إنجيل متى | 28 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الثامن والعشرون
١ «وَبَعْدَ ٱلسَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ ٱلأُخْرَى لِتَنْظُرَا ٱلْقَبْرَ».
مزمور ١٦: ١ ولوقا ٢٤: ١ ويوحنا ٢٠: ١ ومتّى ٢٧: ٥٦
نأتي الآن إلى صفحة مشرقة بالنور، إذ بعد اشتداد الظلمة يأتي الفجر، وبعد الصليب تبزغ أنوار القيامة المجيدة. هذا هو موضوع كرازتنا، ليس المصلوب فقط بل القائم من الأموات الذي صار باكورة الراقدين.
وَبَعْدَ ٱلسَّبْتِ أي يوم الراحة اليهودي وهو اليوم السابع من الأسبوع.
عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ عبر مرقس عن ذلك بقوله «بَاكِرًا جِدًّا… إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ» (مرقس ١٦: ٢) وعبر عنه لوقا بقوله «أول الفجر» (لوقا ٢٤: ١) وعبر عنه يوحنا بقوله «بَاكِرًا، وَالظَّلاَمُ بَاق» (يوحنا ٢٠: ١). وكل هذه العبارات بمعنى واحد، وهو الصباح. وربما نتج ما يظهر من الفرق بينها أن بعض البشيرين ذكر وقت خروج النساء من بيوتهن ليزرن القبر، وذكر البعض وقت وصولهن إليه. وذلك اليوم أي أول الأسبوع وهو يوم الأحد، صار من ذلك الوقت السبت المسيحي تذكاراً لقيامة المسيح فيه.
مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ ٱلأُخْرَى كانت هاتان المرأتان آخر من ترك الصليب والقبر مساء الجمعة (متّى ٢٧: ٥٦، ٦١) وكانتا أول من زار القبر صباح الأحد. واقتصر يوحنا علي ذكر مريم المجدلية لأنها أشهر، ولأن المسيح ظهر لها عند قيامته. وذكر مرقس امرأة ثالثة هي سالومة (مرقس ١٦: ١) وأتى بعد هؤلاء الثلاث فرقة أخرى من النساء حاملات حنوطاً وهن اللواتي تبعن يسوع من الجليل (لوقا ٢٣: ٥٥، ٥٦ و٢٤: ١ – ١٠) ولم يتحقق أن تكون يونا (وهي امرأة خوزي وكيل هيرودس لوقا ٨: ٣) مع الفرقة الأولى أو الفرقة الثانية (لوقا ٢٤: ١٠)
لِتَنْظُرَا ٱلْقَبْرَ فعلتا ذلك للتعزية في حزنهما، ولإظهار إكرامهما لذلك الميت، وليريا هل بقي القبر كما تركتاه. وبقي سبب آخر لم يذكره متّى وذكره مرقس ولوقا وهو إتيانهما بأطياب لتكميل تحنيط جسد المسيح، لأنه لم يكمل يوم الجمعة للسرعة في دفنه. ولربما كان من جملة ما حملهما على ذلك بعض الرجاء أن يحدث شيء غريب في اليوم الثالث من دفنه على ما أنبأ به سابقاً. ويظهر أنهما لم يعرفا شيئاً من أمر الحراس الذين أرسلوا إلى هنالك يوم الجمعة بعد غيابهما، ولا من أمر ختم القبر، فلم تهتما إلا بدحرجة الحجر عن باب القبر لأنهما لا تقدران على دحرجته (مرقس ١٦: ٣).
٢ «وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لأَنَّ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ ٱلْحَجَرَ عَنِ ٱلْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْه».
مرقس ١٦: ٥ يوحنا ٢٤: ٤ ويوحنا ٢٠: ١٢
زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ هذا تكرار ما حدث عند موت المسيح. وعندما دحرج الملاك الحجر زادت القيامة وقاراً وهيبة، وذلك يليق بها، كما أنه نبّه الحراس ليشاهدوا الملاك عند نزوله.
مَلاَكَ ٱلرَّبِّ… وَدَحْرَجَ لم تشاهد المرأتان هذا لأنه حدث قبل وصولهما (مرقس ١٦: ٢ – ٤) ولوقا ٢٤: ٢ ويوحنا ٢٠: ١). ودحرجة الملاك للحجر لم تكن لأجل المسيح، فلم يكن هناك مانع من خروجه من القبر بجسده الذي اتخذه عند القيامة (يوحنا ٢٠: ١٩، ٢٦) بل لأجل النساء والتلاميذ ليدخلوا القبر ويتحققوا قيامته.
لم يشاهد أحد من البشر قيامة المسيح أثناء قيامته. وهرب الحراس قبل وصول المرأتين (لوقا ٢٤: ٢ ويوحنا ٢٠: ١) وقال الملاك لهما «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ» (ع ٦)
أنبأ الملائكة مريم بولادة المسيح، ونادوا بها للرعاة، وأعانوا المسيح وقت التجربة، وشددوه عند آلامه في جثسيماني، ودحرجوا الحجر عن القبر، وبشروا النساء بقيامته.
وَجَلَسَ عَلَيْه هذا شاهده الحراس قبلما هربوا.
٣ «وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَٱلْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَٱلثَّلْجِ».
دانيال ١٠: ٦
مَنْظَرُهُ كَٱلْبَرْقِ أي لامع لمعاناً باهراً (خروج ٣٤: ٢٩، متّى ١٧: ٢، رؤيا ١: ١٤)
وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَٱلثَّلْجِ إشارة إلى الطهارة وإلى صفات الملائكة (دانيال ٧: ٩، رؤيا ٣: ٤، ٥، ١٨ و٤: ٤، ٦: ١١، ٧: ٩، ١٣)
٤ «فَمِنْ خَوْفِهِ ٱرْتَعَدَ ٱلْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ».
ٱرْتَعَدَ ٱلْحُرَّاسُ نسب متّى ارتعادهم إلى مشاهدتهم الملاك. ولكن لا ريب في أنه أثر فيهم أيضاً ارتجاف الأرض من الزلزلة، ولمعان النور الباهر، ودحرجة الحجر عن الباب.
وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ هذا دليل على شدة هولهم حتى فقدوا القوة وأغمى عليهم، وكان ذلك قبل وصول المرأتين. وحلَّ الحراس من الملائكة محل الحراس من العسكر.
٥ «فَقَالَ ٱلْمَلاَكُ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ».
فَقَالَ ٱلْمَلاَكُ كان جوابه على سؤال غير ملفوظ، وهو خوف المرأتين. والبشير متّى لم يذكر هنا سوى ملاك واحد وهو المتكلم، وهذا لا يمنع من أن يكون هنالك غيره من الملائكة كما ذكر البشيرون الآخرون، ومن أن يكون بعض الملائكة خارج القبر وبعضهم داخله، وأن يكون بعضهم وقوفاً والبعض جلوساً (مرقس ١٥: ٥ ولوقا ٢٤: ٤ ويوحنا ٢٠: ١٢)
لِلْمَرْأَتَيْن الأرجح أن مريم المجدلية عندما رأت القبر مفتوحاً جرت إلى المدينة وأخبرت بطرس ويوحنا، وأنها لم تسمع ما قاله الملاك، لأنها لو سمعت أخباره بقيامة المسيح ما قالت لهما «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا ٢٠: ٢) وما قالت لمن ظنته البستاني «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ» (يوحنا ٢٠: ١٥).
لاَ تَخَافَ كانت مشاهدة الملاك والقبر مفتوحاً كافية لأن ترهبهما، فبادر الملاك إلى مخاطبتهما حاملاً معه كلمات الاطمئنان.
إِنِّي أَعْلَمُ علم من هيئة مجيئهما وحديثهما وما في أيديهما من الأطياب.
يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ عُرِف بين الملائكة بهذا اللقب (رؤيا ٥: ٦ و٧: ٩)
٦ «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ».
متّى ١٢: ٤٠ و١٦: ٢١ و١٧: ٢٣ و٢٠: ١٩
شهد ملاكان بهذه الشهادة لنساء أُخر داخل القبر ( لوقا ٢٤: ٦، ٧ )
برهنت قيامة المسيح صحَّة دعواه وأن دينه حق إلهي (أعمال ٢: ٢٢، ٢٤) وبرهنت أيضاً حياة المسيح بعد موته وقوته (رومية ٥: ١١).
وهي عربون الحياة المستقبلة لكل مؤمن (١كورنثوس ١٥: ٢٠، ٣٢)
كَمَا قَالَ متّى ١٢: ٤ و١٦: ٢١ و١٧: ٢٣ ويوحنا ٢: ١٨ – ٢٢
ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ الخ لتتحققا من عدم وجود جسد فيه، وهذا يثبت قولي إنه قام.
ٱلرَّبُّ لم يقل ربكما بل «الرب» إثباتاً أنه الله. فالذي دعاه «المصلوب» قبلاً دعاه هنا «الرب».
٧ «وَٱذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا».
متّى ٢٦: ٣٢ ومرقس ١٦: ٧
لِتَلاَمِيذِهِ أي كل التلاميذ ولا سيما لبطرس (مرقس ١٦: ٧)
يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ الجليل هو القسم الشمالي من الأرض المقدسة حيث قضي المسيح أكثر وقت خدمته فيه. ووعد تلاميذه قبل موته أن يجتمع معهم في الجليل بعد قيامته. وليس معنى قوله «يسبقكم» أنه يسير قدامهم في الحال، بل أنه عازم على إنجاز وعده باجتماعه معهم هناك. وعلة اجتماعه معهم في الجليل لا في أورشليم الاحتراس من شيوع أمره، وهياج الاضطهاد على تلاميذه، ولأن مساكن أكثر تلاميذه هناك.
أَنَا قَدْ قُلْت الخ قال الملاك هذا تأكيداً وتحقيقاً لما سبق وقاله
٨ «فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ ٱلْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ».
فَخَرَجَتَا… مِنَ ٱلْقَبْرِ هذا دليل واضح على أنهما كانتا داخل القبر.
بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ قلما يجتمع الخوف والفرح معاً، فاجتماع الاثنين الآن هو دليل آخر على عظمة المشهد وروعته. وكان خوفهما بسبب مشاهدة الملاك وسماع صوته. وكان فرحهما بسبب تبشيره إياهما بقيامة المسيح.
رَاكِضَتَيْنِ رغبتهما في تبشير التلاميذ بقيامة المسيح حملتهما علي الإسراع والهرب، والأرجح أن هاتين المرأتين كانتا مريم أم يعقوب وسالومة (مرقس ١٦: ٨). أما مريم المجدلية التي كانت معهما في أول الأمر فإنها رأت القبر مفتوحاً وظنت أن جسد المسيح قد سُرق، فرجعت إلى المدينة لتخبر بطرس ويوحنا، ولذلك لم تشاهد الملاك. ثم عادت إلى القبر، ولكن بطرس ويوحنا سبقاها إليه وشاهداه فارغاً، ورجعا إلى المدينة. ثم وصلت مريم وبقيت هناك، وظهر المسيح لها قبل الجميع (مرقس ١٦: ٩)
٩ «َفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا. فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَه».
مرقس ١٦: ٩ ويوحنا ٢٠: ١٤
لاَقَاهُمَا هذا ظهور المسيح الثاني بعد قيامته، وكان الأول ظهوره للمجدلية (مرقس ١٦: ٩) فمرقس قصد بقوله «أولاً» الظهور الأول من الثلاثة التي اقتصر عليها، كما أراد بقوله «أخيراً» آخر هذه الثلاثة. فيحتمل أنه ظهر قبلها.
سَلاَمٌ لَكُمَا هذا السلام تعزية لهما في حزنهما على موته، وتهنئة لهما بقيامته.
أَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ إمساكهما بقدميه حقق لهما قيامته، وقبوله سجودهما إثبات للاهوته لأنهما احترمتاه وسجدتا له باعتبار أنه شخص إلهي، ولذلك لم يرفض شيئاً مما فعلتاه من علامات الإكرام، ورفض ما فعلته مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ١٧). ولا شك أن علة ذلك هو إكرامها له باعتبار أنه صديق بشري.
١٠ «فَقَالَ لَـهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي».
يوحنا ٢٠: ١٧ ورومية ٨: ٢٩ وعبرانيين ٢: ١١
لاَ تَخَافَا لأنهما خافتا طبعاً لمشاهدتهما بغتة يسوع حياً بعد تيقنهما أنه مات.
لإِخْوَتِي أي تلاميذي. وسمّاهم إخوة بالمعنى الروحي. وهذه أول مرة دعا تلاميذه إخوة له. ولو أنه قال قبلها على وجه العموم «مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي… هُوَ أَخِي» (متّى ١٢: ٥٠) وتخصيص تلاميذه وقتئذٍ بذلك الاسم إشارة إلى أنه غفر لهم تركهم إياه وشكهم فيه وإنكارهم إياه، وأكد لهم بذلك محبته لهم، وأمَّنهم كما أمَّن يوسف إخوته الذين باعوه إلى مصر بقوله «أَنَا يُوسُفُ أَخُوكُمُ» (تكوين ٤٥: ٤). فيسوع مع إنه هو غالب الموت والجحيم لم يزل يحسب تلاميذه إخوة له.
إِلَى ٱلْجَلِيلِ هذا تكرار لوعده لهم (متّى ٢٦: ٣٢) ووعد الملاك للمرأتين (ع ٧). وقصد المسيح أن يكون الاجتماع هناك عاماً.
١١ «وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ إِذَا قَوْمٌ مِنَ ٱلْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ».
فِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ أي في أثناء ما سبق.
قَوْمٌ مِنَ ٱلْحُرَّاسِ هذا دليل على أن الحراس تشتتوا من شدة الخوف، فذهب بعضهم إلى جهة والبعض إلى جهة أخرى. ولكن تركهم القبر بلا إذن عرَّضهم للقصاص الشديد. على أن هروبهم هو شهادة بصحَّة حوادث القيامة، لأنه لا يمكن أن يهربوا ويعرضوا أنفسهم لذلك القصاص إلا لهولٍ عظيم.
وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ في هذه فرقتان من المخبِّرين: الأولى المرأتان، وكان خبرهما بشارة التلاميذ. والثانية الحراس وكان خبرهم إنذاراً وعلة حزن وخجل للرؤساء.
وأخبر الحراس رؤساء الكهنة لأن بيلاطس جعل الحراس يومئذٍ تحت أمر أولئك الرؤساء، ولا بد أن ذلك الخبر أزعجهم كثيراً لأنهم مبغضو المسيح وقاتلوه، وأزعج الصدوقيين منهم أكثر مما أزعج سائرهم لأنهم أنكروا إمكانية القيامة (أعمال ٤: ٤٢). وقيامة المسيح تبطل زعمهم بأن لا قيامة ولا أرواح! وكان الرؤساء قد وعدوا أن يؤمنوا بالمسيح إن نزل عن الصليب (متّى ٢٧: ٤٢) فوجب أن يؤمنوا به لما هو أعظم من النزول عن الصليب بشهادة حراسهم. وهم كانوا قد طلبوا آية من المسيح، ووعدهم بآية يونان النبي، فأنجز وعده (متّى ١٢: ٣٩، ٤٠) فكان عليهم أن يتوبوا ويؤمنوا به.
بِكُلِّ مَا كَانَ أي الزلزلة، وإتيان الملاك، وانفتاح القبر.
١٢ «فَٱجْتَمَعُوا مَعَ ٱلشُّيُوخِ، وَتَشَاوَرُوا، وَأَعْطَوُا ٱلْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً».
فَٱجْتَمَعُوا مَعَ ٱلشُّيُوخِ اجتمع رؤساء الكهنة المتفقون على قتل المسيح، في مجلس السبعين. ولا شك أن يوسف الرامي ونيقوديموس لم يجتمعا معهم.
تَشَاوَرُوا أي رأوا آراء مختلفة حتى اتفقوا على واحدٍ منها، والظاهر أنه لم يخطر على بالهم أن يخبروا الشعب بحقيقة الواقع، لأنه لو عرف الشعب بظهور الملائكة وكل ما صار لاستنتجوا بالضرورة أن دعوى المسيح صادقة، ولكانوا آمنوا به.
أَعْطَوُا ٱلْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً أي رشوهم رشوة وافرة، وكانوا قد رشوا الإسخريوطي وشهود الزور قبل الصلب، واضطروا بعد الصلب أن يرشوا العسكر بأكثر من ذلك.
١٣ «قَائِلِينَ: قُولُوا إِنَّ تَلاَمِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ».
ظهر عجزهم وحيرتهم من أنهم لم يستطيعوا الوصول إلى حجة يقبلها العقل أعظم مما ذكروا. وأي عاقل يصدق أن تلاميذه الذين هم صيادون من الجليل يجسرون على فتح قبر يحرسه الجنود الرومان؟ أو أنهم إن جسروا على ذلك يكون لهم أدنى رجاء للنجاح، لأنه لا يتوقع أن يكون أولئك الحراس كلهم نياماً في وقت واحد مع علمهم أن قصاص من ينام وقت الحراسة هو الموت (أعمال ١٢: ١٩)؟ فإن صح أن الحراس كانوا نياماً كلهم، فمن أين عرفوا أن تلاميذه سرقوه؟ ليس لهم إذاً سوى أن يقولوا: نمنا واستيقظنا فوجدنا القبر مفتوحاً خالياً من الميت. ولو كان بعضهم نياماً والبعض ساهرين لنبَّه الساهرون النائمين، ومنعوا التلاميذ من السرقة! ولو صح أن الحراس ناموا وتركوا التلاميذ يسرقون الجسد ويشيعون الخبر الكاذب بقيامته ما صدق أحد أن الرؤساء لا يغضبون على الحراس ويسرعون إلى بيلاطس ويشتكون عليهم ويطلبون قصاصهم، ويسألونه القبض على التلاميذ وعقابهم على خيانتهم الحكومة بنزع الختم! وإن لم يقم المسيح فأي منفعة للتلاميذ من سرقة جسده وادعاء قيامته، إذ ليس لهم من ذلك سوى العار والعذاب والموت.
