددة لمعرفة مشيئة الله وإرادته عن طريق الملائكة والرسل والأنبياء، إلا انه لم يذكر قط أن هناك وسطاء، إذ ليس وسيط بكل ما في الكلمة من معنى سوى يسوع المسيح، أما الآخرون فما هم إلا شهود أو سفراء لهذا الوسيط الواحد، أو كما يقول الرسول بولس : “18وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، 19أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. 20إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ. “(2كو5: 18-22).. ومن المهم أن نعلم أن المسيح كوسيط ورئيس كهنة هو وحده الذي يفتح الطريق إلى قدس الأقداس : “19فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، 20طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، 21وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ.”(عب10: 19–21).. “15فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ لِلَّهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ.”(عب13: 5)…
وجميع المؤمنين بهذا المعنى الأخير يمكن أن يكونوا كهنة يقدمون الذبائح الروحية لله!1فالصلاة، والكر والتسبيح، وثمار التوبة، والإيمان، والمحبة، لا يمكن أن تأتي من مجرد قوة الإنسان أو جهده، بل بشفاعة وفاعلية الوسيط ورئيس الكهنة الوحيد الرب يسوع المسيح!1.. كما إن المؤمنين ملوك خرجوا من سلطان إبليس وعبوديته، وأضحوا أحرارا وسادة لأنفسهم، وللعالم الذي يخضع الفادي سيخضع بالتالي لهم لمملكتهم!!..
.. ويعدد الكاتب صور الكهنوت الملوكي لجميع المؤمنين فيراه أولا: في الاقتراب المباشر إلى الله، الأمر الذي كان مجهولا لدى الأمم ومتعذرا لدى اليهود، الذين كانوا يقتربون عن طريق الكهنة لتقديم الذبائح، وكان رئيس الكهنة يدخل مرة واحدة كل عام قدس الأقداس في رهب ورعب، أما المسيح فقد أزال الحجاب الحاجز : “14فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. 15لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. 16فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ.” (عب4: 14–16)..
ثانيا: تقديم الذبائح الروحية : وهي الذبائح التي يشير إليها الرسول بولس : ” 1فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ.”(رو12: 1). “لكنني وان كنت أنسكب على ذبيحة إيمانكم وخدمته أسر وأفرح معكم أجمعين” (في2: 7)،(في4: 18).. وما ذكره بطرس: (1بط2: 5).
ثالثًا: الوعظ بالكلمة: وهي رسالة جميع المؤمنين بحياتهم وتصرفاتهم وكرازتهم، ولا يجوز لأحد أن يتخلف عن هذا: (1بط2: 9).. وفي العهد الجديد هناك حوالي ثلاثين لفظًا تستخدم في هذا المجال، ليعلن ويخبر، ويبشر، ويعلم، ويشهد، ويقول، ويشرح، ويقنع، ويعترف، ويكرز، ويحث.. وهذه جميعًا تبين ضرورة مساهمة كل مؤمن ومسيحي في حث النفوس، والكرازة للناس.. ويلاحظ دكتور كونج أن الكرازة كانت من الوجهة التاريخية عمل كل مسيحي، في القرنالأول الميلادي… وأنها أهملت للأسف، على نحو محزن في القرون التالية، أو جعلت قاصرة على قادة متخصصين لها.. وقد بقى الأمر على هذه الحال حتى جاء عصر الإصلاح، كما أشار إلى أن أبطال الدفاع عن الحق المسيحي، من اللاهوتيين، كان أغلبهم في الأصل من العلمانيين في الكنيسة أمثال يوستيان، وترتليانوس، وبانتانيوس، وكلمنت السكندري، وعشرات منهم!!
رابعًاممارسة المعمودية، والعشاء الرباني، وغفران الخطايا، وهذه جميعها من حق الكنيسة كلها، وليست اختصاصًا أو احتكار لفئة دون فئة فيها!!.. (مت28: 19).. “وإن لم يسمع فقل للكنيسة وإن لم يسمع ” (مت18: 17-18).. (لو22: 19)..
خامسًا: خدمة الوساطة: وكهنوت المؤمنين يمتد في وساطته من أجل العالم، ومن أ<ل الأخوة أنفسهم، إذ أن الاقتراب المباشر لله ليس من أجل أغراض ذاتية أو شخصية، بل هو أكثر من ذلك لأجل الآخرين، فنحن ينبغي أن نتوسط بين الله والعالم.. وهذا يتم بإعلان حقائق الله للعالم، والصلاة من أجل الجميع: (قي2: 15) (1تي2: 1).. كما أننا ينبغي أن نصلي من أجل أخوتنا المؤمنين في شتى أحوالهم وظروفهم.. (غل6: 2)..
ومن هذا الذي ذكرنا جميعًا يتبين أن الكهنوت منصرف إلى جميع المؤمنين، وليس هو نوعًا من المقابلة ما يطلق عليه خدام أو قادة الكنيسة، وعلمانيون.. وأن هذه التفرقة، غير معروفة في الإنجيل، وأنها شاعت نتيجة الاندفاع المتزايد نحو تخصيص ما أطلق عليه وظائف كهنوتية، استبدلت فيه كلمة كاهن بالمعنى الإنجيلي الصحيح، لتأخذ صورة الكاهن الذي هو من طبقة معينة، ويقف بين الله والناس على نحو يهودي أو وثني،.. وبهذا المعنى تفقد الكنيسة أجمل خصائص الكهنوت المسيحي، والتي تتركز في الوسيط الواحد ورئيس الكهنة الرب يسوع المسيح وكهنوت كل المسيحيين.
كما أن دكتور كونج يختم في النهاية بان الألفاظ أو الأوصاف التي ينفرد بها الرهبان أو أي طبقة كنسية كالروحانيين أو المقدسين ليست إلا ابتداعا متأخرا في الكنيسة، وتناقض ما جاء في الإنجيل، الذي يؤكد أن الحياة المقدسة حق لكل مسيحي بالخليقة الجديدة بعمل الروح القدس.. فليس إنكار الجسد أو عدم الزواج أو حياة العزبة هي التي توجد الروحانية، بل على العكس قد تكون هذه: ” الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ الْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إشباع الْبَشَرِيَّةِ.(كو2: 23).. أن الروحانية أو حياة القداسة لا يمكن أن تأتي إلا بعمل روح الله في كل المؤمنين: “16وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. 17لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ،.. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ:..22وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ 23وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ.” (غل5: 16- 23).. والأمر ذاته في الكلمة “اكليروس” إذ هي في الأصل تعني كلمة “قرعة” كما جاء في القول : “ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد” (مر 15: 24).. وقد استعملت بمعنى نصيب أو قرعة لمن حل محل يهوذا: “إذ كَانَ مَعْدُوداً بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هَذِهِ الْخِدْمَةِ..فأَلْقَوْا قُرْعَتَهُمْ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى مَتِّيَاسَ فَحُسِبَ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً. (اع1: 17، 26).. ولهذا فهي في معناها الأصيل هي المشاركة في خدمة المشيخة، غير إنها أضحت تطلق فيما بعد على كل الممارسين للأعمال والخدمات الكنسية،.. وشاعت أيام اوريجانوس كل من يمسك في الكنيسة “خدمة ” في مقابل “الشعب”… وعلل جيروم التسمية، بأنها تعطى لمن يصبح ملكا للرب أو أن الرب نصيبه، وقسمته!!.. على أن التفرقة اتضحت على نحو اسم بعد عصر قسطنطين بين العلمانيين والكهنة!!.. حيث أن كلمة العلمانيين لم تأت في العصر اليوناني إلا بمعنى الطبقة غير المتعلمة، وعند اليهود لمن هو غير كاهن أو لاوي، ولم ترد على الإطلاق في العهد الجديد.. غير إنها جاءت في الرسالة الأولى لكلمنت لتشير إلى المؤمن الصادق في مواجهة رؤساء الكهنة، والكهنة، واللاويين، وأخذت طريقها بعد ذلك في التاريخ الكنسي لتكون صورة لطبقة متميزة في لباسها ونظامها وامتيازاتها،.. مع إن هذا متناقض مع الإنجيل، والذي وان كان قد أعطي مواهب مختلفة، إلا انه لم يقسم الشعب إطلاقا إلى طبقة من الاكليروس وطبقة من العلمانيين، إذ الكهنوت من حق كل مؤمن، ولكل واحد من المؤمنين قرعته ونصيبه في خدمة الخلاص، ولم يجرد واحد قط من هذا النصيب!!..
