إيماني 15 | إيماني بسقوط الإنسان

غير أن حواء أكلت وأعطت زوجها فأكل! وسقطا! وسقط الجنس البشري كله بالتبعية والوراثة من جراء هذا السقوط. وها نحن الآن سنتابع القصة بشيء من عمق التأمل وأصالة التفكير فتعلم لماذا امتحن الأبوان الأولان؟ وما معركتهما التي خاضاها؟ وكيف سقطا؟ وما اثر هذا السقوط عليهما وعلى أبنائهما من بعد؟ وما العقاب المحتوم الذي أضحى على البشر أن يلاقوه في سيرهم مع الأجيال. وهل من رجاء أو بارقة أمل تلاحق الإنسان في هذا السقوط؟.
ويمكن معرفة هذا كله إذا تابعنا الأمر فيما يلي:
الإنسان وامتحانه
وهل كان من الضروري أن يمتحن الله الإنسان؟ ولماذا وضع الله في طريقه هذه الشجرة وحرم عليه في الوقت ذاته أن يأكل منها؟ وإذا أضيف إلى ذلك إن الله كان ولا شك يعلم مقدما بسقوط الإنسان فهل يكون بعد هذا الامتحان مبرر؟ وهل يتفق هذا مع جود الله وحنانه وحبه ورحمته؟.
هذه أسئلة كثيرا ما تمسك بالفكر البشري وتتابعه وتلح عليه وتضغط على ملكاته جميعا! ومع إننا لا نستطيع الإجابة عليها إجابة شافية شاملة. إلا إننا نستطيع مع ذلك أن نؤكدأن هناك على الأقل عاملين أساسيين يلزمان ويحتمان بهذا الامتحان، أولهما: إن امتحان إنسان كان لابد أن يمتحن، لقد تدرج إليه في الخليقة فصنع الجماد الذي لا يحس أو يشعر، ثم صنع النبات الحي المجرد من الغرائز دون فهم أو عقل. وأخر الأمر صنع الإنسان الحي العاقل الحي العاقل الحي المريد! وكان لابد أن ينشأ تباعا لهذا كله التفرقة بين هذه المخلوقات، وكان لابد أن ينشأ فيها التقابل المستمر بين الوظيفة والعضو. والامتياز والمسئولية! فكما علت أعضائها وامتيازاتها زادت تباعا لذلك وظائفها ومسئوليتها. والإنسان الذي بلغ اعلي مراتب الخليقة في الأرض كان لابد أن يقع على الجانب الأخر مما يطلب أو ينتظر من هذه الخليقة أيضا! ومن ثم وقع عليه الامتحان الأدق والأعسر فيها جميعا. فإذا انفرد الإنسان من هذه المخلوقة بملكة الإرادة الواعية العاقلة المقتدرة. كان لابد لهذه الإرادة أن توجد بما تختار أو يظهر فعلها بما تقبل أو ترفض. ومن ثم زرع الله مقابلها شجرة معرفة الخير والشر لتعرف كيف تتحرك وتنشط وتدرب ذاتها على قبول الخير ورفض الشر. فالإرادة والامتحان من وجه الطبيعة الإنسانية يقفان أو يسقطان معا على وجه الحتمية والتلازم، ولا يمكن أن يطلب ظهور احدهما دون الأخر أو قيام الأول دون الثاني!!.. فالذي يقول بعد ذلك. وهل كان من الضروري للإنسان أن يمتحن؟ كأنما يريد القول، يدري أو لا يدري، وهل كان لابد للإنسان أن يكون أنسانا!؟ فإذا كان الله قد صنع الإنسان على هذه الصورة وجعله في مثل الوضع المرسوم له، كان من مستلزمات الأشياء وطبيعتها أن يضع أمامه الامتحان المتعلق بإرادته.