١٤ «وَإِذَا سُمِعَ ذٰلِكَ عِنْدَ ٱلْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ».
ذٰلِكَ أي أنكم كنتم نياماً وقت الحراسة.
ٱلْوَالِي أي بيلاطس
نَسْتَعْطِفُهُ الأرجح أنهم اعتمدوا أن يرشوه لأنه كان مشهوراً بحب الرشوة، فوعدوهم بعد أن رشوهم بأن يرضوا ببلاطس حتى يعفو عن الحراس ويصفح عما ارتكبوه من مخالفتهم القوانين العسكرية، إن بلغه خبر نومهم. ولكن لا دليل على أن بيلاطس سأل عن هذا الأمر.
وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ كان الرؤساء مستعدين أن يعدوا الحراس بكل شيء في سبيل أن يغيروا شهادتهم بالواقع.
١٥ «فَأَخَذُوا ٱلْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ، فَشَاعَ هٰذَا ٱلْقَوْلُ عِنْدَ ٱلْيَهُودِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي اليوم الذي كتب فيه متّى بشارته، وكان ذلك بعد نحو ثلاثين سنة للقيامة، لأن اليهود كانوا وقتئذٍ يعتقدون صدق ذلك الخبر الكاذب، وما زالوا يصدقونه إلى الآن، مع أنه قد مرَّ عليه أكثر من ١٨٠٠ سنة.
١٦ «وَأَمَّا ٱلأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَٱنْطَلَقُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ إِلَى ٱلْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ».
ٱلأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً اقتصر على ذكر هؤلاء لأنهم أشهر ممن سواهم من المؤمنين.
ٱنْطَلَقُوا لم ينطلقوا إلا بعد نهاية عيد الفصح، فأقل ما مكثوه في أورشليم كان ثمانية أيام بعد قيامة المسيح، لأن يوحنا ذكر حضورهم هنالك في الأحد الذي قام المسيح فيه، والأحد الذي بعده (يوحنا ٢٠: ١٩، ٢٦)
إِلَى ٱلْجَبَلِ لا شيء يعين لنا هذا الجبل، والمرجح أنه قرب بحر الجليل
حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ (متّى ٢٦: ٣٢).
١٧ «وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، وَلٰكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا».
وَلَمَّا رَأَوْهُ يدلنا ما ذُكر في هذه الآية على أنه كان للمسيح تلاميذ غير الأحد عشر رسولاً المذكورين آنفاً، لان الأحد عشر شاهدوه قبلاً في أورشليم ونفوا شكوكهم (يوحنا ٢٠: ٢٠، ٢٧، ٢٨). والأرجح أن الذين اجتمعوا بالمسيح في الجليل غير الأحد عشر، وهؤلاء ذكرهم بولس بقوله «بَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ» (١كورنثوس ١٥: ١٦) وهذا الاجتماع عينه المسيح قبل موته (إشعياء ٢٦: ٣٢) وأخبر به المسيح أيضاً (ع ١٠)
سَجَدُوا لَهُ كان هذا السجود عبادة روحية، وعبدوه باعتبار كونه ملكاً ومسيحاً وابن الله المنتصر على الموت.
بَعْضَهُمْ شَكُّوا ولا نعجب من هذا الشك فإن الخبر بالقيامة كان غريباً جداً وغير منتظر، والأرجح أنهم نسوا قوله إنه بعد ثلاثة أيام يقوم. وكان هذا الشك وقتياً، بسبب عدم تحققهم في أول الأمر أنه هو الذي عرفوه قبل الموت، لأنه كان قد حدث بعض التغيير في منظره بعد القيامة عاق أقرب معارفه عن تحققه فوراً. وهذا ما جرى مع مريم المجدلية التي ظنته في أول الأمر البستاني (يوحنا ٢٠: ١٥) وهو ما جرى مع التلميذين اللذين ذهبا معه إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٦، ٣١) وما جرى مع بطرس ويوحنا وغيرهما عند بحر الجليل (يوحنا ٢١: ١، ٤). وساقتهم تلك الشكوك إلى التحقيق فلم يتركوا لنا شكاً في صحة قيامته، لأنهم فحصوا كل شيء قبل أن يؤمنوا بالقيامة.
ولا بد أن يكون المسيح قد ظهر لتلاميذه مراراً كثيرة في الأربعين يوماً التي بقي فيها على الأرض بعد قيامته لم يذكر سوى بعضها (يوحنا ٢٠: ٣٠ وأعمال ٣١) والذي ذُكر منها عشرة:
ظهوره لمريم المجدلية: يوحنا ٢٠ : ١٢، ١٨ ومرقس ١٦: ٩ – ٢٠
لبعض النساء الراجعات من القبر: متّى ٢٨: ٩، ١٠
لبطرس (لوقا ٢٤: ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٥) ولعله ظهر له بعد الظهر بقليل
لتلميذين منطلقين إلى عمواس (مرقس ١٦: ١٢ ولوقا ٢٤: ١٣) وكان ذلك نحو المساء.
لعشرة تلاميذ في أورشليم مساء يوم قيامته (لوقا ٢٤: ٣٦، ٤٢)
(وكانت هذه الخمسة كلها يوم قيامته في أورشليم أو بالقرب منها).
للأحد عشر في الأحد الثاني بعد قيامته (لوقا ٢٠: ٢٦).
(وكان ذلك أيضاً في أورشليم)
لسبعة من الرسل على شاطئ بحر الجليل (يوحنا ٢١: ١، ٤٢).
