إيماني 06 | إيماني بناسوت المسيح

فإذا كنا في الفصل السابق قد أتيح لنا أن نقف قليلا من جلا للاهوته، فلعله من المثير والهام أن نراه أيضا ألان في ناسوته، وسيبين لنا إننا لسنا اقل حاجة لمعرفة المسيح الإنسان من المسيح الإله. بل إن صورته كاله لا يمكن أن تظهر في مجدها وجلالها وعظمتها ما لم نعرفه في حقيقته كانسان صار معنا في الموكب التعس على الأرض، يشاطرنا ألامها هيهات أن يصل إليها بشري ليكون زعيم البؤساء في الأرض وصديق المشردين، بل ليعود بهؤلاء جميعا إلى المجد الضائع والفردوس المفقود.
وإذا كانت سير العظماء تثير في العادة في جميع الناس نشوة ومتعة وحلاوة لا تنتهي، فكم تثير فينا قصة المسيح، وهو الشخصية التي وصفها احدهم بالقول: “إن ما يكتب عنه كل عام أكثر من جميع أفلاطون وأرسطو ولاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وشيشرون وفرجيل ونيرون وقسطنطين وكالفن ومارتن لوثر ووليم شكسبير ويوحنا ملتون وجورج واشنطون ونابليون بونابرت وتوماس اديسون والبرت اينشتين مجتمعين معا”.
وإذا كان من المستحيل دراسة حياة المسيح كانسان في صفحات قليلة كهذه، فلا اقل من أن ندرس هذه الحياة من ثلاثة جوانب أساسية.
أولا: المسيح الإنسان والتاريخ
ولا مناص ونحن ندرس حياة المسيح من الوجهة التاريخية أن نتعرض على الأقل لأمرين أساسيين:
المسيح والعصر الذي ولد فيه وعاش وغير خاف إن الدراسة العلمية الدقيقة لأي إنسان تقتضي دراسة نوع الحياة والظروف التي ولد وعاش فيها حتى يسهل بعد ذلك أن نفهم كيف تأثر بالعصر الذي عاش فيه أو اثر فيه. ولم يشذ البشيرين عن هذه القاعدة وهو يحملون إلى الأجيال قصة أعظم إنسان ظهر على هذه الأرض،وان كان كل واحد منهم قد نحا النحو الذي كان يرجوه من وراء تدوين هذه القصة، فمتى الذي كان يعني بالحديث عنه كملك لليهود تحدث عنه كابن لإبراهيم “ابن داود”. ومرقس الذي كتب عنه للرومان بدا كتابته من الخدمة الجهارية دون العودةإلى سلسلة الأنساب المتعددة، وكأنما يعني بتقديمه للرومان، وكان لابد أن يدون اسمه تحت اسم يوسف أبيه بالتبني، أو في لغة أخرى قديمة “كابن يوسف”. أما لوقا وقد أراد أن يقدمه للأمم والإنسانية، فعاد بنسبه إلى ادم داعيا إياه “ابن ادم” أو في لغة أخرى “ابن الإنسان” وأخر الكل قدمه يوحنا في صورته الأزلية فتحدث عن لاهوته في “الكلمة” الذي كان عند الله وكان هو الله أو في معنى أخر قدمه “كابن لله”.
وعلى إي حال فان الإنجيل وهو يتحدث عن هذه القصة الكريمة ربط المسيح الإنسان بالتاريخ أو في تعبير أدق ربط التاريخ به، إذ ذكر انه ولد في أيام اوغسطوس قيصر أول إمبراطور الدولة الرومانية القديمة، وقد ولد اوغسطوس عام 44ق. م.وأصبح إمبراطورا عام 17ق. م. وكان ابن أخت يوليوس قيصر، وقد أحبه هذا كثيرا وتبناه. وقد تميز اوغسطوس قيصر بالقوة والشجاعة، وبلغ السيادة المطلقة بعد انتصاره على مارك انطون وكليوباترا. وقد اتسعت رقعة الإمبراطورية في عصره، فشملت الأراضي الواقعة بين بريطانيا واسيا الصغرى، وقد بنى الطرق التي اشتهرت بها روما، وما تزال آثار بعضها باقية إلى ألان، وبنى القلاع لحماية الإمبراطورية وكون جيشا من أعظم واقوي الجيوش في التاريخ.
وفي الواقع إن دراستنا لهذه الإمبراطورية تكشف عن ترتيب العناية في التمهيد لمجيء المسيح، إذ كانت روما رمز القوة والسيطرة، وكانت هذه القوة لازمة لجميع العالم القديم المعروف تحت سلطة واحدة، وتحطيم الحواجز المتعددة الكثيرة التي قامت فيه. يضاف إلى ذلك إن الطرق التي بناها الرومان ربطت إرجاء الإمبراطورية ربطا شاملا، فكان التنقل بينها سهلا ميسورا، ولا ننسى إن القانون الروماني كان قد بلغ اوجد قوته ومجده، القانون الذي ما زال أبا لجميع القوانين في العالم المتمدين الراقي، ولا ننسى أن نذكر الثقافة اليونانية التي كانت قد بلغت ذروة عظمتها، الثقافة التي ما زال العالم إلى اليوم ينهل من علمها ومنطقها وفلسفتها. ومن المناسب أن نشير في هذا الصدد إن الكثيرين من العلماء والمؤرخين وقادة الفكر كانوا من المعاصرين للميلاد، أمثال ديودريوس سيكالبيوس المؤرخ اليوناني، واسترابوا عالم الجغرافيا اليوناني54ق. م إلى 24.م. واوفيد 57ق. م إلى 18م. وليفي 59ق.م إلى 17م. وسينكا الذي عاش إلى سنة 56م.، وفيرجيل الذي مات قبل الميلاد بأربعة عشر عاما وهوارس الذي مات قبل الميلاد بثلاث أعوام.
فإذا ما ذكرنا كل هذا عرفنا كيف مهد التاريخ لمجيء المسيحي ابرع تمهيد، وكيف استعد العالم لمجيئه إذ انتشر اليهود في الشرق والغرب يحملون معهم أملهم الذي لا يموت، أمل مجيء المسيا. ولم يكن اليهود وحدهم يرقبون هذا الأمل بل العالم كله يترقب هذا الميلاد ويتحدث عنه فقد ذكر فرجيل إن الناس يتوقعون مجيء ابن من لسماء ليحقق العصر الذهبي ويمحو الخطية من الأرض، وقال ناسيتوس وسوتانيوس ويوسينوس إن ا لشعور العام في الشرق كان شديد الإيمان بظهور ملك في يهوذا كما تذكر النبوات، يسيطر لا على اليهود فقط بل على العالم اجمع، وكان كونفوشيوس الصيني يتحدث على الدوام إلى أتباعه عن ظهور هذا المخلص، وواجبهم في البحث عنه والتعلق به، وقيل أن زرواستر “زرادشت” الفارسي الذي يعتقد النسطوريون انه كان تلميذا لارميا النبي، كان يعلم الفرس عن المسيح الذي سيأتي في يهوذا من عذراء، وكان يقول لأتباعه أنهم أول من سيعرف بمجيئه من الأمم، وان من واجبهم أن يذهبوا إليه حال ظهوره.هذه وغيرها من الأقوال تحدثنا عن الشعور العام الذي سرى في العالم قبل مجيء المسيح، الشعور الذي يعزوه رجال التاريخ إلى انتشار اليهود في الشرق والغرب حينذاك، وبذر عقائدهم وانتظار تهم حيثما حلو. على إن التاريخ الذي جاء المسيح فيه كان لابد أن يتغير ويتجه وجهة جديدة، بل كان لابد أن يقلب رأسا على عقب، فلا يدون فيه تاريخ المسيح بالنسبة لتاريخ اوغسطس، بل يدون فيه تاريخ اوغسطس بالنسبة لتاريخ المسيح. كما إن روما التي كانت مدينة الجمال والعظمة والقوة كان لابد أن يتحول تاريخها بأكمله، لأنها كانت روما الطاغية التي أذلت الأعناق، وكان لابد أن تشاد القوة على فلسفة أخرى غير فلسفة الطغيان والجبروت. ولقد شيدت بمجيء المسيح على السلام والمحبة والتضحية، ومن ثم لم يعد التاريخ منسوبا إلى روما كما كان قبل المسيح بل أصبح من قبل ومن بعد يدور حول التاريخ الميلادي. ثم أين اوغسطس قيصر، بل جميع أباطرة الرومان من يسوع المسيح. أليسوا جميعهم إلا أصداء خافتة ضعيفة من أصداء التاريخ، بينما المسيح هو قلب التاريخ وأساسه ومقومه!.