ثانيا: إن امتحان الإنسان ضرورة تمليها الطبيعة الإلهية! فعدالة الله كانت لابد أن تفعله، إذ إن الله يودع، ويطالب على الدوام بما يقابل ما يودع، والذي يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر، كما إن العدالة الإلهية التي امتحن الملائكة لتحديد مصيرهم ومراكزهم كان لابد أن تفعل مع الإنسان ذي الإرادة المماثلة… ثم إن محبة الله وجوده ورحمته كان من المحال أن تظهر في أروع صورها وأمجدها من غير هذا التدخل الذي حدث في حياة الإنسان الساقط، فمن السهل أن نرى محبة الله في شتى مظاهرها ونحن أبرار قديسون طائعون، ولكن أدق محبة وأعمقها تكشف فقط عند السقوط أو الانهيار والخطية.. كما إن جود الله قد يظهر مع هذا أو ذاك فمن يتممون مشيئته ويصغون إلى إرادته، ولكن الجود أعمق الجود يظهر عندما يكون الإنسان غير مستحق أو غير أمين… كما إن رحمة الله قد تظهر في اجل وأبهى صورها عندما يحف بنا الضعف، أو يظهر ويبين في الخطية القاسية والإثم العظيم… على إن هذا لا يعني انه كان لابد أن يسقط بالضرورة حتى تظهر هذه الصفات الإلهية كلها، بل المقصود إن طبيعة الله تكشفت في امجد وأروع مظاهرها في ملاحظة هذا الامتحان ومتابعة نتائجه!! إذ إن طبيعة الله اللانهائية تسبقه وتلحقه وتحيط به من كل جانب وفي كل مظهر وزمان… حقا أن طبيعة الإنسان وطبيعة الله تقتضيان معا هذا الامتحان وتحتمان وتلزمان به.
الإنسان ومعركته
وفي معركة الإنسان لابد لنا من أن ندرك مدى الظروف الطيبة أو المعاكسة التي تحيط به ومدى ما له من استعداد للدخول فيها، وطبيعة المعركة أو التجربة التي عليه أن يصارع أو يكافح فيها. وكيف انتهت بالفشل أو الفوز على حد سواء!! وقد أعطانا الكتاب لمحات دقيقة من هذه كلها!!.. أما من حيث الظروف فما لاشك فيه إن جميع الظروف كانت إلى جانب الإنسان. إذ إن الله وضعه في “جنة” في بقعة هي أجمل بقاع الدنيا وأروعها، وأحاطه بكل ما يمكن أن يجعله هادئا أمنا ناعما مستريحا، ولم يحرم عليه من الأشجار سوى شجرة واحدة، وما عداها فهو حر في أن يأكل منها كما يشتهي وكما يريد… وفرق بين ادم الأول وادم الثاني، أو في لغة أخرى فرق بين تجربة ادم وتجربة المسيح. لقد حارب ادم الأول في جنة، وحارب ادم الأخير في برية، وحارب ادم الأول لا ليدفع غائلة الجوع أو قسوة الحاجة، كما فعل ادم الثاني الذي صارع في أدق الظروف وأصعبها وأمرها على الإطلاق!!. ومن هنا نعلم إن الظروف لم تكن معاكسة أو معادية للإنسان الأول وهو يحارب، بل كانت إلى جواره وتعمل معه… أما من حيث استعداده للدخول للمعركة فقد كان أيضا استعدادا مؤقتا. إذ كان بالفطرة والطبيعة على صورة الله وشبهه، أو في لغة أخرى على استعداد كامل للخير وعمله، فهو لم يكن كما صوره البعض أنسانا بدائيا وحشيا، أو كما صوره البيلاجيون محايدا في نزعته بين الخير والشر دون ميل فطري إلى واحد منهما على الإطلاق! بل كان على العكس الإنسان المستعد لكل ما هو صالح وخير وجميل ونبيل! وهل تكون صورة الله وشبهه على غير هذا المثال؟.