لأكثر من خمس مئة أخ مع الأحد عشر رسولاً علي جبل في الجليل (متّى ٢٨: ١٦ و١كورنثوس ١٥: ٦).
ليعقوب (١كورنثوس ١٥: ٧).
لكل رسله يوم صعوده وظهر لهم أولاً في أورشليم ثم في بيت عنيا حيث صعد (لوقا ٢٤: ٥٠).
والأدلة على صحة قيامة المسيح كثيرة نقتصر على عشرة منها:
ظهوره مراراً بعد قيامته، فلو ظهر مرة واحدة لأمكن أن يُقال إن الذين شاهدوه توهموا. ولأنه ظهر ليس أقل من عشر مرات لم يبق في ذلك شك
كثرة الشهود بقيامته فلو شهد واحد إنه رآه عشر مرات لبقي باب الشك، ولكن الشهود كانوا أكثر من واحد، حتى وصل عددهم إلى أكثر من خمس مئة.
طول المدة التي ظهر فيها وهي أربعون يوماً، ومرات ظهوره المذكورة كانت ستاً مختلفة. وكانت قيامة المسيح موضوع حديث الرسل وتأملاتهم وصلواتهم في كل تلك المدة، فكان لهم وقت كافٍ لفحص الأمر بالتأني والتدقيق.
وضوح ظهوره في كل مرة، فإن منها ما كان في الصباح، ومنها ما كان في المساء، ومنها ما كان بينهما. وظهر داخل البيت، وعلي الطريق، وعلى شاطئ البحر، وعلى قمة الجبل، وفي أوقات معينة. وهذه الأحوال تمنع من الخداع.
تحقق المشاهدون قيامته بشهادة حواسهم، فإنهم رأوه مراراً في أيام مختلفة حتى لم يبق في نفوسهم شك في أنه هو هو. وسمعوه يتكلم، فمريم المجدلية عرفته من صوته، وسمع التلاميذ خطابه الطويل لهم. ولمسوه (متّى ٢٨: ٩ ولو ٢٤: ٣٩) وأكلوا معه فإنه تعشى مع اثنين في عمواس (لو ٢٤: ٣٩، ٤٣) وتغدَّى مع سبعة من التلاميذ عند بحر الجليل (يوحنا ٢١)
لم تكن قيامته منتظرة، ولو انتظرها الذين شاهدوا المسيح بعد قيامته لظنوا أن آمالهم خدعتهم وتصوراتهم زينت لهم ذلك. وتدل الأخبار على أنهم لم يصدقوها إلا بصعوبة. فليس توما وحده الذي شك فيها إلى أن التزم بقوة البيان ليؤمن بها.
التغيير العظيم الذي حدث في الرسل حينئذٍ، فإنهم انتقلوا من حالة اليأس إلى الرجاء ومن الجبن إلى الشجاعة، وما علة ذلك إلا صحة قيامته.
ختم الرسل شهادتهم بصحة القيامة بدمائهم.
اعتقاد كل المسيحيين من ذلك اليوم إلى هذه الساعة بصحة تلك القيامة.
اتخاذ الأحد يوم راحة بدلاً من السبت، فإن حفظ اليوم السابع كان فرضاً دينياً نحو أربعة آلاف سنة فيستحيل أن تتفق الكنيسة بأسرها على إبداله بالأحد لأمر لم يحدث.
ولنا في قيامة المسيح ثلاث فوائد كبرى:
البرهان القاطع على صحة دعوى المسيح، فالقيامة شهادة سماوية إلهية، واعتقدها الرسل وشهدوا بها، واستندوا عليها في تبشيرهم. ولولا صحة القيامة لكان الدين المسيحي باطلاً (١كورنثوس ١٥: ١٤).
تحقق انتصار المسيح على عدو الإنسان الأخير أي الموت فإنه كل من قام من الموت قبله خضع له ثانيةً، أما المسيح فقام ولا يتسلط عليه الموت بعد.
قيامة المسيح إنباءٌ بالقيامة العامة وعربون لها، لأن المسيح «قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ» (١كورنثوس ١٥: ٢٠).
قيامة المسيح معجزة المعجزات:
مما يدل على أن قيامة المسيح معجزة المعجزات أنها تشتمل على كل ما هو خارق للطبيعة في سائر المعجزات. ولنا على ذلك أربعة براهين:
تغيير نظام الخليقة بتلك الزلزلة غير العادية.
تغيير شرائع المادة بأن الجسد الذي قام المسيح به كان غير خاضع لنواميس المادة، لأنه دخل الغُرف والأبواب مغلقة، وتوارى عن أبصار مشاهديه وهو بينهم.
انتصار المسيح على سلطان الموت بقيامته وإقامته غيره من موتى القديسين
ظهور الملائكة حراساً للقبر ورسلاً إلى الناس.
١٨ «فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ».
دانيال ٧: ١٣،١٤ ومتّى ١١: ٢٧ ولوقا ١: ٣٢ و١٠: ٢٢ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٢٢ و١٣: ٣ و١٧: ٢ وأعمال ٢: ٣٦ ورومية ١٤: ٩ و١كورنثوس ١٥: ٣٧ وأفسس ١: ١٠، ٢١ وفيلبي ٢: ٩، ١٠ وعبرانيين ١: ٢ و٢: ٨ و١بطرس ٣: ٢٢ ورؤيا ١٧: ١٤
فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ هذا يدل على أن المسيح كان بعيداً عنهم في أول الأمر، فاقترب من الكل أو ممن شكوا فزال شكهم لأنهم تأكدوا أنه هو هو، كما زال شك توما كذلك في غير هذا الوقت (يوحنا ٢٠: ٢٧، ٢٨) .
دُفِعَ أي من الآب إلى الابن باعتبار أنه إنسان وإله. والسلطان الذي دُفع إليه حينئذٍ كان له منذ الأزل باعتبار كونه إلهاً، ولكنه أخلى نفسه منه عند تجسده تنازلاً ليكفر عن خطايا الناس، وأُعيد إليه عند قيامته. فسياسة الكون الآن في يد المسيح لإجراء عمل الفداء.
