إنجيل متى | 26 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح السادس والعشرون
ذكر متّى في هذا الأصحاح أربعة أمور جهَّزت الطريق لصلب المسيح، وهي إنباء المسيح عن موته (ع ١، ٢)، ومؤامرة الرؤساء عليه (ع ٣ – ٥)، ودهن مريم إياه لتكفينه (ع ٦ – ١٣)، وتعهُّد يهوذا بتسليمه (ع ١٤ – ١٦). ولم يذكر متّى هذه الأمور حسب ترتيب وقوعها.
١ «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ».
هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ كُلَّهَا أي ما قاله لتلاميذه على جبل الزيتون (في متّى ٢٤، ٢٥) عندما أجاب على سؤال أربعة منهم (مرقس ١٣: ٣). ويظهر من هذا العدد ومن أسلوب التعليم أن أقوال المسيح هنا موجَّهة إلى الكل لا إلى الأربعة الذين سألوه. وهي أقوال تتعلَّق بممارسته لوظيفته النبوية. وما بقي من بشارة متّى يتعلق بممارسته لوظيفته الكهنوتية بآلامه وموته.
٢ «تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ ٱلْفِصْحُ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ».
مرقس ١٤: ١ الخ ولوقا ٢٢: ١ الخ ويوحنا ١٣: ١
تَعْلَمُونَ لم يقصد المسيح أن يعرِّفهم بموعد الفصح، فهُم يعرفونه، لكنه قصد أن يخبرهم بتسليمه إلى الموت حينئذٍ حسبما أنبأهم به في متّى ٢٠: ١٨.
بَعْدَ يَوْمَيْنِ كان الوقت الذي تكلم فيه مساء الثلاثاء أي ليلة الأربعاء فيكون هذان اليومان الأربعاء والخميس إلى مسائه، الذي هو أول يوم الجمعة ووقت أكل الفصح.
ٱلْفِصْحُ أي عيد اليهود الأعظم، أُمروا به في خروج ١٣. والفصح كلمة عبرانية معناها «العبور» إشارةً إلى عبور الملاك المُهلك عن بني إسرائيل حين قتل أبكار المصريين. وكانت مدة العيد ٧ أيام من ١٥ نيسان إلى ٢١ منه (لاويين ٢٣: ٥) ولم يجز اليهود أن يأكلوا في تلك المدة كله من الخبز سوى الفطير، ولذلك سُمي أيضاً عيد الفطير. واقتضت ممارسة الفصح خمسة أمور:
(١) ذبح الخروف، و
(٢) رش الدم على قائمتي باب وعتبةِ بيت المعيِّد، و
(٣) شيّ الخروف صحيحاً من دون أن يُكسر عظم منه. وفي شيِّه رمزٌ إلى آلام المسيح من أجلنا (يوحنا ١٩: ٣٦ و١كورنثوس ٥: ٧)، و
(٤) أكله مع الخبز الفطير والأعشاب المرة، و
(٥) عدم إبقاء شيءٍ منه إلى الصبح.
واتَّفق اليهود أن لا ينقص عدد آكلي خروف الفصح في بيت واحد عن عشرة، وأن لا يزيدوا عن العشرين. فإن لم يبلغ سكان البيت الواحد العشرة اشترك بيتان في خروف واحد. وكانوا يأكلون الفصح في أول فرصة بسرعة، وأحقاؤهم ممنطقة، وأحذيتهم في أرجلهم، وعصيُّهم في أيديهم، إشارةً إلى خروجهم من مصر. والظاهر أن ذلك أُهمل قبل مجيء المسيح. وكانوا يجهزون الخروف في عاشر الشهر (خروج ١٢: ١ – ٦) وهذا أُهمل كذلك. واكتفوا في أيام المسيح برش الكهنة الدم في الهيكل في وقت ذبح الخروف عوضاً عن رشهم إياه في البيت كما أمرهم موسى. واستعملوا في أيام المسيح الخمر مع الخروف وهو ما لم تأمرهم الشريعة به. وكيفية أكل الفصح في أيام المسيح كانت كما يأتي:
يبدأون بشُرب كأس خمر ممزوجة بماءٍ بعد تقديم الشكر لله، وسُمِّيت هذه الكأس بالكأس الأولى. وبعد هذا يغسلون أيديهم ويقدمون شكراً مختصراً لله. ثم يضعون على مائدة الفصح هذه الأطعمة: الأعشاب المُرة والخبز الفطير والخروف وخليط التمر والزبيب والتين واللوز في الخل، فيأكلون أولاً قليلاً من الأعشاب المرَّة مع شكرٍ آخر، ثم يرفعون كل الأطعمة عن المائدة ويقدمون لكلٍّ كأساً كالأولى. وقيل إن علة رفع تلك الأطعمة جعل الأولاد يسألون عن سبب ذلك العيد (انظر خروج ١٢: ٢٦، ٢٧).
وكان رئيس المتكأ يبدأ حينئذٍ يروي لهم نبأ عبودية اليهود في مصر وأخبار نجاتهم وسبب فرض عيد الفصح. ثم يردّون الأطعمة إلى المائدة، ويقول رئيس المتكإ «هذا هو الفصح، فلنأكل لأن الرب فصح (عبر) عن بيوت آبائنا في مصر». ثم يرفع بيده بعض الأعشاب المرة ويقول «هذا إشارة إلى مرارة العبودية المصرية». ثم يرفع شيئاً من الفطير ويقول «هذا إشارة إلى سرعة نجاتهم» ثم يتلو مزموري ١١٣ و١١٤ ويصلي صلاة مختصرة، ويشرب كل واحد الكأس التي وُضعت قدامه وتُسمّى «الكأس الثانية». ثم يغسلون أيديهم ثانية ويأكلوا الفصح، ثم يغسلون أيديهم ويشربون كأس خمر سموها «كأس البركة» لأن رئيس المتكإ كان يقدم شكراً خاصاً مع شربها لله على صلاحه. وهذه هي الكأس هي التي يُظن أن المسيح أخذها لما رسم العشاء الرباني، وسماها بولس «كأس البركة» (١كورنثوس ١٠: ١٦). ثم يشربون كأساً أخرى عند الانصراف سُميت «الهلل» أي التهليل، لأنهم كانوا يهللون لله عند شربها بتلاوة مزمور ١١٥ – ١١٨. وبحسب هذه العادة رتل المسيح وتلاميذه قبل انصرافهم إلى جبل الزيتون. وكانوا أحياناً يرنمون «الهلل الأكبر» بتلاوة مزمور ١٢٠ – ١٣٨ وكانوا يجمعون ما بقي من الخروف ويحرقونه.
وجاءت لفظة الفصح في الإنجيل بثلاثة معانٍ: (١) خروف الفصح نفسه (مرقس ١٤: ١٢ ولوقا ٢٢: ٧)، و(٢) الخروف والعشاء (متّى ٢٦: ١٧ ومرقس ١٤: ١٤ ولوقا ٢٢: ١١)، و(٣) كل عيد الفطير، وهو المقصود هنا وفي لوقا ٢٢: ١ ويوحنا ٢: ١٣ و٦: ٤ و١١: ٥٥ و١٢: ١ و١٣: ١.
والفصح المذكور في الآية التي نفسرها هو الرابع في أيام خدمة المسيح. ذكر الأول في يوحنا ٢: ٢٣ والثاني في يوحنا ٥: ١ والثالث في يوحنا ٦: ٤ والرابع في آيتنا وفي يوحنا ١٣: ١.