كما إن امتحانه على الأغلب لم يكن إلا لفترة محدودة، إذ لا نعتقد إن الله قصد أن يضعه أمام امتحان مستمر وتجربة دائمة، ومن المتصور أن يكون امتحانه موقوتا كما حدث مع الملائكة الذين انقسموا نتيجة الامتحان إلى أخيار أو أشرار، ومن المتصور أيضا أن يبقى هذا الامتحان حتى تنكشف إرادته وتنمو وتتدرب وتصقل. وعلى إي حال فان الامتحان جاء في صورة هينة ميسورة إذ: “وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً 17وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ».(تك2: 16 و 17) أو في لغة أخرى أن الله وضع بهذه الشجرة السور أو الفاصل بين ما يحق لأدم أن يأخذه أو يتناوله، وبين ما يمتنع عليه أو يقصر دونه، لقد أراد الله أن يعلمه إن هناك فاصلا أو سورا بين الحلال والحرام، وان خطيته القاتلة الميتة أن يتعدى هذا الفاصل إلى حيث لا يحق له أن يأخذ أو أن يملك، وقد جعل الله هذا كله بأسلوب رمزي ميسور في ثمر الشجرة الممتنعة عليه. كما إن سهولة الامتحان تظهر من إن التجربة جاءته عن طريق الشيطان المتكلم في الحية، إذ لم يأتي إليه الشيطان في شبه ملاك نور، مما قد يتعذر معه معرفة حقيقة التجربة على وجه الوضوح لصعوبة التفرقة بين الملاك وشبيهه المخادع. لقد جاء في صورة الحية وتكلم فيها، ومن هنا نعلم أيضا أن المعركة جاءت أيضا عن طريق الهجوم الخارجي دون أن يكون هناك استعداد داخلي للسقوط، ولو لم يحكم الشيطان الهجوم لما أمكنه أن يتسلل إلى داخل قلعة الإنسان! وكان الخطأ القاسي للإنسان أن سمح للشيطان أن يقترب منه، ومن العسير أن يقترب الإنسان من الشيطان أو يتحدث معه أو ينصت إليه دون أن يتعرض لخطر السقوط القاسي الماحق.. إن اقترابنا إلى التجربة، واقتراب التجربة لنا، هما أول سبيلا إلى إضعاف المقاومة أو إسكاتها فينا!!.. كما إن خطاه الأخر هو انه لم يستطيع اكتشاف ما دثره الشيطان وأخفاه، وهو يحدثه بالكلمات المداهنة المعسولة عن الإدراك والاتساع كالله في معرفة الخير والشر، والشيطان يفعل هكذا على الدوام، إذ يخفي السم في الدسم، ويعرض نصف الحقيقة دون النصف الأخر، إذ ينشر ستار كثيفا على العار والموت والتعاسة والشقاء والخراب، عندما يظهر أو يغري بصور التجربة والفتنة والشهوة واللذة والمتعة!!..
والخطأ الثالث عند الإنسان هو إعطاء الفرصة للشيطان لإثارة الشك في وجود الله وإحسانه، إذ قال المجرب للمرأة :” أحقا قد قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة” (تك3 : 1) وهو في ذلك كأنما يتساءل عن جود اللهوحبه وإحسانه إزاء هذا المنع والحرمان!!.. وإذ علق هذا السؤال بذهن المرأة وفكرها. وان كانت قد حصرته فقط في شجرة واحدة. لا في كل الأشجار، تحول الشيطان إلى الهجوم الصريح القاسي المباغت منهما لله جل جلاله بالكذب والحسد والخوف من تساوي الاثنان به، إذ قال: ” لَنْ تَمُوتَا! 5بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».(تك3: 4 و5). وخدعت المرأة وسقطت وسقط في أعقابها الرجل!!..
ومن اللازم أم نلاحظ هنا الفرق بين تجربة الرجل والمرأة مستضيئين بقول الرسول: “ادم لم يغو لكن المرأة أغويت” (اتي2: 14) إذ إن السقوط عند المرأة كلن وليد الخداع : “الحية غرتني” لقد جاءت الحية إلى المرأة كمن يطلب لها الخير ويريد أن يرفعها إلى مركز الله، واخفت عنها الجنة المهدمة والحزن والتعب والشقاء والدموع والماسي والموت وما إلى ذلك مما سيصيب الجنس البشري على توالي الأجيال، أما ادم فقط سقط بعين مفتوحة، إذ يظن البعض انه شك في كلمة الله عندما أبصر حواء تأكل من الشجرة دون أن تموت في الحال كما كان متوقع، على إن ملتون يذهب في التفسير مذهبا أخر إذ يقول في خياله الشعري في الفردوس المفقود، إن ادم أكل من الشجرة مدفوعا بحب حواء، إذ اثر أن يموت معها دون أن تهلك وحدها!!.. وهكذا فقد الأبوان الأولان المعركة، وهزما هزيمتهما التعسة المنكرة، الهزيمة التي تركت فيهما، وفي نسلهما أعمق وابعد وارهب الآثار في الحياة الحاضرة والعتيدة على حد سواء!!..