2 – كيف عاش المسيح على الأرض كإنسان؟
والأمر الأخر الذي يتحتم مناقشته بالنسبة للمسيح والتاريخ، فهو، كيف ظهر المسيخ على الأرض وعاش كانسان !؟ أو في لغة أخرى ماذا يمكن أن تعني هذه الكلمة “ناسوت المسيح” أو “المسيح الإنسان”؟ ولعل الأهمية البالغة لهذا السؤال مردها أن التاريخ الكنسي – وعلى الأخص في العصور الوسطى- وهو في الموازنة بين لاهوت المسيح وتاسوته لم يعطينا الصورة الواضحة المجلوة من “الناسوت” كما إعطانا عن “اللاهوت” أو في لغة أخرى أن الفكر عن لاهوت المسيح كثيرا ما أوقف تأمل الدارسين والشراح وهم بصدد بعض مظاهر الناسوت وملامحه!
(أ) صور المسيح خلال العصور:
وليس أدل على ذلك من العصور التي رسمها الفن لشخص المسيح في مختلف العصور، فبينما تبدو الصور القديمة الآتية ألينا من القرنين الثالث والرابع – إذ لا نكاد نعثر على أي صورة باقية من صور القرن الأول والثاني – بينما تبدو هذه الصورة كاشفة عن المسيح في وجهه الطبيعي البسيط الأخاذ الإنساني، كالممتلئ بالحيوية والنعمة والشباب، والراعي الصالح الذي يحمل الحمل على كتفيه، واورافيش الحقيقي الذي يجذب إليه جميع الخلائق بسح موسيقاه.والصورة الآتية من القرن الخامس والتي ترسم المسيح في صورة الإنسان المهيب الطالعة، ذو السعر الأسود الطويل المفروق من الوسط والمنساب على الكتفين، والجبهة اللامعة النقية، والوجه المنبسط الأخاذ، والفم الدقيق، والأنف المستقيم بلا عيب، واللحية القصيرة المفروقة من الوسط، والعينين اللامعتين المنيرتين، بينما تبدو هذه الصورة هكذا، إذ بالصور الآتية من العصر البيزنطي، تختلف كثيرا عن ذلك، إذ تصور المسيح في صورة ادني إلى الإرهاب والترويع والتهديد والإفزاع، مما يختلف كثيرا عن الصور الأولى.. أو في واقع الأمر مما يباعد بيننا وبين حقيقته وشخصيته كالإنسان التاريخي المعروفة قصته والتي دونها العهد الجديد بكل جمال ودقة ورقة!
(ب) الآراء اللاهوتية عن المسيح:
والأمر بعينه إذ نتحول من صور الفن إلى التراث الفكري فيما خلفت الكنيسة من آراء وعقائد وتفاسير وشروح حول المسيح كانسان. كل الآباء في الكنيسة اليونانية القديمة يصورنه في الصور الطبيعية البسيطة الإنسانية، إذ يقول ايرانيوس مثلا في وصف ناسوته: “وإذ كان في الثلاثين من عمره جاء ليعتمد، وحين بلغ السن الكاملة ليكون سيدا جاء إلى أورشليم ليعترف به الكل كسيد، لأنه لم يرغبان يكون ظاهرا على شيء، بينما هو في الحقيقة على شيء أخر!. كما يزعم أولئك الذين يصفونه كانسان، ولكن في الظاهر فقط، لقد كان في الظاهر والباطن على حد سواء!. ومن ثم جاء كسيد في السن والقامة الكاملة الناضجة للسيد، إذ لم يحتقر أو يتجنب أي شرط من شروط الإنسانية أو يطرح عنه القانون الذي وضعه هو بشخصه للجنالبشري”.. أو كما وصفه اوغسطينوس بالقول: “امنع أذنيك عن الاستماع لكل من يحاول أن يعطيك صورة مغايرة عن المسيح الذي جاء من نسل داود من مريم العذراء أيضا – الذي ولد حقا واكل وشرب واضطهد على يد بيلاطس البنطي، وصلب حقا ومات حقا أمام أعين كل خليقة في السموات وعلى الأرض وما تحت الأرض”.بينما كان هذا هو السائد في عصور الكنيسة الأولى، إذ بالصور الأخرى اللاحقة التابعة تحاول أن تعطيه مظهرا مماثلا لما أعطاه إياه الفن البيزنطي القديم!. ولعل ظاهرتين واضحتين تحسن الإشارة إليهما تكشفان إلى حد بعيد عن الفرق الكبير بين أراء العصور الوسطى وسائر الآراء الأخرى وهما ظاهرتا النمو والخضوع عند المسيح!.
(1) المسيح وظاهرة النمو
ولم يكن هناك شبهة في التسليم بظاهرة النمو عند المسيح في عصور الكنيسة الأولى والعصور الحديثة، غير إن العصور الوسطى خرجت برأي أخر اختلف عنفا أو اعتدلا حول معنى النمو عند المسيح كانسان، وحول تفسير القول الكريم في القول الكريم في الوحي: “وأما يسوع فكان ينمو في القامة والنعمة عند الله والناس” (لو2: 52). وكان السؤال هل يجوز أن يسري على المسيح ما يسري على جميعا من التقدم الجسدي والذهني والروحي. ومع التسليم بظاهرة النمو الجسدي، إلا إن الخلاف حدث عند التساؤل عن النمو الذهني والروحي فوجدت قلة من المفسرين أنكرته بتاتا وعلى رأسهم اللاهوتي الجزويتي دي لوجو. أما الغالبية منهم فقدت عمدت إلى التوفيق بين ظاهرة النص وما يعتقدون، إذ قال يوحنا الدمشقي: “إن المسيح إذ قيل لأنه تقدم في الحكمة والقامة والنعمة، فذلك لأنه كان يتقدم في القامة فعلا، وبهذا التقدم في القامة كان يكشف في الوقت نفسه عما هو كائن به من حكمة ونعمة!. أما أولئك الذين كانوا يقولون انه ينمو في الحكمة والنعمة، بمعنى القابلية في التزايد فيها، فينكرون ان الجسد قد اتحد بالكلمة منذ اللحظة الأولى لوجوده” ! وشبيه بهذا ما ذكره ذهبي الفم في تفسير قول المسيح الوارد في إنجيل متى : “وإما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها احد، ولا ملائكة السموات، إلا أبي وحده” (مت24: 36). إذ قال : “إذ كنت تبحث عن اليوم والساعة فانك لن تسمع مني شيئا. يقول هو – أي السيد المسيح أما إذا كنت تريد ان تسمع مني الأزمنة والأوقات فاني استطيع ان أخبرك بهما تماما لأني بالتأكيد لا اجهلها إذ إنني أرى بطرق كثيرة واستطيع ان أقودك إلى الدهليز، لكنني إذ لا افتح الباب أمامك هذا افعله لخيرك”.