هذه خلاصة أراء الدكتور هانز كونج في “كهنوت كل المؤمنين” وقد أثرنا تلخيصها لا لأنها تمثل رأيا متقدما حديثا في الكنيسة الكاثوليكية، بل لأنها في الواقع محاولة تقترب في الجانب الكبير منها من الدرس الكتابي المنشود، وهي على أي حال تعطينا في هذا المجال غنى وثروة كبرى، في مركز المؤمن باعتباره كاهنا وملكا أمام الله والناس!!..
3- مركز الاطمئنان
وعلى المؤمن أن يعلم على الدوام انه في مركز الأمان طالما يستند إلى وجود الله معه ومعونته إياه.
عندما هاجم مستر ستيد الصحفي الانجليزي العظيم شرور لندن ومخازيها هجوما قويا لاذعا، أثاره ضده كثيرين من القادة والمسئولين، فقال له صديق :”إلا تخشى هؤلاء جميعا؟ ” فأجابه: ” أن لي شريكا قويا” فسأله: “ومن هو؟ ” فأجاب: ” الإله القوي”.ومن يتأمل حقا معنى هذه الحقيقة : إن الله معه وان يده تؤازره، لابد أن يهدا ويطمئن ويستريح؟!!
قال احد الرجال اليهود للدكتور جونسون روس: “سلام لكما”. فسأله هذا: “لي ولمن” فأجابه: ” لك والملاك الذي يسير خلفك”.. غير خاف إن فكرة الملاك الحارس شائعة عند اليهود، وقد تتيح لنا الإشارة إلى هذه الفكرة سلفا عند الحديد عن الملائكة، غير انه يمكننا الجزم هناعلى إي حال إننا نسير في الحياة في كل لحظة على الدوام بمصاحبة المسيح، وقد صنع احد المثالين تمثالا رائعا لفيلبس بروكس في مدينة بوسطن معتمدا على هذا اليقين، إذ نحته واقفا وخلفه المسيح واضعا يده برفق على كتفه.
4- مركز الإخوة مع الآخرين
ومركز النبوة لله يتضمن في المركز عينه مركز الإخوة بالنسبة لسائر المؤمنين: وهنا يتخطى المؤمن سائر الفروق الاختلافات التي قد يصنعها الجنس أو الثقافة أو الثروة أو الدم أو ما أشبه، مما قد يفرق بين إنسان وإنسان.. وقد حدث إن دخل ذات مرة دوق ولنجتون القائد الانجليزي العظيم الذي هزم نابليون في معركة ووترلو ليصلي بجانب احد العمال، وما أن أبصره العامل حتى هم بالوقوف، إذ كيف يركع إلى جانب القائد العظيم، وإذ بولنجتون يهمس في أذنه، اركع معي أيها السيد فنحن متساويان في نظر الله!!.. اجل وهنا تذوب كل الفروق والحواجز البشرية المصطنعة، ويضحى جميع المؤمنون إخوة في الرب يسوع أخينا الأكبر البكر…ولعله من واجبنا الأساسي أن نذكر على الدوام هذا المركز حتى في اضعف الناس وأبسطهم وارقهم حالا، إذ لا يمكن أن تنسينا ثيابهم الممزقة وظروفهم المحدودة في الحياة مركزهم العظيم المجيد عند الله.
5- مركز المجد العتيد
وأخيرا وليس أخرا لا ينبغي إن ننسى مركز المؤمن الأبدي العتيد، وما حياته الحاضرة في حقيقتها وواقعها إلا عربون الحياة الأبدية العتيدة.. وإذا كان قد قيل عن لعازر، كما جاء في احد التقاليد القديمة، انه من الوقت الذي أعاده فيه الناصري إلى الحياة كان يسير بقدميه على الأرض، ولكن فكره وقلبه كان على الدوام في السماء التي منها عادت روحه بعد أن بقيت هناك أربعة أيام.. وكل مؤمن حقيقي وان كان يتمشى بقدميه على الأرض ولكن مركزه وسيرته الحقيقية في السموات، وإزاء هذا المركز العظيم المجيد يضحى تبر الأرض بالنسبة لأشواقه وأحلامه وأمجاده السماوية ترابا واقل من تراب!!..
هذه هي بعض امتيازات المؤمن ومجده السني العظيم، ولعله من اللازم أن يتأملها بين الحين والحين كلما ضاقت به السبل أو أخذه شيء من اكلل واملل، وهو في الطريق الأبدي، إذ يعلو عندئذ ويرتفع ويسمو ويقوى على السير وهو مندفع منطلق في رحلته الخالدة إلى الله…
المؤمن ووسائط النعمة
ولكن كيف أن يدرك المؤمن حقيقة هذا المركز الممتاز على أساس الفهم العميق والإدراك السليم؟!! بل كيف يمكن أكثر من ذلك أن يحافظ عليه ويثبت فيه؟!!
