إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 27 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح السابع والعشرون

١ «وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ ٱلشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ».

مزمور ٢: ٢ ومرقس ٢٢: ٦٦ و٢٣: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨

وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّبَاحُ أي صباح يوم الجمعة. قال لوقا في ذلك «ولما كان النهار» (لوقا ٢٢: ٦٦) والأرجح أنهما أرادا وقت شروق الشمس.

جَمِيعُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ ٱلشَّعْبِ نفهم مما قاله مرقس ولوقا أن هذا الاجتماع كان اجتماع مجلس السبعين، وهو غير الاجتماع الذي كان ليلاً (مرقس ١٥: ١ ولوقا ٢٢: ٦٦) ونفهم من قوله «جميع» أكثر أعضاء المجلس، لأننا نعلم أن بعض الأعضاء لم يوافقوا الآخرين على مقاصدهم في أمر المسيح (لوقا ٢٣: ٥٠، ٥١). والأرجح أن هذا الاجتماع كان في أحد أروقة الهيكل، لأنه مكان الاجتماع القانوني. وقال لوقا إنهم أصعدوه (أي من دار رئيس الكهنة) إلى مجمعهم.

حَتَّى يَقْتُلُوهُ لم يذكر متّى وقوف المسيح أمام هذا المجمع وما جرى في المحاكمة، ولكن لوقا ذكر ذلك بالتفصيل (لوقا ٢٢: ٦٦ – ٧١). وهذه وقفة ثالثة وقفها المسيح أمام رؤساء اليهود فالأولى كانت أمام حنان، والثانية أمام قيافا، والثالثة التي ذُكرت هنا. وكانت لهم في هذا الاجتماع غايتان:

الأولى: جعل ما حكموا به ليلاً شرعياً، لأن التلمود يقول إن الحكم بقتل المذنب لا يكون شرعياً ما لم يكن نهاراً، وإنه لا يجوز امتحان ذلك المذنب والحكم عليه في جلسة واحدة.

الثانية: الاتفاق على أي طريق يرفعون بها الدعوى إلى بيلاطس ليحملوه على أن يحكم عليه بالموت.

ويستنتج مما جرى بعد ذلك أنهم اتفقوا على ثلاثة أمور:

الأول: أن يسألوا بيلاطس أن يُجري حكمهم بقتل يسوع بلا سؤال (يوحنا ١٨: ٣٠)

والثاني: فإذا لم يسلم بيلاطس بذلك اشتكوا على يسوع بأنه ادَّعى أنه ملك اليهود، فعصى قيصر، وقاد غيره إلى العصيان، بدليل سؤال الوالي له: «أأنت ملك اليهود؟» (ع ١١) وقولهم لبيلاطس «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ» (لوقا ٢٣: ٢).

والثالث: إن لم ينجحوا في الأمرين الأول والثاني، اشتكوا عليه أنه ادَّعى أنه ابن الله (يوحنا ١٩: ٧) وذلك تجديف يستحق مرتكبه القتل، بموجب ناموسهم. ولكن النتيجة كانت أن بيلاطس لم يسلم لهم بالأمر الأول، وبرَّأه بعد الفحص من الأمر الثاني (لوقا ٢٣: ٤، ١٤، ١٥، ٢٢) ورأى أن الأمر الثالث ليس جنايةً عند الرومان. فلم يبق لهم إلا أن يرجعوا إلى الأمر الثاني وهو دعواهم أنه خان قيصر، فألزموا بيلاطس على غير إرادته أن يحكم عليه بالموت (يوحنا ١٩: ١٢، ١٥) فإذاً المسيح قُتل بدعوى لم يحكم بها مجمع السبعين.

٢ «فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ ٱلْبُنْطِيِّ ٱلْوَالِي».

متّى ٢٠: ١٩ ويوحنا ١٨: ٣١ وأعمال ٣: ١٣

أَوْثَقُوهُ الظاهر أنهم حلوا وثاقهُ لما أتوا به إلى الهيكل، لأنهم أتوا به موثقاً من البستان (يوحنا ١٨: ١٢) وذهبوا به كذلك من عند حنان إلى قيافا (يوحنا ١٨: ٢٤).

وَمَضَوْا بِهِ وهم جمهور وافرٌ ليلقوا الرعب في قلوب أصحاب المسيح، لئلا يخلّصوه منهم، ليوهموا بيلاطس أن الذي جاءوا به إليه ارتكب ذنباً فظيعاً.

وَدَفَعُوهُ لكي يحكم عليه بالقتل كجانٍ مستوجب الموت، فأرادوا أن يجعلوا الوالي آلة يجري مقاصدهم، لأن الرومان لم يسمحوا لهم بتوقيع عقوبة الموت (يوحنا ١٨: ٣١). (وكما جاء في تاريخ يوسيفوس المؤرخ اليهودي) وتسليمهم بذلك شهادة على صحة مجيء المسيح حقيقة، بدليل قول رئيس الآباء يعقوب: «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ» (تكوين ٤٩: ١٠). فكان يجب أن ينتبهوا لذلك. وحصلوا بدفع يسوع إلى بيلاطس على شيء من مرماهم، وهو أنه نُقل من أيديهم إلى أيدي الرومان قبل أن يسمع أصحابه بالقبض عليه، فيعجزون عن الدفاع عنه.

بِيلاَطُسَ كان أرخيلاوس بن هيرودس الكبير آخر ملك على اليهودية. نُفي من حكمه سنة ٦م، ومن ذك الوقت أخذ قيصر يقيم الولاة على اليهودية. وكان بيلاطس سادس والٍ على اليهودية عيَّنه طيباريوس قيصر، فتولى حكم اليهودية عشر سنين من ٢٧ – ٣٦م. وتولى ٦ سنوات قبل صلب المسيح وأربعاً بعده. وكان قاسياً (لوقا ١٣: ١) ظالماً سريع التقلب، عصيه اليهود مراراً، وسفك دماء كثيرين إخماداً لفتنهم، فأبغضوه أشد البغض وشكوه مراراً لقيصر. على أنه كان بصيراً في بيان الحق والعدل، لكن لم تكن له قوة أدبية ليحامي عن الحق عند المقاومة. فكان يكره اليهود ويبغضهم، لكنه خاف أن يشكوه للإمبراطور. وعُزل من ولايته في نحو الوقت الذي عُزل فيه قيافا من كهنوته. وكان مقام الوالي غالباً في قيصرية على شاطئ بحر الروم (أعمال ٢٣: ٣٣ و٢٥: ١ و٤: ٦، ١٣). ولكنه كان يذهب إلى أورشليم في أيام الأعياد العظيمة ليمنع الشغب والتشويش ويجري الأحكام. وكان منزل الوالي في أورشليم في القصر الذي يُسمى قصر هيرودس الكبير على جبل صهيون.

٣ «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ».

متّى ٢٦: ١٤، ١٥

رَأَى يَهُوذَا… أَنَّهُ قَدْ دِين لا يظهر من قول متّى في أي وقت حدث ما أتاه يهوذا هنا، ولعل ذلك كان بعد أن عرف أنه حُكم على يسوع في بيت قيافا وأُتي به إلى الهيكل لإثبات الحكم عليه شرعاً، فتبعهم يهوذا إلى هناك ودخل الهيكل وتكلم مع الكهنة قبلما ذهبوا بالمسيح إلى بيلاطس، وبقي بعضهم هناك، ورجع البعض إلى الهيكل.

نَدِمَ لا بدَّ أن يهوذا عرف قبل أن سلَّم سيده أن دينونته ستكون نتيجة ذلك التسليم إلى أعدائه، ولكنه لم يندم إلا بعد وقوع النتيجة. ومعنى ندمه هنا تغير مشاعره، فلم يفرح بعد ذلك بما كسبه من الفضة بتسليم ربه، فبقي طمعه إلى ذلك الوقت حجاباً على عينيه حتى لم يرَ فظاعة خيانته. لكن لما حصل على بغيته لم يستطع سروره بها أن يغطي عينيه. ولم يكن ندمه عند ذاك توبة حقيقية وإلا لحمله على طلب المغفرة فينالها. والتوبة الصحيحة تقود المذنب إلى المسيح، ولكن ندمه أبعده عنه. وهي تقود إلى حياة الطهر، وذاك قاده إلى زيادة الإثم لأنه زاد على خيانته بأن قتل نفسه. وكان ندمه كندم قايين وشاول الملك، منتجاً لليأس والعذاب. فعندما وبخهُ ضميره وشعر بالنتائج المرعبة التي جلبها على نفسه، اتخذه إبليس آلة اختيارية له لإتمام مقاصده، ثم تركه بلا تعزية وبلا رجاء. وهكذا تنفتح عينا كل من كان خاطئاً عاجلاً أو آجلاً، فيرى فظاعة خطيته ومرارة نتائجها بعد مرور فرص التوبة (أمثال ١: ٢٦ – ٢٨، ٣١) ومما ذُكر من أمر يهوذا نعرف شيئاً من عذاب الضمير الذي يقع على خطاة الجحيم حيث دودهم لا يموت (مرقس ٩: ٤٤).

رَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ الأرجح أنه أخذ تلك الفضة حتى أُتي بالمسيح إلى دار رئيس الكهنة ليلاً، فجاء بالمبلغ الذي كان قد اشترط عليه (متّى ٢٦: ١٤) مما يدل على أنه هو كل الأجرة (وهي نحو ثلاث جنيعات ذهبية) لا عربونها كما ظن بعضهم. وردَّه تلك الأجرة يدل على أنه قصد الرجوع عن كل ما ارتكب من أمور خيانته، ويثبت أن الطمع كان علة تلك الخيانة.

إن ما اختبره يهوذا في ما ذُكر اختبره كثيرون من الناس بعده، وهو أن بعض ما يتوقع الإنسان الحصول عليه يظهر ثميناً لذيذاً جميلاً، ولكنه يراه بعد الحصول عليه بلا قيمة لأن كل ربح العالم لا يشتري راحة الضمير.

٤ «قَائِلاً: قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً. فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ».

١صموئيل ٢٥: ١٧، ٢٤ وأعمال ١٨: ١٥

أَخْطَأْتُ اعترف بخطئه خيفة من نتيجته، لا شعوراً بفظاعته في ذاته.

سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً أي دم إنسان بريء. ضميره هو الذي ألجأه إلى هذا الاعتراف، وبه دان نفسه وأوقع عليها اللعنة، لأنه مكتوب «مَلْعُونٌ مَنْ يَأْخُذُ رَشْوَةً لِكَيْ يَقْتُلَ نَفْسَ دَمٍ بَرِيءٍ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ» (تثنية ٢٧: ٢٥) وظن يهوذا بشهادته ليسوع بالبراءة أنه ينقض ما حكموا به عليه. إن ذلك الدم البريء لو التجأ إليه يهوذا بالتوبة الحقيقية والإيمان لكفَّر عن إثمه وأنقذه من الهلاك الأبدي. وكان له زميل هو اللص المصلوب الذي استنجد بالسيد حينما قال له «اذكرني يا رب متّى جئت في ملكوتك».

وسيرة يهوذا توضح قول الكتاب «غَضَب الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ» (مزمور ٧٦: ١٠) فلا شك أنه سمح بدخول يهوذا الإسخريوطي بين الرسل ليؤدي هذه الشهادة ببراءة المسيح لأنه عاشره معاشرة متواصلة نحو ثلاث سنين. فلو رأى فيه شيئاً من العيب أو سمع منه أدنى كلمة شريرة لكان أول المخبرين بهما لكي يبرر نفسه أمام الآخرين ويسكت ضميره. فلو ذكر الكتاب أن أحد تلاميذ المسيح سلمه إلى الموت ولم يذكر شيئاً مما يتعلق بتبرئته، لاتخذ أعداء المسيحية ذلك دليلاً على أنه خادع. ولو كانت الشهادة بطهارة المسيح وبره من أصدقائه فقط لاتخذ الأعداء ذلك حجة لرفض دينه. فباعتراف يهوذا سُدَّت أفواه المعترضين.

مَاذَا عَلَيْنَا؟ أي حصلنا على مطلوبنا فلا يهمنا شيء آخر. وفي هذا أربعة أمور:

الأول: إن رؤساء الكهنة لم يبالوا بندم يهوذا شيئاً. ولو اهتموا به ما استطاعوا إزالته وإراحة ضميره.

الثاني: إن قساوة قلوب أولئك الرؤساء كانت في غاية الغرابة، إذ لم يبالوا سوى بالقبض على المسيح وقتله، ولم يلتفتوا إلى ذلك البرهان الجديد على براءة المسيح فقد قصدوا أن يقتلوه، بريئاً كان أم مذنباً.

الثالث: إن الذين يتخذهم الأشرار آلة لإجراء مقاصدهم الشريرة لا يجدون ممن اتخذوهم شفقة أو تعزية أو نجاة في وقت البليَّة وسوء العواقب. وصداقة الأشرار لا فائدة منها.

الرابع: الإثم يكون في قبضة الإنسان قبل أن يرتكبه، ولكنه متّى ارتكبه خرج من سلطانه. ولو ندم واعترف به، وردَّ ما ربحه بواسطته، فلا يمكنه أن يرد الأمر إلى ما كان عليه. فبعد ندَم يهوذا وكل ما نتج عنه لم يزل المسيح موثقاً ويهوذا خائناً.

إن المسيحي الحقيقي عرضة للسقوط في الخطية كغيره من الناس لكنه لا يخطئ عمداً بارتكاب ما يعلم أنه خطية، ومتّى سقط فربما تاب وعاد إلى مقاومة الإثم. وحديث سقوط بطرس مما يزيد ثقتنا بصدق الإنجيل. فلو كان الإنجيل من تصورات البشر وتأليفهم لم يذكر مثل ذلك لمن كانوا أول أنصار الدين والمبشرين به. والواقع إننا نقرأ هذا الحديث في البشائر الأربع مع أن الذي أوضح ذلك الخبر أكثر من سائر الإنجيليين هو مرقس الذي كتب إنجيله بإرشاد بطرس نفسه.

أَنْتَ أَبْصِرْ أي نحن أعطيناك أجرتك وانتهى أمرنا معك. فإن كنت قد سلمت دماً بريئاً فأنت المطالب، فلا نرفع عنك المسؤولية ولا نشاركك فيها. ولو قبل رؤساء الكهنة قوله اعترافاً له بإثمه وحلوه منه لبقي عليه كما كان. وهذا هو المثال الوحيد في الكتاب المقدس لاعتراف بشرٍ لبشر، وهو بلا فائدة. ومثله سائر اعترافات الإنسان لغيره من الناس سواء قالوا «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!» أم قالوا «نحن نحلُّك». ولكنه لو اعترف للمسيح بدلاً من أن يعترف لأولئك الرؤساء لغفر لهُ.

٥ «فَطَرَحَ ٱلْفِضَّةَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَٱنْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ».

٢صموئيل ١٧: ٢٣ وأعمال ١: ١٨

فَطَرَحَ ٱلْفِضَّةَ فعل ذلك لأن ما رغب فيه في أول الأمر كرهه في نهايته.

فلو أمكنه أن يطرح ذنب الخيانة عن نفسه بطرحه الفضة من يديه لأصاب بما عمل. فالخاطئ الذي لا يغفر المسيح له لا بد من أن يأخذ أجرة خطيته، وهي الحزن واليأس والموت، لأن الذي يزرع للجسد فمن الجسد يحصد فساداً. وأمثلة ذلك عخان وجيحزي وحنانيا وسفيرة ويهوذا. ونتعلم من هذا أنه مهما ربح الإنسان من الخطية اختلاساً من الناس بالخداع، أو اختلاساً من الله بتدنيسه يومه، ففرحه بذلك الربح لا يساوي حزنه من توبيخات ضميره، وذلك وفق قول الحكيم «كُنُوزُ الشَّرِّ لاَ تَنْفَعُ» (أمثال ١٠: ٢).