على ان الفكر اللاهوتي الحديث يتجه ولا شك نحو أراء الكنيسة الأولى التي تؤكد ناسوت المسيح الكامل، وفي الوقت عينه قد استفاد من الآراء المعتدلة للمفكرين في العصور الوسطى، وأمكنه التوفيق بين الأمرين عن طريق فكرة الإخلاء التي تحدث بها الوحي عن المسيح : “الذي إذ كان في صورة الله. اخلي نفسه آخذا صورة عبد ” (في2: 5-7). أو ما يسمى في عرف اللاهوتيين : “الحج الاختياري” وتقوم هذه الفكرة على العقيدة ان الحجب الاختياري شيء جوهري وأساسي داخل وداخل في نطاق القدرة الإلهية، فان معرفة الله الكاملة لا تعني انه عاجز عن ان يحجب عن عينيه ما لا يريد ان يبصره أو يراه، إذ ان الله لا يمكن ان يكون قد أعطى الإنسان ما لا يملكه هو. فإذا كان الله فد زود الإنسان بالرؤية بعينيه والتصور بفكره، وفي الوقت نفسه قد أعطاه الأجفان التي يمكن ان يسلبها على عينيه فيمنعهما من رؤية ما هو أمامه، أو يسكن فكره فيمتنع عليه التفكير في الموضوع الذي يشغله!. إذ كان الله قد أعطى للإنسان ان يرى أو لا يرى كما يشاء وان يفكر أو لا يفكر كما يريد، فهل يمتنع عن الله ذاته ان يحجب عن عينيه ما يرغب إلا يراه أو يتأمله. حاشا وكلا ! وإلا فما نعنى ان الله يحجب وجهه عن خطايا التائبين عندما يتوبون بالقول :”استر وجهك عن خطاياي”؟ أو لفظ الأشرار و طرحهم عند الرفض والترك كالقول: “لا تطرحني من قدام وجهك”؟.أو التخلي الأبدي عن المطروحين في الظلمة الخارجية !؟هل هذه مجرد أمور رمزية لإغفاء الله وحجب بصره أم حقيقة تتحدث عن القدرة الإلهية التي تطوي الخطية وتحجب عن النظر الإلهي عذابات الخطاة المروعة في جهنم!؟ فإذا كانت المعرفة الإلهية المطلقة تملك هذا الحجب الواقعي الحقيقي. فليس من الممتنع ان يكون المسيح قد حجب عن نفسه مختارا بالناسوت ما يريد ان يحجب من معرفة، إذ انه كما يذكر كائن ليدون :”ليس الناسوت في شخصه كائنا قائما بذاته منفردا، كما انه ليس هو قاعدة شخصيته أو مركزها، إذ لا يتصور وجوده بعيدا عن العمل الذي صار به الكلمة جسدا، فجاء به بذلك الوجود – إي الجسد – ليكون له بمثابة الرداء لذاته والوسيلة التي بها اوجد نفسه في العلاقة مع الناس والتي بها يعمل من اجل الإنسانية ” فإذا قيل : “بان المسيح وهو ينقل من الطفولة إلى الصبوة فالشباب كان يتقدم وينمو في الحكمة والنعمة فإنما كان ينمو كما ينمو البدر بعد ان يكون هلالا، أو كما ينمو النهار بعد ان يكون فجرا. والأمر يجع في الحالتين إلى المقابلة بين شعاع الشمس واستدارة القمر لمواجهة النور!”.
(2) المسيح وظاهرة الخضوع:
والظاهرة الأخرى التي يشار إليها هي ظاهرة الخضوع، وقد تردد بعض اللاهوتيين في التسليم بخضوع المسيح الكامل لمقتضيات طبيعته كانسان، بزعم ان هذا يقلل من مركزه وجلاله الإلهي، ولكن هذا الرأي أضحى مهجورا تماما لان الخضوع المسيح وتنازله الاختياري من المجد السماوي لا يقلل بتاتا من مركزه، بل بالحري يمجده ويرفعه أمام خلائقه على صورة كان من المتعذر إدراكها من إي وجه أخر. ولعل المثل الذي نسوقه يساعد على فهم هذه الحقيقة : فقد ذكر ان احدهم قد زار خلال الحرب العالمية الثانية احد المصانع الانجليزية، فرأى ان هناك عاملا من العمال شديد الشبه بملك الانجليز، ولشدة تعجبه أدرك بعد السؤال ان هذا العامل ليس إلا الملك بذاته، يأتي بعد انجاز أعماله الرسمية ليشترك مع الشعب في الأعمال العادية؟. وهتا يصح ان تثار عدة أسئلة !. الم يجتمع الملك والعامل في شخص واحد!؟ ومع ذلك فهذا العامل الذي ارتدى ثياب العمل هل هو ملك في المصنع أم عامل!؟. وإذا كان عاملا في ثوب العمال، فهل يجوز، وقد رضي بهذا الوضع، ان يستثني نفسه من الخضوع لأي نظام أو قانون عمالي، يكون هو قد سبق فصدق عليه بصفته الملكية!؟. وماذا يحدث لو ان رئيسا في العمل أمره بأمر ما فخضع !؟.أيكون هذا الخضوع في نظر الناس مدعاة لهوانه أو مجده!؟ وهب لسبب ما ان غرامة وقعت على هذا المصنع بأمر الحكومة وتصديق الملك. وان هذه الغرامة اتفق ان يدفعها العمال جميعا؟! فهل ينفذ هذا “العامل” أمر “الملك” أم لا!؟. وإذا كان العمال يتناولون الطعام والشراب، وامتنع عليهم ذلك لعذر قاهر، فهل يصح لهذا “العامل” بينهم ان يأتي بالطعام أو الشراب من القصر الملكي!؟. وإذ لم يفعل وجاء وعطش وتألم مشاركة بذلك أخوته في كل شيء، فهل يقلل هذا من مركزه في نظر نفسه أو العمال أم يزداد ويسمو ويسود!؟. هذه الأسئلة وغيرها تساعد في معنى اعلي وأكمل وأبهج وامجد واجل على فهم معنى تنازل المسيح وإخلائه ذاته، وتساعد على فهم معنى قوله الناسوت “لان أبي أعظم مني” (يو14: 28). كما ان الملك أعظم من العامل، بل تساعد على معنى إدراك القول ” من ثم كان ينبغي ان يشبه أخوته في كل شيء كي يكون رحيما ورئيس كهنة أمينا فيما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه فيما قد تألم مجربا يقدر ان يعين المجربين” (عب2: 17و18).
وقصارى القول ان المسيح الإنسان جاء إلى الأرض وعاش فيها وسار في بيدائها واختبر من اختبارات الحياة ما يمكن ما يمكن ان يختبره جميع الناس من ضيق وتعب وشدة وفقر وألم وحزن وما أشبه من التعاسات العذابات التي يعانيها البشر في كل جيل وعصر، بل انه وصل في الواقع إلى أعماق فيها هيهات ان يصل إليها مخلوق بشري، وذلك لأنه هو الوحيد بين الناس الذي لم يعرف خطية، كان لابد ان يكون محررا من البلادة التي تنشئها الخطية في حياة الناس. وكان بالتالي يحمل من الحساسية والشعور ما لا يمكن ان يدانى أو يبارى!. كما ان صراعه كان ولا شك الصراع الأكبر والأقسى،إذ ان صراعنا في الأغلب صراع إجباري مفروض، أما هو فقد كان دائما صاحب الصراع الاختياري الدائم. وهل هناك ما هو اقسي منان يحتمل القوي هوان الضعفاء وهو القادر على كل شيء!؟ ان يجوع صاحب الكلمة التي يمكن ان تصنع من الحجارة خبزا، ومع ذلك يرفض ويمنع!؟. وان يعطش ذلك الذي في قدرته ان يصنع الوابل والمطر، بل هو الينبوع المروي لكل ظمآن. اجل هذا هو المسيح الإنسان بكل ما في كلمة إنسان من معنى ومدلول..
ثانيًا: المسيح الإنسان وكمال أخلاقه وصفاته
الأمر الثاني الذي لابد من تتبعه ونحن نتحدث عن المسيح الإنسان هو أخلاقه وصفاته كانسان، والجدال في ان المسيح هو “الإنسان الكامل” بل النموذج الوحيد للأخلاق السامية الكاملة في كل العصور والأجيال. ومن القديم والبشرية تبحث لاهثة عن هذا “الإنسان” وتخرج مع ديوجين الذي حمل مصباحه في وضح النهار ليفتش في أثينا عن “الرجل” دون ان يعثر عليه. وبعد البحث الشاق والركض الطويل وجدته وعثرت عليه، وفيه, على النموذج الأبدي الكامل للإنسان في شتى العصور ومختلف الأجيال. ومما لا ريب فيه ان المسيح حدد في شخصه ” معنى” هذا الكمال بكيفية ترتفع على كل لبس وإبهام.
وقد حدده أولا وقبل كل سيء بالعلو الشاهق، وليس هذا بشهادة أتباعه ومريده فحسب، بل شهادة أدق النقاد وأكثرهم تعنتا فكيف مثلا يصفه بالقول انه: “أعجوبة خارقة للطبيعة” وعمانوئيل كان يراه :”المثل الأعلى للكمال الأدبي” ويعقوبي يقول عنه: “انه المثل الأعلى في الدين” وفختة يشهد باستحواذه على :”اعلي معرفة يمكن ان يصل إليها الإنسان”. وشلنج يؤكد انه: “لم يظهر له ضريب في إعلان ما هو ابدي للناس”.