الإنسان وسقوطه
أصبح الإنسان خاطئا بالسقوط فما هي الخطية. وما مدلولها ومعناها عند الإنسان؟ إن الخطية ومشتقاتها في الأصل اللغوي تعني “القصور” أو “عدم بلوغ الهدف” أو “الانحراف”. إذ الجميع اخطأوا وأعوزهم مجد الله ” (رو3: 22) وتعني “البطل” أو “العدم” كالقول : ” مَاذَا وَجَدَ فِيَّ آبَاؤُكُمْ مِنْ جَوْرٍ حَتَّى ابْتَعَدُوا عَنِّي وَسَارُوا وَرَاءَ الْبَاطِلِ وَصَارُوا بَاطِلاً؟ “(ار2 :5) “إذ أخضعت الخليقة للباطل” (رو8 :20) وتعني “التمرد” أو “العصيان” كما تعني أيضا “عدم الاستقرار” في القول: “20أَمَّا الأَشْرَارُ فَكَالْبَحْرِ الْمُضْطَرِبِ لأَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدَأَ وَتَقْذِفُ مِيَاهُهُ حَمْأَةً وَطِيناً. 21لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارِ. (اش57: 20 -21) وتعني”الخيانة” : ” َمَاتَ شَاوُلُ بِخِيَانَتِهِ الَّتِي بِهَا خَانَ الرَّبَّ مِنْ أَجْلِ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي لَمْ يَحْفَظْهُ”.(1اخ10 :13) كما جاءت بمعاني “مرض” أو “ذنب” أو “خراب” أو “ضيق” أو “تعب” أو “تعد”. وهذه الألفاظ تساعدنا على إدراك الحالة التي وجد فيها بالسقوط. إذ لم يعد الإنسان البار السليم الصحيح بل الإنسان المريض المنحرف الخائن المتمرد القاصر المتعب المتعدي المذنب غير المستقر!.
الإنسان موروث الخطية
وغير خاف إن الأبوين الأولين لم يصبحا خاطئين فحسب. بل مورثسن للخطية لجميع أبنائهم على وجه التعاقب والاستمرار : “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ.” (رو5 :12) ومن ثم فمن العبث أن يقال إن خطية ادم لم تنحدر إلينا كما زعم بيلاجيوس. وان كل بشري يولد بقدرة كاملة على اختيار الخير أو الشر، إذ لا اثر لخطية أبوية فيه أو ما تصوره ارمنيوس بان خطية أبوينا الأولين أنقصت أو أضعفت من قدرتنا الروحية، دون أن تتسرب إلينا وتعمل فينا. ونرث كل آثارها ونتائجها على وجه الإطلاق، ونحن لا ندري كيف جاز لكل من بيلاجيوس أو ارمنيوس أن يعتنق مذهبه، وكل حقيقة في الكتاب المقدس تناهضه وتسد عليه الطريق!؟ بل لا نعلم كيف يجوز لنا أن نسلم بآثار الوراثة العميقة في الحياة وشتى نواحيها، ولا نسلم بان الميراث الآتي للإنسان من خطية أبوين أولين؟ أن كل أحاسيس البشر واختياراتهم تصرخ في فزع دائم رهيب مع الإنسان القديم الصائح : ” َأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ. 15لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. 17فَالآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. 18فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. 19لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. إِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ.” (رو7: 14، 15، 17- 20) كما نصرخ في كل جيل وعصر في صيحات العلماء والكتاب والفلاسفة والشعراء قائلة مع هكسلي العالم الانجليزي : “إني اصرخ باني لو وجدت قوة عظيمة تتعهد باني أفكر فيما هو طاهر واعمل ما هو حق على شرط أن تحيلني إلى شبه الساعة وتملاني كل صباح، لما ترددت في تسليم نفسي إليها” أو قوله: “لا اعلم أن هناك دراسة انتهت إلى نتيجة