فِي ٱلْهَيْكَلِ أي مكان في الهيكل، وهو إما محفلهم هناك قبل انصرافهم وذهاب بعضهم إلى بيلاطس مع يسوع وبقاء البعض في الهيكل لأجل الخدمة. والأرجح هو الأخير.

وَٱنْصَرَفَ من الهيكل ومن المدينة.

وَخَنَقَ نَفْسَهُ لأنه شعر بأن حياته حملٌ لا يطاق فإنه أملَ أن يستريح بطرح الفضة، فلم يجد راحة. فرأى بعد ذلك أن يقتل نفسه بغية الراحة، وخاب أيضاً، لأنه لا ملجأ من اليأس إلا جنب المسيح المطعون. والقبر ليس ملجأ من ذلك. وقصة يهوذا تذكرنا بقصة شاول الملك خاصة في ندامته بعد أوانها وفي قتله نفسه (١صموئيل ١٥: ٣٠).

ذكر متّى هنا أن يهوذا خنق نفسه ولم يذكر شيئاً من أحوال ذلك. وأما بطرس فقال في مخاطبته التلاميذ بعد نحو أربعين يوماً «فإن هذا (أي يهوذا) اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشقَّ من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها» (أعمال ١: ١٨). ونستنتج من كل ما ذُكر أن يهوذا علَّق نفسه فوق مكان شاهق، فانقطع الحبل فهوى وكان ما كان. والظن أنه الجبل الذي هو عبر وادي هنوم جنوب أورشليم تجاه جبل صهيون.

٦ «فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي ٱلْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ».

لاَ يَحِلُّ هذا مبنيٌ على ما جاء في شريعة موسى (تثنية ٢٣: ١٨) ولذلك كانوا لا يلقون في خزانة الهيكل شيئاً من المسكوكات الأجنبية، وفي الوقت ذاته كان ذلك ثمن دم اشتروه. ولما جاء الشاري يريد أن يبيعه لهم أبوا، فكانوا قساة في الناحيتين. وهكذا علقت بهم جريمة الصلب للأبد.

فِي ٱلْخِزَانَةِ أي الصناديق الموضوعة في دار النساء (متّى ١٥: ٥) وكانوا يحسبون ما يُلقى فيها مقدساً، وسمّوه «قرباناً» أي «تقدمة لله». فرؤساء الكهنة قتلوا المسيح بلا شعور بالخطية، ودنسوا أنفسهم بدمه وهم يظهرون الخوف من ذنب زهيد، كوضع فضة يهوذا في الخزانة.

ثَمَنُ دَمٍ أي أجرة قاتل إنسان، وهي هنا الفضة التي أعطوها ليهوذا ليسلم المسيح.

٧ «فَتَشَاوَرُوا وَٱشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ».

فَتَشَاوَرُوا أي أعضاء المجلس، وكان موضوع مؤامراتهم: ماذا يفعلون بالفضة التي ردها يهوذا، ولعلهم فعلوا ذلك بعد صلب يسوع بقليل.

حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيّ هو أرض تُعرف بهذا الاسم. والأرجح أنها سميت كذا لأن الخزافين قديماً كانوا يأخذون منها التراب لعمل الفخار. وإذا أخذ من الأرض ترابها لا تبقى صالحة للزراعة فتُباع رخيصة.

مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ الأرجح أن هؤلاء الغرباء ليسوا من الأمم، لأنه لم يكن من مسؤوليات رؤساء الكهنة أن يُعدوا مقبرة لهم. فهي لغرباء اليهود من دخيل أو أصيل إذا مات في أورشليم فقيراً أو مخذولاً. ويحتمل أن يهوذا أول من دُفن هناك، ولذلك قيل إنه «اقتنى حقلاً» (أعمال ١: ١٨).

٨ «لِهٰذَا سُمِّيَ ذٰلِكَ ٱلْحَقْلُ «حَقْلَ ٱلدَّمِ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

أعمال ١: ١٩

حَقْلَ ٱلدَّمِ أي الذي اشتُري بثمن الدم.

هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي الوقت الذي كتب فيه متّى إنجيله وهو نحو عام ٦٠م.

٩ «حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ: وَأَخَذُوا ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ، ثَمَنَ ٱلْمُثَمَّنِ ٱلَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ الذي فعله رؤساء الكهنة بدون قصد كان إتماماً لنبوة رآه متّى متمماً لبعض نبوات العهد القديم.

بِإِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ ما ذكره متّى اقتبسه معنى لا لفظاً، وهو من زكريا لا من إرميا (زكريا ١١: ١٣). ظن بعضهم أن متّى اقتصر على ذكر «النبي» دون اسمه كما هو في الترجمة السريانية وبعض النسخ اليونانية. والذي يؤيد هذا أن متّى اقتبس من زكريا ثلاث مرات غير هذه، ولم يذكر اسمه (متّى ٢١: ٥ و٢٦: ٣١ و٢٧: ٩، ١٠). وإن بعض الكتبة أدخل اسم إرميا بناءً على ما قيل في (متّى ١٨: ٢ – ٦) منه.

وظن آخرون أن متّى نفسه كتب اسم زكريا مختصراً، أي أشار إليه بالحرفين الأولين من اسمه في التهجئة اليونانية، والفرق بينهما وبين الحرفين الأولين من إرميا في تلك اللغة زهيد فغلط الكاتب بالنسخ. وكان الاختصار المذكور شائعاً يومئذٍ كما هو شائع الآن.

وظن غيرهم إن سفر إرميا كان اسماً لمجموع النبوات في كتاب واحد، لأنه كان أول ذلك المجموع في كتبهم القديمة. والترتيب المعروف هو ترتيب السبعين الذين ترجموا العهد القديم إلى اليوناني. والظاهر أن الأول هو الأرجح.

وَأَخَذُوا ٱلثَّلاَثِينَ الخ الثلاثون من الفضة في كلام النبي زكريا هي أجرته من الشعب لممارسة وظيفته بينهم. وهذا المبلغ كان ثمن عبدٍ، فلذلك كان تأدية هذه الأجرة له وهو نبي الله إهانة لله. وأمر النبي أن يلقيها للفخاري علامة للرفض قائلاً «الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ» (زكريا ١١: ١٣). ولا شك أن الكلام المذكور يخبر بما جرى على المسيح، لأن زكريا النبي ذكر أنه كان بمنزلة راعٍ، والراعي رمزٌ إلى المسيح الذي هو الراعي الصالح لشعب الله. والثمن الزهيد الذي أُعطي لزكريا (وهو ثمن أرض) كالثمن الزهيد الذي أعطاه الرؤساء من دم المسيح. والفضة التي ردها النبي إشارة إلى تلك التي ألقاها يهوذا في الهيكل وأبى الرؤساء أن توضع في الخزانة. وإلقاء النبي تلك الفضة في هيكل الرب إلى الفخاري يشبه شراء الرؤساء حقل الفخاري بالفضة التي ألقاها يهوذا في الهيكل.

١٠ «وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ ٱلْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي ٱلرَّبُّ».

زكريا ١١: ١٢، ١٣

عَنْ حَقْلِ ٱلْفَخَّارِيِّ وفي كلام النبي أنها أُلقيت إلى الفخاري ثمن حقله.

كَمَا أَمَرَنِي ٱلرَّبُّ أشار بذلك إلى قوله في الأصل «فَقَالَ لِي الرَّبُّ: أَلْقِهَا» (زكريا ١١: ١٣).

١١ «فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ ٱلْوَالِي. فَسَأَلَهُ ٱلْوَالِي: أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ».

مرقس ١٥: ٢ ولوقا ٢٣: ٣ ويوحنا ١٨: ٣٣ ويوحنا ١٨: ٣٧ و١تيموثاوس ٦: ١٣

فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ ٱلْوَالِي هذا وقوف المسيح الرابع للمحاكمة. وكان أول وقوف له أمام والٍ، ووقف بعده مرتين أمامه. وحكم بيلاطس ثلاثاً بأنه بريء. واجتهد ثلاثاً في أن يطلقه. ورفض اليهود إطلاقه ثلاثاً وطلبوا موته. والمكان الذي وقف فيه كان قصر هيرودس الذي كان يقيم فيه الوالي في أورشليم، وكان على جبل صهيون يوصل بينه وبين الهيكل قنطرة. وكان وقت إتيانهم إلى الوالي نحو ساعة بعد شروق الشمس. وذكر يوحنا بالتفصيل ما تركه متّى واختصره. فنعلم مما قاله يوحنا أن رؤساء الكهنة خاطبوا الوالي خارجاً ولم يدخلوا القصر خيفة أن يتنجسوا به، لأن الوالي من الأمم فلا بد من أن يكون في قصره شيء من الخمير، فلو دخلوا تنجسوا ولم يمكنهم أن يأكلوا من الولائم المقدسة المختصة بالفصح وبقيت سبعة أيام! وخرج بيلاطس واستقبلهم خارجاً (يوحنا ١٨: ٢٩) وسألهم أي شكاية لهم على يسوع. فأجابوه بأول الأمور الثلاثة التي اتفقوا عليها، وسألوه أن يحكم على يسوع دون أن يذكروا له ذنباً وقالوا «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!» (يوحنا ١٨: ٣٠) لكن بيلاطس أبى أن يحكم عليه بناءً على هذه التهمة، وقال لهم «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ» (يوحنا ١٨: ٣١). فكأنه قال: أنا لا أحكم على أحد ما لم أعلم ذنبه، فأجروا أنتم ما تستطيعونه من الأحكام. فأبوا أن يفعلوا كما قال، لأنهم قصدوا قتل يسوع، وهم لا يستطيعون ذلك بموجب القانون الروماني، فخاب أملهم من هذا الأمر.

أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ هذا السؤال يدل على ماهَّية الشكوى الثانية على يسوع، وهي التهمة الثانية التي اتفقوا عليها، وهي ادعاؤهم أنه المسيح ملك اليهود، كما يتبين من سؤال بيلاطس ليسوع هنا (يوحنا ١٨: ٣٣) ومن قول لوقا «ابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ» (لوقا ٢٣: ٢) وظن الرؤساء أن بيلاطس ربما يخاف من التساهل بهذه القضية لأنها دعوة سياسية ودينية معاً، ولأنه علم أن اليهود كانوا ينتظرون ملكاً يحررهم من عبودية الرومان ويعيدهم إلى مجدهم القديم. فظنوا بيلاطس يتوهم أن يسوع يقصد ذلك ويحكم عليه خوفاً من الرومان وغيظاً منه. وفي هاتين الشكايتين لم يُذكر شيءٌ من أمر التجديف الذي حكموا عليه به في مجلسهم.

وسأله بيلاطس «أأنت ملك؟» ليرى هل من شيءٍ في ادعائه المُلك ينافي حق الرومان أو يعرضه للخطر. فسأل يسوع بيلاطس قبل أن يجاوبه على سؤاله نفياً أو إيجاباً ما يلزم منه أن يبين بيلاطس له أي معنى قصد بالمُلك؟ أمعنى رومانياً سياسياً، أم معنى يهودياً روحياً؟ وهو قوله «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟» (يوحنا ١٨: ٣٤ – ٣٧).

أَنْتَ تَقُولُ أقر يسوع أنه ملك (١تيموثاوس ٦: ١٣) ولكنه فسَّر لبيلاطس أن ملكه روحي لا دنيوي بقوله «ملكوتي ليس من هذا العالم». وعلى ذلك لم يكن فيه شيءٌ مناف لحقوق قيصر (يوحنا ١٨: ٣٣ – ٣٨). فيسوع لم يصرح بأنه ملك إلا بعد أن وقع في أيدي أعدائه، لأنه أزمع أن يملك بواسطة الصليب. وأما صفات ملكوت المسيح فهي:

(١) إن له سلطاناً على قلوب الناس.

(٢) إن له سلطاناً على من يطيعونه باختيارهم.

(٣) إنه يتأسس على موت المسيح.

(٤) إن الروح القدس يصونه ويوسعه.

(٥) إن شريعته مشيئة الله.

(٦) إن سياسته كلها روحية.

(٧) إن غايته مجد الله والحمل.

(٨) إن نجاحه يتضمن تمجيد كل المفديين.

وكانت نتيجة امتحان بيلاطس للمسيح أنه صرح بتبرئته الأولى بقوله «أنا لست أجد فيه علة واحدة» (يوحنا ١٨: ٣٨). فكان يجب عليه أن يطلقه حينئذٍ.

١٢ «وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ».

متّى ٢٦: ٦٣ ويوحنا ١٩: ٦

يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ هيَّجت تبرئة بيلاطس ليسوع غضب الرؤساء عليه، فرفعوا أصواتهم بشكايات مختلفة لم يذكرها متّى. لكن فهمنا بعضها من قول لوقا «كَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئًا مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا» (لوقا ٢٣: ٥).

لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ هذا كان وفق نبوة إشعياء (إشعياء ٥٣: ٧) وقد ذكرها بطرس أيضاً (١بطرس ٢: ٢٣). وكانت علة سكوته معرفته أن اليهود صمموا على قتله، وأنه لا ينفعه شيءٌ من كل ما يمكنه قوله. وإنه شهد سابقاً للحق فلم تبقَ حاجة إلى ذلك حينئذٍ. وكانت شكايتهم كلها بلا إثبات ببراهين ولا شهود، فلم يحاول دفعها، لأنه لو دفعها جاءوا بغيرها كثيراً. وإذا اقتنع بيلاطس بأجوبته فليس له شجاعة أدبية على أن يطلقه.

١٣، ١٤ «١٣ فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟ ١٤ فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعَجَّبَ ٱلْوَالِي جِدّا».

متّى ٢٦: ٦٢ ويوحنا ١٩: ١٠

فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ ظن بيلاطس أن المسيح يجيبه إذا لم يرد إجابة اليهود. ولكن كانت النتيجة واحدة، أي أن المسيح بقي ساكتاً. ولعل غاية بيلاطس من سؤاله هي الوقوف على علة جديدة يبنى عليها الحكم بعقابه أو بإطلاقه.

كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟ سمَّى بيلاطس شكايات اليهود «شهادات» مع أنها كانت بلا إثبات. ولعل هذا كان من الأسباب التي حملت يسوع على السكوت، ليُظهر لبيلاطس أنه كان يجب عليه أن يطلب من المشتكين أن يثبتوا دعاويهم، ولا يسأل المشكو عليه ليدينه من اعترافه. وكانت الشكوى عليه أنه يهيج الشعب للعصيان . والبراهين على بطلان تلك الشكوى واضحة لا تحتاج إلى كلام، وهي سيرته المشهورة للناس واعتراضه على الذين أرادوا أن يصيروه ملكاً. وأنه ليس له أسلحة وجيش، ولم يقل كلمة تغري الناس بالعصيان.

تَعَجَّبَ ٱلْوَالِي لأنه رأى يسوع جرى على خلاف عادة المشكو عليهم، ولا سيما المتهمون بإثارة العصيان على الدولة، فقد رفض الدفاع عن نفسه وهو عرضة للموت. والمتهمون بمثل ذلك يتوقع أن يكونوا قساة لا يخشون الكلام.