وثانيا: ان المسيح وحده هو الذي جمع في ذاته مختلف الصفات بالتوازن الكامل والتنسيق العجيب، إذ ليس في البشر من استطاع، ان يحفظ توازن الكمال سواه أو كما يقول بوشنل :” ان الناس وهو بصدد الاتجاه نخو الروحانية يتعرضون للتزمت، وفي سبيل أخذهم بنظرة متحررة لمباهج الحياة ومسراتها سريعا ما يندفعون في العالم، إذ يصبحون عبيد لشهوات الحياة وأزيائها. وكما وإنهم وهم يدققون في تعقب خطية معينة يتعرضون للحرفية القاتلة التي تبعدهم عن الحرية أو يؤخذون بجمال الحرية وعظمتها فيجنحون إلى الإهمال وعدم الشعور بالمسئولية.. وهكذا يصبح التحمس قاسيا، والغيور متعصبا منتقدا، واللطيف مائعا، والحازم فظا، يتدرج المتسع نحو التهاون، والمحسن نحو التفاخر، والطبيعة البشرية الناقصة لا تترك شيئا مستقرا، وحيث تكسر قائمة البر فان كفتي الميزان تحتاجان إلى التعادل”. أما المسيح فكما سيبين وشيكا فقد وازن بين جميع الكمالات والمبادئ والمثل إلى حد الإعجاز والإعجاب!.
وثالثا: ان المسيح وحده هو الذي فسر جميع الكمالات في أعماله وحياته وتصرفه، إذ لم يفصل بين التعاليم التي نادى بها والحياة التي عاشها بين الناس،أو بين المبادئ أو المثل من ناحية، والواقع والتصرفات من الناحية أخرى، فهو لم يعرف على الإطلاق مثلا صرخة كونفوشيوس عندما صاح: “رجال الحكمة والفضيلة” !. كيف أجرؤ على ان احسب نفسي واحد منهم. يمكن ان يقال عني إني أجاهد لكي أصير أحسن، ويمكن ان يقال إني لا اتعب من تعليم الآخرين ! ربما أعادل أحسنهم في معرفة الآداب ! ولكني اقر إني فشلت في الوحكيما”.لق الإنسان السامي، الإنسان الذي يرى في تصرفه الأمور التي يعّلم بها، وهذا ما يرعبني، إني لا أصل إلى مستوى الفضيلة الذي أرغبه، واني لا أعيش تماما حسبما علّمت، ولست قادر على السير في حياة البر وعمله، في الوقت الذي اعرف فيه ان هذا هو البر، آه إني لا استطيع عمل الخير، ولست قادرا على تغيير الشر في نفسي! أنا لست الإنسانين الذي ولد حكيما”.وأكثر من ذلك فان المسيح هو الوحيد الذي قال: “من منكم يبكتني على خطية؟” (يو8: 46). وإذا لم يكن الميسور تتبع هذا الكمال من شتي نواحيه فلا اقل من ان نشير إلى بعض روائعه.
1- كمال المحبة والقداسة:
وازن المسيح يسوع بين المحبة والقداسة، في أروع وارهب وأكمل واجل ما يمكن ان تكون عليه الصفتان، فهو المحب الذي لم تعرف له البشرية نظيرا في المحبة، بل هو في واقع الأمر المحبة المتجسدة بين الناس، أليس هو القائل: “سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وإما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ” (مت5: 43و 44). فإذا كان كورش الصغير كما يصوره زينفون يقول: “انه ليس احد يقدر ان يصنع خيرا لأصدقائه وشر لأعدائه كما يصنع هو، وإذا كان شيشرون وقد قتل عدوه كلوديوس في معركة بوفيلي، لا يخجل من ان يدون خطاباته بعد عامين من المعركة، من ذات التاريخ الذي قتل فيه خصمه العتيد. فان روح المسيح روح المحبة هو الذي علم الناس بعد ذلك، ان يقولوا ما قاله الملك آرثر في قصيدة تنيسون المشهورة – لزوجته الثانية وهي راكعة تحمل الأسى عند أبواب الذي هرعت إليه:
لا تظنني إنني قد أتيت من اجل جرائمك
لم آت لألعنك يا جونيفر
أنا الذي اهتز الموت بالشفقة العارمة
إذ أرى راسك الذهبي يميل
تحت أقدامي تسقط كبرياء صيفي اللامعة.
والغضب العارم الذي حركه ذلك القانون الرهيب.
ليحكم على الخيانة بالموت المروع. !
قد انفثا وانتهى لحظة معرفتي بمخبئك هنا!.
* * *
والكل قد مضى والخطية قد تمت… وأنا أنا!.
اغفر لك.. نعم اغفر.. كما غفر لنا.. الله السرمدي.
وهل هو غريب ان يعلم المسيح تابعيه ان يالصليب.ائهم ولاعنيهم والذين أساءوا إليهم هذا الحب العجيب، وقد كان هو بذاته في كل حركاته ونسماته المحبة العجيبة الفياضة العارمة؟. بل أليس هو الذي صاح من اجل قاتليه على الصليب. “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” !؟. وإذا صح ان يقال هذا عن الأعداء والمبغضين فكم هو اصح بالنسبة للأحباء والتابعين الذين أحبهم إلى المنتهى.اجل فان هناك مسافة أبدية بين محبة المسيح وأجمل محبة وأجمل محبة تذوقتاها على الأرض ! فإذا أمكن ان نهتف للمحبة التي قامت بين الأخوة كمحبة فيلكس مندسون وأخته فاني، أو تشارلز لام وأخته ماري، أو وليم وردثورث وأخته دورثي أو بين الأزواج كمحبة تشارلس كنجسلي وفاني جرنفيل، وربرت براوتنج واليصابات باري، ووليم جلادستون وكاترين جان. أو بين السادة والإتباع، كعلاقة المودة بين الملكة فيكتوريا والشاعر تينيسون الذي كتب لها قائلا: “لن أقول إني مطيع أو انك كريمة، فهذا الألفاظ قد تستعمل أو تهجر بين أعضاء البلاط الملكي. ولني استطيع القول انه خلال ما تم بيننا من أحاديث شعرت أعمق الشعور بلمسة تلك الصداقة القوية التي تربط بين قلوب الناس، سواء كانوا ملوكا أو اسكافيين “.فإذا أمكن ان نهتف لهذه الصورة وأمثالها من المحبة، فان موسيقى المحبة الكاملة تبقى وقفا على شخص المسيح.
على ان هذه المحبة على ما فيها من عظمة ومجد ورغادة، هي أولا وقبل كل شيء المحبة المقدسة، بل المحبة الكاملة في الطهارة والنقاوة والقداسة والبر، إذ لا ينكر احد على الإطلاق سمو المسيح الكامل وطهارته الكاملة ! ومن ثم كان لابد ان يكون المسيح الواحد هو النور المتوهج، والنار الآكلة أو الشمس التي أضاءت الطريق أمام الملايين من الناس، وفي الوقت عينه كانت النار التي لا تذم الرزيلة فحسب بل تحرقها حرقا. وهل الصليب في حد ذاته إلا اللقاء المحتوم بين المحبة السرمدية الكاملة التي لا تنتهي، والقداسة الكلية التي لا تخبوا نارها أو تضعف في المسيح الطاهر القدوس!؟.
2- كمال اللطف والصرامة:
وكما وازن المسيح في حياته بين المحبة والقداسة فقد وازن بين اللطف والصرامة أيضا!. وفي الحق أن الأرض لم تعرف لطفا كهذا الذي عرفته إلا في شخص المسيح يسوع!. فإذا كان اللطف هو الحنان والجودة والرقة والابتسامة والمعونة في لحظات الضعف والشدة والضيق والخطأ والانهزام، فمن ذا الذي يباري المسيح في لطفه، أو يدنو أو يقترب منه في جوده وحنانه!؟. الم يقل ربان عنه: “إن حنان قلبه قد تحول إلى حلاوة لا نهائية، وإلى شعر سحري وإلى جمال أخاذ”. كيف لا وقد كان هذا اللطف هو السمة الواضحة في الكثير مما أنجز أو فعل!؟ إذ كان:
أولا: اللطف المشجع، والذي صنع الأبطال من المغمورين والصيادين، إذ أيقظ فيهم ما هجع من وزنات أو ملكات بالدفع والتقوية والتشجيع، كأن يقول للواحد منهم : “أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي. وأبواب الجحيم لن تقوى عليه”. فيصنع منه الإنسان الخالد والبطل العظيم!.