يُسَلَّمُ أنبأهم قبلاً بأنه يسلم وعيَّن لهم هنا وقت التسليم بأنه يكون بعد يومين، أي في العيد.
لِيُصْلَبَ انظر شرح متّى ٢٧: ٣٥.
٣ «حِينَئِذٍ ٱجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ ٱلشَّعْبِ إِلَى دَارِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ ٱلَّذِي يُدْعَى قَيَافَا».
حِينَئِذٍ ٱجْتَمَعَ أي أعضاء مجلس السبعين. والأرجح أن اجتماعهم كان بعد خروج المسيح من الهيكل، وهو الذي ذُكر في متّى ٢٤: ١. وربما تآمروا عليه وهو يتكلم مع تلاميذه بما ذُكر في متّى ٢٤، ٢٥.
رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ أي رؤساء الفرق الأربع والعشرين التي قُسم الكهنة إليها (١أيام ٢٤: ١ – ١٩).
ٱلْكَتَبَة حفظة الكتب المقدسة ومفسروها.
شُيُوخُ ٱلشَّعْبِ أي نوابه في المجلس الكبير. وكان الحبر الأعظم رئيسه.
دَارِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ أي الحبر الأعظم. كان من عادة أعضاء ذلك المجلس أن يجتمعوا في إحدى ديار الهيكل، لكن كان يجوز أن يجتمعوا في دار رئيس الكهنة. ولعل غاية اجتماعهم في تلك الدار في ذلك الوقت إخفاء مشورتهم عن الشعب لأن ديار الهيكل كانت تغصُّ بالناس في أيام الفصح.
وأما وظيفة رئيس الكهنة فأول من تولاها هو هارون (خروج ٢٨). وكان يرثها الأكبر من سلالته في القرون الأولى من تاريخ بني إسرائيل (عدد ٣: ١٠). ولما استولى عليهم ملوك اليونان (نحو ١٦٠ سنة ق م) أخذوا يبيعون تلك الوظيفة لمن يدفع الثمن الأوفر. وبعدما استولى الرومان عليهم أخذوا يعزلون الرئيس ويقيمون غيره كما يشاؤون بقطع النظر عن الأهلية والكفاءة. وجرت هذه العادة منذ عصر هيرودس الكبير إلى زمان خراب أورشليم، وبلغ عدد الذين تداولوها ثمانية وعشرون في ١٠٧ سنة، ذُكر في الإنجيل ثلاثة منهم، هم حنان وقيافا وحنانيا. وكان يُلقب كل من أخذ تلك الوظيفة برئيس الكهنة ويجلس في المجلس الكبير طول حياته ولو عُزل.
قَيَافَا واسمه يوسف أيضاً كما قال يوسيفوس المؤرخ، وهو من الصدوقيين، وكان صهر حنان الذي تولى تلك الوظيفة قبله، ولم يزل يلقب برئيس الكهنة بعد انتقال الوظيفة إلى صهره (لوقا ٣: ٢ وأعمال ٤: ٥، ٦). وكان قيافا رئيساً للكهنة في سنة ٢٦ – ٣٦ م. ثم عزله فيتاليوس القائد الروماني بعد ست سنين من صلب المسيح.
٤ «وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ».
مزمور ٢: ٢ ويوحنا ١١: ٤٧ وأعمال ٤: ٢٥ الخ
بِمَكْرٍ لأنهم لم يجسروا أن يفعلوا ذلك علانية. لقد قصدوا أن يقتلوا يسوع منذ أن أقام لعازر (يوحنا ١١: ٥٣) ومنعهم عنه قبلاً خوفهم من الشعب، لأن الكثيرين حسبوه نبياً (لوقا ٧: ١٦) وتأثروا كثيراً بتعاليمه (لوقا ٢١: ٣٨).
٥ «وَلٰكِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ فِي ٱلْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي ٱلشَّعْبِ».
خروج ١٢: ١٦
لَيْسَ فِي ٱلْعِيدِ الخ كذا قصدوا أولاً بناءً على معرفتهم كثرة عدد المجتمعين في العيد، لأنهم لم ينقصوا في بعض السنين عن ثلاثة ملايين، ولعلمهم بكثرة عدد الجليليين بينهم، وهم الذين أخذ المسيح تلاميذ وأصدقاء كثيرين منهم. ولعلهم ذكروا الاحتفال الذي كان للمسيح عند دخوله المدينة منذ يومين، فخافوا أن يقوم عليهم أولئك الأصدقاء إذا هم قبضوا عليه علانية وقتئذٍ. ولكن خيانة يهوذا عدلت بهم عن ذلك القصد، لأنه أراهم طريقاً يمسكونه بها خفية فلا يكون شغب. وفي هذا بيان لتتميم الله مقاصده بالرغم من الأشرار، فإنه شاء أن يكون موت المسيح في وقت العيد لينتشر نبأ ذلك عن طريق كثرة المشاهدين، وليقترن موت المسيح بذبح خروف الفصح.
٦ «وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ ٱلأَبْرَصِ».
متّى ٢١: ١٧
بَيْتِ عَنْيَا في سفح جبل الزيتون الشرقي، وتُعرف اليوم باللعازرية، وهي تبعد نحو ثلاثة أرباع الساعة مشياً عن أورشليم، وهي وطن مريم ومرثا ولعازر، المكان الذي اعتاد المسيح أن يتردد عليه (لوقا ١٠: ٣٨ – ٤١ ومرقس ١١: ١١، ١٢) وكان في الأسبوع الأخير من حياته الأرضية يعلّم في الهيكل في النهار ويخرج في الليل ليبيت في جبل الزيتون (لوقا ٢٢: ٣٥). ويظهر من كلام متّى في آية الشرح وكلام البشيرين الآخرين أن الموضع الذي كان يبيت فيه هنالك هو بيت عنيا. ومن تلك القرية عينها صعد إلى السماء (لوقا ٢٤: ٥٠).
بَيْتِ سِمْعَانَ ٱلأَبْرَصِ إن كان سمعان أبرص بالفعل وكان حياً، فلا يمكن أن يحضر معهم، لأن شريعة موسى تمنعه من ذلك. وربما شفاه المسيح وبقي ملقباً بما كان عليه. وربما مات وبقي بيته يُنسب إليه. وظن البعض أنه أبو مريم ومرثا ولعازر، وظنه آخرون نسيباً لتلك العائلة، وأن العائلتين كانتا في بيته بناءً على قول يوحنا «صَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ، وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ» (يوحنا ١٢: ٢). ولكن لم يخشَ يوحنا ذلك لأنه كتب إنجيله بعد خراب أورشليم حين لم يكن خطر عليهم.
٧ «تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ ٱمْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيرِ ٱلثَّمَنِ، فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ».
مرقس ١٤: ٣ الخ ويوحنا ١١: ١، ٢ و١٢: ٣ الخ
ٱمْرَأَةٌ قد تكون مريم أخت مرثا ولعازر. ويجب هنا أن يميز بين هذه المرأة والمرأة التي ذكرها لوقا في متّى ٧: ٣٦ – ٣٨ لأن تلك كانت في الجليل وهذه في بيت عنيا، وتلك كانت خاطئة مشهورة وهذه شهد لها المسيح بأنها اختارت النصيب الصالح، وتلك كانت في بيت سمعان الفريسي وهذه كانت في بيت سمعان الأبرص، وتلك دهنته في أول تبشيره وهذه دهنته في نهاية ذلك التبشير.