إِلَيَّ الضمير راجع إلى يسوع المسيح الإله المتجسد. وهذا مما يثبت لاهوت المسيح، لأنه من المحال أن يتقلد المخلوق صفات الخالق، والمحدود صفات غير المحدود. وأن يستعمل البشر قوة الله غير المتناهية.
كُلُّ سُلْطَانٍ دُفع إليه ذلك إثابةً على اتضاعه، وليمارسه لإجراء عمل الفداء (دانيال ٧: ١٤ ورومية ١٤: ٩ وأفسس ١: ٢٠، ٢٣ وفيلبي ٢: ٩، ١١ وكولوسي ٢: ١٠ وعبرانيين ١: ٣، ٦ و١٢: ٢ و١بطرس ٣: ٢٢ ورؤيا ١٧: ١٤)
فِي ٱلسَّمَاءِ :
ليرسل الروح القدس (يوحنا ١٥: ٢٦ وأعمال ١: ٥، ٨ و٢: ٤، ٣٣ و٤: ٣١)
ليرسل الملائكة (أعمال ٥: ١٩ و١٢: ٧ و٢٧: ٢٣ وأفسس ١: ٢٠، ٢٣)
ليشفع عند الآب (رومية ٨: ٣٤ وعبرانيين ٧: ٢٥)
ليسمع صلوات شعبه ويستجيبها (١يوحنا ٥: ١٤، ١٥)
عَلَى ٱلأَرْض ليجعل العناصر طوع أمره ومتممة مقاصده، وليجعل غضب الإنسان يحمده (مزمور ٧٦: ١٠)، وليفدي شعبه ويحفظهم، ويؤسس كنيسته ويعتني بها ويحميها، ويمد ملكوته في العالم.
١٩ «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
مرقس ١٦: ١٥ وإشعياء ٥٢: ١٠ ولوقا ٢٤: ٤٧ وأعمال ٢: ٣٨، ٣٩ ورومية ١٠: ١٨ وكولوسي ١: ٢٣
انتهت بشارة متّى بأمر ووعد، كلاهما ذو شأن عظيم. وبعد أن تحققت القيامة صار على التلاميذ واجبات خطيرة يجب أن يقوموا بها بكل أمانة: عليهم أن يتلمذوا الناس بالتعليم الصحيح قبل أن يعمدوهم بهذا الإيمان الذي يغير العالم.
فَٱذْهَبُوا الفاء هنا سببية فإن المسيح أخذ كل السلطان، وأوجب عليهم أن يذهبوا غير ملتفتين إلى ضعفهم، متكلين على حضوره معهم وتقويته إياهم. ولم يقصر أمره بالذهاب على رسله ولا على من حضر وقتئذٍ من المؤمنين، بل وجَّهه إلى كل مسيحي منذ ذلك الوقت إلى نهاية الزمان، وهذا ظاهر من وعده في ع ٢٠ «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». ومن الواضح أنه لا يصح قصر ذلك الوعد على من لا يعيش إلى انقضاء الدهر. كما أن قصر الأمر المقترن بالوعد على الأحد عشر تلميذاً مستحيل. وذلك ما فهمته الكنيسة من أمره واتخذته دستوراً لها (أعمال ٨: ٤)
وَتَلْمِذُوا أي ارشدوا الناس إلى معرفة الإنجيل ليصيروا مسيحيين، لا بالإجبار بل بالتعليم، لتقتنع عقولهم وضمائرهم فيقبلوا المسيح وخلاصه. وهذه هي الوظيفة العظيمة الوحيدة التي سلمها المسيح كنيسته. فهي لم توكل لتخضع الأمم بل لتعلمهم. وسيف الروح أي كلمته هو السلاح الوحيد الذي يجب أن يستعمل لامتداد ملكوته.
جَمِيعَ ٱلأُمَم كان إرسال المبشرين بالإنجيل في أول الأمر إلى اليهود ( ص ١٠) ولكن المسيح أطلقه هنا، فأمر بتبشير كل الناس يهوداً وأمماً. وهذا يناقض أراء اليهود، لأنهم اعتقدوا أن معرفة الدين الحق مقصورة عليهم، حتى أن تلاميذ المسيح توقفوا عن طاعة هذا الأمر لتعصبهم اليهودي (أعمال ١١: ٣ و١٥: ٥ وغلاطية ٢: ١٢) فمضت عليهم سنون وهم يتأخرون عن إجرائه حتى ألزمهم الاضطهاد في أورشليم أن يذهبوا منها ويبشروا الأمم ولم يُقدِم بطرس على إجراء ذلك إلا برؤيا من السماء. ولم تُقدِم الكنيسة عليه إلا بشهادة بطرس لهم بتلك الرؤيا (أعمال ١٠).
وتبين مما ذكر:
أن الدين المسيحي سيكون دين كل أهل الأرض، لا أحد أديانها.
أن هذا الدين موافق لاحتياجات جميع الناس (رومية ١: ١٦ و١٠: ١٢)
يجب أن تكون الكنيسة بأسرها لجنة عظيمة لنشر الإنجيل إلى أن يؤمن الناس كلهم بالمسيح.
وَعَمِّدُوهُم هذا هو الجزء الثاني من توكيل المسيح للمؤمنين، وهو أن يعمدوا الناس إذا قبلوا تعليمهم وآمنوا بالمسيح. والتعميد هو استعمال الماء في الروحيات إشارة إلى تطهير القلب وفعل الروح القدس وختم عهد الله للمؤمن. وأعطى الله هذا العهد أولاً لإبراهيم ونسله وجدده المسيح بعد قيامته. فهو في العهد الجديد بدل الختان في العهد القديم، ولذلك يسمح بالمعمودية لأطفال المؤمنين كما للبالغين (أعمال ١٦: ١٥، ٣٣). والفرق أن الأطفال يُعلمون بعد المعمودية والبالغين قبلها. ولا بد من اقتران التعميد بالتعليم عند الإمكان.