تعسة للنفس كدراسة تطور الإنسانية.. من وراء ظلام التاريخ إلى اليوم بين الإنسان انه خاضع لعنصر وضيع فيه مسيطر عليه بقوة هائلة!!.. انه وحش ولكنه وحش أذكى فقط من الوحوش الأخرى.. انه فريسة واهنة عمياء لدوافع تقوده إلى الخراب، وضحية لأوهام لانهائية جعلت كيانه العقلي هما وحملا. وأفنت جسده بالهموم والمتاعب والصراع.. لقد بلغ شيء من الراحة وانتهى إلى نظام عملي في الحياة على ضفاف النيل أو ما بين النهرين، ولكنه هو لآلاف السنين ما يزال يصارع بحظوظ مختلفة، مصغيا إلى دوافع لانهائية من الشر والدم والبؤس، ليشق طريقه بنفسه بين جشع الآخرين.. لقد قاتل واضطهد الذين حاولوا دفعه وتحريكه عما هو عليه، ولكنه لما تحرك خطوة عاد باكيا ضحاياه، بانيا قبورهم!! وهاتف وعصبي.عر اميرسون عندما صور الإنسان في هوله ورعبه كابي الهول الجاثم الغامض إذ قال:
انه يربض ويخجل..
يولي ويختبئ!!
يزحف ويختلس النظر.
يداهن ويسرق..
مرتاب وعصبي..غيور ومتردد..
أحمق ومذنب..
وهو يسمم الأرض!!
وهل أنت في حاجة إلى هذه الشهادات الصارخة، والآتية إليك عبر القرون والأجيال!؟ وإلا يكفي أن ننظر إلى أعماق نفسك وصرخات قلبك لتعلم بان الخطية هي ارهب حقيقة وأمرها عرفها الإنسان. وانه من العبث أن نتجاهل وجودها. أو نقلل من آثارها، أو نضع لها من المسميات أو الألفاظ ما يبررها أو يخفف من وقعها على الأذن أو الفكر أو المشاعر أو الكيان الإنساني كله!!. وان محاولة كهذه تعد اخطر محاولة يمكن أن يسقط فيها الإنسان في كل تاريخه الطويل على الأرض.ض… وقد حق لواعظ تحدث ذات يوم برهبة وترويع عن الخطية في كنيسة كبرى، فجاءه احد المتقدمين يلومه على قسوة الحديث وصراحته، وعلى وجه اخص لأنه تحدث به في مواجهة أناس ارستقراطيين متمدينين مثقفين.كان يجمل به أن يتخير لهم حديثا أخر خلاف هذه الحديث، وأنصت الواعظ لمحدثه هنيهة قال له بعدها: “ما رأيك يا سيدي في رجل يضع في صيدلية زجاجة مملوءة بالسم الفتاك، ويكتب على الورقة الملتصقة بها روح النعناع؟” فأجاب الأخر : “أن هذا الرجل مجرم من غير شك ” وإذا بالواعظ يقول : “وهذا حق صراح في كل ما يصف الخطية بغير أوصافها الرهيبة المروعة المدمرة القاسية المميتة “!!…
الإنسان وعقابه
وقصة السقوط تكشف لنا عن العقاب الذي يحق على الإنسان ولحق به وقد ظهر هذا العقاب في قصة ادم وحواء وفي قصص ذريتهم من بعدهما في أكثر من لون ومظهر إذ كان عقاب:
1- العار
لقد جاءت الخطية إلى ادم وحواء بالعار والخزي والخجل، إذ أدركا أول كل شيء إنهما عريانان، ولعل هذا أول ما يحس به المرء عند ارتكاب الخطية، ولعل هذا هو الدافع الذي يجعله يرتكب الخطية في الظلام: ” (يو3: 19-20) وكلمة الخطية على الدوام مقارنة وملاحقة للعار والخزي.إذ أنها تهدر في الإنسان كل ما هو ادمي والهي، إذ تقتل فيه المروءة والشرف والكرامة والنبل والإنسانية، وتسفل به إلى الحيوانية القذرة. الم يتعر ادم وتكشف نوحا وتلطخ داود بالوحل وتنحط بالمنون إلى أسفل المدركات؟ بل إلا تنشئ على الدوام ما اصطلح رجال النفس على تسميته بعقدة اوديب. عقدة ذلك الفتى اليوناني القديم الذي قتل أباه وتزوج أمه، وعندما أدرك بشاعة عمله فقأ عينيه، ورقع بنفسه أفظع عقاب يجرؤ عليه إنسان.