قَارُورَةُ في الأصل اليوناني هي وعاءٌ من رخام لين أبيض شفاف، استعمله القدماء كثيراً للأطياب الثمينة، ثم أطلقت على كل قنينة، سواء كانت من رخام أم من معدن أم زجاج. وكانت القوارير غالباً ذوات أعناق طويلة يسدون أفواهها بالطفال. فإذا أرادوا سكب الطيب منها كسروا العنق أو الطفال (مرقس ١٤: ٣).
طِيبٍ قال مرقس ويوحنا إن ذلك كان طيب ناردين (مرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١٢: ٣) وهو أثمن ما عُرف يومئذٍ من الأطياب. كانوا يأتون به من بلاد الهند ويستخرجونه من نبات هناك. وهو سائل كالزيت ذو رائحة ذكية (نشيد الأنشاد ١: ١٢ و٤: ١٣، ١٤). وكان أغنياء الأقدمين يتطيبون به. وقال يوحنا إن مريم أتت بمناً من ذلك الطيب (يوحنا ١٢: ٣) وهو في اليوناني «لتراً» وهو وزن يوناني وروماني يعادل مئة درهم. وقال أيضاً «امْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ» (يوحنا ١٢: ٣).
كَثِيرِ ٱلثَّمَنِ قال يهوذا إن قيمته تساوي ٣٠٠ دينار (يوحنا ١٢: ٥) وذلك نحو ١٠ جنيهات ذهبية، وكان الدينار وقتها أجر الفاعل في النهارً (متّى ٢٠: ٩). فيكون ثمن طيب تلك القارورة يعدل أجرة الفاعل سنة كاملة، بعد حذف الأيام التي لا يجوز العمل فيها. وهذا دليل على أن عائلة مريم كانت غنية حتى استطاعت تحمُّل مثل تلك النفقة.
سَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ ويظهر من نبأ يوحنا أنها دهنت رجليه أيضاً ومسحتهما بشعرها. وكان دهن الرأس مألوفاً، وأما دهن القدمين فلم يكن كذلك، فهو دليل على تواضعها.
وَهُوَ مُتَّكِئٌ اعتاد الناس في أيام المسيح أن يتكئوا على الأسرَّة عند الأكل كما أوضحنا في شرح متّى ٢٠: ٦. وهذا الاتكاء سهَّل لمريم الوصول إلى رأسه وإلى قدميه. وقصدت مريم بذلك إكرام يسوع لاعتقادها أنه المسيح، ولإظهار شكرها لإقامته أخاها لعازر من الموت. ومثل هذا الإكرام يليق تقديمه لأعظم الملوك.
٨، ٩ «٨ فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذٰلِكَ ٱغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هٰذَا ٱلإِتْلاَفُ؟ ٩ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هٰذَا ٱلطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ».
يوحنا ١٢: ٤ الخ.
فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذٰلِكَ ٱغْتَاظُوا يظهر أن أصل هذا التذمر هو يهوذا (يوحنا ١٢: ٥) وهو أول ما ذُكر من كلامه في الإنجيل «قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ» (يوحنا ١٢: ٦) فلو وصلت يده إلى ذلك المبلغ لسرق بعضه. وحمل تذمرُه غيرَه من التلاميذ على تكرير ما قاله هو. وكثيراً ما نشاهد أن تذمر جماعات كثيرة ينشأ من إنسان واحد وينتشر إلى غيره كنار في الحصيد. فعلى المسيحيين أن يعلموا أن الكثيرين سيتذمرون على أعمالهم الخيرية، لأنهم يجهلون غايتها.
هٰذَا ٱلإِتْلاَفُ لم يرَ التلاميذ فائدة أو منفعة من بذل ذلك الطيب بتلك الطريقة، لأنهم حسبوه إتلافاً وتبذيراً. كذلك كثيراً ما يحسب أهل العالم ما يبذله المسيحيون من الأموال في سبيل بشرى الخلاص بين الوثنيين إتلافاً وتبذيراً. والحق أن لا شيء مما نقدمه للمسيح هو إتلاف مهما كان ثميناً، كصرف الحياة في خدمته في البلاد البعيدة، أو بذلها من أجله كما بذلها الشهداء. ولا حقَّ لأهل العالم أن يتذمروا على المسيحيين بذلك لأنه لا يحق لكل مسيحي أن ينفق ماله كيف شاء كما يحق للعالمي أن يتصرف بماله كما يريد.
يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ أصل هذا الاعتراض من يهوذا لأنه لم يكن يبالي بالفقراء إنما اتخذ ذلك حُجة للتذمر (يوحنا ١٢: ٦). وكثيراً ما يستر الأشرار مقاصدهم السيئة بحجاب التقوى.
١٠ «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا تُزْعِجُونَ ٱلْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً».
فَعَلِمَ يَسُوعُ أي علم كل ما يتعلق بذلك التذمر كالذي ابتدأه، والدواعي التي دعته إليه.
وَقَالَ لَـهُمْ كلم يسوع الجميع لكن كلامه كان توبيخاً ليهوذا الإسخريوطي على الخصوص. ويهوذا نفسه شعر بذلك وزاد عزمه على ما أضمره من الخيانة، كما تدل عليه القرينة في العدد ١٤ ومما قيل في مرقس ١٤: ١٠.
لِمَاذَا تُزْعِجُونَ ٱلْمَرْأَةَ؟ كان ذلك التذمر بالحقيقة على المسيح، كأنه لا يستحق ما فعلته تلك المرأة من إكرامه. وكأن له الحق أن يوبخهم على ذلك، لكنه لم يهتم إلا بانزعاج أفكار مريم. ولا ريب في أنها انزعجت من كلامهم «لأنهم كانوا يلومونها» (مرقس ١٤: ٥).
عَمَلاً حَسَناً حكم المسيح بحسن عملها لعلمه بحسن نيتها، لأنها فعلت ذلك احتراماً له، ولأنه كان موافقاً لمقتضى الحال، أي أنه كان جزءاً من تكفينه. هذا ما رآه المسيح، وأما الرسل فنظروا إلى عدم النفع الظاهر من عملها، فحكموا بخلاف ما حكم هو به. على أن إنفاقها ذلك على المسيح خير من إنفاقها إياه على ما تتحلى به أو تزين به بيتها، بل خير من انتفاع الفقراء الوقتي به.
١١ «لأَنَّ ٱلْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».
تثنية ١٥: ١١ ويوحنا ١٢: ٨ ومتّى ١٨: ٢٠ و٢٨: ٢٠ ويوحنا ١٣: ٣٣ و١٤: ١٩ و١٦: ٥، ٢٨ و١٧: ١١
لأَنَّ ٱلْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ دفع المسيح اعتراضهم كأنهم أتوا به عن إخلاص. ولم يوبخ مُنشئ ذلك الاعتراض على ريائه. فذكر الاعتناء بالفقراء كأنه واجبٌ كل يوم على كنيسته إلى نهاية الزمان. وذلك موافق لما قيل في مزمور ٤١: ١ وأمثال ١٤: ٢١ و٢٩: ٧ وغلاطية ٢: ١٠.
وَأَمَّا أَنَا فَلَسْت الخ أي أن فرص إكرام جسده قاصرة على الزمن الحاضر، لأنه على وشك الموت والصعود إلى السماء، وعدم إقامته بالجسد في الأرض بعد.
١٢ «فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هٰذَا ٱلطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ ذٰلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي».