ثانيا: اللطف المسند، والذي يمسك باليد في اللحظة الحرجة، والموقف الدقيق، فيحول مجرى الحياة وينقلها من اليأس إلى الأمل، ومن الفشل إلى النجاح، ومن البؤس إلى التغريد، ومن الضعف إلى المجد والسؤود العظيم، فإذ صح إن احد أتباعه كان أستاذا جامعيا، دعا ذات يوم شابا حييا خجولا المعيا من الشباب الجامعي الذي أوشك أن يفصل منها لعدم سداده ما تطلب منه من مصروفات. وكان الشاب بطبعه عزيز النفس خجولا يريد الرفض، لولا اللهجة القوية الآمرة من أستاذه، واللطف الرائع البادي في نبرات صوته فقبل، وعرف الناس فيما بعد في ذلك الشاب أسقف كنتربري العظيم. إذ صح أن يفعل أستاذ جامعي مثل هذا الأمر مأخوذ بروح المسيح ولطفه فكم هو اصح بالنسبة للمسيح نفسه الذي مد يده لمساندة المنكوب والتعس والمتألم والحزين والشريد !؟
ثالثا: اللطف الحامل، والذي لم يساند الآم الناس ومتاعبهم فحسب بل حملها عنهم، إذ كان هو الصديق الذي يرفع عن كاهلنا الآلام ليحملها هو في حياته وعلى قلبه. وقد علم أتباعه أن يحمل فيهم القوي متاعب الضعيف والمجدود آلام التعس، والسعيد مآسي المحزون. وكان وليم الصامت واحد مثلا من هؤلاء الأتباع. وقد استلهم روح المسيح وحمل آلام شعبه وكتب عنه في كتاب الجمهورية الهولندية :”لقد سار في الحياة يحمل آلام شعبه على كتفيه بوجه مبتسم، كان اسمهم أخر ما تردد على شفتيه، وقد اسلم نفسه في ضجعة الموت في يقين الجندي الذي عاش من اجل البر طوال حياته بين يديه قائده الأعظم المسيح، ولقد كان الشعب متحمسا له وفيا به إذ وثق به ودعاه: “الأب وليم!. ولم تستطيع كل غيوم الدسائس التي تجمعت أن تطفئ من عيونهم بريق الثقة بذهنه المرتفع، إذ كانوا يتطلعون إليه في أحلك المآسي والليالي، وقد كان طوال حياته النجم الهادي لأمة شجاعة، وعندما مات كان الأطفال يصرخون في الشوارع”.
هذه هي بعض صور اللطف عند المسيح، ولكن هذا اللطف لا ينبغي أن ينسينا الجانب الأخر من الصورة ونعني به الصرامة والقسوة والإرهاب والترويع، ومن الخطأ الفاحش أن نتصور إن المسيح اللطيف لم يكن قاسيا أو رهيبا أو مروعا عندما كانت الأمور تحتاج إلى القوة والإرهاب والانتهار والإفزاع. اجل ولقد صدق الشاعر العربي القائل في وصفه:
يا قويا لم يهن يوما عليه الضعفاء وضعيفا واسمه يصرع منه الأقوياء
كيف لا وقد تحول الحمل الوديع إلى الأسد الثائر، فعف عن الكلام وعزف عندما لم يجد فائدة في الكلام، وصنع من الحبال صوتا وطرد الجميع من هيكل الله، الناس والغنم والبقر، عندما تحول الهيكل إلى سوق، وكب دراهم الصيارفة وقلب موائدهم ! ومن العجيب انه لم يسكن أو يهدا سوى أمام مخلوق وديع ضعيف صغير،أبى أن يصنع معه كما صنعه مع الكل إلا وهو الحمام إذ قيل:”14وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً والصيارفة جُلُوساً. 15فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصيارفة وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. 16وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بيتا أبيا بَيْتَ تِجَارَةٍ».(يو2: 14-16 ). وهل يمكن إن ننسى كلماته الرهيبة القاسية للكتبة والفريسيين عندما قال: “لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ! 14وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. 15وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً! 16وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: 17أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ 33أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ (مت23: 13-33). هذه وغيرها من الكلمات والأقوال التي أثارت ثائرتهم، وأثارت معهم ثائرة القادة الآخرين حتى تأمروا جميعا على القضاء عليه وقتله، تشهد بما لا يدع مجالا للشك بالموازنة العجيبة بين لطف المسيح الكامل وصرامته القاسية، وان كلا الصفتين كانت تعمل حيث يوجد مجالها من غير تهاون أو قصور أو تراجع أو تخاذل!.
3- كمال الفرح والحزن:
وقد وازن المسيح بين الفرح والحزن في حياته أعجب موازنة وأدقها، ومن اللازم أن نقول بادئ ذي بدء، أن إنسانا لم يتمتع على الأرض بالفرح كما كان يتمتع المسيح يسوع، كيف لا وقد كان له فرح الضمير المحرر من كل خطية ونقص وإثم وفساد، إذ هو لم يعرف وخزة واحدة من وخزات الألم أو الندم، بل هو الذي أطاع أباه السماوي في كل ثانية من ثواني الحياة، إذ كان الشعار الكامل الدائم :”أن افعل مشيئتك يا إلهي سررت وشريعتك في وسط أحشائي” (مز40: 8) وما أكثر ما ارتفع قلبه بنغمات الفرح والمسرة والبهجة وهو يواجه الحياة في الكثير من الأوضاع والشعارات والمناسبات ! الم يصنع معجزته الأولى في عرس؟! بل الم يتكئ مع الخطاة والعشارين في الموائد والحفلات حتى صاح الكتبة والفريسيون المتزمتون لتلاميذه قائلين:” 11فَلَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» 12فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إلى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. 13فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إلى التَّوْبَةِ»(مت9:11-13). بل أليس هو القائل لتلاميذه أن يسود الفرح حياتهم حتى في المحنة القاسية والألم الشديد، عندما يعيرون أو يطردون أو يفترى الناس عليهم من اجل اسمه كاذبين:” 11طُوبَى لَكُمْ إذا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ. 12ﭐِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ. (مت5:11-12).بل أن نظرته الكاملة للحياة على الأرض لم تكن إلا نظرة إنسان مبتهج عرسه، وقد ساله ذات مرة تلاميذ يوحنا قائلين :”لماذا نصوم نحن والفريسسن كثيرا وإما تلاميذك فلا يصومون؟” (مت9 :14) فجاء الجواب :”هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم؟” (مت9:15) كما أن نظرته إلى الصليب لم تقلل أو تضعف هذا الفرح، إذا كان ينظر بعده إلى السرور الموضوع أمامه، بل من العجيب أن يهتف قبيل إلقاء القبض عليه: “20اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إلى فَرَحٍ. 21اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ وَلَكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ. 22فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلَكِنِّي سَأَرَاكُمْ أيضا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ. (يو16: 20-22). حقا كان فرح المسيح أعظم وأعجب وأعمق فرح عرفه إنسان هذا الأرض!.