تتضمن المعمودية باسم الثالوث الأقدس خمسة أمور:
أن الله جوهر واحد في ثلاثة أقانيم.
أن المعمودية بأمره وسلطانه.
تعهد المعتمد بخدمة الله ووقفه نفسه لتلك الخدمة.
الاعتراف بدين المسيح علانية.
الفوز بالفوائد المقترنة بالتعهد لله.
ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ الاعتماد باسم الآب إقرار بكونه خالقاً معتنياً متسلطاً دياناً محسناً تمجيده غاية الإنسان العظمى. والاعتماد باسم الابن إقرار بكونه إلهاً ونبياً وكاهناً وملكاً ووسيطاً بطاعته وموته. والاعتماد باسم الروح القدس إقرارٌ بأنه إله، وأنه يقدس وينير ويرشد ويعزي. وكان الأمم محتاجين إلى أن يعتمدوا باسم الثلاثة الأقانيم الإلهية لأنهم لم يعترفوا بواحد منها في أديانهم الوثنية، ولكن اليهود الذين تنصروا في عهد المسيح لم يحتاجوا إلا أن يعتمدوا باسم المسيح، لأنهم بختانهم أقروا بالآب والروح القدس (أعمال ٢: ٣٨ و٩: ٤٨ و١٩: ٥ ورومية ٦: ٣ وغلاطية ٣: ٢٧)
وهذه الآية من البراهين التي تثبت عقيدة الثالوث، أي أن الله واحد في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر والمجد والكرامة والقدرة. وتدل على وحدانيته، بدليل القول «باسم» لا «بأسماء». وتدل على إن الآب الله والابن الله والروح القدس الله، وإلا كان المعتمد يعتمد باسم إله وباسم مجرد إنسان وباسم صفة من الصفات الإلهية، وهذا محال.
وخلاصة ما قيل في المعمودية أربعة أمور:
أنها إشارة: وهي تقوم باستعمال الماء إما بالرش أو بالسكب أو بالتغطيس مرة واحدة أو ثلاث مرات. وكيفية استعمال الماء ليس من الأمور الجوهرية. والأرجح أن الاستعمال الغالب هو الرش. ولا أهمية لعدد المرات، والمشار إليه بذلك هو فعل الروح القدس في تطهير القلب.
الإقرار بالإيمان: فإن المعتمد يقر بإيمانه أن الله واحد مثلث الأقانيم، وبوظائف كل من هذه الأقانيم كما هي معلنة في الكتاب المقدس.
علامة عهد وختم له: وذلك بين الله والإنسان. أما الله فيتعهد بأنه يكون إلهاً للمعتمد المؤمن ولنسله. وأما الإنسان فيتعهد بالخضوع لله إلى الأبد.
رسم للدخول في كنيسة المسيح المنظورة.
٢٠ «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ. آمِين».
أعمال ٢: ٤٢
عَلِّمُوهُمْ من التعليم ما يسبق الإيمان ومنه ما يليه. فالسابق هو التلمذة كما فُهم من قوله «تلمذوا». وهنا أمر بالتعليم الذي يلي الإيمان، وهو كل ما يحتاج إليه المؤمن لبنيانه في طاعة المسيح الكاملة. والمعمودية التي تليها تلك الطاعة لا تنفع شيئاً. فإذاً وجب على المعمِّد أن يعلّم، ووجب على المعمَّد أن يتعلم ويعمل.
جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وصايا المسيح بلا زيادة ولا نقصان هي قانون إيمان المسيحيين وأعمالهم (أعمال ٢٠: ٢٧ و١كورنثوس ١: ١٧ و٢: ٤ ورؤيا ٢٢: ١٨، ١٩) وتلك الوصايا تتضمن تعاليم العهد القديم كما يظهر من عدة مواعظ للمسيح، ومن تعليم روحه للرسل المعلن لنا في رسائلهم. والظاهر أن لا إشارة في هذا القول إلى التقليد بل فيه منافاة له.
هَا أَنَا مَعَكُمْ هو وعد التشجيع الدائم بهذا المخلص الدائم بعطفه علينا وصحبته إيانا، فإذا كنا تلاميذه بالحق فعلينا أن نحقق هذا الإيمان بحياتنا وسلوكنا ونغلب العالم معه.
هذا هو الوعد الثمين المقترن بالأمر العظيم، وعد به تابعيه تشجيعاً لهم على المناداة بإنجيله. نعم إنه عند صعوده ظهر لهم أنه فارقهم، لكنه أكَّد لهم هنا أنه وإن لم ينظروه يكون حاضراً معهم ليرشدهم ويحميهم ويلهمهم ويوبخهم ويؤدبهم. لأن تأسيس ملكوته في العالم يحتاج إلى وسائط كثيرة قوية، والتلاميذ قليلون ضعفاء. فوعده بأن يكون معهم أكد لهم وجود كل ما يحتاجون إليه للنجاح. ويتم قوله لتلاميذه «ها أنا معكم» بأربع طرق:
إرسال روحه القدوس الذي يخبرهم بكل ما له.
كلامه في الإنجيل.
اتحاده بالمؤمن في العشاء الرباني، إذ يهب له مظاهر محبته ونعمته بنوع خاص.
مكثه في قلوب المؤمنين.
وفي هذا الوعد ثلاث فوائد:
البرهان على لاهوت المسيح، لأنه وعد بأن يكون مع كل تلميذ من تلاميذه إلى نهاية الزمان.
البرهان على أن المسيح هو الرأس الوحيد للكنيسة المنظورة وغير المنظورة على الأرض وفي السماء. وبهذا أظهر سر اسمه «عمانوئيل» أي الله معنا.
تأكيد حضور الله مع الذين له في كل زمان ومكان، لأن قوله هنا لم يقتصر على الرسل لأنهم لم يبقوا إلى انقضاء الدهر، بل يعم كل المؤمنين به في كل عصر. وعلى هذا يمكن أن يكون المسيح قريباً منا كما كان قريباً من الذين سكنوا معه في الناصرة، وكانوا معه في السفينة على مياه بحر الجليل. ويمكننا أن نقترب منه كما اقترب يوحنا يوم كان متكئاً على صدره في العشاء، وكما اقتربت مريم منه يوم كانت جالسة عند قدميه تسمع صوته.