2- الخوف
وإذ سمع ادم وحواء صوت الإله ماشيا في وسط الجنة عند هبوب ريح النهار فزعا وخافا. وهذا ما تصنعه الخطية دائما بمرتكبها إذ تظهره في مظهر الضعيف الذي تمسك به حبال إثمه وشروره فلا يستطيع الهروب من عدل الله مهما حاول إلى ذلك سبيلا. لقد ظن ادم وحواء في بادئ الأمر إن التعدي من الأكل من الشجرة سيجعلهما مثل الله، وفي مستواه تعالي، ولكنهما تبينا أخر الأمر إنهما أضافا إلى ضعفهما ضعفا، إذ لم يجسرا على النظر إلى الله فحسب، بل خشيا حتى من مجرد الاستماع إلى صوته عند هبوب ريح النهار. والخطية توهم المرء على الدوام انه اقوي وجسور حتى يرتكبها. وإذ به يكتشف انه جبان وضعيف. وانه اعجز من أن يواجه نفسه أو المجتمع أو صوت الله.وقد جاء صوت الله إلى أبوينا عند هبوب ريح النهار أو قبيل الغروب كما يرجح بعض المفسرين، عندما سكنت الطيور إلى الأعشاش أو الحيوانات إلى المرابض، ولم تكن هناك نأمة أو حركة خلا الريح التي هبت وجاء معها صوت الله قويا مؤثرا يبلغ الشغاف والأعماق، وهكذا يأتينا هذا الصوت عندما لا نرتكب الخطية بقوة لا تغالب أو تناهض في الحوادث والإحداث التي تمر بحياتنا، وفي تأنيب الضمير المرهب وعذاباته وضرباته التي هي اقسي من لذع السياط أو طعنات السيوف، فتنكمش وتتقلص وتفزع وتصنع منا الخطية جبناء، كما يقول شكسبير!!..
3- العداوة
والخطية سر كل نزاع وخصام وعداوة وخراب في الأرض، إذ لا سلام قال الهي للأشرار، وإذا سقط أبوانا الأولان ضعفت المحبة بينهما، كما صار بينهما وبين المحبة عداوة قاسية، واكبر من ذلك قتلت محبتهم لله. أما إن محبتهم بعضهما البعض فلم تعد كالأول،فذلك يبدو من محاولة ادم إلقاء التبعية على زوجته دون أن يهتم بحمايتها أو تحمل ذنبها كما كان ينتظر منه كمحب مخلص غيور، ولا ننسى أيضا انه عندما ذكرها أمام الله لم يقل “زوجتي” أو “حواء” بل قال : “المرأة الذي أعطيتني” مما يدل على أن محبته لها لم تعد في قوتها الأولى! أما العداوة للحية فقد أضحت عداوة دائمة مستمرة أبدية، ومن المستطاع ملاحظتها إذا ذكرنا العداوة القائمة بين الجسد والروح في الإنسان الواحد، وبين المؤمن أو غير المؤمن على طوال الأجيال، كما نستطيع ملاحظتها في تلك المنازعات والحروب التي لا تنتهي أو تهدا في إي رن من أركان الأرض وفي كل زمان ومكان!!.. أما العداوة لله فتبدو في البعد عنه، وعدم الشوق إليه، وفعل كل ما هو آثم وشرير وغير مرضي أمام عينيه، ومن هنا نعلم لماذا يعيش الإنسان على الدوام في الفزع والرعب والقلق والفوضى وعدم الاستقرار.. بل هنا نعلم لماذا تبدو حياته مجموعة من الأشتات والمتناقضات والازدواج بعد أن دخلته الخطية وجرثومتها، أو كما وصفه بسكال الفيلسوف: ” مزاج فريد من المتناقضات، جمع الكرم والخسة، والسمو والصغار، والقوة والضعف، حتى أصبح لغزا عسير الحل.. وهو بطبعه يميل إلى التصديق ويميل إلى الشك. شجاع وجبان. راغب في الاستقلال وخاضع لشهواته، محتاج دائما إلى شيء ما، مضطرب قلق سريع الملل، تخدعه حواسه، ويخدعه خياله، ويخدعه حبه لنفسه، فلا يرى الأشياء كما هي وإنما يراها من وراء ستار. ولا أدل على ذلك من اختلاف الناس إلى شيء واحد باختلاف أشخاصهم وبيئاتهم وعواطفهم ونزاعاتهم..يستطيع أن يقتل إنسانا مثله، ولكن ذبابة تستطيع أن تقتله هو “!!