على أن هذا الفرح في حد ذاته لا يمكن لا يمكن أن ينسينا الجانب الأخر من القصة ونعني به قصة آلام المسيح وأحزانه، كرجل أوجاع ومختبر الحزن،بل كالإنسان الذي لا يمكن أن يداني أو يبارى أو يقترب منه فيما اختبر من ضيقات أو أحزان :” أما إليكم يا جميع عابري الطريق تطلعوا وانظروا أن كان حزن مثل حزني” (مر11: 12) ومما لا ريب فيه أن الموكب البشري لم يعرف في كل تاريخه الطويل حزنا على الأرض كهذا الذي عرفه يسوع المسيح!؟ وقد يسال السائل، ولكن كيف يمكن أن يجتمع الحزن والفرح في شخص واحد بهذا المعنى !؟. وفي الواقع أن الأمر ليس بالغريب أو المحير، فان الفرح والحزن مرجعهما في الأساس إلى عمق حساسية الإنسان وقوة استجابته لما يمكن أن ينشا حوله من أسباب وظروف، وليس مثل المسيح في مشاعره، وفي استجابته وتفاعله مع الظروف والإحداث.وقد حفلت حياة المسيح بالأسباب التي تدعو إلى الأفراح والإحزان معا، فإذا كنا قد اشرنا في أول الأمر إلى الجانب المبتهج السعيد في هذه الحياة، فمن العدالة والحق أن نشير إلى الجانب القاسي والمؤلم فيها. بل لعل الكثيرين من شديدو الرغبة والتشوق إلى معرفة هذا الجانب الأخير أيضا، ومما يؤثر عن توماس كارليل انه كتب ذات يوم إلى المصور المشهور هولمان هانت يقول بهذا الصدد :”إنني رجل فقير، ولكني أقول بكل يقين وإخلاص إني على استعداد أن أعطي ثلث ما املك من اجل صورة واضحة المعالم للمسيح يسوع، ولو أن المثالين استطاعوا أن يبدعوا تمثالا واحد حقيقيا لابن الإنسان، كما ألف أن يدعو نفسه، تمثالا واحدا يظهر هيئته على حقيقتها طوله وملامحه وبنيانه ومعالم الحزن المرتسم على وجهه ولباسه، لو أنهم فعلوا ذلك فاني على استعداد أن اشكر من أعماق قلبي مثل هذا المثال لأجل آيته هذه من الفن التي تعد من أعظم ثروات العصور كلها”. ولكن أينهو هذا الفنان مبدع هذه الصورة أو التمثال !؟ ومن ذا الذي يعطينا مثل هذه الصورة الدقيقة عن أحزان المسيح، وقد درجت الكنيسة اليونانية القديمة على القول: “حقا يارب أن ألامك لا توصف!”.
وإذا كان من الملاحظ أن شخصين قد يواجهان ألما واحدا، ولكن واحدا منهما لا يهتز أو يضطرب من الألم مهما يكن فيه من شدة أو رهبة، على العكس من الأخر الذي يتحول إلى كتلة من الألم أو الحزن. وان اثنين قد يمران من طريق واحد، فلا يرى احدهما التعاسة أو البؤس على جانبي الطريق بينما يرى الأخر على النقيض من ذلك، كل تعاسات وألام وشقاء وإحزان الطريق فينز قلبه من الجرح والأوجاع!. وإذا كانت هذه بعض ظواهر الحياة وملموساتها فمن يباري المسيح في آلامه وأحزانه، وقد خمل في شخصه أعمق طبيعة حساسة بين الناس!؟. رأى المسيح الجموع في عصره. لكنه لم يراها كما رآها غيره من الناس من قبل أو من بعد، إذ لم براها كما رآها الشاعر اللاتيني هوارس، الذي قال عندما أبصر العامة في روما إنني ابغض الشعب السافل،أو كما رآها سينكا عندما امتلأ بعاطفة الاحتقار، وهو يرى صراع الناس وتقاتله في أيامه. لقد رأى المسيح الجموع أمامه منزعجة ومنطرحة كغنم لا راعي لها، فعصر قلبه الألم ونز عرقه ممزوجا بالدم في جثسيماني، ودفع اكبر ثمن لتعاستهم على الأرض في الصليب ليكون زعيم البؤساء، وصديق المشردين، وسيد المتألمين والمنكوبين والحزانى، في كل جيل وعصر. وهكذا تناوب الحزن والفرح في حياة المسيح.
4- كمال الغيرة والصبر:
ولعل أخر ما نشير إليه على سبيل القياس لا الحصر التوازن الخلقي العجيب بين “الغيرة” و “الصبر” عند المسيح. ومن مثل المسيح في غيرته الآكلة النارية؟!. الغيرة التي أبصرها جون سيلي فقال : “انه يستطيع –أي السيد المسيح – أن يتحمل جميع الأخطاء والعيوب، ولكنه هيهات أن يرتضي أو يشارك أناس يخلون من عاطفة الحماس والغيرة!. لقد كان يعتقد انه أمر رديء وعلامة مفشلة أن يعزم المرء أن يكون تلميذا له، وفي الوقت عينه يطلب أن إلى بيته ليودع من له من أهله وعشيرته ” (لو9: 62 -62). وسأله أخر أن يمضي ويدفن أباه فكان جوابه دع الموتى – أي أولئك الذين لم تنشط حياتهم بالعاطفة العارمة والرغبة القوية – يدفنون موتاهم ” (لو9:59و 60).وذات مرة عندما بدا سحر وجوده وكلامه سيحول عدد كبيرا من الجموع له تلاميذ، وارتاب لئلا يوجد فيهم من هو خائر العزم أو سطحي أو مجرد تابع منفعل، تحول إليهم وفاجئهم بتصريح من أعجب واغرب التصريحات، التصريح الذي قل أن نجد مثيله، ولكنه كأي قائد أو زعيم كان لابد من إعلانه وتأكيده ألا وهو :” «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أيضا فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. (لو14: 26) !. على أن المسيح وهو غيور بهذا المعنى، هو ذاته الصبور الوئيد الذي لا يتعجل أمر قبل أوانه. وليس أدل على ذلك من أمثاله المتعددة عن الملكوت. إذ أن هذا الملكوت سينمو :” 26وَقَالَ: «هَكَذَا مَلَكُوتُ اللَّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ 27وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ 28لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتاً ثُمَّ سُنْبُلاً ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. 29وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ». (مر4: 26- 28).أو حبة الخردل التي: “31قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ 32وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا».
(مت: 13: 31و32). أو ” خميرة أخذتها امرأة وخبثها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع “(مت13: 33). كما لا ننسى أن المسيح هو الراغب كل الرغبة في مجيء هذا الملكوت سلك في الوصول إليه طريق الصليب الطويل القاسي، دون أن يختزل من هذا الطريق شوطا أو حتى بضع خطوات !. حقا كان المسيح فريدا في غيرته وصبره معا، مما يحسن معه القول :”فتذكر تلاميذه انه مكتوب غيرة بيتك أكلتني” (يو2: 17). “الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح” (2تس3: 5).