وإذ كان بيلاطس محتاراً فيما يعمل، وسمعهم أثناء شكاويهم يرددون اسم «الجليل» (لوقا ٢٣: ٦) خطر على باله أنه يمكنه التخلص من هذه الدعوى بإرسال يسوع إلى هيرودس أنتيباس ملك الجليل، الذي كان وقتها في أورشليم ليعيِّد الفصح، فأرسله إليه ليحاكمه، وتبعه رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه. وفي هذا برهان على ضعف بيلاطس، فهو يتهرب من الحق، ويحاول أن يخفف عن ضميره بإحالة الشكاوى إلى هيرودس بزعم أنه يهودي فيمكنه الفصل في الأمر أكثر منه، لا سيما وأن يسوع كان تابعاً لسلطنة هيرودس.

فسأله هيرودس مسائل كثيرة وهزأ به هو وعساكره، فبقي يسوع ساكتاً ولم يجبه بشيءٍ. وهذا وقوف يسوع الخامس للمحاكمة. فبرأه هيرودس برده إياه إلى بيلاطس بدون أن يحكم عليه بشيء (لوقا ٢٣: ٦ – ١٢، ١٥). وهذه تبرئة ثانية ليسوع شهد بيلاطس بها بقوله «ولا هيرودس أيضاً» (لوقا ٢٣: ١٥). وبعد رجوع يسوع من عند هيرودس دعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء إلى دار الاجتماع خارج الولاية (لوقا ٢٢: ١٣) وجلس على كرسي الولاية وهو كرسي يمكن نقله، كان يجلس عليه الولاة الرومان وقت القضاء الشرعي. وقال للشعب: «وَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ.، وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضًا، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ» (لوقا ٢٣: ١٤ و١٥). وهذه تبرئتهُ الثالثة العلنية من أنه يهيج فتنة على قيصر (أعمال ٣: ١٣) وهذا يذكرنا بقصة بلعام الذي بارك إسرائيل ثلاث مرات بعد ما استأجره بالاق للعنة (عدد ٢٤: ١٠). فكان يجب على بيلاطس أن يطلقه حينئذٍ.

١٥ «وَكَانَ ٱلْوَالِي مُعْتَاداً فِي ٱلْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ أَرَادُوهُ».

مرقس ١٥: ٦ الخ ولوقا ٢٣: ١٧ ويوحنا ١٨: ٣٩.

فِي ٱلْعِيدِ أي أسبوع العيد كله، لأن «العيد» اسم لذلك الأسبوع.

يُطْلِقَ… أَسِيراً لم يُعلم زمن ابتداء هذه العادة ولا علتها، ولا بد من أن غايته كانت كرشوة لليهود ليتحملوا نير الرومان، فأطلقوا لهم في ذلك العيد الأسير الذي يريدونه تذكاراً لخروج بني إسرائيل من مصر.

١٦ «وَكَانَ لَـهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ».

كان هذا الإنسان أحد جماعة أثاروا فتنة على الرومان وقتلوا بعضهم (مرقس ١٥: ٧ ولوقا ٢٣: ١٩). فكان هذا الإنسان مرتكباً فعلاً ما اتهموا به يسوع كذباً، وكان فوق ذلك لصاً قاتلاً.

١٧، ١٨ «١٧ فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ؟ ١٨ لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً».

لَـهُمْ أي للمجتمعين في القصر من عامة الناس ليطلبوا إطلاق أسير حسب العادة (مرقس ١٥: ٨)

بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ علم بيلاطس أن رؤساء اليهود سلموا يسوع حسداً، وأن العامة احترمته، فتحوَّل عن الرؤساء وسأل العامة آملاً أنهم يطلبون إطلاق يسوع فيتخلص من إلحاح الرؤساء في طلب قتله، لأنه كان يريد أن يطلق يسوع (لوقا ٢٣: ٢٠). فارتكب بيلاطس بهذا السؤال ذنباً عظيماً على يسوع إذ جعله مساوياً لقاتل مشهور بالشرور والمعاصي، وجعل البريء بموجب شهادته أثيماً محكوماً عليه بالموت. وأخطأ في ظنه أن الشعب يختار إطلاق محسنٍ كيسوع على إطلاق مسيء كباراباس.

١٩ «وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ٱمْرَأَتُهُ قَائِلَةً: إِيَّاكَ وَذٰلِكَ ٱلْبَارَّ، لأَنِّي تَأَلَّمْتُ ٱلْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِه».

جَالِساً لعلَّ ما يأتي حدث وهو ينتظر جواب الشعب على سؤاله.

عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ كان هذا الكرسي «فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «الْبَلاَطُ» وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا» (يوحنا ١٩: ١٣). وهذا كان قدام القصر ليحضره اليهود ولا يتدنسون.

أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ٱمْرَأَتُهُ إنه لأمر غريب أن تكون الوحيدة التي تكلمت كلمة حسنة في المسيح وابتغت إطلاقه من بيلاطس هي امرأة وثنية، مع أن تلاميذه تركوه، وجمهور أُمتِه صرخ قائلاً «اصلبهُ». ولعلها سمعت أخبار المسيح من خِدم بيتها أو من زائراتها.

إِيَّاكَ وَذٰلِكَ لا ريب في أنه بلغها أخبار معجزات المسيح وقوته الغريبة، وتحققت أنه بار مما سمعته من أخباره، فخافت على زوجها وسائر العائلة من نقمة إلهية إن حُكم عليه.

ٱلْبَارَّ هذه الشهادة من أغرب الأمور، وقد قدمتها امرأة بيلاطس تبرُّعاً.

تَأَلَّمْتُ… فِي حُلْمٍ حَلِمت في الليلة البارحة حلماً أخافها كثيراً، ثم وجدت صور ذلك الحلم الهائل تتعلق بأمر الشخص الواقف أمام زوجها للمحاكمة. ومرادها باليوم الليلة الماضية لأنها كانت عندهم جزءاً من اليوم.

اعتبر القدماء أن الأحلام إعلانات إلهية أكثر مما نعتبرها الآن. ومن غرائب الاتفاق أن تحلم بشخص لم تعرف من أمره شيئاً، ولم يكن قد قُبض عليه عند حلمها. ولا عجب أن الله الذي أرى فرعون وساقيه وخبازه وبختنصر وغيرهم من الوثنيين أحلاماً غير عادية، يُري تلك المرأة حلماً يحذر زوجها به من ارتكاب تلك الخطية الفظيعة.

٢٠ «وَلٰكِنَّ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخَ حَرَّضُوا ٱلْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ».

مرقس ٥: ١١ ولوقا ٢٣: ١٨ يوحنا ١٨: ٤٠ وأعمال ٣: ١٤

كان اختيار إطلاق الأسير للشعب لا للرؤساء، فخاف الرؤساء أن يذهب كل جهدهم باطلاً ويخيب رجاؤهم إن اختار الشعب يسوع. فأسرعوا يخاطبون الشعب، واجتهدوا في أن يقنعوهم بأن يطلبوا إطلاق باراباس. ولعلهم قالوا للشعب إن باراباس محب للوطن وإن الرومان قبضوا عليه لأنه سعى في تحرير اليهود وحارب لأجل حقوقهم وإن يسوع جليلي (وأغلب اليهود يكرهون الجليليين) وأن مجلس السبعين حكم عليه بالموت. ومهما كان كلامهم فخلاصته مدح باراباس وذم يسوع. فلم يتركوا شيئاً من الوسائل التي حثهم عليها مكرهم وحسدهم وبغضهم وخبثهم.

٢١ «فَسَأَلَ ٱلْوَالِي: مَنْ مِنَ ٱلاثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ فَقَالُوا: بَارَابَاسَ».

فَسَأَلَ ٱلْوَالِي كان ذلك بعد أن أعطاهم فرصة كافية للنظر في من يختارونه. وتلك الساعة كانت من أهم الساعات في تاريخ الأمة اليهودية، فيها يختارون يسوع مسيحاً وملكاً لهم، أو يرفضونه.

مَنْ مِنَ ٱلاثْنَيْنِ أي يسوع أم باراباس.

فَقَالُوا: بَارَابَاسَ اختاروا اللص القاتل ورفضوا الفادي الذي هو بلا عيب. وكان ذلك عمل الشعب والرؤساء معاً. وقد ذكر بطرس هذا في موعظته يوم الخمسين: «أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ، وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ.. وَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضًاً» (أعمال ٣: ١٤، ١٥، ١٧).

٢٢ «قَالَ لَـهُمْ بِيلاَطُسُ: فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ؟ قَالَ لَهُ ٱلْجَمِيعُ: لِيُصْلَبْ!».

فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ سؤال خطير للغاية، وهو سؤال للأجيال كلها لا لذلك الجيل وحده. وعلى الجواب يتوقف إخلاصنا للمبدأ السامي الذي اعتنقناه، ونريد أن نحيا ونموت من أجله.. في هذا السؤال تعجُّب وشيء من سؤال الشعب أن يعيدوا نظر الاختيار بين يسوع وباراباس. ولعله نتج عن أمله أن يطلبوا إطلاق الاثنين، فيكون له حجة لمقاومة الرؤساء وإطلاق يسوع بلا خوف من أن يشكوه إلى الإمبراطور. أو أنهم إذا لم يطلبوا إطلاقه طلبوا قصاصاً خفيفاً له يجريه عليه ويطلقه.

ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ قال ذلك ترغيباً للشعب في إطلاقه. وكان عليه أن يسأل ضميره لا الشعب: ماذا يفعل بيسوع ويطرد اليهود كما طردهم الوالي غاليون عندما أتوا ببولس إلى كرسي الولاية (أعمال ١٨: ١٢ – ١٦). ولا بد أن يعرض هذا السؤال عينه على كل واحد منا في وقت من أوقات حياته، ويضطر أن يختار ماذا يفعل بيسوع: هل يقبله مخلصاً وحيداً أم يرفضه.

لِيُصْلَب إذا قيل: لماذا طلب اليهود صلب يسوع وهذا العقاب ليس من وسائل معاقبات اليهود؟ ولم يطلبوا رجمه أو قتله بطريق أُخرى من طرق القتل المعتادة عندهم. قلنا: هذا لأن بيلاطس جعل يسوع بمنزلة واحدة مع باراباس، لأن الرومان حكموا على باراباس بالموت، فلو أُجري عليه الحكم لقتلوه صلباً. فلو طلبوا إطلاق يسوع لصُلب باراباس، ولكنهم طلبوا إطلاق باراباس فوقع الصلب على المسيح. ولعل الذين بدأوا يصرخون: «ليُصلب» هم الرؤساء، وتبعهم الشعب حالاً في ذلك، وكرر هؤلاء العبارة. على أي حالٍ لقد حثَّ الرؤساء الشعب (كما ذُكر في ع ٢٠). وغاية الرؤساء من صلب يسوع الذي هو أقبح طرق العقاب أمران: الأول التشفي من البغض. والثاني أن يجعلوا اسم المسيح مكروهاً إلى حدٍّ لا يلتفت فيه أحدٌ إلى دعواه. ولا بد أنه كان لله مقاصد في ذلك نفذوها هم بدون قصد إتماماً لإنباء المسيح (متّى ٢٠: ١٩ و٢٦: ٢ ويوحنا ٣: ١٤ و٨: ٢٨)، وتحقيقاً لنبوة إشعياء من أنه يكون محتقراً ومخذولاً من الناس (إشعياء ٥٣). والأرجح أن الذين صرخوا قائلين «ليُصلب» ليسوا هم الذين هتفوا منذ خمسة أيام قائلين «أوصنا» (متّى ٢١: ٨ ولوقا ١٢: ١٢، ١٣) على أنه يحتمل أن يكون منهم من اشترك في الأمرين. ولكنه من العجب أنه لم يصرخ أحد بين أولئك الألوف قائلاً: «ليُطلَق».

٢٣ «فَقَالَ ٱلْوَالِي: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخاً قَائِلِينَ: لِيُصْلَبْ».

فَقَالَ ٱلْوَالِي: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ هذا استفهام إنكاري معناه أن يسوع لم يعمل شراً. قال لوقا إنه سألهم ذلك ثلاث مرات. وذكر متّى أن الشعب طلب صلب يسوع ثلاث مرات. (ع ٢١، ٢٢، ٢٣) وذكر لوقا أن بيلاطس قال إنه لم يجد فيه علةً تستحق الموت، وأن هيرودس لم يجد ذلك أيضاً. ثم عرض عليهم أن يجلده أملاً أن يكتفوا بمشاهدة تعذيبه ثم يطلبون إطلاقه، فيكون قد خلصهُ من عقاب أعظم. وكان ذلك اعترافاً من بيلاطس بجُبنه وضعفه لأنه سمح بجلد إنسان حكم علناً بأنه بار. وقد ظلم بيلاطس المسيح ظلمين: الأول: مساواته بباراباس، والثاني التسليم بجلده كمذنب.

لِيُصْلَبْ قصد بيلاطس بسؤاله أن يجيبوه ببيان ذنب يسوع، ولكنهم أجابوه بتكرار قولهم «ليُصلب» وهذا نتيجة عجزهم عن تبيين ذنب له، وإقرار بأنه لا ذنب عليه، وإلا فلو عرفوا له ذنباً لذكروه. وهذا تبرير آخر عند المحاكمة فوق ما سبقه من يهوذا، ومن بيلاطس، ومن امرأته. فهو لم يتألم لإثمٍ عليه، بل لآثام العالم.

٢٤ «فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئاً، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ ٱلْجَمْعِ قَائِلاً: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ».

تثنية ٢١: ٦ – ٩

يَحْدُثُ شَغَبٌ حدث الشغب في اليهودية مرات قبل ذلك، فأصاب بيلاطس لومٌ شديد من طيباريوس قيصر، فخاف أن زيادة هذا الشغب يجلب عليه لوماً أشد، ربما يسبِّب عزله. ومن العجب أن الرؤساء كانوا يخافون الشغب من القبض على المسيح، وأن اجتهاد بيلاطس في إطلاق المسيح كاد يكون علَّة الشغب، وكانت العلة لذلك لو لم يرجع عنه.

أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ فعل هذا العمل كناية عن أنه بريء من كل ما يجرونه بعد ذلك على يسوع. وكان اليهود يفهمون المراد بذلك (تثنية ٢١: ٦ ومزمور ٧٣: ١٣). ولا نظن أن بيلاطس أخذ تلك الإشارة عن اليهود، لأنها مسألة منطقية. ولكن طلب بيلاطس أن يدفع المسؤولية عنه بذلك الفعل لا يجديه نفعاً. نعم إنه غسل يديه بالماء، ولكن ذلك لم يغسل قلبه من الذنب، وقد دان نفسه لأنه سلم إلى الموت من حكم ببراءته، وبأنه حاكم ضعيف يقضي بمقتضى صراخ الشعب بما هو خلاف اعتقاده. ففي عمله شهادة للمسيح، وعلى نفسه، وعلى اليهود. والمرجح أنه ظن أن الشعب يأبى أن يأخذ المسؤولية كلها على نفسه، ويرجع عن طلبه.

إِنِّي بَرِيءٌ هذا القول لم يبرئه، لأنه لم يطلق المسيح.

هٰذَا ٱلْبَارِّ دعاه باراً (كما دعته امرأته ع ١٩) وهو مزمع أن يسلمه إلى الموت ويُطلق بدلاً منه المذنب الشهير باراباس. وهذا شهادة لقول الرسول «إِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ… الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ» (١بطرس ٣: ١٨)

أَبْصِرُوا أَنْتُمْ أي أن مسؤولية الحكم على هذا البار بالموت لا بد أن تقع على أحد، فأنا لا أحملها، فتكون عليكم بمعرفتكم واختياركم.

٢٥ «فَأَجَابَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ: دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا».

تثنية ١٩: ١٠ ويشوع ٢: ١٩ و٢صموئيل ١: ١٦ و١ملوك ٢: ٣٢ وأعمال ٥: ٢٨.