وسر قوة الكنيسة ونجاحها هو شعورها بحضور المسيح معها
إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ أي أن المسيح يكون مع تلاميذه على الأرض في الروح غير منظور إلى ذلك الوقت. لكن حضوره مع شعبه لا ينتهي بانقضاء الدهر، بل يبقى بحضوره معهم في السماء روحاً وجسداً فينظرونه كما هو (١يوحنا ٣: ٢) ويمجدونه ويتمتعون به إلى الأبد.
وهذه نهاية بشارة متّى أعلن بها لليهود أن يسوع المسيح بن داود حسب نبوات العهد القديم باقتباسه ٤٥ شهادة منها. ولم يذكر صعود المسيح كما ذكره (مرقس ١٦: ١٩، ٢٠ ولوقا ٢٤: ٥٠ – ٥٣ وأعمال ١: ٩ – ١٢) لكن متّى أشار إلى ذلك الصعود في أماكن (منها متّى ٢٢: ٤٤ و٢٤: ٣٠ و٢٥: ١٤، ٣١ و٢٦: ٦٤).
ملحق
بلغت مقتبسات متّى من العهد القديم نحو خمسة وسبعين جُمعت في الجدول الآتي:
الاقتباس كما ورد في إنجيل متى | مصدر الاقتباس من العهد القديم |
متّى ١: ٢٣ | إشعياء ٧: ١٤ |
٢: ٦ | ميخا ٥: ٢ |
٢: ١٥ | هوشع ١١: ١ |
٢: ١٨ | إرميا ٣١: ١٥ |
٣: ٣ | إشعياء ٤٠: ٣ |
٤: ٤ | تثنية ٨: ٣ |
٤: ٦ | مزمور ٩١: ١١ |
٤: ٧ | تثنية ٦: ١٦ |
٤: ١٠ | تثنية ٦: ١٣ |
٤: ١٥ | إشعياء ٨: ٢٣ و٩: ١ |
٥: ٥ | مزمور ٣٧: ١١ |
٥: ٢١ | خروج ٢٠: ١٣ |
٥: ٣٧ | خروج ٢٠: ١٤ |
٥: ٣١ | تثنية ٢٤: ١ |
٥: ٣٣ | لاويين ١٩: ١٢ وتثنية ٢٣: ٢٣ |
٥: ٣٨ | خروج ٢١: ٢٤ |
٥: ٤٣ | لاويين ١٩: ١٨ |
٨: ٤ | لاويين ١٤: ٢ |
٨: ١٧ | إشعياء ٥٣: ٤ |
٩: ١٣ | هوشع ٦: ٦ |
١٠: ٣٥ | ميخا ٧: ٦ |
١١: ٥ | إشعياء ٣٥: ٥ و٢٩: ١٨ |
١١: ١٠ | ملاخي ٣: ١ |
١١: ١٤ | ملاخي ٤: ٥ |
١٢: ٣ | ١صموئيل ٢١: ٦ |
١٢: ٥ | عدد ٢٨: ٩ |
١٢: ٧ | هوشع ٦: ٦ |
١٢: ١٨ | إشعياء ٤٣: ١ |
١٢: ٤٠ | يونان ١: ١٧ |
١٢: ٤٢ | ١ملوك ١٠: ١ |
١٣: ١٤ | إشعياء ٦: ٩ |
١٣: ٣٥ | مزمور ٧٨: ٢ |
١٥: ٤ | خروج ٢٠: ١٢ و٢١: ١٧ |
١٥: ٨ | إشعياء ٢٩: ١٣ |
١٧: ٢ | خروج ٣٤: ٢٩ |
١٧: ١١ | ملاخي ٣: ١ و٤: ٥ |
١٨: ١٥ | لاويين ١٩: ١٧ |
١٩: ٤ | خروج ١: ٢٧ |
١٩: ٥ | خروج ٢: ٢٤ |
١٩: ٧ | تثنية ٢٤: ١ |
١٩: ١٨ | خروج ٢٠: ١٢ ولاويين ١٩: ١٨ |
٢١: ٥ | زكريا ٩: ٩ |
٢١: ٩ | مزمور ١١٨: ٢٥ |
٢١: ١٣ | إشعياء ٥٦: ٧ وإرميا ٧: ١١ |
٢١: ١٦ | مزمور ٨: ٢ |
٢١: ٤٢ | مزمور ١١٨: ٢٢ |
٢١: ٤٤ | إشعياء ٨: ١٤ |
٢٢: ٢٤ | تثنية ٢٥: ٥ |
٢٢: ٣٢ | خروج ٣: ٦ |
٢٢: ٣٧ | تثنية ٦: ٥ |
٢٣: ٣٩ | لاويين ١٩: ١٨ |
٢٣: ٤٤ | مزمور ١١٠: ١ |
٢٣: ٣٥ | تكوين ٤: ٨، ٢أيام ٢٤: ٢١ |
٢٣: ٣٨ | مزمور ٦٢٩: ٢٥ وإرميا ١٢: ٧ و٢٢: ٥ |
٢٣: ٣٩ | مزمور ١١٨: ٢٦ |
٢٤: ١٥ | دانيال ٩: ٢٧ |
٢٤: ٢٩ | إشعياء ١٣: ١٠ |
٢٤: ٣٧ | تكوين ٦: ١١ |
٢٦: ٣١ | زكريا ١٣: ٧ |
٢٦: ٥٢ | تكوين ٩: ٦ |
٢٦: ٦٤ | دانيال ٧: ١٣ |
٢٧: ٩ | زكريا ١١: ١٣ |
٢٧: ٣٥ | مزمور ٢٢: ١٨ |
٢٧: ٤٣ | مزمور ٢٢: ١٨ |
٢٧: ٤٦ | مزمور ٢٢: ١ |
السابق |