ثالثًا :المسيح الإنسان ورسالته
كانت حياة المسيح الإنسان على الأرض، كما هو معلوم نيفا وثلاثة وثلاثين عاما، ولم يبدأ خدمته الجهارية إلا في الثلاثين ن عمره، ومن الطريف أن بيلاطس وهو يحاكم سيدنا ساله سؤالا صغيرا، كما يسال أي منهم: “ماذا فعلت؟”. ولم يجب المسيح. ولكن التاريخ والأجيال والمدينة والحضارة والإنسانية أجابت جميعا على هذا السؤال. وها نحن سنلتقط ذات السؤال من بيلاطس لنوجهه إلى المسيح،لعلنا نقف لحظات على بعض ما صنع أو فعل في حياة الناس على هذه الأرض. وقد يكون من المناسب أن نربط بين السؤال وبعض الألقاب المعروفة من السيد، لتأتي صياغته في المعنى الدقيق المحدد فنقول:
1- ماذا فعلت أيها المعلم العظيم؟
وقد دعى المسيح “المعلم”، والمعلم الصالح”، ولا شبهة في أنه دمغ الأجيال بأعمق وأعظم التعاليم. ولقد اتسمت تعاليمه على الأقل بهذه السمات الواضحة:
أولًا: إنها التعاليم الرائعة الساحرة والتي شهد لها الأعداء والأصدقاء على حد سواء، كيف لا وقد أرسل رؤساء الكهنة والكتبة ذات مرة جماعة من الخدم والأتباع للقبض على يسوع، فذهبوا ثم عادوا دون أن يقبضوا عليه وعندما سألوا :”لماذا لم تأتوا به أجاب الخدم لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان “(يو7: 45و 46). وأي “إنسان “من ملايين الكتاب والعلماء والفلاسفة والخطباء والشعراء والأدباء يمكن أن يداني المسيح بل يرتقي إلى موطئ قدميه في سحر وروعة تعاليمه؟ من ذا الذي يترد في القول مع تشارلس لام عندما صاح :”لو دخل شكسبير إلى هذه الغرفة لانحنيت أمامه، ولو جاء المسيح لركعت عند قدميه”.أو من ذا الذي لا يهتف مع بطرس عندما قال للسيد: “إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك” (يو6: 68)؟
ثانيا: هي التعاليم الواضحة الثابتة. إذ غير المسيح عندما يسال يجيب بالقول: أظن أو أتصور أو أرجح أو افتكر أو ما أشبه من ألفاظ أو مترادفات، لكن المسيح وحده هو الذي يقول:”الحق الحق أقول لكم” “سمعتم انه قيل..أما أنا فأقول “.اجل وهو الوحيد الذي يصح فيه قول السامرية :”أنا اعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذلك يخبرنا بكل شيء” (يو4: 25)، في ضجعة الموت صاح جوتة شاعر الألمان :”افتحوا النوافذ، أريد نورا! نورا أكثر”.. ولعل هذه صيحة جميع العلماء والمفكرين في كل جيل وعصر. أما المسيح فهو وحده “نور العالم ” وهو “الطريق والحق والحياة “.. عندما سار السائح في الطريق وأحاطت به الظلمة من كل جانب سال الدليل المرافق له:أين الطريق؟ وأجابه الدليل مترفق :لا تخف سر ورائي فقط، وإذ أراد أن يطمئنه أكثر قال له :أنا هو الطريق. وقل المسيح كانت البشرية أشبه بهذا السائح تتحسس طريقها في الظلام، ولم يستطيع مخلوق على الإطلاق أن يبين لها معالم الطريق أو يكشف لها الغاز الحية. الم يقل صولون الحكيم :”أن قصد الآلهة مكتوم عن البشر”. وألم يصح سقراط “أن كل معرفة صحيحة عن الآلهة لا يمكن معرفتها بدون الآلهة ذاتها”. وألم يصرخ شيشرون “أن كل الاشياء محاطة بظلمة دامسة، ولا تقدر قوة عقلية أن تكتشفها” ! وسار الحال على هذا المنوال حتى جاء المسيح وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل.. وأخيرا هي التعاليم الشاملة الكاملة، إذ علم المسيح الإنسان ما لم يعلم، واوجد له علاجا لكافة ماسيه ومشاكله!. ومد يده فامسك بالطفولة وأقامها في الوسط، ورفد مركز المرأة وجعلها على قدم المساواة مع الرجل، وأقام دعائم المجتمع على المحبة والحرية والمساواة والآخاء! وكل المبادئ التي خرجت على تعاليمه أو تخرج لا مصير لها إلا السقوط والانهيار. حاول ميكافيلي أن يبني العالم على أساس من النفاق والغش والكذب والفساد والظلم والاستبداد فلم تصح هذه جميعا وسقطت الميكافيلية ونمها إلى الأبد! وجاء كارل ماركس مبتدعا تعاليمه ونظرياته الشيوعية بزعم إراحة العالم وإسعاد الطبقة الكادحة فيه، ولكن العالم يواجه اليوم اقسي ماسيه وآلامه من الشيوعية نفسها!. ولا سبيل على الإطلاق لراحة البشرية ورفاهيتهم وسعادتهم وأمنهم وتقدمهم إلا في إنجيل المسيح وتعاليمه المثلى، وأحكامه ومبادئه العظيمة.
2- ماذا فعلت أيها الأخ الحبيب؟
ولم يكن المسيح المعلم العظيم فحسب، بل هو الأخ المحب الودود الكريم المشفق!. وقد قيل عنه: “فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة، قائلا اخبر باسمك إخوتي” (عب2: 11و 12). وقال هو عن نفسه: “بما إنكم فعلتموه بهؤلاء الصاغر فبي قد فعلتم” (مت25: 40).فإذا أضيف إلى هذا انه دعي “ابن الإنسان” وان هذا اللقب ورد أكثر من ثمانين مرة في العهد الجديد وقد جاء على الدوام على لسان السيد إلا في مرتين، إذ هو اللفظ الوديع المحبب إلى قلبه ونفسه. ومن الدراسة المتأبية يتضح أن اللقب يشير على الأقل إلى أمرين، فكلمة “ابن” تعني التنازل والإخلاء والخضوع والتواضع، أي أن المسيح اخلي نفسه ليكون “ابن الإنسان” وفي خدمة “الإنسان” وطاعته والخضوع لمقتضيات طبيعته، فهو ابن الإنسان أي ليس عضوا غريبا عنه، وفي عروقه يجري دم الإنسان وقد ارتبط المسيح بهذا التجسد، فكل ما يصل إلى المسيح تصل إليه الإنسانية أيضا. أو في لغة أخرى انه ممثل الإنسانية وفيه تتركز أشواقها وأمانيها وآلامها وانتصاراتها، بل تنتهي عند المحلية والجنسية والثقافية والوطن والدم، إذ هو النموذج الذي تمسى نظم الحضارة والعصور لا شيء أمامه. والمعنى الأخر لذات اللقب “الملك”. فكابن الإنسان هو أيضا الملك، إذ يرتبط اللفظ بملكوت المسيح وسلطانه، والتاريخ اليهودي يعرف ذلك ويؤكده استنادا إلى نبؤه دانيال: “13[كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إلى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. 14فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ. (دا7: 13و 14). وخلاصة القول أن ابن الإنسان تفيد إخوة المسيح للناس في بؤسهم ومجدهم !. ولعل هذا يتضح من مجمل رسالته التي تحدث بها في مطلع خدمته الجهارية إلى أهل الناصرة في القول: “18«رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ (لو4: 18). ومن الرسالة يتبين على الأقل أولا: أن المسيح هو الأخ الأكبر للفقراء والمساكين “لأبشر المساكين”. وهل كان المسيح بعيدا في يوم ما عن هؤلاء الفقراء والمساكين!؟الم يأتي هو إلى أرضنا وقد حف به الفقر من كل جانب، وحق لكامبل مورجان أن يقول في حياته انقسمت على الأرض إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول :”لم يكن لهما موضع في المنزل” (لو2: 7) والفصل الثاني: “للثعالب اوجرة، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” (مت8 :20). والفصل الثالث “فاخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي ووضعه في قبر جديد” (مت27: 59 و 60). فإذا كانت هي حياة المسيح من المهد إلى اللحد، فلا عجب أن يندمج في الفقراء ويندمجوا فيه، فيعتبر اضطهادهم اضطهاده، والإحسان إليهم إحسان إليه. ولا عجب أن يصوره وينر بانير الشاعر الغربي في احد قصائده، وقد وقف بين مجموع كادح من الفقراء، ممن عذبهم وأذلهم احد الأغنياء في ضيعة من احد ضيعاته الواسعة وقد بدا في الصورة مكللا بإكليل الشوك، وكان الغني في ذلك الوقت في ضجعة الموت، وهاله أن يسمع صوت المسيح منبعثا فيهم، وعنهم قائلا: “ها أنت ذاهب فلماذا فعلت بنا هكذا!؟” وعندئذ يصرخ الغني صرخة اليأس والقنوط وهو يقول: “أيها السيد المسيح. لقد ظننتك وحيدا ولم اعلم انك تمر بي فيهم”. لا عجب أن يقول أيضا احد التقاليد القديمة أن مرثا إذ سمعت أن المسيح آت إلي بيتها، أخذت تعد لضيافته وكانت مرتبكة ومنهمكة جدا، وإذ بطارق يطرق الباب فذهبت لترى متسولا يكاد يموت جوعا فتضايقت وقالت له: “اذهب فانا مشغولة ألان في استقبال المسيح”! وأغلقت الباب في وجهه وعادت إلى عملها. ولم تلبث بعد قليل إن سمعت قرعات أخرى على الباب فذهبت لترى صبيا صغيرا مريضا متألما ينظر إحسانا فقالت له: “اذهب أيها الصبي وتعالى مرة أخرى”.وهمت أن تغلق الباب في ضيق كما فعلت المرة الأولى، ولكن شيئا ما جعلها تنظر مرة أخرى إلى وجه الصبي، وإذ هي ترى لفرط دهشتها ملامح وجه المسيح مطبوعة على وجهه! وإذ صح إن هذه قصة موضوعة فلا شك إنها تعبر عن قول المسيح الدائم: “بما إنكم فعلتم بأحد هؤلاء الاصاغر فبي قد فعلتم”.