دَمُهُ عَلَيْنَا أي إذا كان باراً يُعاقب أحدٌ بموته فذلك علينا. فلم ينجح بيلاطس في إنقاذ المسيح، لأن الشعب حمل كل مسؤولية موته طوعاً واختياراً. وهذا القول لم يخفف جرم بيلاطس من حكمه على المسيح، لكنه جعلهم شركاءه في ظلمه بذلك الحكم. وقولهم «دَمُهُ عَلَيْنَا» مبنيٌ على الشريعة القديمة. وهي أنه إذا شكا أحدٌ غيره كذباً وظهر كذبه عوقب بما كان يُعاقب به المشكو لو لم يظهر الكذب. وعلى هذه الشريعة حُكم على شكوى دانيال بطرحهم في جب الأسود، ووقع على أدوني بازق (قضاة ١: ٧) وحُكم على أجاج ملك عماليق (١صموئيل ١٥: ٣٣).

وَعَلَى أَوْلاَدِنَا أي العقاب الذي يترتب على قتل يسوع إن كان بريئاً نأخذه ميراثاً لأولادنا كما أخذناه نصيباً لنا. على أنه لا حقَّ لهم أن يدعوا على لأولادهم بتلك النقمة الإلهية، لكنها أتت عليهم بعدالته، لأنه بعد ذلك بأربعين سنة هُدمت مدينتهم ونُقض هيكلهم ومات أكثر من مليون من أولادهم بالجوع والسيف، وصُلب ألوف منهم.

قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي «إنه لم يبقَ محل للصلبان للناس» وظل أغلب أولادهم متشتتين في العالم عرضة للإهانة والاضطهاد، حتى لم تحتمل أُمة تحت السماء ما احتملوه. ولم يخطر على بالهم عاقبة اللعنة التي دعوا بها على أنفسهم يومئذٍ. على أن تلك اللعنة تتحول إلى بركة للذين يتوبون منهم، ويؤمنون بأن يسوع هو المسيح. وإن ذلك الذي كان عليهم انتقاماً يصير لهم تطهيراً. فإن قيل: كيف يعاقب الله الأولاد بذنوب آبائهم وقد قال بفم حزقيال «اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ. اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ، وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الابْنِ. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ، وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ» (حزقيال ١٨: ٢٠). قلنا لا يلحق عقاب الوالدين بالأولاد إلا إذا مدحوا أعمال آبائهم، وتبعوا خطواتهم، وشعروا بشعورهم. ويقول الوحي إن الأمة اليهودية سترفض أعمال أسلافها، وستؤمن أن يسوع هو المسيح، وستنجو حينئذٍ من تلك اللعنة (زكريا ١٢: ١٠ – ١٤).

ومن العجب أن اليهود بعد أن قالوا: دمه علينا وعلى أولادنا، أنكروا ذلك بعد قليل بقولهم للرسل «أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهذَا الاسْمِ؟ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هذَا الإِنْسَانِ» (أعمال ٥: ٢٨).

٢٦ «حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَـهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ».

إشعياء ٥٣: ٥ ومرقس ١٥: ١٥ ولوقا ٢٣: ١٦، ٢٤، ٢٥ ويوحنا ١٩: ١، ١٦

أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ أطلق مرتكب الذنب الذي اتهموا المسيح به كذباً، وهو العصيان على الرومان. فنجا ذلك المحكوم عليه بالموت من العقاب الذي وقع على يسوع. وكذلك كل خطاة العالم المحكوم عليهم بالموت يستطيعون أن ينجوا من عقابهم، لأن إثم الجميع وُضع على ذلك البار.

فَجَلَدَهُ هذا بعد ما حكم عليه بالصلب جرياً على عادة الرومان في من حُكم عليهم بالصلب. وكان إيلام ذلك شديداً، لأنهم كانوا يعرُّون الذي يريدون جلده ويربطونه إلى عمود منحنياً ويضربونه على ظهره بالسوط، وكان ذلك السوط سيوراً من الجلد مربوطاً بأطرافها قِطعٌ حادة من معدن أو عظمٍ، فكانت تمزق الجلد واللحم أيضاً. وكثيراً ما كان يُغشى على المجلودين أو يموتون من الألم. وكان الجلادون من عساكر الرومان الذين لا يشفقون على أحد من اليهود، لأنهم كانوا يهينون الأمة اليهودية كلها ويبغضونها، ولم يكونوا مقيدين بالشريعة اليهودية التي تمنع ما يزيد على أربعين جلدة، فضربوه بقدر ما شاءوا.

ومُنع في الشريعة الرومانية أن يُجلد أحدٌ من الرومانيين وخصوا الجلد بالعبيد وبأهل البلاد التي استولوا عليها لأنهم كانوا عندهم بمنزلة العبيد (أعمال ٢٢: ٢٥)

وقد فسَّر إشعياء غاية المسيح في احتمال آلام الجلد بقوله «هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا… وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إشعياء ٥٣: ٥)

وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ لم يستطع بيلاطس أن يسلمه لو لم يكن «مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ» (أعمال ٢: ٢٣). وأسلمه إلى العسكر الروماني ليجري عليه الحكم. وكان بذلك كأنه أسلمه إلى اليهود، لأنه صُلب بموجب حكم مجلس السبعين كما يظهر من قول لوقا «وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ» (لوقا ٢٣: ٢٥). وقصد متّى بقوله «ليُصلب» القضاء بالصلب، ولكنه ذكر الصلب نفسه بعد ذلك (ع ٣٥). وبهذا الحكم خالف بيلاطس ضميره وتحذير زوجته، فدمُ المسيح عليه كما كان على اليهود، لأنه حكم باعتبار إنه قاضٍ جالس على كرسي القضاء الروماني، وكان الصلب عقاباً رومانياً، والذين صلبوا المسيح جنود رومانية كانت تحت أمره، وهو الذي أمر بكتابه العنوان الذي وُضع فوق الصليب.

٢٧ «فَأَخَذَ عَسْكَرُ ٱلْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ ٱلْكَتِيبَةِ».

مرقس ١٥: ١٦ ويوحنا ١٩: ٢ وأعمال ١٠: ١

إِلَى دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ الظاهر أنهم جلدوا المسيح خارج دار الولاية، وأرجعوه إليها بعد أن جلدوه.

ٱلْكَتِيبَةِ أي فرقة من عسكر الرومان الذي كان تحت أمر بيلاطس. كان في سوريا أربعة جيوش رومانية يسمَّى كل منها «لجيئوناً» Legion كان ثلاثة منها تقيم بقيصرية والرابع يقيم بأورشليم. وعدد اللجيئون ستة آلاف جندي إذا كانت كاملة، ولم يطلقوها على أقل من ٤٦٠ جندياً.

ولعل سبب تسليم بيلاطس المسيح إلى مثل هذا العدد الكبير هو أن رؤساء الكهنة حذروا بيلاطس من أن أصحاب يسوع قد يخلصونه عنوة.

٢٨ «فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيّاً».

لوقا ٢٣: ١١

فَعَرَّوْهُ عروه قبل الجلد. ثم ألبسوه بعد أن جلدوه، ثم عروه أيضاً. فلم يشفقوا عليه بما شاهدوه من جراحه الزرقاء الدامية المحاطة بالورم من شدة الجلد.

رِدَاءً قِرْمِزِيّاً وسمي أرجواناً أيضاً. والأرجح أن هذا الرداء كان من الأردية العتيقة الذي تركه أحد الولاة في القصر، وكان الأرجوان من ملابس الحكام والأغنياء (لوقا ١٦: ٩ ورؤيا ٧: ٤). وكان قيصر روما نفسه يلبس ثوباً من الأرجوان، فألبس العسكر يسوع ذلك الثوب هزءاً بدعواه أنه ملك اليهود، كما هزأ اليهود قبلاً بدعواه إنه نبي (متّى ٢٦: ٦٨).

٢٩ «وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: ٱلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ ٱلْيَهُودِ».

مزمور ٦٩: ١٩ وإشعياء ٥٣: ٣

إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ أي من نبات شائك، وصنعوا له ذلك بدلاً من إكليل الذهب المرصَّع بالجواهر التي اعتاد الملوك أن يلبسوه، وفعلوا ذلك هزءاً منه بأنه ملك.

وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ كان من عادة الملك أن يحمل صولجاناً بيده عند امتثال بعض الرعية أمامه إشارة إلى سلطانه (أستير ٤: ١١ و٨: ٤). والصولجان عصا معكوفة الرأس مصنوعة من الذهب أو العاج أو غيرهما من المواد النفيسة. ويُقال عن الملك الصارم بذي عصاً (أي صولجان) من حديد (مزمور ٢: ٩ و١٢٥: ٣). فوضع الجند القصبة في يد المسيح بدلاً من الصولجان لزيادة الهزء به.

وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ كأنه هيرودس الملك أو طيباريوس قيصر.

ٱلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ فعلوا ذلك تمثيلاً لما كان يفعله الناس عند مواجهة الملوك.

٣٠ «وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا ٱلْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ».

إشعياء ٥٠: ٦ ومتّى ٢٧: ٦٧

بَصَقُوا بعد أن أظهروا له الإكرام الملكي تهكماً أخذوا يهينونه بالبصق عليه، وهو من أقبح ضروب الإهانة.

وَأَخَذُوا ٱلْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ كانت القصبة هنا بمنزلة الصولجان، دليل القوة لصاحبه، فضربوه بها بياناً لقوتهم على الهزء به. وبضربه على رأسه دخل شوك إكليله في الجبهة والرأس. وهذه إهانة ثالثة ليسوع. فالأولى إهانة خدام الهيكل والرئيس له (متّى ٢٦: ٦٧)، والثانية إهانة هيرودس وعسكره (لوقا ٢٣: ١١)، والثالثة إهانة جنود بيلاطس كما ذكر هنا. وكان كل ذلك إتماماً لنبوة نطق بها منذ سبع مئة سنة قبل إتمامها، وهي قوله «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ، وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ» (إشعياء ٥٠: ٦). وقصد العسكر بما فعلوه ثلاثة أمور: الأول تلذذهم بالقساوة. والثاني التشفي من غيظهم على يهودي، والثالث إظهار الاحترام لقيصر لظنهم أن يسوع اعتدى على حقوقه بدعوى أنه ملك. ويسوع باعتبار أنه إنسان كان يشعر بألم الضرب كغيره من الناس، وكذلك بألم التهكم والإهانة. وفيها كلها لم يفه بكلمة، مع أنه كان يسهل عليه أن يظهر سلطانه وقوته ويميتهم جميعاً في لحظة. فاحتماله كل ذلك بالصبر والسكوت اختياراً دليل على عظمته الملكية. وغايته من احتمال تلك الإهانة على الأرض في دار بيلاطس هو ضمان الإكرام لنا في السماء. «لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ ١٠ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، ١١ وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (في ٢: ٩ – ١١).

لقد أخذ الجنود يهزأون بيسوع بعد أن دخل بيلاطس قصره، بدليل قول البشير «فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا خَارِجًا» (يوحنا ١٩: ٤، ٥). فكانت النتيجة أن صرخ رؤساء الكهنة والخدام مكررين قولهم «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!». فكأن مشاهدتهم يسوع في حال اتضاعه أوقدت فيهم نار البغض والحسد من جديد. فبيلاطس الذي تربى في العسكر واعتاد سفك الدم حتى صار عنده بمنزلة الماء كان أرق قلباً من اليهود، واشمأز أن يفعل ما طلبوه، وقال لهم: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ». فكأنه قال لهم: أبيح لكم ما هو على خلاف الشريعة، وأغض النظر عنه (يوحنا ١٩: ٦). لكن رؤساء الكهنة رفضوا ما عرضه بيلاطس عليهم، لأنهم أرادوا أن يتم صلبه بموجب الشريعة الرومانية وبسلطان الرومان. وذكروا حينئذٍ العلة الحقيقية التي حملتهم على طلب قتل المسيح، وهي الأمر الثالث الذي اتفقوا عليه، وهو التجديف، بدليل قولهم «لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللهِ» (يوحنا ١٩: ٧) وهذا لم يذكروه قبلاً لبيلاطس. ومرادهم أن يظهروا لبيلاطس أن يسوع إن لم يستوجب الموت بشرع الرومان فهو يستحقه بموجب الشريعة اليهودية. فلما سمع بيلاطس كلامهم أخذ يسوع أيضاً إلى دار الولاية وفحص دعواه من جديد (يوحنا ١٩: ٩ – ١١) وهذا فحص سادس للمسيح. وبعد أن أكمل بيلاطس الفحص خرج وجلس على كرسي الولاية ثالثة واجتهد أن يخلص يسوع. وكان آخر التماسه من اليهود قوله «هُوَذَا مَلِكُكُمْ!. أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟» (يوحنا ١٩: ١٢ – ٢٥).

لا ندري مقدار الإخلاص في هذا الكلام وهل قصد بيلاطس ما قاله؟ أم أن ذلك محاولة اليائس الأخيرة لإنقاذ بريء؟ وعند ذلك ترك رؤساء الكهنة شكواهم على يسوع بالتجديف ورجعوا إلى الشكوى الأولى، وهي أنه عصى قيصر بدعواه أنه ملك، بدليل قولهم «إِنْ أَطْلَقْتَ هذَا فَلَسْتَ مُحِبًّا لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكًا يُقَاوِمُ قَيْصَرَ! لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرَ!» (يوحنا ١٩: ١٢، ١٥). فاستسلم لطلبهم خوفاً من أن يشتكوه أنه ليس محباً لقيصر!

والوقت الذي شُغل بمحاكمة يسوع كان نحو ثلاث ساعات، وذلك من الصبح إلى الساعة الثالثة قبل الظهر.

وإذا راجعنا الحوادث التي جرت أثناء محاكمة المسيح رأينا بطرس قد أنكر يسوع ثلاث مرات، وأن يسوع حوكم أمام رؤساء اليهود ثلاث مرات: واحدة أمام حنان وواحدة أمام قيافا والثالثة قدام المجلس صباحاً. وحوكم ثلاث مرات أمام غير اليهود، اثنتين أمام بيلاطس وواحدة أمام هيرودس. واختار اليهود ثلاث مرات إطلاق باراباس، ورفضوا إطلاق يسوع ثلاثاً، واجتهد بيلاطس ثلاث مرات أن يقنع الشعب باختيار إطلاق يسوع، وأعلن براءته ثلاث مرات (لوقا ٢٢: ٤، ١٤، ١٥، ٢٢). وحُذر اليهود ثلاثاً: حذرهم المسيح بمجيئه ثانية للدينونة (متّى ٢٦: ٢٤)، ويهوذا باعترافه (ع ٤)، وبيلاطس بشهادته ببراءة يسوع (ع ٢٤).

٣١ «وَبَعْدَ مَا ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ ٱلرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ».

إشعياء ٥٣: ٧

نَزَعُوا عَنْهُ ٱلرِّدَاءَ أي الرداء القرمزي، ولم يذكر شيئاً من أمر إكليل الشوك.

ثِيَابَهُ الخارجية والداخلية (يوحنا ١٦: ٢٣، ٢٤)

وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ «كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ» (إشعياء ٥٣: ٧). فتم ما أنبأ به هو نفسه من جهة صلبه (متّى ٢٠: ١٩ و٢٦: ٤٥).