في الواقع إن الله لم يتركه في الأمر لمجرد مجهوده الخاص أو مساعيه الذاتية، بل زوده بكل ما يمكن أن يقويه ويساعده ويعينه ويحفظه، لا في الثبات فحسب، بل في النمو والتقدم في الحياة المقدسة المباركة أيضا.. فما هي هذه الوسائط التي يمكن أن تدفعه إلى الأمام وإلى اعلي في الوقت نفسه؟ لعل أهمها في الواقع ما يلي:
1- الشركة السرية مع المسيح
وهذه الشركة ليست وهما أو خيالا، ولكنها الحقيقة الأكيدة في الاختبار المسيحي، إذ إن علاقة المسيح بإتباعه علاقة الشركة التي لا تنفصم عراها أو تتباعد أثارها، بل هو أكثر من ذلك كثير، إذ هو الشخص الحي الساكن المستقر في حياته استقرار راسخا أكيدا لا شبهة فيه، وقد وضع الكتاب لهذه الحقيقة أكثر من صورة أو مثل، فعلاقة المسيحي بسيده علاقة الغصن بالكرمة، وعلاقة العضو بالجسد، وعلاقة الهيكل بالساكن فيه، وهذه العلاقة لا تحتمل التجزئة أو الانفصال و التباعد.. وهذه العلاقة، كما هو واضح، علاقة سرية خفية عميقة أو كما يقول الرسول: “3لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ – عن الحياة القديمة – وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ” (كو3: 3) أو كما وصفها المسيح بالقول :” هاأنذا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي.” (رؤ3: 20) «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً.” (يو14: 23).. وغير خاف لذلك انه لا يمكن تحقيقها إلا بالإيمان: “16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تتأبدوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، 17لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ،” (اف3: 16، 17). وكلم تحقق الإنسان هذه آيات ومعجزات!! بل كلما انصاع لقيادته وإرشاده ومشورته وسلطانه، كلما اندفع إلى الطريق السوي الأمن بالقوة الغامرة ولانتصار المجيد!! ومن المأثور عن جون باتون قوله : “لولا الإحساس المستقر الثابت بوجود الرب يسوع، لما وجدت في كل العالم ما يحفظني من ضياع عقلي، وكلماته القائلة: “ها انأ معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” كانت حقيقة في اختباري، لدرجة إني لم أكن استغرب لو انه خرج من العليقة!!. لقد شعرت بقوته المعينة لي إلى الحد الذي يمكنني معه أن أقول إني استطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني!!”… ومن هو الرجل الأحمق بعد ذلك الذي لا يغني أو تصدح موسيقاه مع هنري فرانسيس لايت بالقول:
امكث مع سيدي فالغمر غطى جسدي
والوهن قد أعيى يدي وليس لي من منجد
***
فكن أمامي في النهار ياراحتي حين القرار
يا حافظي وقت المنام يا مرشدي حين الكلام
***
وكن معي في كل حين يا حارسي الحصن الأمين
يا عاضدي طول الحياة يا ناصري عند الوفاة
فإذا كانوا قد قالوا عن تشارلس ديكنز انه كتب خطابا ذات يوم وأمضاه باسم جون فورستر، وعندما اكتشف الخطأ كتب إلى صديقه يقول انه طوال الوقت الذي كان يكتب فيه الخطاب، كان يفكر في الصديق إلى الدرجة الذي نسي معها نفسه، فامضي وهو لا يدري باسم صديقه!! فإذا صح أن يقال هذا عن علاقة صديق بصديق مثله، افليس الأمر أولى وأجدر واصح بالنسبة لعلاقتنا بأعظم صديق وأوفى محب واخلص شريك… ما احونا حقا أن ننسى نفوسنا وحياتنا وشخصياتنا ونحن نندمج بشخصه العجيب لنعش في ذوب حبه وجوده وسيطرته وانتصاره مستأثرين كل فكر إلى طاعة المسيح.. وعندئذ فقط تنفتح في حياتنا طاقات هائلة يمكن أن يقال إزائها الضعيف فينا “: “بطل أنا”!!..
2- دراسة الكتاب المقدس
إذا جاز أن يجث للإنسان نمو بدون طعام، جاز أن يحدث للمؤمن نمو في حياته الروحية دون دراسة الكتاب المقدس. ونحن نلاحظ على الدوام أن عصور الضعف في الكنيسة هي العصور التي يضعف فيها درس الكتاب، والعكس صحيح!!.. وقد قال احد القديسين: “إني لا أحب أي كتاب إلا كتاب الله” ولعلنا نلاحظ في هذا الصدد اطراد الشهادات القوية الآتية من الأنبياء والرسل والقديسين، وكيف كان لهذا الكتاب أعمق واقوي الآثار في حياتهم ورسائلهم. ويكفي أن نذكر هنا على سبيل المثال قول داود : “7نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيماً. 8وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طاهرا يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. 9خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إلى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. 10أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ. 11أَيْضاً عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ.”(مز19: 7-11) وقل اشعياء :” إلى الشريعة وإلى الشهادة، وان لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر “(اش8: 20) وبقول ارميا: “وجدت كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي” (ار15: 16) وقول الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس : ” وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. 16كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، 17لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ.” (2تي3: 15- 17) وفوق وقبل الكل شهادة المسيح القائلة:” ِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي.” (يو5: 39).
ومن اللازم أن نوضح ههنا انه لا يجوز لأحد على الإطلاق أن يقف بين المؤمن ودراسة الكتاب..وقد ارتفع الآن النداء في شتي المذاهب بضرورة فتح الطريق المباشر بين أي مسيحي والكتاب المقدس. وقد حدث ذات مرة أن انتهر احد الكهنة الكاثوليك فتاة صغيرة درجت على الذهاب إلى الاجتماعات لدراسة الكتاب، وكان أبواها يشجعانها على الذهاب، ولكن الكاهن قال: إنها ينبغي أن تطيعه هو لولا تطيع أباها فأجابته: “ولكن الكتاب يعلمنا قائلا: أكرم أباك وأمك” فأجابها الكاهن: “ولكن ليس من شغلك أن تقرئي الكتاب”! فأجابته: “ولكن كيف يكون هذا والمخلص يقول: “فتشوا الكتب” فقال لها: “ولكن هذا كان لليهود وليس للأطفال وأنت لا تفهمين الكلمة” فقالت له: ” ولكن بولس قال لتيموثاوس: “وانك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة!!” فقال لها: ” أن تيموثاوس كان يدرب لكي يكون أسقفا وقد درب بأمر الكنيسة وتحت رعايتها” فأجابته: ” لا ياسيدي، لقد علمته جدته وأمه”… وعندئذ حار معها الكاهن وتحولعنها دون أن يجد حجة أخرى يقنعها بها!!.. وفي الواقع أن أعظم بركة تتاح للإنسان أن يكون صديقا وأليفا لكتاب الله!!..