بيَّن المسيح هنا سبب حكمه بحُسن عمل مريم وخطإ تذمر التلاميذ، وكان اليهود ينفقون الكثير على تحنيط الموتى (يوحنا ١٩: ٣٩) واعتبروا هذا من الفضائل الواجبة، فقال المسيح إن ذلك الإنفاق كان لتكفينه، فلا داعي للاعتراض. ولا بد أم التلاميذ تعجبوا من كلامه وحزنوا وخجلوا، لأنهم لم يذكروا أن المسيح سيموت مع أنه أنبأهم بذلك مراراً (متّى ٢٠: ١٩ ولوقا ١٨: ٣١، ٣٢).
ظن البعض أن مريم قصدت بما عملت أن يكون جزءاً من تكفين المسيح، لأنها سمعت أنه سيموت صلباً، وحسبت أنه لا يكون لها فرصة لذلك بعد موته، فسبقت إليه قبل أن يموت. فإن صحَّ هذا الظن يكون أنها أدركت ما لم يدركه أحدٌ من الرسل. وظن آخرون (وهو الأرجح) أنها لم تقصد بذلك سوى إكرام للمسيح، وأن المسيح نسب إلى عملها معنىً لم تقصده. نعم أنها عملت حسناً ولكن عملها كان أحسن مما حسبته. ومهما كان الظن فقد قصد الله أن يكون دهن المسيح استعداداً لدفنه، وجعل مريم واسطة ذلك.
١٣ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهٰذَا ٱلإِنْجِيلِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هٰذِهِ تِذْكَاراً لَهَ».
ٱلْحَقَّ قال هذه الكلمة تنبيهاً لهم لِما سيقوله.
هٰذَا ٱلإِنْجِيلِ هو بشارة خلاص للعالم بموت المسيح. وحقق المسيح للتلاميذ أنه حيث امتد خبر ما فعله هو لأجل خلاص البشر يُروَى ما عملته مريم له، وهذا أعظم ثواب.
فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ هذا تنبؤ بانتشار الإنجيل في كل الأرض.
يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هذه نبوءة غريبة تبيَّن صدقها منذ نحو ألفي سنة. فلو لم يكن المسيح ابن الله لاستحال أن يعلم أن عمل امرأة في بيت عنيا سيُذكَر بعد ألوف من السنين، ويُترجم خبره في كل لغات العالم جزاءً على ما عملته له.
ولم يوجد ملك في العالم مهما كان مقتدراً استطاع أن يحقق دوام ذكر عملٍ يتعلق به. ولا ريب أن مريم سرَّت لأن المسيح مدح عملها ووعد بدوام ذكرها، وإن لامها التلاميذ. وحصلت على ذلك الثواب لأنها لم تأتِ ما أتته بغية إن تُثاب ولا أن تشتهر بالكرم، بل لمجرد إكرام ربها. وهي مثال وقدوة حسنة لنا.
١٤ «حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ».
متّى ١٠: ٤ ومرقس ١٤: ١٠ ولوقا ٢٢: ٣ ويوحنا ٣: ٢٠، ٣٠
حِينَئِذٍ أي على أثر ما سبق. وقال الإنجيلي ذلك ليبين أن ما يأتي نتيجة ما سبق بغضّ النظر على قرب الزمان أو بُعده. وقد حرَّك توبيخ المسيح يهوذا ليتمم ما كان يفكر فيه.
يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ انظر شرح متّى ١٠: ٤. لم يهتم متّى ببيان ما حمل يهوذا على تسليم المسيح، فإنه ربَّى الطمع في قلبه حتى جعله طمَعُهُ آلةً مناسبة للشيطان (لوقا ٢٢: ٣) ولما خاب رجاؤه أن يملك المسيح على الأرض جسدياً، وما يتعلق بذلك من الشرف والغِنى لإنباء المسيح بموته (ع ٢) ولعلمه مقاصد رؤساء الكهنة من جهته (يوحنا ١١: ٤٧)، ولغيظه من إتلاف الطيب وتوبيخ المسيح له، أجاب داعي التجربة الشيطانية وذهب ليسلم المسيح طمعاً بالأجرة. نعم إن الشيطان هيَّج يهوذا على تلك الخيانة، لكن يهوذا خان ربَّه باختياره. وهذا من الأدلة القاطعة على أن محبة المال من شر فخاخ إبليس، وأنها مما يقود إلى أفظع الخطايا.
إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ لعله ذهب إليهم وقت التئام مجمع السبعين للمؤامرة على المسيح كما ذُكر في (ع ٣) وكان ذلك مساء الثلاثاء، أي بعد يومين من العشاء، فبقي يهوذا عازماً على الخيانة فعلاً مدة يومين.
١٥ «وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ».
خروج ٢١: ٣٢ وزكريا ١١: ١٢ ومتّى ٢٧: ٣
مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي هذا برهان على تمام عزمه على تسليم المسيح إليهم، وهو وفق قول مرقس «ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا… مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ» (مرقس ١٤: ١٠).
فَجَعَلُوا لَهُ لم يعطوه في الحال، بل وعدوه بتسليم المبلغ عند تسليمه المسيح إليهم.
ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ أي ثلاثين شاقلاً من الفضة لأنه هو المعهود عندهم في المعاملات. والشاقل يساوي حول ١٢ جراماً من الفضة، فيكون مبلغ ما أخذه يقارب ٣٦٠ جراماً وهذا كان ثمن العبد (خروج ٢١: ٣٢). فبيع المسيح للموت كعبدٍ ليحرِّرنا من العبودية الدائمة للخطية والموت. ويحتمل أن قول زكريا «فَقُلْتُ لَـهُمْ: إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَامْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ» (زكريا ١١: ١٢) نبوءة بذلك. فما أعظم الفرق بين قيمة المسيح عند مريم وقيمته عند يهوذا، فإنها انفقت على إكرامه عند العشاء ثلاث مئة دينار، وباعه يهوذا للموت بأقل من ثُلث هذه القيمة.
١٦ «وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ».
وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي من وقت مشاورته للرؤساء من مساء يوم الثلاثاء، قبل الفصح بيومين (ع ٢، ٣). وظنَّ البعض أن يهوذا هذا كان من سكان أورشليم، ولذلك عرف رؤساء الكهنة أكثر من غيره من الرسل، وأنه حسب زعمه قد خاب أمله بيسوع فلم يكن المسيح المنتظر لكي يملك ملكاً أرضياً على اليهود.
فُرْصَةً أي وقتاً وموضعاً مناسبين لتسليمه (لوقا ٢٢: ٦) حتى لا يشاهد الشعب القبض عليه ويخلصوه.
لِيُسَلِّمَهُ لا يدلهم فقط على الموضع المناسب للقبض عليه، بل أن يشترك معهم فعلاً في القبض عليه. وخيانته هذه حملت الرؤساء على تغيير مقصدهم الأول (ع ٥).
ولا شكَّ أن في قصة يهوذا الإسخريوطي فوائد للكنيسة، كما في قصة امرأة لوط التي أمر المسيح بذكرها (لوقا ١٧: ٣٢) ونكتفي بأن نذكر سبعاً من تلك الفوائد:
الحصول على أفضل الوسائط لا يضمن الخلاص، فقد كان يهوذا رسولاً مختاراً، ومن الاثني عشر، ورفيقاً للمسيح، شاهد معجزاته وسمع تعاليمه، وكان شريكاً لبطرس ويعقوب ويوحنا، ونال من وسائط النعمة ما لم ينله إبراهيم وموسى ودانيال وإشعياء، ومع كل ذلك هلك. وهذا يحقق صحة قول المسيح «من ليس له، فالذي عنده يُؤخذ منه» (متّى ٢٥: ٢٩).