وصُلب في الساعة الثالثة أي قبل الظهر بنحو ثلاث ساعات (مرقس ١٥: ٢٥). وما ورد في بشارة مرقس يوافق ما ذكره متّى ولوقا. وأما ذكر الساعة السادسة في يوحنا فالأرجح أنها من غلط الناسخين، لأن اليونانيين كانوا يدلون على الأعداد بأحرف، والفرق بين الحرف الدال على «ثلاثة» والحرف الدال على «ستة» زهيد جداً. ويؤيد ذلك أن في بعض النسخ القديمة لبشارة يوحنا تذكر «الثالثة» بدل «السادسة» كما في بشارة مرقس. وظن بعضهم أن يوحنا استعمل الحساب اليهودي فوقع ذلك الخلاف. وكان اليوم عند الرومان كاليوم عند الأوربيين، يبدأ من نصف الليل، فتكون السادسة في يوحنا وقت طلوع الشمس، وهو بداءة محاكمة يسوع عند بيلاطس، وهي التي قصدها يوحنا بـ «تلك الساعة».

٣٢ «وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ».

عدد ١٥: ٣٥ و١ملوك ٢١: ١٣ وأعمال ٧: ٥٨ وعبرانيين ٢٤: ١٢ ومرقس ٢٣: ٢٦ وأعمال ٢: ١٠ و٦: ٩

خَارِجُونَ إلى مكان الصلب خارج المدينة. ولهذا قال الكتاب «فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لِذلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ» (عبرانيين ١٣: ١١ و١٢). وهذا وفق شريعة موسى في أمر المحكوم عليهم بالموت (عدد ١٥: ٣٥ انظر أيضاً ١ملوك ٢١: ١٣ وأعمال ٧: ٥٨) وبذلك تمم يسوع الرموز بكونه ذبيحة عن الخطية (لاويين ٤: ١٢ و١٦: ٢٧ وعدد ١٩: ٣).

إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً أي من القيروان، وهي مدينة في ليبيا في شمال أفريقيا تسمى «سارنيكا» وكانت وقتئذٍ من أملاك الرومان، وسكنها كثيرون من اليهود (أعمال ٢: ١٠) لأن بطليموس لاجي أرسل منهم إلى هناك مئة ألف قبل ذلك بـ ٣٠٠ سنة، فزادوا كثيراً حتى صار لهم مجمع خاص في أورشليم (أعمال ٦: ٩). وكان بعضهم من أول المبشرين المسيحيين (أعمال ١١: ٢٠ و١٣: ١). والمرجح أن سمعان القيرواني أتى إلى أورشليم حينئذٍ للاحتفال بعيد الفصح. وذكر مرقس إنه كان أبا إسكندر وروفس كأنهما معروفان عند المسيحيين (مرقس ١٥: ٢١).

فَسَخَّرُوهُ الخ الذين سخروه هم الجنود. وكانت العادة إن الذي يحمل الصليب هو المحكوم عليه بالصلب، فكان حمل الصليب دلالةً على شدة العار والهوان والمصيبة. وكان يسوع قد حمله في أول الطريق (يوحنا ١٩: ١٧) والظاهر إنه أعيا عن حمله لشدة ضعف جسمه من الجلد والهزء والأرق، ولذلك سخَّر العسكر سمعان بحمله. ولم يكن أحد من اليهود أو الرومان يحمل باختياره صليب المحكوم عليه لما في ذلك من العار. ولعل سمعان كان أول من صادفوه في الطريق بعد عجز يسوع عن حمل صليبه، أو لأنهم رأوه أجنبياً فاستخفوا به، أو لعله ظهر على وجهه شيءٌ من إمارات الشفقة على يسوع فسخَّروه. وإن كان سمعان مات مؤمناً بالمسيح فلا شك أنه يحسب الآن ذلك العار أعظم مجدٍ له.

٣٣ «وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ ٱلْمُسَمَّى: مَوْضِعَ ٱلْجُمْجُمَةِ».

مرقس ١٥: ٢٢ ولوقا ٢٣: ٣٣ ويوحنا ١٩: ١٧

الموضع الذي صُلب يسوع فيه مجهول الآن وقد كثرت الآراء فيه. وقلما التفت كتبة الأسفار الإلهية إلى تعيين أماكن الحوادث التي ذكروها.

جُلْجُثَةُ كلمة عبرانية معناها جمجمة. والأرجح أن إطلاق هذا الاسم على مكان صلب يسوع لأنه أكمة مدورة خالية من الصخور والأشجار، تشبه جمجمة الإنسان شكلاً وهيئة. فلا صحة لقول بعضهم إنه سمي بذلك لكثرة ما طُرح فيه من جماجم القتلى. ومما يبطل هذا القول أن اليهود كانوا يدفنون كل عظم من عظام البشر في الأرض بكل احتراس واعتناء. وكل ما نعرفه من أمر الموضع الذي صُلب فيه المخلص خمسة أمور:

الأول: إنه خارج المدينة (ع ٣١) والثاني: إنه قريب من المدينة (يوحنا ١٩: ٢٠) والثالث: إنه على جانب الطريق والشارع (مرقس ١٥: ١٩) والرابع: إنه كان قريباً من أحد البساتين الكثيرة التي كانت محيطة بأورشليم، وكان في ذلك البستان قبر ليوسف الرامي (يوحنا ١٩: ٤١) والخامس: إن المكان كان يُعرف عند العامة بالجمجمة (لوقا ٢٣: ٣٣).

٣٤ «أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ»

مرقس ٦٩: ٢١ وع ٤٨

أَعْطَوْهُ المرجح أن الذين أعطوهُ يهود لأنه لم يكن من عادات الرومان، ولأن اليهود كانوا يتبرعون به لكل محكوم عليه بالموت عند قتله. ولأن رجال الدين اليهود أعلنوا أنه من أعمال التقوى، بناءً على قول الحكيم «أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس. يشرب وينسى فقره، ولا يذكر تعبه أيضاً» (أمثال ٣١: ٦، ٧)

خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ وقال مرقس «أَعْطَوْهُ خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرّ » (مرقس ١٥: ٢٣) فإن عسكر الرومان كان يشرب نوعاً من الخمر رخيصاً حامضاً يختلف عن الخل قليلاً، فيصح أن يعبر عن كل منهما بالثاني. والمرارة والمر كثيراً ما يردان بمعنى واحد، وهو شراب من الأعشاب المرة كالأفسنتين وأمثاله، ممزوجاً بماء بزر الخشخاش. وغايتهم من مزج الخمر به وإعطائه للمصلوب تسكين آلامه بإسكاره وتخديره. والظاهر أن المسيح ذاته إكراماً لمن أظهر له المعروف بإعطائه إياه أبى أن يشربه، لأنه فضَّل أن يكون شاعراً بآلامه، فيشرب الكأس التي أعطاه الآب ليشربها، وشربها كلها (مزمور ٦٩: ٢١).

٣٥ «وَلَمَّا صَلَبُوهُ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ: ٱقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً».

مرقس ١٥: ٢٤ ولوقا ٢٣: ٣٤ ويوحنا ١٩: ٢٤ ومزمور ٢٢: ١٨.

صَلَبُوهُ كان الصلب شر الميتات المعروفة قديماً لما فيه من التشهير والعار والآلام الشديدة وطول مدة العذاب، فقد يبقى المصلوب حياً ثلاثة أيام، يعتريه عطشٌ وجوعٌ وأرقٌ وحمى من التهاب الجراح، ولا يستطيع الحركة التي تزيد آلامه.

ولم يكن الصلب من أنواع العقاب عند اليهود، فمن المحال أن يهودياً يصلب يهودياً. والمراد بالتعليق «على خشبة» في التوراة هو ما نعرفه الآن بالشنق (تثنية ٢١: ٢٢، ٢٣). وأصل الصلب جاء من بلاد الفرس، واستعمله المصريون واليونانيون. ولم يصلبوا الرومان رومانياً، بل خصوا ذلك الموت بالعبيد وشر الأثمة وأهل الولايات التي استولوا عليها لأنهم حسبوهم كالعبيد. وكراسوس (القائد الروماني) سيج الطريق من مدينة كبيوا إلى مدينة روما بصلبان العبيد الذين عصوا الرومان. وصلب أوغسطس قيصر ستة آلاف عبد في جزيرة صقلية لأنهم عصوه. وكان الصليب قطعتين متعارضتين من الخشب فيهما عمود يدخل بين رجلي المصلوب ليحمل بعض ثقله فلا يتمزق لحم مدخل المسامير فيسقط المصلوب. وكانوا ينصبون الصليب أحياناً رأسياً ويرفعون الإنسان عليه ويسمرونه، ولكنهم كانوا يضعونه على الأرض أفقياً ويمدون المصلوب بعد أن يعروه عليه ويسمرونه بمسامير في رجليه ويديه على خشبة الصليب. وكانوا أحياناً يسمرون اليدين فقط ويربطون الرجلين بحبال على الصليب (والظاهر أنهم سمروا يدي يسوع ورجليه معاً بدليل ما جاء في بشارة لوقا، لوقا ٢٤: ٣٩، ٤٠). ثم يرفعون الصليب بالمصلوب وينصبونه رأسياً في حفرة معدة له. وكانوا أحياناً يُنزلون الصليب في حفرته بسرعة وعنف لتخليع مفاصل المصلوب وتشديد عذابه. وكان ارتفاع رجلي المصلوب فوق الأرض من نصف ذراع إلى ذراع. ولما سمَّر العسكر يسوع على صليبه صلى قائلاً «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا ٢٣: ٣٤).

وأوضحت النبوات والرسائل غاية صلب يسوع، وهي أن يكون ذبيحة الكفارة عن خطايا الناس، وأن يحتمل اللعنة التي وجبت على الخطاة، فتم بصلبه قوله «الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ الله» (تثنية ٢١: ٢٣) وليوفي الدين الذي على الإنسان ويصالحه مع الله. فصار اسم الصليب بعد أن مات عليه المسيح إشارة إلى الشرف والبركة والفداء، بعد أن كان علامة العار واللعنة والعذاب.

ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ أي القميص وما فوقه (يوحنا ١٩: ٢٣، ٢٤). وكانت ثياب المصلوب نصيب الصالبين، وكان الذين صلبوا المسيح أربعة نزعوا ثيابه قبل صلبه.

مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا أي على قميصه لأنه كان «بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ» (يوحنا ١٩: ٢٣) ومقامرتهم تحت الصليب دليل على عدم شفقتهم على المصلوب.

مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ القول المشار إليه وارد في مزمور ٢٢: ١٨ وهو نبوة خاصة بيسوع، لأنه لم يجرِ مثلها على داود. وكانت تعرية المسيح من ثيابه أمراً لا يُعتد به بالنسبة إلى ما احتمله باختياره لما «أَخْلَى نَفْسَهُ» من كل الأمجاد السماوية لأجلنا (فيلبي ٢: ٦).

٣٦ «ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ».

عدد ٥٤

حرسوهُ لئلا يأتي أصحابه وينزلوه عن الصليب حياً. وكان الحراس بعدئذٍ شهوداً بصحة دعوى المسيح (ع ٥٤).

٣٧ «وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: هٰذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ».

مرقس ١٥: ٢٦ ولوقا ٢٣: ٣٨ ويوحنا ١٩: ١٩

فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ أي علة صلبه. وكانت العادة أن يحمل المحكوم عليه بالصلب إعلان سبب صلبه إلى حيث يُصلب، وهناك يوضع فوق رأسه.

هٰذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ علة صلبه عند بيلاطس دعواه إنه ملك. وكتب هذا العنوان بثلاث لغات كانت شائعة في سوريا وقتئذٍ، وهي العبرانية واليونانية واللاتينية. وذكر مرقس أن العنوان كان «ملك اليهود» (مرقس ١٥: ٢٦) . وقال لوقا إن كان «هٰذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ» (لوقا ٢٣: ٣٨) وقال يوحنا إنه كان «يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ» (يوحنا ١٩: ١٩) والمعنى واحد. ولعل اختلاف الألفاظ لاختلافها في لغات العنوان الثلاث، بأن نقل بعضهم عن إحدى اللغات وبعضهم عن لغات أُخرى. وقصد بيلاطس بذلك العنوان تعيير اليهود بصلب ملكهم. واعترضه الرؤساء على ما كُتب فلم يبالِ بهم (يوحنا ١٩: ٢٠) فما لقَّب المجوس به يسوع عند ميلاده تمجيداً له لقبه به بيلاطس عند موته هزءاً به. والعنوان كله حق، لأن معنى يسوع مخلص، وتولى المُلك بآلامه وموته.

٣٨ «حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ ٱلْيَسَار».

إشعياء ٥٣: ١٢ ومرقس ١٥: ٢٧ ولوقا ٢٣: ٣٢، ٣٣ ويوحنا ١٩: ١٨

الأرجح أن هذين اللصين هما من رفقاء باراباس وشركائه في الفتنة والقتل (مرقس ١٥: ٧) وكان قد حُكم عليهما قبلاً بالموت. فلو قُضي على باراباس بالقتل لصُلب على الأرجح بين ذينك اللصين، فأخذ يسوع مكانه. وكان ذلك إتماماً للنبوة القائلة «أُحصي مع أثمة» (إشعياء ٥٣: ١٢). على أن بيلاطس لم يقصد بذلك سوى الإهانة تهكُماً بأنه ملك، وأنه لا بدَّ من وزيرين لإكرامه وخدمته. وهذا مما زاد عار صلب المسيح وما احتمله من أجلنا لكيلا نُحصى نحن مع الأثمة. فالمكانان اللذان أخذهما اللصان عن يمينه وعن يساره هو ما طلبه سابقاً ابنا زبدي على غير علم (متّى ٢٠: ٢١).

٣٩ «وَكَانَ ٱلْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ».

مزمور ٢٢: ٧، ٩ و١٠: ٢٥ ومرقس ١٥: ٢٩ ولوقا ٢٣: ٣٥

ٱلْمُجْتَازُونَ أي المارون اتفاقاً، أو لمجرد مشاهدة المصلوب، أو بقصد التشفي منه.

يُجَدِّفُونَ أي يشتمون بأقوال مختلفة، وهذا خلاف ما يتوقع من الطبيعة البشرية، لأن آلام ذلك المصلوب كان يجب أن تحرك شفقتهم عليه. وكان المجدفون عليه ثلاث فئات: المجتازون (ع ٣٩)، ورؤساء الكهنة (ع ٤١)، والعسكر (لوقا ٢٣: ٣٦).

ييَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ هزءاً وشماتة (أيوب ١٦: ٤ وإشعياء ٣٧: ٢٢ وإرميا ١٨: ١٦). وكل ذلك ليتم ما أُنبئ به (مزمور ٢٢: ٧ و١٠٩: ٢٥).

٤٠ «قَائِلِينَ: يَا نَاقِضَ ٱلْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱنْزِلْ عَنِ ٱلصَّلِيبِ».

متّى ٢٦: ٦١، ٦٣ ويوحنا ٢: ١٩

يَا نَاقِضَ ٱلْهَيْكَلِ أي يا مدَّعي نقض الهيكل. وتهكموا عليه بذلك بناءً على الشهادة التي أُديت عليه زوراً في أثناء محاكمته في مجلس اليهود (متّى ٢٦: ٦١). وعلى ما قاله مجازاً في بدء تبشيره (يوحنا ٢: ١٩) ولعل الرؤساء كرروا هذه الشكوى على مسامع الجموع عندما عرض عليهم بيلاطس أن يختاروا بين يسوع وباراباس، ليقنعوهم أن يختاروا باراباس دون يسوع، لأن اليهود كانوا يفتخرون بالهيكل كل الافتخار، ويغتاظون من أقل شيءٍ يشينه. وهذه الشكوى هي قولهم «يَا نَاقِضَ ٱلْهَيْكَلِ ..» هي كل ما استطاع أعداء المسيح أن يعيبوه عليه بعد أن نظروا في كل سيرته ثلاثاً وثلاثين سنة. على أنهم لم يستطيعوا إثباتها عليه مع أنهم استأجروا شهود زور لذلك.