3- معونة الصلاة
قال احدهم أن الصلاة للمسيحي أشبه بالتنفس للجسد، وإذا أمكن للجسد أن يعيش بدون تنفس أمكن للمسيحي أن يعيش بدون صلاة. وكما جعل الله التنفس للإنسان والحيوان والنبات امرأ هاما ولازما لا يمكن الاستغناء عنه، هكذا جعل الصلاة للمؤمن. فهو لا يمكن أن يحيا أو ينمو بدونها… وقال أخر أن الصلاة هي الفن الضائع عند الكثيرين من المسيحيين في عصرنا، وان الضعف الكامن في حياتنا، والخور الذي أصابنا أفرادا وجماعات يرجع إلى عدم إدراكنا فن الصلاة أو تأثيرها أو مجدها!!. وقد أراد الوحي أن يذكرنا بضرورة الصلاة وأهميتها، فدون في الكتاب المقدس مائة واحد وثلاثون صلاة رفعها رجال ونساء الكتاب المقدس في العهد القديم والجديد، ومن هذه الصلوات ثلاثة وثمانون في العهد القديم كله، ومن بينها ثلاثة وسبعون جاءت ما بين التكوين وسفر الملوك الأول، ومن هذه عشرون صلاة رفعها موسى، وهي اكبر عدد من الصلوات دونت لفرد واحد في الكتاب. كما أن الأناجيل الأربعة حفظت لتنا تسعة وعشرين صلاة، منها تسع صلوات للمسيح وحده، وواحدة منها شملت إصحاحا بأكمله وهو الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا، وأما التسع عشرة صلاة الباقية فقد جاءت في سفر الإعمال والرسائل وسفر الرؤيا، ومنها سبع صلوات لبولس وحده.. وما من شك بان ذكر هذه الصلوات جاء عمدا في الكتاب لكي نرى مقدار أهمية الصلاة وفاعليتها وأثرها في حياة القديسين والمؤمنين… فإذا تبين بعد ذلك أن أعظم أبطال التاريخ والكنيسة كانوا رجال صلاة، وأنهم كانوا يضعون الصلاة في المركز الأول والاسنى من حياتهم، لأدركنا السر الحقيقي الكامن وراء قوتهم ونجاحهم.. ومن ينسى على سبيل المثال أن تشارلس سيمون كان يصلي كل يوم من الرابعة إلى الثامنة صباحا، وان وسيلي كان يقضي ساعتينيوميا في الصلاة بعد أن يستيقظ في الصباح، وان لوثر كان يعد اليوم الذي لا يتمكن فيه من قضاء ساعتين في حضرة الله يوما ضائعا؟ كما أن احدهم وصف جورج فوكس بالقول : “ولكنه قبل كل شيء تفوق في الصلاة، فالعمق والاتزان في روحه والمهابة والجلال في حديثه وعمله، والقلة والملء في كلماته التي هزت بالإعجاب كل من يقترب إليه بروح التأمل والبحث… على أن أفضل وأروع واجل ما فيه كانت صلاته، لقد عرف الله وعاش قريبا من الرب أكثر من أي إنسان أخر، ولكن الذين يعرفون الأب لابد أن يقتربون منه باحترام ومهابة وخوف!!”. ما أكثر ما نحتاج إلى فهم الصلاة وأثرها العظيم المعجزي في حياة المؤمنين.
4- الكنيسة
والكنيسة ولا شك من اقوي الوسائط التي أوجدها الله لنمو المؤمنين وتقدم حياتهم. ومع انه سيتاح لنا تخصيص دراسة أو سع واشمل للكنيسة وفرائضها المقدسة في البابين التاليين، إلا انه يمكن القول عنها مبدئيا أن وجود الكنيسة ورسائلها يعدان من أعمق واقوي المؤثرات في حياة المسيحيين على الأرض، إذ هي التي تجمعهم في وحدة تعاونية كاملة يعين فيها المتعلم الجاهل، والبالغ في الإيمان الحديث والقوي والضعيف، كما إنها هي التي تنظم وتحدد علاقة المؤمنين بسيدهم بما فيها من تعليم وتشجيع وتقوية ومعونة وفرائض مقدسة، وقد عدد احدهم الأسباب التي تجعلنا نذهب إلى بيت الله فقال:
- الشعور بالواجب، وعرفان بالجميل، ومحبة الله الذي يعطينا كل شيء طيب.
- الإنسان في حاجة إلى العبادة، إذ أن وجود اله ضروري في حياة الإنسان.
- أن النفس في حاجة إلى التدرب والنمو، كما يحتاج العقل والجسد سواء بسواء، والنفس المهملة ستسقط في الضعف والفساد.
- الإنسان في حاجة إلى العبادة الجمهورية لأنه خلق للتعاون والتعاضد.
- لان المسيح كان متعودا على الصلاة.
- لان العبادة لها فوائد كثيرة لجسد الإنسان وعقله ونفسه وروحه جميعا.
- لان الذهاب إلى الكنيسة يلون المرء ويطبعّه بطابع خاص، إذ يرى نفسه يختلف عن غير المؤمنين.
- لان الذهاب إلى الكنيسة يحمي من الإلحاد.
- انه يسيرا أيضا الغيرة والمحبة
- أن العبادة تجعلنا على الدوام متذكرين أن لنا نفوسا، كما أن لنا أجسادا أيضا
- العبادة الجمهورية تقرب الناس بعضهم من بعض فتحميهم من العزلة الروحية، وبالتالي من الأنانية والجبن والتعصب
- يحتاج الزمن والعصر الذي نعيش فيه إلى تعبير ظاهر عن الإيمان بوجود الله وعنايته.
- أن مجرد تلقي الدين عن الآخرين دون عبادة يجعل الحياة ضعيفة واهنة.
- أن المقاعد الخالية في بيوت الله معناها أن هناك قلوبا خالية وبيوتا خاوية وخرابا روحيا…
ولعل هذه الحقائق كلها تبين مدى الدور الذي تلعبه الكنيسة في حياة المؤمن
5- استثمار المواهب
وأخيرا وليس أخر الوسائط الإلهية، استثمار المواهب المتعددة التي يعطيها الله للمؤمن، ومع أن النظرة المتعجلة تنظر إلى المواهب في نطاق الواجب وميدانه، ولكنها في الواقع- وقبل كل شيء، وبعد كل شيء-سر نمو المستثمر نفسه، ـ وأساس تقدمه ومصدر نجاحه…فإذا كانت اليد المبسوطة والمتعودة على الكفاح والخدمة، لابد أن تسير سيرا مطردا في القوة مع ما تقدم من خدمة أو كفاح، وإذا كان أحسن أسلوب للتعلم هو التعليم، فمما لا شك فيه أن استثمار المواهب يعطي المستثمر نفسه من الحصانة والقوة والمناعة ما يعيِّنه على التقدم والنضوج والبلوغ والانتصار ويكون من الصعوبة بمكان الفصل بين الواجب والامتياز في ذات المواهب… ولعل الخدمة في حد ذاتها هي التي تكشف عن معدن الإنسان وحقيقته… وقد كتب احدهم قصيدة رائعة يصور فيها أدعياء الخدمة، ومدى ما في نفوسهم المريضة من نفاق أو ضعف، فقال فيها على لسان احد أتباع المسيح لسيده : ” سأذهب حيثما تأمرني يا سيدي، فالخدمة الحقيقية هي ما ارغب وسأنادي بكل ما تطلب مني، ولكن لا تطلب مني أن أساعد الأولاد والبنات، فاني لا ارغب أن اعمل في الفصل.. إني اعمل ما تريده مني يا سيد، فأعدائك يورثونني الغضب وسأعطيك الفلس والمليم، ولكن لا تطلب مني العشور… سأذهب حيثما تريدني أن اذهب وسأقول كل ما تريدني أن أقول…ولكني أنا الآن مشغول مع نفسي يا سيدي العزيز، وفي وقت أخر سأذهب!!”.. ومن هنا ندرك أن استثمار المواهب هو في حد ذاته خير وسيلة لنهوض الحياة وقوتها!!..