يمكن أن ينال الإنسان صيتاً حسناً بين الناس وهو بلا تقوى أمام الله. فإن المسيح أرسل يهوذا كسائر الرسل ليعلّم ويصنع الآيات. وظهر أنه ترك كل شيء لأجل المسيح كغيره من الرسل، ولم يظن أحدٌ منهم فيه سوءاً لأنهم عيَّنوه أميناً لصندوقهم. وحين قال المسيح للرسل «واحد منكم يسلمني» لم يفتكر أحد في يهوذا بل نظر إلى نفسه أولاً، بدليل قول كل واحد منهم «هل أنا يا رب؟».
محبة المال خطر عظيم، وكان يهوذا من أول محبي المال، ويدل على ذلك قوله لهؤلاء الكهنة «ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم؟». نعم إن يهوذا ترك كثيراً عندما تبع المسيح، لكنه لم يترك طمعه فأهلكه، كثقبٍ واحد في السفينة يُغرقها في المال. فحب المال حمل دليلة على تسليم شمشون إلى الفلسطينيين، وحمل جيحزي على خداع نعمان والكذب على أليشع، وحمل حنانيا وسفيرة على أن يكذبا على الروح القدس، وحمل رسولاً من رسل المسيح على أن يرتكب أفظع الآثام وهو تسليم ابن الله إلى قاتليه. فعلينا أن ننتبه لقول الرسول «مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ» (١تيموثاوس ٦: ١٠).
لا عجب من خيبة الأمل في الأصحاب. لأن المسيح نفسه ذاق مرارة كأس خيبة الأصدقاء، وصار بذلك قادراً على أن يشعر معنا ويرثي لنا في مثل تلك الحال (عبرانيين ٤: ١٥).
شرَّ أعداء المسيح كان من أقرب أصحابه، كما أنبئ بذلك في مزمور ٤١: ٩. وهذا أضرَّ الكنيسة التي هي جسد المسيح في كل عصر أكثر من كل الأعداء، لأنه لا يقدر أحد أن يضرها مثل ضرر من تربَّى في حضنها.
قد ينتج من الشر خيرٌ، فإن عاقبة خيانة يهوذا كانت أفضل برهان على صحة دعوى المسيح. لأنه بعد ما سلَّمه كان يجب أن يسكت ضميره، ويوقف توبيخ الآخرين له بأن يذكر شيئاً من عيوب المسيح. ولكن المسيح زكيٌّ بلا عيب، فرأينا يهوذا يطرح في الخزانة ما أخذه أجرة على إثمه قائلاً «أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً». وهذا يفحم من يقول «ليس لنا شهادة عن بر المسيح سوى شهادة أصحابه».
الندامة على الإثم لا تُصلح ما أفسده ولا تُسكت الضمير، فإن يهوذا ندم وردَّ الدراهم واعترف بإثمه، لكنه لم يقدر أن ينقذ المسيح بذلك، لأنهم أجابوه بقولهم «ماذا علينا؟ أنت أبصِر» (أي: هذه مشكلتك لا مشكلتنا). ولم يستطع يهوذا أن يسكت ضميره «فمضى وخنق نفسه». وأما الذي لا تنفعه الندامة فينفعه دم المسيح إذا لجأ إليه. ولكن يهوذا لم يفعل كذلك.
١٧ «وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ تَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ ٱلْفِصْحَ؟».
خروج ١٢: ٦، ١٨ ومرقس ١٤: ١٢ ولوقا ٢٢: ٧
وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ أي في يوم الخميس الرابع عشر من نيسان، حين يعزل كل خمير من بيوتهم (خروج ١٢: ١٥ – ١٧) وكانوا يأتون في هذا اليوم بخروف الفصح إلى الهيكل ويذبحونه هناك بين الساعة الثالثة والخامسة بعد الظهر (خروج ١٢: ٦ ولاويين ٢٣: ٥ ولوقا ٢٢: ٧). وحُسب ذلك اليوم أول أيام الفطير لأنه كان فيه ذلك الاستعداد. فأيام العيد الأصلية سبعة، ولكن إذا حسبنا ذلك اليوم من العيد كانت ثمانية. وبعد الغروب من نهار ذلك اليوم كان بدء يوم الجمعة، وهو هنا الخامس عشر من نيسان الذي كانوا يأكلون فيه الفصح حسب الوصية (خروج ١٢: ٦ – ٨ و٢٣: ٥).
مضى على المسيح يوم الأربعاء كله وجزءٌ من يوم الخميس وهو في بيت عنيا. ولم يذكر الإنجيليون شيئاً من أعماله في هذه المدة. وأكل المسيح الفصح مع تلاميذه في الوقت الذي اعتاد الإسرائيليون أكله فيه. وهذا يظهر من قول لوقا «وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ» (لوقا ٢٢: ٧)، ويظهر من غيرة المسيح في القيام بكل الشريعة، ويظهر من استحالة أن يذبح الكهنة خروف الفصح ويرشوا دمه حول المذبح ويسلموه إلى بطرس ويوحنا في غير وقته. ويؤيد ذلك ما جاء في مرقس ١٤: ١٢، ١٦، ١٧.
تَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ الخ الأرجح أن ذلك كان صباح يوم الخميس وكانوا حينئذٍ في بيت عنيا، والواجب أن يأكلوا الفصح في أورشليم فكان لا بدَّ أن يستعدوا هناك قبل الوقت لأنهم غرباء.
١٨ «فَقَالَ: ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: ٱلْمُعَلِّمُ يَقُولُ إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي».
يوحنا ١٣: ١
فَقَالَ ٱذْهَبُوا لم يذكر متّى عدد المرسلين، ولكن لوقا ذكر أنه أرسل اثنين هما بطرس ويوحنا (لوقا ٢٢: ٨).
إِلَى ٱلْمَدِينَةِ أي أورشليم
إِلَى فُلاَنٍ ذكر مرقس ولوقا أنه أعطاهما علامة يعرفان بها الإنسان الذي أرسلهما إليه، وهي أنه عند وصولهما إلى المدينة يلاقيهما إنسان حامل جرة ماء، وأمرهما أن يتبعاه ويخاطبا رب البيت الذي يدخله بالكلام الذي أمرهما به. فأقام لتلاميذه تلك العلامة برهاناً جديداً على معرفته الغيب. ولعله أتى ذلك لكيلا يدع سبيلاً ليهوذا إلى معرفة المكان فيخبر الرؤساء فيمسكوه في وقت الفصح، ولعله لم يذكر اسم رب البيت خوفاً عليه من الأعداء، لأنه من أصحاب المسيح الذين لم يعترفوا به علانية خوفاً من اليهود (يوحنا ١٢: ٤٢).
ٱلْمُعَلِّمُ الظاهر أن المسيح عُرف بهذا اللقب بين تلاميذه، فكان كافياً لأن يعرفه صاحب البيت وأنه مستحق اتخاذ مكان عنده. وكان اليهود معتادين إضافة من يحضرون العيد فكانوا يستعدون لها كل سنة.
وَقْتِي قَرِيب لا شك أن المسيح أشار بذلك إلى وقت آلامه وموته (يوحنا ١٢: ٢٣ و١٣: ٣٢ و١٧: ١). ولا نعلم هل فهم صاحب البيت أو التلميذان ذلك المعنى أم لا. ولعلهم ظنوه وقت ظهوره ملكاً.