خَلِّصْ نَفْسَكَ! فكأنهم قالوا إن من استطاع أن ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام يقدر أن يخلص نفسه، لأن من قدر على الأعظم يسهل عليه الأصغر.

إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ هذا كقول الشيطان للمسيح وقت التجربة (متّى ٤: ٣) وتهكموا عليه بهذا بناءً على دعواه إنه ابن الله عند المحاكمة (متّى ٢٦: ٦٣، ٦٤).

فَٱنْزِلْ عَنِ ٱلصَّلِيبِ علَّقوا تصديقهم أن المسيح ابن الله على نزوله عن الصليب. ولكن إن كانت كل المعجزات التي أجراها في ما يزيد عن ثلاث سنين لم تبرهن لهم صحة تلك القضية، فكيف تثبتها هذه المعجزة الوحيدة؟ نعم إن المسيح لم يفعل لهم هذه المعجزة التي طلبوها، ولكنه أتاهم بأعظم منها، وهي قيامته من القبر، لأن الانتصار على الموت أعظم من الهروب منه بنزوله عن الصليب. وأكثر الناس يشبهون هؤلاء المجدفين، يرغبون في مخلص لا صليب له ولا لأحد من أتباعه.

٤١ «وَكَذٰلِكَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ أَيْضاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَالُوا».

رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ… مَعَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلشُّيُوخِ هم أعضاء مجلس السبعين، وقد أتوا ليفرحوا بمشاهدة آلام عدوهم. فعجباً من شدة بغض هؤلاء للمسيح، فإنهم لم يكتفوا بتسليمه إلى الموت، بل رغبوا في مشاهدة آلامه. ولم يزُل غضبهم عليه بعد موته، بل بقوا يبغضونه ويعيرونه وهو في القبر (متّى ٢٧: ٦٣). وكان على رؤساء الكهنة أن يجتمعوا حينئذٍ في الهيكل ليحتفلوا بالعيد المقدس بدلاً من أن يذهبوا ويقفوا عند الصليب ليشاهدوا آلام المسيح (لا ٢٣: ٧).

٤٢ «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ ٱلآنَ عَنِ ٱلصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ».

خَلَّصَ آخَرِينَ لم يقولوا هذا عن إخلاص، بل كان قصدهم أن يسوع ادَّعى أنه يخلص أجساد الناس من المرض والموت بقوته، وأنه فعل ذلك بمساعدة بعلزبول، وادَّعى تخليص نفوس لكونه المسيح. أو لعلهم لفظوا ذلك استهزاءً باسمه يسوع (أي مخلص) الذي كُتب فوق رأسه على الصليب. وما قالوه تهكماً هو الحق عينه، لأن المسيح جاء إلى الأرض ليخلص آخرين، وخلصهم بموته.

وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا ظنوا عدم تخليصه نفسه هو نتيجة عجزه، واستنتجوا من هذا العجز إن كل معجزاته كانت خداعاً وسحراً.. فما أبعد ظنهم عن الحقيقة، فهو أراد أن لا يخلص نفسه ليخلص آخرين، وليس ممكناً أن يخلص نفسه والآخرين معاً. ولو خلص نفسه لهلك الجنس البشري بأسره (متّى ٢٦: ٥٣، ٥٤)

إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ قالوا ذلك بناءً على دعواه إنه ملك، وبناءً على ما كتب في العنوان من أنه ملك اليهود. على أن يسوع أثبت ببراهين كثيرة أنه ملك إسرائيل. فموته من أجل خطايا العالم أعظم البراهين على ذلك، لأن به تمت النبوات بملكه (إشعياء ٥٣ ودانيال ٩: ٢٤ – ٢٧).

فَنُؤْمِنَ بِهِ كذا ادَّعوا، ولكن لو نزل عن الصليب لبقوا ينكرون دعواه. وتركوا هذا البرهان كما تركوا غيره، بدليل إنهم لم يقتنعوا بقيامته وهي أعظم المعجزات (متّى ٢٨: ١٤، ١٥). هم قالوا: لينزل عن الصليب فنؤمن به، وأما نحن فنقول: آمنا به لأنه لم ينزل عنه. ولو نزل ما استطاع أحدٌ من الناس أن يؤمن به لخلاص نفسه.

٤٣ «قَدِ ٱتَّكَلَ عَلَى ٱللّٰهِ، فَلْيُنْقِذْهُ ٱلآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ٱبْنُ ٱللّٰهِ».

مزمور ٢٢: ٨

أنبأ داود بأنهم سيعيرون المسيح بهذه الكلمات قبل النطق بها بألف سنة (مزمور ٢٢: ٨). وقصدهم بقولهم إنه «ٱتَّكَلَ عَلَى ٱللّٰه» أما إنه خدع نفسه بظنه أنه اتكل عليه، وأما أنه ادعى الاتكال كذباً.

عيَّروه أولاً بأنه ما قدر أن يخلص نفسه، وزادوا عليه هنا أن الله لم يرد أن يخلصه. واتخذوا ذلك حجة قاطعة على أنه ليس ابن الله، لأنه لا يوجد أب يقدر أن يخلص ابنه ويخذل ابنه! ونسوا ما جاء في كتبهم أن المسيح يكون «مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا… وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٤ – ٦). ونسوا ما قاله داود في مزمور ٢٢. وتوهموا أن المسيح ليس ابن الله لأن الله تركه مدة من الوقت. ويتوهم كثيرون أن الذين يتركهم الله في المصاب على الأرض ليسوا أبناء الله بالتبني، كأن المصاب علامات غضب الله عليهم.

٤٤ «وَبِذٰلِكَ أَيْضاً كَانَ ٱللِّصَّانِ ٱللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ».

مرقس ١٥: ٣٢ ولوقا ٢٣: ٣٩

ٱللِّصَّانِ… يُعَيِّرَانِه ابتدأ كلاهما يعيرانه معاً. ولم يذكر متّى ألفاظ تلك التعييرات ولكن ذكرها لوقا. وقال أيضاً إن واحداً منهما تاب بعد ذلك وهو على الصليب، وصلى للمسيح ونال منه مغفرة إثمه والوعد بالدخول إلى الفردوس (لوقا ٢٣: ٣٩ – ٤٣) ومن العجب أن اللصين عيراه، مع أن المتوقع من شركاء المصاب أن يشفق كل منهم على الآخر ويجتهد في تعزيته. ولكن المصائب لا تليِّن القلب ولا تغير الطبيعة الخاطئة، فإن ذلك ليس إلا فعل النعمة الإلهية.

وما أظهره المسيح من الحلم والصبر على تلك التعييرات خير مثال لنا إذا عيَّرنا الناس بغير حق.

وفي تلك الأثناء وكَل يسوع العناية بأُمه إلى يوحنا (يوحنا ١٩: ٢٦، ٢٧).

٤٥ «وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ».

عاموس ٨: ٩ ومرقس ١٥: ٣٣ ولوقا ٢٣: ٤٤

وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ… إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ أي من الظهر إلى العصر.

كَانَتْ ظُلْمَةٌ كانت هذه الظلمة معجزة، لأنه لا يمكن أن تُكشف الشمس إلا والقمر هلال، وكان يومئذٍ عيد الفصح وهو يقع والقمر بدرٌ. وكان لائقاً للطبيعة أن تلبس ثوب الحداد حزناً وتعجباً من إثم الناس الذين صلبوا ذاك الذي هو نور العالم وشمس البر. وكانت تلك الظلمة

(١) إشارة إلى مصارعة يسوع قوات الظلمة الروحية.

(٢) توبيخاً للمجدفين عليه وتسكيتاً موقوتاً لهم عن تعييراتهم، مع أنها لم تؤثر فيهم أكثر مما أثرت الظلمة المصرية في فرعون (خروج ١٠: ٢٢، ٢٧).

(٣) إشارة إلى احتجاب وجه الآب عنه وحرمانه من التعزية السماوية. ولكن تلك الظلمة كانت لا شيء بالنسبة إلى الظلمة التي تكاثفت على قلب المسيح وهو يحمل ثقل خطايا الناس، فجعلته يصرخ «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» (مرقس ١٥: ٣٤).

(٤) إظهاراً لاشتراك الطبيعة مع المسيح في آلامه وفزعها من فظاعة إثم قاتليه.

عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ قُصد بذلك أحياناً اليهودية فقط، وأحياناً أخرى اليهودية وما جاورها من البلاد. ولا نعلم إن كان قد قُصد به كل العالم أو لا. وذكر بعض المؤرخين المسيحيين المصريين حدوث تلك الظلمة، ومنهم ترتيليان وأوريجانوس من آباء الكنيسة. وذكر أيضاً بعض المؤرخين الوثنيين ومنهم فليغون الروماني، فقد قال هذا إن تلك الظلمة حدثت في السنة الرابعة عشرة من ملك طيباريوس، وكانت مما لم يسبق لها نظير في الكثافة، وأن النجوم ظهرت حينئذٍ.

ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَة نفهم من ذلك أن الظلمة زالت بعد هذه الساعة وعاد ضوء الشمس.

٤٦ «وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟».

عبرانيين ٥: ٧ ومزمور ٢٢: ١

وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يتبين أن المسيح بقي ساكتاً في ساعات الظلمة الثلاث.

بِصَوْتٍ عَظِيمٍ هذا دليل على شدة الألم

إِيلِي إِيلِي لفظة عبرانية مكررة اقتبسها يسوع من المزامير (مزمور ٢٢: ١). وقال مرقس إن المسيح قال «إلوي إلوي» وهذا مثل إيلي إيلي، إلا أن مرقس نقله بلفظه السرياني كما نطق به المسيح. وكتب داود المزمور الذي اقتبس يسوع منه تلك اللفظة على آلام نفسه، فكانت ضيقاته وانتصاراته رمزاً إلى ضيقات المسيح وانتصاراته. وما قاله الرؤساء في ع ٤٣ هزءاً بيسوع مقتبس من مزمور ٢٢: ٨. وإلقاء القرعة المذكور في ع ٣٥ مأخوذ من ع ١٨ من ذات المزمور.

وقول يسوع «إِيلِي إِيلِي» هو القول الرابع الذي نطق به على الصليب، ولم يذكره إلا متّى ومرقس، وهما لم يذكرا غيره مما قاله على الصليب.

لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ لم يقل: لماذا سمحت أن يجلدني العسكر ويسمرني على الصليب، وأن يعيرني الناس؟ لكن قال: لماذا تركتني أنت؟ لأن هذا أقسى من كل ما كان في كأس آلامه.

شعر المسيح في شدة آلامه التي احتملها لأجل خطايا العالم بأنه متروك من الله الذي حجَب وجهه عنه باعتبار أنه نائب الخطاة.

وعامله كمذنبٍ ليظهر غضبه على الخطية، وحجب وجهه عن ابنه وقتاً قصيراً لكيلا يحجبه عنا إلى الأبد، كما كان عدله يقتضي لو لم يمت المسيح. وكان احتجاب وجه الآب عن ابنه جزءاً من دَيْن عدله على الخاطئ الذي أوفاه نائبنا مؤدياً ثمن فدائنا، لأنه ذاق الموت عن كل إنسان (عبرانيين ٢: ٩) ولأنه جعل وهو «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (٢كورنثوس ٥: ٢١) وهذا إتمام لقول إشعياء «أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ» (إشعياء ٥٣: ١٠).

ولا ريب أن في ذلك تكرير آلامه في جثسيماني. والأرجح أن الشيطان في ذلك الوقت شدد تجاربه بدليل قول المسيح «هذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣) ولم يصرخ يسوع من آلامه الجسدية بل صرخ من احتجاب وجه أبيه عنه. وإذا كانت نتيجة احتجاب وجه الله عن المسيح ذلك الصراخ الذي لم ينتج عن كل آلامه الجسدية، فكم تكون شدة عذاب الهالكين باحتجاب وجه الله عنهم إلى الأبد. ومع أن يسوع رأى الآب قد تركه فإنه لم يزل واثقاً به بدليل قوله: «إلهي إلهي» لا «الله الله».

والحق أن الله لم يترك يسوع حقيقة، لأنه في ذلك الوقت عينه كان يقوم بالعمل الذي سُرَّ الله بأن يضعه عليه، وأحبه باعتبار كونه ابنه ساعتئذٍ أكثر من كل محبته له فيما مضى، لكنه صرف وجهه عنه باعتبار أنه كفيل الخطاة.

(ذهب كثيرون إلى أن تفسير قوله «إيلي إيلي.. الخ» ليس في الأصل، بل كتبه أحد الناسخين، لأن متّى إنجيله للعبرانيين وهم لا يحتاجون إلى تفسير الكلمات العبرانية).

٤٧ «فَقَوْمٌ مِنَ ٱلْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا».

كان هؤلاء قوم من اليهود لأن العسكر الروماني لا يعرف شيئاً من أمر إيليا. وهناك تشابه بين «الوي» و «إيليا» فربما توهَّم بعض السامعين أنه ينادي إيليا. والأرجح أنهم فهموا قوله، ولكنهم حرفوه للهزء بدعواه أنه المسيح، لأن اليهود توقعوا أن إيليا يأتي قبلما يأتي المسيح، وتظاهروا الآن أنهم يتوقعوا مجيء إيليا إليهم.

٤٨ «وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ».

مزمور ٦٩: ٢١ ومرقس ١٥: ٣٦ ولوقا ٢٣: ٣٦ ويوحنا ١٩: ٢٩

وَلِلْوَقْتِ في نحو هذا الوقت قال يسوع أيضاً «أنا عطشان» (يوحنا ١٩: ٢٢). فجاء أحدهم بالإسفنجة إجابة لقول المسيح. ولعله أتى ذلك من قبيل الشفقة، لأن العطش من علامات شدة الآلام على الصليب (انظر شرح آية ٣٥). ولعله أتى ذلك هزءاً إذ قال هو نفسه «اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!» (مرقس ١٥: ٣٦). وكيف كان قصد ذلك الإنسان بما فعله كان عمله أشرف له من أن يضع التاج على رأس أعظم ملوك الأرض، لأنه إذا كان إعطاء كأس ماء بارد لأحد تلاميذ المسيح الصغار لا يذهب بلا أجر، فبالأولى أن يُثاب من أعطى المعلم نفسه مثل ذلك.

إِسْفِنْجَةً أتى بإسفنجة لأن الحال لم تسمح باستعمال الكأس. ولعل تلك الإسفنجة كانت سدادة لآنية من الخل كان يشربه العسكر.

خَلاًّ أي خمراً حامضاً كان يشربها العسكر إطفاءً للعطش. وكان هذا الخل مثل الخل الذي قُدم له أولاً سوى أنه ليس فيه شيء من المر والمخدرات، وهو مثل ما قدم له العسكر هزءاً به (لوقا ٢٣: ٣٦)

عَلَى قَصَبَةٍ لا حاجة إلى أن يكون طول تلك القصبة أكثر من ذراع لكي يبلغ بها الواقف على الأرض شفتي المسيح. وسمى يوحنا تلك القصبة «زوفا» لأنها كانت من نبات الزوفا.

وَسَقَاهُ فشرب (يوحنا ١٠: ٣٠) إنجازاً للنبوة القائلة «فِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاً» (مزمور ٦٩: ٢١).

٤٩ «وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَقَالُوا: ٱتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ».

ٱلْبَاقُونَ فَقَالُوا: ٱتْرُكْ هذا لا ينافي قول مرقس إن ساقيه قال ذلك أيضاً (مرقس ١٥: ٣٦) ومعناه أنه لا حاجة إلى أن يعطوه شيئاً، لأنه يتوقع إتيان إيليا ليعزيه وينشطه ويقويه. فقال الساقي «إن الذي سقيته يكفيه إلى أن يأتيه حسب توقعه». ويظهر من هذه السخرية أنهم لم يرهبوا شيئاً من ظلمة الساعات الثلاث الماضية. والأرجح أنهم نسبوها إلى علة طبيعية.