المؤمن والعالم
وهل يمكن دراسة حياة المؤمن، دون فهم العلاقة التي ينبغي أن يكون عليها إزاء العالم؟!! ولعله من الأهمية بمكان أن يحدد كل مؤمن حقيقة وطبيعة موقفه من العالم.. وإلى أي حد ينبغي أن ينتفع بالعالم؟ وكيف يحفظ من شره؟ وكيف يستطيع أداء رسالته فيه؟ وقد بيَّن المسيح كل هذه في صلاته الشفاعية في القول :” 15لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. 16لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ.” (يو17: 15، 16) ومن هذا التعبير تتضح عدة حقائق لعل أهمها :
1- أن المؤمن بحياته الجديدة لن يعد “من العالم” وقد وصف “جويت” حياة إنسان العالم بالقول :”أن حياة النشاط البشري دون التطلع إلى الله، إذ هي الحياة دون دعوة سماوية، ودون مثل إلهية ودون ارتفاع، إذ لا تفهم على الإطلاق دعوة الله العليا في المسيح يسوع، كما لا توجد بها قمم الله أو أفاق القدير… إنها الحياة التي لها طموح دون أشواق سماوية، وتهدف إلى النجاح دون أن تعني بالقداسة، وهي التي تقول دائما إلى الأمام، ولكنها لا تنادي إلى اعلي”. وبهذا المعنى لا يمكن أن يكون المؤمن من العالم، إذ أن أشواقه وأحلامه وأمانيه اعلي واسمي وأقدس من أن تعيش باحثة عن تراب الأرض أو تطمر فيه… وبهذا المعنى لا يمكن أن تكون حياته حياة من يأكل ويشرب لأنه غدا يموت، أو يعيش للشهوات والنزوات، إذ هو إزاء هذه كلها يمكن أن يقول: “صلب العالم لي وانأ للعالم” (غل6: 14).كما يقول : “15لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الأب. 16لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الأب بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. 17وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إلى الأَبَدِ.” (1يو2: 15-17).
2- على أن ذلك لا يعني أن المؤمن يلزم أن ينصرف عن العالم أو يقاطعه ولا يعني أن يعرض عما فيه من علم وأدب وفن وموسيقى وثروة واختراع، ولا أن يمتنع عن التمتع بخيراته وبركاته فهذا ما لا يمكن أن يكون المسيح قد قصده على الإطلاق، بل أن هذا ما يتنافى مع ذات القول: “لست أسال أن تأخذهم من العالم “. ومع أن البيوريتان الأقدمين كانوا من اقوي وأعظم وأشجع المسيحيين الذيم ظهروا على وجه الأرض، إلا إننا لا نتردد في القول أنهم كانوا مخطئين، أو بتعبير أدق متزمتين في مواقفهم من العلم والموسيقى والصور والملبس.. ألم يطرد يوحنا بنيان من كنيسته امرأة لأنها لبست ثوبا حريريا!!؟ وألم يكن يوحنا وسيلي يخاف من أن يبدو أنيقا في ملبسه!!؟ وألم تعزف مس هيفرجال عن أن تسمع أي لحن سوى الإلحان الدينية!!؟ وألم بقصر الرسام انجليكو فنه على رسم الصور الدينية!!؟. مثل هذه المواقف وان دلت على رغبة في التكريس إلا إنها تقصّر في الانتفاع بأشياء كثيرة أساسية في العالم!! ونحن نستطيع أن ننتفع بما في العالم عندما نضع ما ننتفع به في ضوء الله بل أن العالم عندئذ يمتلئ بالغنى والبهاء والجمال والكمال!! ألم يكن “ورد ثورت” يحب الطبيعة وكان يتمشى في سفوح الجبال كمن يتمشى مع الله في معبد؟ ألم يتعود صموئيل كوكس في بكور حياته، وهو يعمل بين طبقة شريرة من العمال، من أن يضع أمامه زهرة بيضاء نقية تذكره بقداسة الله وجلاله في ارض الأوحال؟ ألم يكن لوثر يحب الموسيقى ويعجب بألحانها ويعتبرها بعد الوحي أجمل أصوات الله إلينا؟ ومن ذا الذي ينسى ما تؤديه وسائل النقل الحديثة من بواخر وقطارات وسيارات وطائرات، والمكتشفات المتعددة في الطب، والمخترعات الكثيرة في الكهرباء والإذاعة والنشر وما أشبه؟ ومن ذا الذي ينسى ما تؤديه هذه جميعا لخير البشرية ومجد الله عندما يحسن استخدامها وينظر إليها في ضوء الخدمة النافعة المثمرة المنتجة ابني الإنسان.
3- فإذا ما قيل بعد ذلك : وكيف يتسنى للمرء أن يحسن الاستخدام، وما هو الضابط الذي يعينه على التفرقة بين ما هو مفيد وخيّر ونافع، وبين ما هو باطل وشرير وآثم، أو في لغة أخرى كيف ” يحفظ من الشرير” كما طلب المسيح في صلاته العظيمة؟
في الواقع أن الله قد وضع أمام المؤمن ما يساعده على هذه التفرقة والفصل، بين ما هو حرام وحلال.. ومع أن هذه التفرقة وهذا الفصل ليس من الميسور القيام بهما على وجه الدقة واليقين إلا بعد تدرب طويل، إلا انه مع ذلك يمكن القول أن ما لا يستريح إليه الإنسان، أو يفزع منه ضميره حتى ولو بدا بريئا في الظاهر، من المصلحة أن يمتنع عن فعله، أو يرجي فعله، حتى يصل إلى نور أكمل وأعظم.. ومن المؤكد أن الله لا يمكن أن يتركه طويلا دون بت في الأمر… كما أن الأمر الذي يلوث فكره أو يقضي على راحته يتحتم عليه أن يمتنع عن ممارسته حتى ولو كان غيره يفعلون.. وهناك وسيلة أخرى فعالة تحفظ المؤمن من شر العالم وهي الاعتدال الدائم فيما يدعوه الناس حلالا من أكل وشرب ولباس وما أشبه؛ لان الإفراط في استعمال هذه جميعا يستخدمه الشيطان من غير شك في الإضرار بجوهر الإنسان وحياته وروحانياته!!..
4- والمؤمن في هذه كلها عليه رسالة أكيدة نحو العالم، الم يقل المسيح لتلاميذه: “انتم ملح الأرض”، “انتم نور العالم”. وكيف يمكن بعد ذلك تصور عالم لا طعم له أو مظلم؟ وكيف يمكن تصور عالم لم يعمل فيه أمثال بولس وبطرس ويوحنا ومرقص ولوثر وكالفن من القواد الزعماء والقديسين!!..وهنا من واجبنا أن نقول أن المسيح يوبخ الانعزال والرهبنة كما نراهما في أخر الأيام، وعلى الصور التي فيها يختبئ بعض الناس عن الواجب المسيحي والرسالة المسيحية. عندما بدأت الرهبنة بدأت من أناس قديسين هالهم فجور العالم وإثمه وشره، فتصوروا انه يمكنهم الهرب منه والابتعاد عنه، وكان منه ولا شك أبطال لم يقصروا على الإطلاق في الخروج من أديرتهم لأداء أعظم الخدمات للبشر.. لكن الرهبنة بعد ذلك تحولت في كثير من الأوضاع والأماكن إلى دور كسل وشر ومجون وعربدة وجهل، مما لا يمكن وصفها معه إلا بالقول القائل: أن الرهبان المنحدرين، وهم في سبيلهم للهرب من روح واحد شرير، ذهبوا إلى الدير ليلتقوا هناك بسبعة أرواح أُخر اشر!!..