وثانيا: المسيح الأخ الأكبر للمحزونين والبؤساء:”اشفي منكسري القلوب”. وأيا كان سبب هذا الانكسار فلا يمكن أن يمر المسيح بالمتألمين دون أن يشاركهم ألامهم وتعاستهم، ودون أن يقف في الطريق بينهم وبين هذه الآلام والتعاسات، فيشفي المريض ويعزي المحزون، ويشجع التائب، وينهض البائس، ويقيم الميت، ويمسح الدموع، أو بالجملة دون أن يقضي على منابع الآلام والإحزان ومصادرها أينما وجدت أو كانت عند الناس.
وثالثا: المسيح هو الأخ الأكبر للمأسورين والمذلين: “للمأسورين بالإطلاق” وهل من شك في أن المسيح هو المحطم للأغلال والقيود على مختلف إشكالها وأنواعها !؟ إذ فيه “ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح” (غلا3: 28).كما انه هو المحطم للشر والخطية والإثم والفساد، وإلا فمن استطاع غيره أن يحول من الفاسق قديسا، ومن العشار باذلا، ومن الغضوب حليما، ومن الشر الذاتي جوادا كريما!
وأخيرا المسيح الأخ الأكبر للعميان والجهلة: “وللعمي بالبصر” وإذا كان المسيح قد وهب البصر للكثيرين فانه ما يزال في كل جيل وعصر يهب البصيرة لإعداد لا تحصى أو تنتهي من الناس. فهذا الأخ العظيم هو الذي يكشف عن عيوننا ولنعرف من نحن!؟ ولماذا نعيش!؟ وما رسالتنا على الأرض؟ وما مصيرنا أو حياتنا الأبدية؟
3- ماذا فعلت أيها المخلص الوحيد؟
والمسيح أكثر من معلم وأخ، هو مخلص وحيد كريم، هذا لقبه الأشهر، بل رسالته التي جاء من اجلها إلى الأرض!. وان كانت الأرض قد عرفت الكثيرين من المعلمين أو الأخوة على مختلف العصور والأجيال، فإنها لا تعرف سوى مخلص واحد بذل نفسه فدية من اجل الجميع، وفي اليوم الأول من مجيئه إلى الأرض هتف الملاك للرعاة: “ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب “(لو2 :11). وفي مطلع خدمته الجهارية قال المعمدان: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو2: 29). وعندما التقى مع نيقوديموس صرح بأعظم تصريح سمعته الأذن البشرية: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16)، ولا شبهة في إن الغرض الأساسي من رسالة المسيح، كما يقول بسكال الفيلسوف هو إثبات هذين الشيئين: فساد الطبيعة البشرية، وفداء يسوع المسيح !. إذ ترجى الحديث عن المسيح كمخلص إلى موضع أخر من هذا الكتاب يكفي أن نشير هنا إلى انه : “ليس بأحد غيره الخلاص، لان ليس اسم أخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص “(اع4: 12)، “صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول إن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا” (1تي1: 15).
4- ماذا فعلت أيها الملك الظافر؟
وإلى جانب هذا كله فان المسيح هو الملك الظافر، إذ لا يمكن أن نفهم أو نحد رسالته على الأرض ما لم نفهم مركزه الملكي بكل وضوح. إذ لا معنى لمركزه كمعلم وأخ ومخلص ما لم تكن هذه كلها لتعد لمركزه “كملك”. ومن ثم كان التلازم المذكور والمشار إليه آنفا، بين لقب الإنسان ومركز “المسيح كملك”. ومن الواضح إن المسيح لم يتخل بتاتا عن تأكيده هذه الحقيقة في كل مراحل خدمته الجهارية؟الم يقبل صيحة نثنائيل في أول هذه الخدمة وهو يقول: “أنت ملك إسرائيل” (يو1: 49)؟ بل الم يناد هو في كل خدمته بالقول :”قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وامنوا بالإنجيل” (مر1: 15). وعندما قال له بيلاطس في المحاكمة :”أفانت إذا ملك؟” أحاب : “أنت تقول إني ملك، لهذا قد ولدت أنا،ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق” (يو18: 37). وأكثر من هذا رأى في الصليب عرشا ومجدا عندما قال: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض اجذب اليّ الجميع” (يو12 :32).
وفي رواية حديثة جميلة عن محاكمة المسيح، وفي احد فصولها الأخيرة تظهر زوجة بيلاطس واقفة في دار الولاية بعد إن انفضت الجماهير، وترك بيلاطس المكان ولم يبق غيرها وقد أخذت تحدق في الفضاء البعيد، حيث يلوح لها في غبشة الظلام منظر ثلاثة صلبان على هضبة الجلجثة خارج المدينة، وعلى الصليب الأوسط المسيح، بينما هي غارقة في تأملها الحزين جاء لونجيفيوس احد الجنود الذين اشتركوا في صلبه: “الم يمت بعد؟” فأجابها: “كلا يا سيدتي انه لم يمت بعد” قالت: “لقد انقضى وقت/ ولابد انه مات”. فأجابها: “كلا انه لم يمت، وقد انطلق حقه في العالم ولا يستطيع يهوديا أو روماني أن يوقفه على الإطلاق”. اجل وهذا حق!. الم يقل جوليان الإمبراطور وهو يرى انتشار مجده ونفوذه في الأرض: “لقد غلبت أيها الجليلي”.
وألان وقد انتهينا من دراسة الجوانب الثلاثة في حياة المسيح الإنسان، لم يبقى إلا أن نقول كلمة، ونوجه سؤلا. أما الكلمة فهي كلمة ثيودور ادمز عندما وصف المسيح بالقول :”انه جاء إلى اليوم كروح حي، مثلما جاء كشخصية تاريخية من ألف وتسعمائة عام،وإعطاني هذا اليقين، إني إذ قبلته كمخلص ومرشد فانه سيخلصني من أخطائي وخطاياي، ويساعدني لاحيا كما يريدني الله أن أحيا، وهو يعطيني مثلا اعلي في الحياة، ويساعدني على محاولة الوصول إلى هذا المثل، وهو يؤكد لي الغفران عندما اسقط، ويساعدني لأحاول مرة أخرى أن افعل أحسن، وتعاليمه تعطيني الإرشاد والحق والمثل العليا في عالم الخوف والشك وفي وسط مقاييس وطرق الحياة المتغيرة، وهو الحقيقة الروحية الماثلة في حياتي اليومية. ومن ثم فهناك روح وغرض في هذه الحياة كان من العسير أن يوجد بدونه. وهو يساعدني في اختياراتي، لا اعرف الفرق بين الصواب والخطأ، ولاختار أفضل ما تقدمه الحياة، ويعطيني الشجاعة والأمل في ساعة الحياة المجربة وفي مواجهة مشاكل عصري، كما يعطيني فرح دعوة الآخرين له، ولسعادة الحياة المسيحية!. انه يدعوني لأعمل معه في ملكوته، ولا يجعلني أستريح لأي شيء حولي في الحياة مما لا يتفق مع مبادئه وروحه، وهو يقودني إلى شركة مع الآخرين تتخطى حواجز الجنس والعقيدة أو الزمان والمكان، ويعطيني في كنيسته مكانا للعبادة والتدريب والخدمة والشركة. ومع كل قصوري يؤكد لي انه يمكن أن أكون نافعا لخدمته، وخدمة الرسل التي دعا أتباعه ليقوموا بها في العالم، وهو يساعدني يوما ما لاحيا في المحبة والثقة والسلام الداخلي، وهو يؤكد لي حياة أبدية خلف القبر ويدعوني لأعيش الأبدية من ألان!”.
أما السؤال فقد ذكره أخر. عندما تسال عمن يكون المسيح بالنسبة لك فقال: ” لقد رآه الجند الذين صلبوه مجرما فعاملوه بقسوة، ورأته النساء اللواتي سرن ورائه يبكين عليه محسنا فحزن عليه، وراءه اللص الشرير مذنبا فجدف عليه، ورآه أخر ملكا فانحنى له، وراءه قائد المائة ذا طبيعة إلهية فاقتنع به، فماذا ترى أنت بعد ذلك فيه!”.