٥٠ «فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ».

مرقس ١٥: ٣٧ ولوقا ٢٣: ٤٦

صَرَخَ لم يذكر متّى ما قاله يسوع في صراخه، وهو قوله «قد أُكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠). ولم يذكر متّى قوله الآخر وذكره لوقا (لوقا ٢٣: ٤٦). ولعل ذلك الصراخ كان هتاف الفرح لأنه أكمل عمل الفداء. وصراخه بصوت عظيم عند موته دليل على أنه لم يمت ضعفاً وإعياءً بل أنه كان في تمام قوته.

وكانت أقوال المسيح على الصليب سبعة، ثلاثة قبل الظلمة وأربعة بعدها:

الأول: صلاته من أجل أعدائه (لوقا ٢٣: ٣٤)

الثاني: وعده اللص التائب بالفردوس (٢٣: ٤٣)

الثالث: تكليف يوحنا برعاية العذراء (يوحنا ١٩: ٢٧)

الرابع: صراخه إلى الله عند شدة آلامه (متّى ٣٧: ٤٦ ومرقس ١٥: ٣٤)

الخامس: قوله «أَنَا عَطْشَانُ» (يوحنا ١٩: ٢٨)

السادس: قوله «قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا ١٩: ٣٠)

السابع: تسليمه روحه إلى الله بكل ثقة واطمئنان (لوقا ٢٣: ٤٧)

أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ أي مات. وعبر الإنجيليون كلهم عن موته بهذه العبارة، وهى تعني أنه مات اختياراً، وهذا وفق قوله «إني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها» (يوحنا ١٠: ١٧، ١٨)،وقول النبي «إِنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ» (إشعياء ٥٣: ١٢).ومات في الساعة التاسعة أي وقت تقديم الذبيحة المسائية، بعد ست ساعات من صلبه ونحو ثماني عشرة ساعة من القبض عليه في البستان.

ويندر أن يموت المصلوب بعد وقت قصير كهذا أي في ست ساعات، والغالب أن يموت المصلوب بلا واسطة غير الصلب بعد ٣٦ ساعة. وقد بقى بعض المصلوبين ثلاثة أيام أو أربعة، فظنَّ أكثر المفسرين إنه كان لموته سبب لم يُعهد في المصلوبين. وقال الأطباء إن علة موته سريعاً هو تمزق صمامات القلب بضغط الدم عليها من الصلب وشدة الاكتئاب ومما جرى عليه سابقاً من شدة حزنه في البستان والسهر والجلد وهزء العسكر به. وذلك يوافق قول يوحنا (يوحنا ١٤: ٣٤) إن عسكرياً طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء. ووجود دم وماء في القلب ينتج من تمزُّق صمامات الدم عن سائر أجزاء القلب لأنه ينفصل بذلك مصل.

واحتمل المسيح كل ما احتمله نيابةً عنا، فجُلد لكي نُشفى بحبُره، ودين وهو بارٌ لنتبرر ونحن أثمةن ولبس إكليل الشوك لنلبس إكليل المجد، وعُرِّي من ثوبه ليكسونا ثوب بره، ورُذل وأهين لنكرَم، وأحصي مع الأثمة لنُحصى مع الأبرار، وقبل أن يتَّهم بالعجز عن تخليص نفسه ليخلِّص نفوس الغير إلى التمام، ومات شر الميتات لنحيا إلى الأبد في خير المجد والسعادة. فلا موت ذا أهمية كموته، لأنه أوفى به الدين العظيم الذي لله على الخطاة، وفتح أبواب الحياة لكل المؤمنين، وقام بكل مطالب الشريعة ليكون الله باراً ويبرر الأثمة، وقدم كفارة تامة عن خطايا الناس، وانتصر على الشيطان انتصاراً كاملاً، وأوضح فظاعة الخطية، وبيَّن عظمة محبة الله ورأفته.

٥١ «وَإِذَا حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ».

خروج ٢٦: ٣١ وأيوب ٣: ١٤ ومرقس ١٥: ٣٨ ولوقا ٢٣: ٤٥

حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ هو الحجاب الفاصل بين القدس وقدس الأقداس. وكان من إسمانجوني موشى بذهب، طوله نحو ٢٨ ذراعاً وعرضه نحو ١٤ ذراعاً. ولم يكن يجوز لأحد سوى رئيس الكهنة أن يدخل إلى ما وراءه، وكان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس مرة واحدة في السنة «وليس بِلاَ دَمٍ» (خروج ٢٦: ٣١ و٣٠: ١٠ ولاويين ١٦: ٢ – ١٩ وعبرانيين ٩: ٧)

ٱنْشَقَّ كان انشقاقه في التاسعة التي هي وقت تقديم الذبيحة المسائية، ووقت تبخير الكاهن في القدس أمام الحجاب.

ويشير انشقاق ذلك الحجاب إلى ثلاثة أمور:

موت المسيح في ذلك الوقت عينه، ويوضحه قول كاتب رسالة العبرانيين «طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ» (عبرانيين ١٠: ٢٠). فقد انشق في ذلك الوقت حجابان، حجاب جسد يسوع، وحجاب الهيكل.

نسخ النظام الموسوي وإبطال كل الطقوس التي كانت تشير إلى الكفارة. لأن الكفارة الحقيقية تمَّت بموت المسيح لأنه حمل الله الحقيقي الذي ذُبح، ودخل رئيس الكهنة الأعظم إلى قدس الأقداس السماوية بدم نفسه ليشفع فينا (عبرانيين ٦: ١٩،٢٠ و٩: ١٢، ٢٤). وأُقيمت عبادة روحية بدل العبادة الطقسية، فلا حاجة بعد إلى رئيس كهنة أرضي، ولا إلى رش دم في قدس الأقداس، ولا إلى التبخير في الهيكل. قد أُنجزت كل النبوات بالمسيح وأُكمل عمل الفداء.

إزالة كل حاجز بين الله والإنسان، لأن الحجاب كان يرمز إلى أن طريق الإنسان إلى الله مغلق، وكان شقه إشارة إلى فتح طريق حديث حي يصل به الإنسان إلى الله. وقد بطُل أن يكون قدس الأقداس في أورشليم مكاناً خاصاً لحضور الله بين الناس، وأنه يسوغ لكل إنسان أن يقترب من الله ويقف في محضره الأسنى، لأن قدس الأقداس السماوية فُتح له.

والذين شاهدوا انشقاق الحجاب هم الكهنة دون غيرهم، فأخبروا الآخرين، لأن كثيرين منهم آمنوا بالمسيح (أعمال ٦: ٧). ولا ريب من أن مشاهدتهم ذلك أثرت فيهم كثيراً.

وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ لم يذكر هذه الحادثة وما في العددين الآتيين أحد من البشيرين سوى متّى، وهي ليست زلزلة طبيعية بل خارقة الطبيعية، وهي شهادة إلهية بأمور محسوسة تشير إلى أهمية موت المسيح. واعتبرت الزلازل في الكتاب المقدس في الغالب إنها علامة لحضور الله وقوته (قضاة ٥: ٤ و٢صموئيل ٢٢: ٨ ومزمور ٧٧: ١٨ و٩٧: ٤ و١٠٤: ٣٢ وعاموس ٨: ٩ وحبقوق ٣: ١٠). ولم تكن تلك الزلزلة هائلة أو ضارة ليكون لها ذكر في تواريخ العالم، بل كانت إشارة إلى اشتراك الخليقة الجمادية مع الخلائق الروحية في الانفعالات. وكما أن الشمس في السماء حجبت نورها لكي لا تشاهد آلام المسيح، كذلك الأرض ارتجفت من فظاعة إثم سكانها بصلبهم رب المجد. وكأن ذلك كان جواباً لقول الهازئين بالمسيح «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!» (متّى ٢٧: ٤٠).

وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَت تشقق الصخور مما يحدث كثيراً وقت الزلزلة. وحدوثه عند موت المسيح كان علامة غضب الله، ووعظاً وإنذاراً للناس الذين أظهروا بأعمالهم أن قلوبهم كانت أقسى من الصخور، لأن الصخور تشققت وقلوبهم لم تزل على حالها.

٥٢، ٥٣ «٥٢ وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلرَّاقِدِينَ ٥٣ وَخَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ».

وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ كانت القبور يومئذٍ حفراً في صخور يسد كل منها بحجرٍ كبير، فالزلزلة دحرجت تلك الحجارة عن تلك القبور. وفي ذلك إشارة إلى أن موت المسيح سيكون علة فتح كل القبور، وإبطال سلطة الموت وكسر قيوده.

ٱلْقِدِّيسِينَ سمى الكتاب المقدس بذلك المؤمنين من الأحياء والأموات. والقرينة تبين المعنى هنا. ولم يذكر البشير من هم أولئك القديسون وكم هم، ولا المدة التي عاشوها بعد قيامتهم، ولا كيف انتقلوا من الأرض. فالبحث عن ذلك عبث وليس من ورائه فائدة.

ٱلرَّاقِدِينَ أي الموتى (١كورنثوس ١٥: ١٨، ٢٠ و٢تسالونيكي ٤: ١٥). ووجه الشبه بين موت الأبرار والرقاد هو مثل النوم والراحة بعد التعب والعودة إلى الوجدان في الأجساد. فكما يستيقظ الراقدون هنا في صباح الزمني يستيقظ الراقدون في المسيح في صباح القيامة الأبدي. والأرجح أن الذين قاموا يومئذٍ كانوا ممن ماتوا من عهد قريب، وإلا ما عرف الذين شاهدوهم أنهم كانوا موتى وقاموا. والواقع أنهم عرفوهم كذلك.

خَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ يظهر من هذا أنهم لم يقوموا إلا بعد أن قام المسيح. وظهورهم حينئذٍ برهان على أن المسيح غلب الموت وصار باكورة الراقدين (١كورنثوس ١٥: ٢٠ و٢٣ وكولوسي ١: ١٨). وذكر متّى قيامتهم قبل وقتها ليجمع في مكان واحد كل المعجزات المقترنة بموت المسيح، كعادته في جمع الحوادث المتماثلة بغضّ النظر عن أوقاتها. فانه حدثت زلزلة عند قيامته (متّى ٢٨: ٢) روى لنا نتيجتها مع خبر الزلزلة التي حدثت عند موته

ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ أي أورشليم ودعيت مقدسة لأنه كان فيها هيكل الله المقدس، وكانت مركز العبادة.

وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ لأنهم لو ظهروا لاثنين أو ثلاثة فقط لظنَّ الناس أنهم توهموا ذلك، والأرجح أن الذين شاهدوهم كانوا من تلاميذ المسيح. وظن بعضهم إنهم بقوا أحياء على الأرض مدة الأربعين يوماً التي بقى فيها المسيح على الأرض بعد قيامته، وأنهم صعدوا معه كما قاموا معه.. ولكن لا دليل على ذلك.

٥٤ «وَأَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا ٱلزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ».

ع ٣٦ ومرقس ١٥: ٣٩ ولوقا ٢٣: ٤٧

أَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ هو قائد العسكر الذين صلبوا المسيح وحرسوه

وَٱلَّذِينَ مَعَهُ هم أربعة جنود سخروا أولاً بالمسيح وهو على الصليب (لوقا ٢٣: ٣٦)

مَا كَانَ أي كل ما اقترن بموت المسيح من الحوادث، وهي الظلمة، وصبر المسيح وصلاته من أجل قاتليه، ووعده بالفردوس لأحد المصلوبين معه، وصراخه عند موته، مع الزلزلة عندما أسلم الروح.

خَافُوا جِدّاً لأنهم حسبوا الظلمة والزلزلة من أدلة غضب الله.

وَقَالُوا الأرجح أن القائد قال ذلك أولاً وتبعه الآخرون.

هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ اتهم المسيح بأمرين: التجديف بدعواه أنه ابن الله، وإثارة الفتنة على الدولة الرومانية، وبرره بيلاطس مراراً من الأمر الثاني. واشتكى الرؤساء عليه إلى بيلاطس بالأمر الأول، ولعل القائد كان حاضراً وقتئذٍ وسمع ما قيل. ولا شك أنه سمع أيضاً والأربعة الذين معه قول اليهود الواقفين يستهزئون «إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب» وظنوا في أول الأمر إن دعوى المسيح باطلة، وإنه كان إنساناً فقط ومذنبا أيضاً. ولكن بعدما شاهدوا حوادث الساعة السادسة ومعجزاتها تحققوا إنه لم يكن مثيراً للفتنة ولا مجدفاً ولا إنساناً عادياً، بل إنه أحد الآلهة، وأنه يستحق اللقب الذي ادَّعى به. وذكر لوقا أن هذا القائد قال أيضاً «إن هذا الإنسان كان باراً» أي غير خادع (لوقا ٢٣: ٤٧). فتكون شهادة لوقا كشهادة متّى، لأنه إذا كان غير خادع فهو صادق بدعواه أنه ابن الله.

أثرت معجزات الصلب في أولئك الوثنيين الذين جهلوا أعمال المسيح السابقة وتعاليمه أكثر مما أثرت في رؤساء اليهود الدين حصلوا على وسائط معرفة الحقيقة من جهة المسيح، لأنهم لم يخافوا ولم يقتنعوا. فلا أقسى من قلوب الذين يعلمون الحق ويقاومونه.

وكانت التأثيرات العظمى بعد موت المسيح أربعة:

التأثير في الهيكل بأن شق حجابه

التأثير في الأرض بأن تزلزلت وصخورها تشققت

التأثير في عالم الموت بأن قام الموتى

التأثير الذي يقود للإيمان في قلوب المشاهدين من قائد المئة (لوقا ٢٣: ٤٧) وممن معه من الجند (ع ٥٤) ومن الجموع هنالك (لوقا ٢٣: ٤٨)

٥٥ «وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ».

لوقا ٨: ٢، ٣

نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ وكان معهن بعض معارفه (لوقا ٢٣: ٤٩) ومن جملتهن يوحنا الرسول (يوحنا ١٩: ٣٥). وكانت أم المسيح هنالك في أول الصلب. والأرجح أنها لم تستطع أن تحتمل مشاهدة ابنها يتألم، فسمحت ليوحنا أن يأخذها إلى بيته بعد ما طلب منه المسيح ذلك (يوحنا ١٩: ٢٧) لأنها لم تذكر حينئذٍ مع تلك النساء.

يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ كان وقوفهن بعيداً إما من شدة الحزن، وإما من الخوف، وإما من دفع العسكر إياهن. وكن في أول الأمر عند الصليب (يوحنا ١٩: ٢٥، ٢٦)

تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ شغل سفر يسوع من الجليل نحو ستة أشهر، وهو يجول في برية شرق الأردن

يَخْدِمْنَهُ أي ينفقن عليه من أموالهن (لوقا ٨: ٢)

٥٦ «وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ٱبْنَيْ زَبْدِي».

ص ١٣: ٥٥ ومرقس ١٥: ٤٠

مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ ذكرت هذه المرأة في (متّى ٢٨: ٢ ومرقس ١٦: ١٩ ولوقا ٨: ٢ ويوحنا ٢٠: ١ و١١ – ١٨). وكانت من المجدل، وهي قرية على الشاطئ بحر الجليل الغربي، قرب مدينة طبرية. وكان الرب قد أخرج منها سبعة شياطين.

وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي هي امرأة كلوبا (يوحنا ١٩: ٢٥) وكلوبا هو حلفى (متّى ١٩: ٣)

أُمُّ ٱبْنَيْ زَبْدِي هي سالومة (مرقس ١٥: ٤٠) وابناها يعقوب ويوحنا (متّى ١٠: ٢) ولعلها ذكرت هنالك ما سألت المسيح عنه لولديها (متّى ٢٠: ٢٠). وأنه لو أجابها لذلك لكان ابناها مصلوبين بدل اللصين.

وفي نحو ذلك الوقت أتى اليهود إلى بيلاطس وسألوه أن يستعمل الوسائط لتعجيل موت المصلوبين، لكيلا تبقى أجسادهم معلقة على الصليب إلى الغد. فأمر الجنود بكسر سيقان المصلوبين، فكسروا ساقي اللصين، وطعن أحدهم جنب يسوع لكي لا يبقى شك في موته.

٥٧ «وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ ٱلرَّامَةِ ٱسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ».

ٱلْمَسَاءُ أي المساء الأول، وذلك نحو العصر (انظر شرح متّى ١٤: ١٥) لأن المسيح مات في الساعة التاسعة من النهار.

جَاءَ إلى قصر بيلاطس.

رَجُلٌ غَنِيٌّ كان أكثر تلاميذ المسيح فقراء خلافاً لهذا التلميذ. ولا شك أن الغِنى بركة إذا أراد أربابه أن ينفقوه في سبيل الله.

مِنَ ٱلرَّامَةِ لم يتحقق أي الرامات، لأن الرامات كانت كثيرة في عهد إسرائيل. ولعلها الرامة التي ولد فيها صموئيل النبي (١صموئيل ١: ١٠، ١٩) شمال أورشليم وعلى مسافة نحو ست ساعات منها.

يُوسُفُ كان هذا الرجل «مشيراً شريفاً» أي أحد أعضاء مجلس السبعين (مرقس ١٦: ٢٣). وكان «صالحاً باراً» (لوقا ٢٣: ٥٠). وممن ينتظرون ملكوت الله حسب قول الأنبياء (مرقس ١٦: ٤٣ ولوقا ٢: ٢٥، ٣٨ و٢٣: ٥١) وكان مخالفاً لرفقائه في المجلس بدليل قوله «هذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقًا لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ» (لوقا ٢٣: ٥١)

تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ قال يوحنا «إنه وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَلكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ» (يوحنا ١٩: ٣٨).

٥٨ «فَهٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى ٱلْجَسَدُ».

وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ هذا يقتضي شجاعة عظيمة، لأنه عرَّض نفسه للعار بكونه من تابعي المصلوب. وعرَّضها لخطر الحكومة لأن ما عمله يُعتبر اشتراكاً مع المقتول في ذنبه. ولولا الخوف من ذلك الخطر لربما كان قد طلبه غيره كيوحنا وبطرس وبعض النساء اللواتي خدمنه وهو حي. ولا نستبعد أن يوسف الرامي عُزل من مجلس السنهدريم بسبب ذلك، وأقل ما لحقه من ذلك إنه حرم نفسه بلمسه جثة المسيح من كل احتفالات العيد. وما كان يمكنه أن ينزل جسد المسيح ويدفنه إلا بإذن الوالي، وإنما طلب يوسف ذلك وفقاً لشريعة موسى لأنها أمرت بدفن المعلق على الخشبة في نهار قتله، وحسبت إبقاءه ليلاً بلا دفن تنجيساً للأرض (تثنية ٢١: ٢٢، ٢٣). وكان سبب آخر للرغبة في دفنه نهاراً لأنه كان وقت العيد واليوم الذي صلب فيه كان استعداداً للسبت (يوحنا ١٩: ٣١). واعتاد الرومان أن يتركوا جثث المصلوبين على صلبانهم حتى تفنى أو تأكلها الجوارح، وأما اليهود فاعتادوا أن يطرحوا جثث المصلوبين في حفرة في وادي هنوم، ولذلك سُمي ذلك الوادي «وادي الجثث» وكانوا يطرحون كل أقذار المدينة هنالك. والأرجح أن جثتي اللصين طرحتا هنالك. ولولا طلب يوسف لطُرح جسد المسيح معهما كما كان قصد رؤساء اليهود.

أَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ قال مرقس إن بيلاطس تعجب لما سمع أن يسوع مات سريعاً هكذا، فدعا قائد المئة واستخبره عن ذلك (مرقس ١٥: ٤٤). فلما تحقق إنه مات أذن ليوسف أن يأخذه ليدفنه مع أنه عرف أن ذلك يغيظ رؤساء اليهود. وسمح ليوسف بذلك لأنه كان غنياً شريف النفس والوظيفة. ولعله سمح بذلك طاعةً لضميره أيضاً.

وفي سبق العلم الإلهي أنه سيقوم أناس ينكرون موت المسيح، فكثَّر بعنايته براهين موته، فمنها طعن جنبه بالحربة (يوحنا ١٩: ٣٤، ٣٥)، وإقرار قائد المئة بذلك لبيلاطس (مر١٥: ٤٥). وشهادة رؤساء اليهود أنفسهم في العرض الذي قدموه إلى بيلاطس (ع ٣٦)

٥٩ «فَأَخَذَ يُوسُفُ ٱلْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ».

وأخذ يوسف الجسد: وساعده على ذلك نيقوديموس الذي هو مثله في أنه من أعضاء مجلس السبعين. وهذا أتى بمئة مناً من مزيج مر وعود. ولا شك أنه كان مثل يوسف، لم يوافق رفاقه في حكمهم على يسوع، لأنه خالفهم قبلاً في عزمهم على مقاومة يسوع (يوحنا ٧: ٥٠ – ٥٢).

وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وهذا لا يفعلونه إلا للأغنياء والشرفاء. وكان ذلك الكتان شقة طويلة تحيط بالجسم مراراً. ولا شك أن الأطياب وُضعت على الجسم تحت اللفافة الأولى.

٦٠ «وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي ٱلصَّخْرَةِ، ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ ٱلْقَبْرِ وَمَضَى».

إشعياء ٥٣: ٩

فِي قَبْرِهِ أي القبر الذي أعدَّه يوسف لنفسه. لأنه لم يكن للمسيح قبر كما لم يكن له سرير يوم ميلاده، ولا مسكن في حياته الأرضية. وتم بوضعه في ذلك القبر قول النبي «جُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إشعياء ٥٣: ٩). ولعل معنى قوله «جُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ» هو ما قصده رؤساء اليهود لأنهم أرادوا أن يُطرح جسده في وادي هنوم كأجساد سائر المصلوبين. ومعنى قوله «وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» ما قصده الله إبطالاً لقصد اليهود، بدفن المسيح في قبر يوسف الغني. وكان ذلك القبر في بستان قرب الجلجثة أي مكان الصلب (يوحنا ١٩ : ٤١)

ٱلْجَدِيد كان دفن يسوع في قبر جديد لائقاً به نظراً لمقامه الحقيقي، وضرورياً لرفع كل شك في قيامته لئلا يقال بعدها إن غيره قام. فكل ما تعلق بدفن المسيح كان من إكرامه الإكرام الواجب له.

نَحَتَهُ فِي ٱلصَّخْرَةِ كون ذلك القبر منحوتاً في صخرة يدفع اعتراضهم بعد ذلك أن أصحابه سرقوه، بدعوى أن العسكر كانوا يحرسون باب القبر من جانب، فرفع تلاميذه الحجارة من الجانب الآخر!

دَحْرَجَ حَجَراً الخ كانت هيئة ذلك الحجر كهيئة حجر الرحى نحتوا لها قدام القبر طريقاً يرتفع جانبها الأبعد من القبر قليلاً دفعاً للحجر من السقوط عن القبر، ودحرجوه عن محيطه إلى الطريق المنحوتة أمام القبر لسد بابه تماماً.

٦١ «وَكَانَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ ٱلأُخْرَى جَالِسَتَيْنِ تُجَاهَ ٱلْقَبْرِ».

مَرْيَمُ ٱلأُخْرَى هي أم يعقوب ويوسي التي ذكرت في العدد ٥٦ (مرقس ١٥: ٤٦). وكانت هذه مع رفيقتها المجدلية جالستين هنالك لتشاهدا كل ما يحدث، ولم تذهبا إلا بعد ذهاب الجميع. اقتصر متّى على ذكر هاتين المرأتين، وأما لوقا فذكر النساء ولم يعين عددهن ولا أسماءهن وقال «رَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطًا وَأَطْيَابًا» بغية اكتمال تحنيطه بعد مضي السبت (لو ٢٣: ٥٥، ٥٦)

٦٢ «وَفِي ٱلْغَدِ ٱلَّذِي بَعْدَ ٱلاسْتِعْدَادِ ٱجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ».

ٱلاسْتِعْدَادِ شاع هذا الاسم عند اليهود لليوم السادس من كل أسبوع لأنه كان استعداداً لليوم الذي يليه وهو السبت. فكانوا يعدون فيه ما يلزم من المأكل والمشرب والوقود وغيرها من لوازم السبت. وكان أول السبت مغرب الجمعة. وقوله «الغد» في هذه الآية يحتمل معنيين. الأول مساء الجمعة بعد الغروب، والثاني صباح السبت، لأن هذا الغد كان يوم السبت وهو من مغرب الجمعة إلى مغرب السبت. ولا شك أن المعنى هنا مساء الجمعة، لأن الرؤساء لم يمكنهم أن يتركوا القبر بلا حراس ليلة واحدة لشدة خوفهم من أن تلاميذه يسرقون جسده.

ٱجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ الخ أي أعضاء المجلس الكبير وهؤلاء مع أنهم نالوا مأربهم من قتل المسيح لم يزالوا مهتمين بأمره، لأن اجتماعهم في غير وقته أي في يوم السبت دليل على اضطراب أفكارهم.

٦٣ «قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذٰلِكَ ٱلْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ».

متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٣ و٢٠: ١٩ و٢٦: ٦١ ومرقس ٨: ٣١ و١٠: ٣٤ ولوقا ٩: ٢٢ و١٨: ٣٣ و٢٤: ٦، ٧ ويوحنا ٢: ١٩

تَذَكَّرْنَا كان هؤلاء الرؤساء يرسلون جواسيس ليراقبوا يسوع وينقلوا إليهم كل كلمة يسمعونها منه (لوقا ٢٠: ٢٩)

ٱلْمُضِلَّ كانوا يتهمونه بأنه يضل الشعب (يوحنا ١٧: ١٢). ومن الغريب أنهم لم يستحوا من ذمِّهم في يسوع بهذه النميمة أمام بيلاطس مع أنهم سمعوا تصريحه مراراً ببراءته. واتخذوا أمامه عدم إنقاذ الله ليسوع من الموت دليلاً على كذب دعواه.

بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ الظاهر أنهم فهموا هذا من قول يسوع «انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا ٢: ١٩). مع أنهم ادعوا في محكمتهم أن معناه غير ذلك. ولعلهم استنتجوه أيضاً من قول يسوع للكتبة «كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (متّى ١٢: ٤٠). والأعجب أنهم فهموا هذا المعنى من كلام المسيح مع أن الرسل لم يفهموه يوم قاله، وأنهم ذكروه حين كان يوحنا وبطرس قد نسياه. فالحسد والبغض ينبهان أفكار الناس أحياناً أكثر من الصداقة والمحبة على أن عرض رؤساء اليهود لبيلاطس ما ذكر شهادة بأن المسيح أنبأ قبل موته بقيامته بعد ثلاثة أيام.

٦٤ «فَمُرْ بِضَبْطِ ٱلْقَبْرِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ ٱلضَّلاَلَةُ ٱلأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأُولَى».

مُرْ بِضَبْطِ ٱلْقَبْرِ أي اختمه واحرسه بالعسكر

إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِث استعمالهم هذه العبارة بدل العبارة التي استعملوها في الآية السابقة وهي قولهم «بعد ثلاثة أيام» دليل على أنهم أرادوا بالعبارتين معنى واحداً، أي أنهم لم يقصدوا بقولهم «بعد ثلاثة أيام» ٧٢ ساعة بل يوماً كاملاً بين جزئين من يومين. وما قصدوه بذلك هو عين ما قصده المسيح.

يَسْرِقُوهُ أي يأخذوا جسده خفية. ويظهر من قولهم هذا عمى قلوبهم من البغض والحسد والكبرياء، حتى إنهم لم يظنوا إمكان قيامته، وإلا ما ظنوا أن ختم الوالي وحراسة العسكر يمنعانها.

ٱلضَّلاَلَةُ ٱلأَخِيرَة اتهموا المسيح إنه مضل وأرادوا بالضلالة الأولى قوله «بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ» (ع ٦٣). وبالضلالة الأخيرة قول تلاميذه بعد أن يسرقوه «إِنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَات»وقولهم «ٱلضَّلاَلَةُ ٱلأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأُولَى» دليل على أن شهادة الرسل بقيامة المسيح تثبت صحة كل ما ادَّعاه أكثر من كل تعليمه ومعجزاته

٦٥ «فَقَالَ لَـهُمْ بِيلاَطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَٱضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ».

يظهر لنا من قول بيلاطس أنه كانت فرقة من العسكر تحت أمر رؤساء الكهنة في وقت العيد، فأذن لهم أن يستخدموها لحراسة القبر. أو أنه كتب أمراً بتعيين جماعة من الجند لتلك الحراسة وأعطاهم إياها عند قوله «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ» أي أمرت لكم بذلك. ولا يبعد أن يكون من عينوا لحراسة القبر هم الذين عينوا لحراسة يسوع على الصليب. ومما يثبت أن الذين عُينوا كانوا من الجند الروماني أنهم عندما قام المسيح ذهبوا إلى رؤساء الكهنة وأخبروهم بما كان (متّى ٢٨: ١١) وأنهم مسؤولون لبيلاطس (متّى ٢٨: ١٤). وموافقة بيلاطس على طلب الرؤساء تدل على رغبته في إرضائهم، وأن ضميره لم يؤنبه على تسليم البريء إلى الموت.

٦٦ «فَمَضَوْا وَضَبَطُوا ٱلْقَبْرَ بِٱلْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا ٱلْحَجَرَ».

دانيال ٦: ١٧

ضَبَطُوا ٱلْقَبْرَ كل ما أتاه الرؤساء من الوسائط لمنع انتشار الخبر الكاذب بالقيامة صار أثبت برهان على صحة وقوعها، لأنه بذلك لم يبقَ محل للخداع، ولا إمكان لظن بوقوعه.

بِٱلْحُرَّاسِ الأرجح أنهم كانوا ستة عشر، يسهر في كل مخفر أربعة منهم كما كان في سجن بطرس (أعمال ١٢: ٤).

خَتَمُوا ٱلْحَجَرَ الأرجح أنهم لصقوا طرف خيط بالشمع الأحمر على صخرة القبر وطرفه الآخر بحجر الباب، وختموا شمع الطرفين. وأن الخاتم الذي ختموا به كان خاتم بيلاطس أعطاه لقائد العسكر. فكان نزع الختم به خيانة توجب القتل على مرتكبها. وحدث مثل هذا يوم وُضع دانيال في جب الأسود (دانيال ٦: ١٧).

فالاحتياطات التي اتخذت لمنع الخداع وسرقة الجسد ثلاثة: أي كون الحجر ثقيلاً، ووجود الختم، والحراس.

دخل يسوع القبر كما يدخله كل الناس على الرغم منهم. ولكن دخول المسيح إياه جعل ما كان مظلماً منيراً لتابعيه. ومكثه مدةً تحت سلطان الموت جزءٌ من اتضاعه ليفدي البشر (رومية ١٤: ٩) و «يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ٢: ١٧).

السابق
اللاحق
زر الذهاب إلى الأعلى