المؤمن وواجباته
وأخر ما ننهي به الحديث عن حياة المؤمن هو واجباته المتعددة المتشعبة في الأرض… ومن اللازم أن نبيّن هنا أن الحياة في جملتها ليست نزهة نشوان أو راحة مترفة، ولكنها حياة كفاح ممتلئ بالعرق والدموع الجهاد والمشقة، فإذا أتيح لنا أن نضع حياة المؤمن من هذا القبيل بين شطري أو قوسين لكان الأول عبارة عن كلمة بولس في مطلع حياته المسيحية: “يارب ماذا تريد أن افعل” (اع9: 6)، وكان الثاني : “قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان “. (2تي4: 7).. وبين الشطرين أو القوسين تتعدد وتظهر على الأقل الواجبات التالية :
1- الواجب الدائم نحو مجد الله
أن أي واجب يقوم به المؤمن مهما يكن سببه وغايته ينبغي أن يكون أولا وأخيرا وبعد وقبل كل شيء لمجد الله ولمجد الله وحده، ولعل الكثيرين منا يذكرون قصة ليوناردو دافنشي عندما رسم صورته العظيم : “العشاء الرباني” وقد لاقى دافنشي المشقة والتعب الشديد وهو يرسم هذه الصورة بكل عناية، وقد رأى احد أصدقاءه الصورة، وأبدى إعجابه وذهوله بجمال الكأس التي كان التلاميذ يشربون فيها، فما كان من دافنشي إلا أن محاهم محوا واخذ يرسم كأسا أخرى، وإذا اندهش صديقه لفعلته هذه أجاب الرسام: “لا ينبغي أن يكون في الصورة ما يشغل الناس عن التأمل في شخص المسيح ذاته”… وقد قيل أيضا أن عالما كبيرا دعي ليلقي خطايا في حفلة تخريج الخريجين في إحدى الجامعات، وقبل إلقاء الخطاب اجتمع بهؤلاء الخريجين وابتدأ يسال الواحد بعد الأخر: “ماذا تريد أن تكون في الحياة؟ “. وإذا بهذا يقول: أريد أن أكون مهندسا، والأخر يريد أن يكون طبيبا والثالث اختار المحاماة والرابع التجارة، وهكذا… وعندئذ قال لهم العالم: “يبدو إنكم لم تفهموا سؤالي بعد، فانا لم اطلب منكم أن تتحدثوا عن المهنة التي تمتهنوها في الحياة، بل الرسالة التي تودون أن تؤدوها، وهذه الرسالة هي ماذا تعمل وأنت طبيب أو محامي أو مهندس أو تاجر لمجد الله؟ “. أليس هذا مما يتفق مع قول الرسول: “8لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ.”(رو14: 8)، “31فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ.” (1كو10: 31).
قال بريطاني لأحد المرسلين في الهند، وكان هذا البريطاني شغوفا بالصيد: “لقد قضيت في الهند ثلاثين عاما دون أن أرى مرسلا وكنت اصطاد النمور في هذه البلاد : “فقال له المرسل: “لقد قضيت مثلك ثلاثين عاما في ذات البلاد دون أن أرى نمرا واحد”. اجل وهذه حقيقة جديرة بالانتباه، فالإنسان يتجه ويجد ما يسعى للوصول إليه، ورسالة المؤمن الأولى والأخيرة أن يكتب على كل شيء في حياته لمجد الله”…
2- الواجب نحو ملكوت الله
كان أمر المسيح لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء: “اذهبوا إلى العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها”. وقد أطاع الرسل هذا الأمر وتفرقوا في الأرض، وأدوا الشهادة واستشهدوا من اجلها جميعا ما خلا يوحنا، فيعقوب بن زبدي مات قتيلا في ارض الوطن بسيف هيرودس ومتى قتل في الحبشة، وفيلبس شنق في فيريجية، ونثنائيل سلخ جلده في ارمينيا، واندراوس صلب في اخائية، وتوما مات طعنا بالسهام في الهند الشرقية، وتداوس قتل بالسهام، وسمعان الغيور استشهد في فارس، وبطرس صلب في روما. ولم يمت على فراشه سوى يوحنا الحبيب، أن بولس فقط قطع رأسه بالسيف، وقد صار في أعقاب هؤلاء كثيرون من أبطال المسيحية طوال التاريخ المسيحي ممن استشهدوا في سبيل خدمة المسيح ونشر رسالته في كل مكان، ومع أن رسالة المسيحية امتدت شرقا وغربا، ولكنها ما تزال بعيدة عن بلوغ غايتها من جعل العالم كله للرب ولمسيحه، وواجب المسيحي في هذا الأمر ليس من قبيل التزيد أو الخدمة في وقت دون أخر: ” لأنهإِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ إذ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ.” (1كو9: 13). فلا مهرب لمؤمن من هذه الخدمة على الإطلاق.. وما أكثر الوسائل التي يستطيع بها بلوغ العالم اجمع والآتيان به عند أقدام المسيح، فالوعظ، والكتب، والنبذ والعمل الفردي، والإذاعة، والخدمات الطبية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، يمكن أن تكون بعض هذه الوسائل، وكل واحد من المؤمنين مكلف أن يقوم بالخدمة بالصورة والاستعداد اللذين أعطيا له من قبل الله..
3- الواجب نحو الوطن
وواجب المؤمن نحو الوطن من أهم وأقدس الواجبات وأجدرها بالرعاية والعناية، وقد جاءت قاعدة هذا الواجب من قول المسيح الخال: ” أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (لو20: 25). وقد جاء هذا القول كما هو معلوم نتيجة مؤامرة حيكت للمسيح، وتحالف فيها فريقان متضادان عليه هم الفريسيون أعداء كل ما يصل بروما، والرومانيون والهيرودسيون إتباع هيرودس والأتباع والأصدقاء التقليديون لقيصر، وقد قدم الجميع سؤالهم :”أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ ” وقد كان هذا السؤال ماكرا ودقيقا، إذ أن المسيح أجاب قائلا :” لا تعطوا” يثير عليه الهيرودسيين والوالي، وان قال : “أعطوا” يثير الفريسيين والشعب جميعا، وان امتنع عن الإجابة يعدونه غير جدير بالتعليم والقيادة! غير أن المسيح أجاب إجابته الخالدة فوضع عدة مبادئ عامة عظيمة:
1- الركن الأساسي والأول لكل نظام وقانون هو الله… كان سؤالهم خلوا من الله، لكن المسبح لم يخل الله من الجواب، وبذلك وجه نظرهم إلى ما هو اعلي واسمي وأقدس. وما أكثر الذين يحسنون أداء الواجب لقيصر، إذ يؤدون واجبهم لما تضعه الدولة عليهم من قوانين اجتماعية وأدبية ومادية دون أن يتطلعوا لما يتطلبه الله منهم.