مَعَ تَلاَمِيذِي ذلك يقتضي أن المكان كان واسعاً ليسع جماعة مثل هذه. قال متّى ولوقا إن ذلك المكان كان «عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً» (مرقس ١٤: ١٥). وأعدَّ يهود أورشليم كثيراً من الأماكن الكبيرة كتلك العلية لكثرة الغرباء الذين يأتون أورشليم لأكل الفصح، وجهزوها بالمفروشات كالحُصر، وبالموائد والأسرَّة للاتكاء، والماء والمغاسل والمناشف (يوحنا ١٣: ٤، ٥).
١٩ «فَفَعَلَ ٱلتَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا ٱلْفِصْحَ».
قال لوقا «فانطلقا ووجدا كما قال لهما» (لوقا ٢٢: ١٣) وبذلك كان لهم برهان جديد على معرفته الغيب.
وَأَعَدُّوا ٱلْفِصْحَ أي اشتروا خروفاً وأخذوه إلى الهيكل بين الساعة الثالثة والخامسة بعد الظهر من ذلك النهار، فذبحه الكهنة ورشوا دمه حول المذبح، وأعطوه للرسل فطبخوه حسب الوصية، وأحضروا أعشاباً مرة وخبزاً فطيراً وصحافاً وكؤوساً. ويتبين من تمام الحديث أنهم أخذوا خمراً أيضاً.
٢٠ «وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ ٱتَّكَأَ مَعَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ».
مرقس ١٤: ١٧ الخ ولوقا ٢٢: ١٤ ويوحنا ١٣: ٢١
لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ أي مساء الخميس عند الغروب، وهو بدء يوم الجمعة الخامس عشر من نيسان (تثنية ١٦: ٦).
وما يأتي هي حوادث حياة المسيح الأرضية في هذا اليوم، الذي هو آخر يوم له على الأرض وهي:
المشاجرة بين التلاميذ في من منهم يكون أكبر. والأرجح في أن ذلك وقت اتكائهم على المائدة وغسل المسيح أرجلهم توبيخاً لهم على ذلك، وتعليماً لهم عن التواضع (لوقا ٢٢: ٢٤ ويوحنا ١٣: ٣ – ٥).
أكل الفصح.
تعيين المسيح للخائن وخروج ذلك الخائن.
رسم العشاء الرباني
يسوع يخبر بإنكار بطرس إياه وترك بقية الرسل له.
خطاب المسيح الوداعي المذكور في يوحنا ١٤، ١٥، ١٦ وصلاته المذكورة في يوحنا ١٧.
الترنيم والخروج من المدينة
تألم يسوع في جثسيماني
قبض العساكر عليه.
ٱتَّكَأَ كان بنو إسرائيل يأكلون الفصح في أول أمرهم وهم وقوف (خروج ١٢: ١١) ثم تركوا تلك العادة وبدلوها بالاتكاء على الأسرة مسندين أياديهم اليسرى آكلين بالأيادي اليمنى، واتخذوا عذرهم في ذلك أن الوقوف كان إشارة إلى أيام العبودية والهرب والخطر، وأن اتكاءهم بعده إشارة إلى وصولهم إلى أرض الميعاد واطمئنانهم وراحتهم.
وكان يوحنا في متكأ الرسل قدام المسيح حتى إذا مال إلى الوراء يلامس رأسه صدر المسيح (يوحنا ١٣: ٢٥). والأرجح أن يهوذا الإسخريوطي كان وراءه أو قريباً منه جداً حتى يمكنه أن يكلمه ولا يسمع غيره، وأن يناوله اللقمة يداً بيد (يوحنا ١٣: ٢٦). ولعل مشاجرة الرسل المذكورة في لوقا ٢٢: ٢٤ ابتدأت وقت الاتكاء، وكانت علتها المسابقة إلى المتكأ الأول. فغسل يسوع أرجل التلاميذ توبيخاً لهم على ذلك (يوحنا ١٣: ١ – ٢٠).
٢١ «وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي».
فِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ انظر شرح ع ٢.
وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي أنبأ المسيح قبل ذلك بأنه يُسلَّم إلى أيدي أعدائه (متّى ١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ ولوقا ٩: ٤٤). وأنبأ هنا أنه يقبل الخيانة، وأن الخائن واحد من الاثني عشر. وقال يوحنا إن المسيح قبل ما أنبأ بذلك «اضطرب بالروح» كأنه حمل فوق ما تحتمل طاقته. وهو أن يسلمه واحد من تلاميذه الذين اختارهم وأحبهم وأكرمهم. وذلك الاضطراب حمله على أن يشهد بما علم (يوحنا ١٣: ٢١) ويُحتمل أن المسيح أراد بهذا الإعلان أن يعلن ليهوذا الإسخريوطي أن مقاصده الشريرة كانت معلومة ليحثه على انتهاز فرصة التوبة إن شاء. وأعلن ذلك لبقية التلاميذ ليتوقعوا حدوثه ولا يتعجبوا منه. وليدفع ما يعتريهم من ضعف الإيمان عند حدوثه لو لم يخبرهم به لأنهم يذكرون حينئذٍ أنه عرفه قبل وقوعه وأنبأ به.
٢٢ «فَحَزِنُوا جِدّاً، وَٱبْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟».
فَحَزِنُوا جِدّاً نتج من هذا الإنباء حزن حقيقي لقلوب كل التلاميذ سوى يهوذا. أما هو فتظاهر بالحزن ولم يكن به من حزن.
وَٱبْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ دل قولهم على أن كلاً منهم (إلا يهوذا) خالٍ من ذلك القصد الشرير، وأنه شاعر بضعفه وقابليته للوقوع في تلك التجربة الفظيعة، وخائف أن يقع فيها. وأما قول يهوذا كقولهم فنتيجة رياء غريب وسترٌ لشرِّه. ولم يسأل المسيح إلا بعد الجميع (ع ٢٥). والظاهر أنه لم يشكَّ أحدٌ من التلاميذ في يهوذا، لكن كل واحد غيره شكَّ في نفسه قبل أن يشك فيه.
٢٣ «فَأَجَابَ: ٱلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي ٱلصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي».
مزمور ٤١: ٩ ولوقا ٢٢: ٢١ ويوحنا ١٣: ١٨
ٱلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي الخ إذا قارنّا هذا العدد بما جاء في يوحنا ١٣: ٢٦ نعلم أن يسوع وضع يده في الصحفة مع يد يهوذا، وأن المسيح غمس اللقمة وناولها له. وهذه العلامة الأخيرة كانت سراً بين المسيح وبين يهوذا، يُحتمل أن بطرس اطَّلع عليها (يوحنا ١٣: ٢٣ – ٢٦) لأنه سأل يوحنا بالإشارة أن يسأل المسيح عمَّن قصده بقوله «إن واحداً منكم يسلمني» فاتكأ يوحنا على صدر يسوع وسأله سراً عن علامة يُعرف بها الشخص المراد. فكانت تلك العلامة لقمة غُمست في الصحفة وأُعطيت الخائن. وبهذه الخيانة تمت النبوة القائلة «رَجُلُ سَلاَمَتِي، الَّذِي وَثِقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (مزمور ٤١: ٩).
٢٤ «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَد».
مزمور ٢٢ وإشعياء ٥٣ ودانيال ٩: ٢٦ ومرقس ٩: ١٢ ولوقا ٢٤: ٢٥، ٢٦، ٤٦ وأعمال ١٧: ٢، ٣ و٢٦: ٢٢، ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٣ ويوحنا ١٧: ١٢
هذا العدد تابع ما قاله يسوع في ع ٢١ وموجَّه إلى الكل.
ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أي أنا الكلمة المتجسدة
مَاضٍ أي مائتٌ كما ورد في تكوين ١٥: ٢ ومزمور ٣٩: ١٣.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أي في نبوات العهد القديم. (قابل مزمور ٤١: ٩ مع يوحنا ١٣: ١٨ وانظر إشعياء ٥٣: ٤ – ٩ ودانيال ٩: ٢٦، ٢٧). وتلك النبوات بُنيت على قضاء الله وعلمه السابق، وأُعلنت للتلاميذ لتكون عزاءً لهم زمن الأحزان بأن ما حدث لم يكن إلا بقصد الله وتعيينه بالحكمة والصلاح. ومثل هذا العزاء هو لكل مؤمن في كل ضيق وحزن.
وَلٰكِنْ وَيْلٌ قال هذا شفقةً على يهوذا لما سيجلبه على نفسه من العذاب الشديد. وتحذيراً له من العواقب.
كَانَ خَيْرا الخ هذا كلام جارٍ مجرى المثل، يُراد به عقاب هائل لا تُرجى له نهاية. وهو يدل على ثلاثة أمور:
(١) إن الإثم الذي عزم يهوذا على ارتكابه فظيعٌ جداً يوجب عليه القصاص الشديد. و
(٢) إن ذلك القصاص لا بد منه. و
(٣) إنه أبديٌ. لأنه لو كانت له نهاية ينال بعدها يهوذا الأفراح السماوية ما صحَّ أن يُقال عليه «خيرٌ له لو لم يولد». لأنه على فرض صحة ذلك يكون وجوده خيراً له. فإن قيل كيف يصح الحكم على يهوذا بأنه آثم مع أنه نفَّذ قضاء الله الأزلي قلنا (١) إن كل ما فعله إنما فعله باختياره، ولذلك فهو مسؤول بما فعل، لأن قضاء الله لم يسلبه حرية إرادته، ولم يجبره على الفعل ولا أغراه به.
(٢) إنه فعل كل ما فعله بقصد شرير، لأنه خالف ضميره وشريعة الله، ورفض نصائح المسيح وربَّى الرذائل في قلبه، كالطمع والخيانة والجحود، فكفر النعمة ولم يشكر على أفضل وسائطها، وارتكب أشر الآثام على أعظم وأقدس البشر، لأزهد غاية وهي الحصول على ثلاثين من الفضة.
(٣) لو رفع قضاء الله وعلمه السابق المسؤولية عن يهوذا ومنع جواز عقابه، لمنع جواز مكافأة البار، لأن بره من قضائه، لأن ذلك القضاء يعمُّ كل أفعال الناس (أعمال ١: ١٦ – ١٨ و٢: ٢٣ و٤: ٢٧، ٢٨).
٢٥ «فَسَأَلَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ: هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ قَالَ لَهُ: أَنْتَ قُلْتَ».
أَنْتَ قُلْتَ أي نعم. الأرجح أن المسيح أجاب يهوذا بذلك سراً، فلم يسمعه أحدٌ من التلاميذ. وسؤاله المسيح «هل أنا هو؟» من أكبر أنواع الرياء. وزاد المسيح على قوله «أنت قلت» قوله «ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» (يوحنا ١٣: ٢٨). وهذا سمعه الجميع، لكنهم لم يفهموا لماذا كلمه به. والأرجح أنه خرج حالاً ولم يشترك مع سائر الرسل في العشاء الرباني كما شاركهم في أكل الفصح، بدليل قول يوحنا (الذي راعى ترتيب الحوادث دون غيره) «لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ» (يوحنا ١٣: ٣٠) وكانت تلك اللقمة من الفصح كما هو ظاهر.
٢٦ «وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلاَمِيذَ وَقَالَ: خُذُوا كُلُوا. هٰذَا هُوَ جَسَدِي».
مرقس ١٤: ١٢ الخ ولوقا ٢٢: ١٨ الخ و١كورنثوس ١١: ٢٣ الخ أعمال ٢: ٤٢ و١كورنثوس ١٠: ١٦
وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أي الفصح، وكانوا حينئذٍ على وشك النهاية (لوقا ٢٢: ١٥ – ٢٠ و١كورنثوس ١١: ٢٥) فلم يكونوا قد قاموا عن المائدة، ولم يزل خبز العشاء قدامهم.
أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخُبْزَ أي رغيفاً من الخبز الفطير الذي أمامه.
وَبَارَكَ أي طلب بركة الله عليه، أو شكر الله لأجله كما قال لوقا (لوقا ٢٢: ١٩ وبولس ١كورنثوس ١١: ٢٤). ولا يلزم من قوله «بارك» أنه حدث تغيير سري في الخبز، كما لم يلزم ذلك وقت إشباع الآلاف الخمسة في البرية. (قارن مرقس ١٤: ٢٢ بـ مرقس ٦: ٤١ وبـ لوقا ٩: ١٦ وبـ يوحنا ٦: ١١).
وَكَسَّرَ أشار بذلك إلى ما كان عازماً أن يحتمله من الآلام، وإلى جسده المكسور على الصليب لأجل آثامنا (١كورنثوس ١١: ٢٤)، أي أن جسده يُجرح ويُطعن ويُقتل. فالكسر إشارة إلى أن المسيح كفارةٌ وذبيحة عنا. وزاد لوقا على ذلك قوله «الذي يُبذل عنكم» (لوقا ٢٢: ١٩). والمقصود بذلك أن كل فوائد موت المسيح على الصليب لأجلهم، فكأنه قال «كما أني أعطيكم هذا الخبز المكسور لكي تأكلوه، هكذا أبذل لكم جسدي ليقتل لأجل خطاياكم».
وممّا فعله المسيح هنا سُمي العشاء الرباني أحياناً «كسر الخبز» (أعمال ٢: ٤٢ و١كورنثوس ١٠: ١٦) وكما أن القمح لا يُشبع الإنسان إلا إذا كُسر، كذلك المسيح لم يخلصنا إلا بموته عنا (يوحنا ١٢: ٢٤).
خُذُوا كُلُوا لنا من ذلك ثلاثة أمور:
كما نأكل الخبز فنجعله جزءاً من أجسادنا، كذلك يجب أن نقبل المسيح في قلوبنا ونقتات به بالإيمان. والفعل الأول ضروري لحياة الجسد، والفعل الثاني ضروري لحياة النفس.
كما أن الخبز المأكول يقوت أجسادنا، كذلك المسيح إذا قُبل بالإيمان يقيت نفوسنا. فالمسيح ليس مجرد الذبيحة لتبريرنا، بل هو أيضاً قوتٌ لنموِّنا في النعمة والقداسة. وجسد المسيح حياة العالم الروحية.
إن أكلنا مع المسيح ومع بعضنا فإننا نشير إلى اتحادنا وشركتنا كأعضاء عائلة واحدة، مقترنين برأس واحد (١كورنثوس ١٠: ١٦) فالعشاء الرباني وليمة محبة للمسيح وتلاميذه. وعلى هذا يجب أن نمارس العشاء الرباني لمنفعته ومعناه.
هٰذَاِ أي الخبز.
هُوَ جَسَدِي في ذلك أمران: (١) ذلك الخبز رمزٌ إلى جسده، و(٢) إنه تذكار له. ولنا على أنه رمزٌ إلى جسد المسيح لا جسده حقيقة اثنا عشر برهاناً:
العشاء الرباني سرٌّ، وفي كل سر رمزٌ ومرموز إليه. والخبز هو الرمز، وجسد المسيح المرموز إليه. فلو استحال الخبز وصار جسده، لم يبقَ رمزٌ، إنما يبقى المرموز إليه. فلا يكون العشاء حينئذٍ سراً.