4- الحياة المعذبة
طرد ادم وحواء من الجنة فطردا بذلك من الحياة الوادعة المستريحة، ولعنت الأرض بسببها، فضعفت خصوبتها وتحول الشطر الأكبر من اليابسة إلى البراري والصحاري والقفار، وكان على ادم أن يجد لقمته بالتعب والجهد وعرق الجبين: “17وَقَالَ لِآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. 18وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. 19بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».
(تك3: 17 -19) وكان على حواء أن تعيش حياتها متألمة كزوجة وأم، وفقد الاثنان سيادتهما على العديد من الحيوانات إذ توحشت، وسار الركب البشري يئن مجهدا مثقلا متعبا يقول مع يعقوب عن الحياة: “قليلة وردية” (تك47: 9) ومع موسى في مزموره الباكي: “وأفخرها تعب وبلية (مز90: 10) ومع بولس : “فإننا نعلم أن الخليقة تئن وتتمخض معا” (رو8: 22)
5- الموت
وأجرة الخطية هي موت، وقد ماتا ادم وحواء في اللحظة التي سقطا فيها وانفصلا عن الله، لقد مات في الحال الموت الروحي والأدبي إذ لم تعد لهم الشركة الجميلة الحلوة المقدسة مع خالقهما المحب وأبيهما القدوس، بل لم يعد لهما ذلك الإحساس الذي إلفاه ودرجا عليه، إحساس الحنين إليه والشوق للرؤيا، بل شرعوا للمرة الأولى بان غشية الظلام، استولت على عيونهما فلم يعودا يميزان تمييزا كاملا بين الحق والباطل، والنور والظلام، والجمال والقبح، بل شعرا بما يشبه السم الزعاف القاتل يسري في بدنيهما، فيخدر في كيانهما كل المعاني والحقائق، ويقتلهما في بطء وعذاب وقسوة، والى جانب هذا كله شعرا بالموت المادي يأخذ السبيل إلى جسديهما بالضعف والوهن والتعب والمرض والانحلال، وهكذا أدركا صدق الله القائل: “لأنك يوما تأكل منها موتا تموت” (تك 2: 17).
اجل ما اقسي وارهب ما أرى أو يرى الإنسان من عقاب نتيجة لسقوطه المروع الشنيع هذا… ولكن هل ضاع الرجاء وانتهى الأمل في عودته مرة أخرى إلى فردوسه الضائع ومجده السليب؟!! “أليس بلسان في جلعاد أم ليس هنا طبيب؟”. إن الرجاء لا يرجع بتاتا إلى شيء في طبيعة الإنسان أو قوته أو قدرته أو مجهوده أو استعداده، فان الرجاء كل الرجاء يرجع إلى شيء أخر في طبيعة الله وحبه ورحمته وحنانه، إذ هو وحده منقذ الإنسان ومحرره وفاديه في شخص المسيح العظيم مخلص العالم!!..