2- ليس هناك من تعارض بين الدين والحياة المدنية…إذ يمكننا ن نطيع قول قيصر دون أن نفقد الولاء لله. بل أننا إذ نطيع قيصريي إنما نطيع في الواقع الله الذي وضع قيصر حيث هو على عرشه. أليس هذا هو عين ما قاله الرسول بولس: “1لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ” (رو13: 1) وعلى هذا الأساس يمكن تصور دائرتين احدهما داخل الأخرى، فالدائرة الأضيق دائما دائرة قيصر، والأوسع دائرة الله، ومهما تتسع الدائرة الأولى فلن تخرج عن نطاق الثانية!!..
3- أما الحدود التي للطاعة فتبدو فقط عندما يتعارض ما لقيصر مع ما لله، عندئذ ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس، إذ يكون قيصر في هذا الوضع قد خرج عن الغاية التي يريدها الله منه، ويحق للمؤمن في هذه اللحظة أن يمتنع عن طاعته.. ولا يمكن أن ننسى هذا على سبيل المثال قولا يشعا فاه به ستيفن ديكانور والذي كان من اقدر ضباط البحرية الأمريكية، وقد قال قولا ما يزال عند الكثيرين من الأمريكيين شعارهم المفضل، بينما لا يأسف كثيرون قدر أسفهم لهذا القول، قال: “أرجو أن تكون بلادنا على علاقتها بالأمم الأخرى إلى جانب الحق أو الباطل على حد سواء ” والشطر الأخير من القول، مهما يكن الباعث الوطني على قوله، من اشر الأقوال المنافية لإرادة الله والسمو والفضيلة والآداب والإنسانية المهذبة الراقية لهذا لا عجب أن صحح أمريكي أخر اسمه دكتور صموئيل لاند بونل الشعار بالقول: “بلدي عند الباطل يصحح إلى الحق وعند الحق يستمر فيه”.
4- الواجب نحو المجتمع
وإذا تحولنا من الوطن إلى المجتمع الذي قد توجد فيه، مهما يكن ضيقا أو واسعا، ومهما يكن وطنيا أو أجنبيا، فمن واجب المؤمن أن يعمل: “الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان” (غل6: 10) ومن واجبه أن يتحرر من كل نعرة أو تعصب للون أو الجنس أو الثقافة أو الدم أو ما أشبه، على أساس من المساواة والعدالة والمحبة وتكافؤ الفرص، ومن واجبه أن يباشر جميع أعماله على نحو من الدفة والأمانة ومراعاة الضمير، لا كمن يرضي الناس بل كمن يرضي الله أولا وأخيرا وقبل كل شيء … كان احد التجار ممن يبيعون الأدوات المنزلية والصحية، وقد طلبته إحدى العائلات تليفونيا إذ هي في حاجة إلى جهاز ميكانيكي مما يستعمل في تنظيف المنازل وعندما ذهب إلى المنزل قال لأصحابه : “يؤسفني جدا أن الأجهزة التي عندي لا تناسب مع بيت كبير كبيتكم وانأ أوصي أن تشتروا من غيري الجهاز الذي يناسبكم” .. وإذ سمع رب البيت الجواب اندهش وقال له: “انك الشخص الوحيد الذي اسمع منه قولا كهذا ، فكل الذين يأتون اليّ يعرضون بضائعهم كأنها أحسن ما في السوق” فأجابه الرجل: ” إنني مسيحي ولا أريد أن افعل شيئا لا يوافق عليه سيدي” . وكانت النتيجة أن العائلة أحبت هذا التاجر والفت التعامل معه بعد ذلك.. ترى كيف يكون المجتمع والوسط الذي نعيش فيه لو إننا سلكنا بروح هذا الرجل وأمانته !!.. ومن الناحية الأخرى علينا أن نعلم أن أي خدمة نقدمها للبائس والمسكين والفقير والمعوز والمحتاج إنما نقدمها لشخص المسيح ذاته ممثلا في أخويه الصاغر المذكورين .. وقد كتب تولستوي قصة جميلة في هذا الشأن عن اسكافي اسمه مارتن كان يتوق رغم فقره وسذاجته أن يفعل شيئا عظيما من اجل المسيح ، فكان يقرا الكتاب المقدس بشغف كل يوم، وهو يتمنى أن يصبح جنديا صالحا لخدمة المسيح، وكان يود لو أمكنه ترك عمله والذهاب لتبشير الآخرين ولكنه كيف له أن يحقق ذلك، وهو يكاد يحصل على قوته اليومي بشق الأنفس؟ وفي ليلة من الليالي حلم وكأنه يسمع صوتا يقول له مارتن: “انتظرني غدا فسآتي إليك ” وفي الصباح ذهب إلى دكانه دون أن يهتم كثيرا بتفسير الحلم، وبينما هو ينظر إلى هنا وهناك أبصر جنديا مقرورا متعبا، فدعاه إلى الدكان، وقدم له فنجانا من الشاي ، وبعد أن شرب الجندي الشاب قال له: ليباركك الرب يا مارتن وانصرف ” .. وبعد ذلك أبصر امرأة فقيرة تحمل طفلا على ذراعيها فأدخلها إلى الدكان لتصطلي النار. وقدم لها ثوبا قديما لتلبسه، ثم رأى ولدا صغيرا وقد سرق تفاحة من امرأة، غير أن المرأة أمسكت بالولد لتقوده لدار البوليس، وغذ به يتدخل بينهما ويدفع ثمن التفاحة ويقول لها: “إذا كان هذا الولد يجلد من اجل سرقة تفاحة، فماذا يفعل معنا من أجل خطايانا”؟ فعفت المرأة عن الولد متأثرة من كلام مارتن .. وفي ذلك اليوم عاد مارتن متأخرا على بيته، وبينما هو يقرأ الكتاب. واذا به يسمع صوتا يقول له: “يا مارتن ألا تعرفني؟” فتطلع حوله فلم ير أحدا، فعاد على مواصلة القراءة في الكتاب، واذا به يجد أمامه الكلمات: “لأني جعت فأطعمتموني عطشت فسقيتموني كنت غريبا فآويتموني. عريانا فكسيتموني مريضا فزرتموني محبوسا فأتيتم إلي. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين يا رب متى رأيناك جائعا فأطعمناك أو عطشانا فسقيناك. ومتى رأيناك غريبا فآويناك أو عريانا فكسوناك. ومتى رأيناك مريضا أو محبوسا فأتينا إليك. فيجيب الملك و يقول لهم الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” عندئذ أدرك مارتن أن الصوت الذي سمعه كان صوت المسيح، وقد جاءه في التعس والمتعب والمحتاج والبائس من اخوته .. بل كم نرتفع بعد ذلك عن الضيق والشكوى والألم والندم والتوتر في أقسى الحالات، ونكون كمثل ذلك الرجل الذي ترك الثروة والغنى والجاه والنفوذ في مدينة لندن، وكرس حياته لخدمة اللقطاء في ملجأ يضمهم، وفي ضجعة الموت وقف إلى جواره أحدهم، وقد رآه يموت وحيداً أو شبه وحيد، فقال له: “ألم تندم على حياتك التي ضيعتها هكذا بين اللقطاء، وكان يمكن أن تأخذ الكثير من المجد والثروة والشهرة بين الناس لو أنك سلكت سبيلا آخر” .. ونظر إليه الآخر وهو يجود بأنفاسه الأخيرة وقال ولمعان سماوي يكسو وجهه: “كلا لم أندم! بل لم أضيع حياتي على الإطلاق .. لأن الذي علق على الصليب هو الذي أمسكني ودعاني إلى هذه الخدمة، وها أنا ذاهب الآن للقائه في المجد” ,, إن أي واجب نقوم به في خدمة المجتمع باسم المسيح يضحى واجبا دينيا محتوما!!
5- الواجب نحو العائلة
ولا حاجة إلى الإشارة هنا بأن هذا الواجب قديم بقدم العائلة نفسها، فعندما دعا شيث باسم الرب كان يدعو ولا شك بهذا الاسم مع عائلته وأولاده وآله، وعندما كرز نوح أنقذ بالكرازة بيته من الطوفان بعد أن فرق الجميع، وعندما قدم أيوب ذبيحته كان يقدمها من أجل جميع أولاده واحدًا فواحدًا دون استثناء، وعندما طلب يشوع أن يختار الشعب بين الله والآلهة الأخرى صاح: “وأما أنا وبيتي فنعبد الرب” (يش24: 15) وعندما نادى يسوع زكا بالخلاص قال: “الآن حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضًا ابن لإبراهيم” (لو19: 9) وعندما تحدث بولس وسيلا إلى سجان فيلبي قالا له: “آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك” (أع16: 31) ولعله من أجمل وأعظم ما يقال في الحياة أن يقال: “إذ أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضًا” (2تي1: 5) وقد كتب لويل توماس أثناء الحرب العالمية الأولى عن حياته وتربيته المنزلية: “كان أبي يصاحبني مرات كثيرة في منتصف الليل ليريني الجبال الحمراء الغارقة في ضوء القمر، وكان يعود بهذا المنظر الجميل الفاتن إلى يد الله التي صنعت كل هذا، ولقد زرع في أعماق نفسي الشعور الروحي الذي صاحبني، وأنا أتجول في الأرض، في كل ما يتصل بالكون وكم كان يقضي أوقاتًا طويلة في فترات متعددة ليقرأ لي ما كان يؤمن أنه أعظم كتاب في العالم، وأعني به الكتاب المقدس، وكان يقرأ الكتاب، لا كما يقرأه أثناء الصلاة العائلية ،بل كما يقرأه العالم المتفقة، وقد جعل القصص الكتابية تسري في روحي وشراييني وتضحي خلف جميع الاختبارات التي عرفتها في حياتي .. أم الكنيسة فكانت جزءًا حيويًا من حياتي، مثلها تمامًا مثل المدرسة في حياتي، ومثل الحكومة في واشنطن، ومثل الطعام اليومي، ومثل أسلوب المعيشة، وكما أنك لا تفكر أو تناقش هذه كلها أو تحللها تمامًا، كما لا تفكر في تحليل زوجتك إذ هي جزء من كل شيء، فكذلك الكنيسة عندي جزء من كل شيء، وأنا لم أفكر أبدًا في الكنيسة من ناحية تحليلها أو المناقشة في ضرورتها، إذ هي جزء طبيعي عادي من اختباري اليومي، وأنا شديد الحماس في تشجيع الناس في الذهاب إلى الكنيسة”.
6- الواجب نحو الكنيسة
ولا يعتبر الكلام معادًا مكررًا إذا قلنا أن المؤمن لا يمكن أن يدعي مؤمنًا إلا إذا أحس بواجبه الشخصي الكامل الثابت الأساسي نحو كنيسة الله، عمود الحق وقاعدته … ومن المؤسف أن يتصور عدد كبير من رواد الكنائس أن الخدمة ليست من واجبهم أو عملهم، بل هي واجب الرعاة أو الشيوخ أو الشمامسة أو المتقدمين فيها. وهذا غير صحيح إذ أن مقياس الكنيسة الصحيح، ومدى ما فيها من قوة وحيوية يرجع إلى عمل العضو العادي فيها. . وقد قيل أن رجلين التقيا ذات مرة في قطار، ومن الحديث اكتشفا أنهما راعيان، وكان أحدهما عجوزًا والآخر شابًا، وقد قال العجوز للشاب أن الأعمال التي يقوم بها كثيرة ولا يدري كيف يستطيع القيام بها، وقد شاخ في العمر، ويعتقد أنه لابد أن يفكر مجلس الكنيسة قريبًا في اختيار راع مساعد، لأن عضوية الكنيسة عنده أربعمائة عضو، وقال الآخر: “ولكن أنا سعيد لأن عندي أربعين راعيًا مساعدًا”. فذهل الراعي العجوز وقال: “ولكن لابد أن كنيستكم كبيرة جدًا، لأني لم أسمع عن كنيسة تستطيع أن تدبر مرتبات هذا العدد الضخم .. كم عدد الأعضاء عندكم؟” فأجاب الآخر: “أربعون” فقال له الراعي: “ألعلك تضحك، إذ كيف يكون ذلك؟” فأجاب الآخر: “إن جميع أعضائي يقوم كل عضو منهم بعمل رئيسي، وقد وزعتهم جميعًا على العمل الذي يتقونه، فمنهم من يرتب الأمور المالية، ومنهم من يكتب الخطابات والنشرات، وجميعهم يركعون ويصلون ليدعموا يدي”. وسمع الراعي الكبير وقال بعد التأمل: “كم أتمنى لو أن عددًا قليلا من أعضائك يوزعون بين أعضائي”.
7- الواجب نحو النفس
وفي جميع هذه الواجبات السابقة ومعها هناك واجب مستمر ودائم نحو النفس، فأنا مسئول عن هذه النفس وعن نموها وتقدمها وعملها ورسالتها وصحتها، فإذا كنت أهتم بجسدي إلى حد ما وبعقلي أكثر منذلك، فان واجبي الأعظم والاهم أم اهتم بنفسي أضعافا مضاعفة ، ولهذا يقول الرسول بولس : “16لِذَلِكَ أَنَا أَيْضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ وَالنَّاسِ.” (أع24: 16). كما يقول مارتن لوثر:إني أؤمن أن الله خلقني وخلق كل الموجودات ، وانه أعطاني وما يزال يصون لي جسدي ونفسي بكل ما املك من أعضاء وحواس وعقل وروح ، وجهز طعامي وبيتي وعائلتي ، ومنحني الكل دون استحقاق لأرد له الجميع حمدا وشكرا وطاعة وخدمة” ..
حقا ما عظم وامجد حياة المؤمن ، حياة الإنسان الجديد، العائد مرة أخرى إلى أبيه السماوي ، إلى الفردوس المردود السعيد المجيد !! ..