جسد المسيح الحقيقي كان أمامهم حياً، فلا يمكنهم أن يعتقدوا أنهم يأكلون جسده ويشربون دمه وهو لم يمُت بل كان يخاطبهم. وذلك ينافي أحكام عقولنا أن نعتقد أننا أكلنا جسد المسيح بعينه في العشاء الرباني، بينما ذلك الجسد بكماله في السماء. وإلا لكان للمادة خواص الروح، وللمحدود خواص غير المحدود.
أخذ ذلك الخبز رمزاً يفيدنا بتعاليم جوهرية ويوافق قول المسيح «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ» (يوحنا ٦: ٥١). وقال ذلك قبل ما رسم العشاء الرباني بزمان طويل.
اعتاد المسيح أن يستخدم المجاز في أغلب تعاليمه، وكثيراً ما حذر تلاميذه من أن يتخذوا المجاز حقيقة (يوحنا ٣: ٦٣). فلا شيء من الغرابة بأن يكون كلامه هنا مجازاً. ومن ذلك قوله «أَنَا هُوَ الْبَابُ» (يوحنا ١٠: ٩) و «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ» (يوحنا ١٥: ١، ٥) وقوله «اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. الزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ» (متّى ١٣: ٣٧، ٣٨). وقوله «تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ» (لوقا ١٢: ١).
أخذ ذلك الخبز رمزاً يوافق كل تعاليم الكتاب المقدس كقوله «الثَّلاَثَةُ الْقُضْبَانِ هِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، والثَّلاَثَةُ السِّلاَلِ هِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ» (تكوين ٤٠: ١٢، ١٨) وقوله «اَلْبَقَرَاتُ السَّبْعُ الْحَسَنَةُ هِيَ سَبْعُ سِنِينَ، وَالسَّنَابِلُ السَّبْعُ الْحَسَنَةُ هِيَ سَبْعُ سِنِينَ» (تكوين ٤١: ٢٦) وقوله «لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ» (١كورنثوس ١٠: ٤) وقوله «لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ» (غلاطية ٤: ٢٥). وقوله «السَّبْعَةُ الْكَوَاكِبُ هِيَ مَلاَئِكَةُ السَّبْعِ الْكَنَائِسِ، وَالْمَنَايِرُ السَّبْعُ هِيَ السَّبْعُ الْكَنَائِسِ» (رؤيا ١: ٢٠) وقوله «نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ» (١كورنثوس ١٠: ١٧) فلو صحَّ أن الخبز صار جسد المسيح بقوله «هذَا هُوَ جَسَدِي» لصحَّ أن أجساد المسيحيين صارت خبزاً بقوله «نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ». وقِس على ذلك ما جاء في كثير من الأمثال (تكوين ١٥: ١ ومزمور ٣١: ٣ و٨٤: ١١ وحزقيال ٣٧: ١١ ويوحنا ١٠: ٧، ١١ وعبرانيين ١٢: ٢٩).
إذا أخذنا قوله على الخبز حقيقة، وجب أن نأخذ قوله على الكأس كذلك، وكلاهما محال حتى عند القائلين بالاستحالة، لأنه إن كان قوله عن الخبز إنه جسده حقيقة وجب أن يكون له كل أعراض جسد المسيح، وإلا فهو مجاز لا حقيقة. والذين يعتقدون الاستحالة يقولون إن الخبز استحال إلى جسد المسيح دون أعراض هذا الجسد، فينفون ما يثبتون. ويلتزم أولئك المعتقدون التسليم بأن الكأس (لا الخمر التي فيها) صارت العهد الجديد بدم المسيح بدليل قوله «هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي» (١كورنثوس ١١: ٢٥). ولم يقُل أحدٌ ذلك، وهو محال بنفسه. وإن سلمنا بالمحال وقلنا إن ذلك الخبز صار جسد المسيح، فالرغيف الذي كان في يده دون غيره، فليس الرغيف في الماضي ولا في المستقبل هو جسده.
يدلنا على أن كلام المسيح هنا رمزي أنه بُني على كلام الكتاب في الفصح الذي هو رمزي بالإجماع، بدليل قوله عن خروف الفصح «تأكلون بعجلة. هو فصح للرب» أي الخروف رمز إلى الفصح أي عبور الملاك عن بيوت بني إسرائيل، ويستحيل أن يكون الخروف كذلك.
يجب أخذ كلام المسيح مجازاً لأن الحقيقة تنافي شهادة الحواس. وإن قلنا: لا اعتبار لشهادة الحواس، لم يبقَ لنا شهادة صحيحة بمعجزات المسيح ورسله، ولا ثقة بقوله «هذا هو جسدي» لأن تلاميذه أدركوه بالسمع (وهو من الحواس) فلا تُعتبر شهادته ولا نثق بعيوننا حين نقرأه.
يجب اتخاذ كلام المسيح عن الخبز مجازاً، لأن الحقيقة تخالف جوهر تعليم الإنجيل، لأنها تجعل الحياة الروحية متوقفة على تناول اللحم والدم بدلاً من أن تجعلها متوقفة على المؤثرات الروحية كالإيمان بالمسيح وفعل الروح القدس وفقاً لقوله «إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له» (رومية ٨: ٩).
اتخاذ ذلك القول حقيقة يناقض قول بولس في خبز العشاء الرباني لأنه سماه «خبزاً» ثلاث مرات بعد أن باركه المسيح وكسره (١كورنثوس ١١: ٢٦ – ٢٨).
اتخاذ ذلك القول حقيقة يلزم منه تكرار المعجزة في كل عشاء رباني، ويلزم منه أن كل شخص بقطع النظر عن صفاته الأخلاقية يستطيع عمل أعظم المعجزات.
القول بالاستحالة يجعل العشاء الرباني ذبيحة، وهذا ينافي تعليم العهد الجديد لتصريحه بأن المسيح ذُبح مرة واحدة لأجل خطايا العالم (عبرانيين ٩: ٢٨ و١٠: ١٢ – ١٨).
وأما كون الخبز تذكاراً لجسد المسيح فعليه ثلاثة براهين:
ما نقله لوقا عن المسيح وهو قوله «اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي» (لوقا ٢٢: ١٩)
قول بولس في ما تسلمه من الرب «اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي.. فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (١كورنثوس ١١: ٢٤ و٢٦).
هذا السر بدل الفصح، وأكل الفصح تذكار للفصح الكبير الحقيقي (خروج ١٢: ١١).
٢٧ «وَأَخَذَ ٱلْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: ٱشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ».
وَأَخَذَ ٱلْكَأْسَ اعتاد اليهود أن يشربوا في الفصح أربع كؤوس من الخمر. والأرجح أن الكأس المذكورة هنا هي الثالثة من الأربع، وهي تُشرب بعد أكل الخروف والأعشاب المرَّة والفطير (وتسمى كأس البركة) ودليل ذلك «تناولها بعد العشاء» (لوقا ٢٢: ٢٠ و١كورنثوس ١١: ٢٥).
وَشَكَرَ يجب علينا أن نشكر المسيح في كل عشاء رباني ونحن نذكر الفوائد التي كانت لنا من ذبيحته اقتداءً بالمفديين في السماء القائلين «مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً» (رؤيا ٥: ٩ و١٠). وسُمي العشاء الرباني لما فيه من تقديم الشكر «أفخارستيا» أي تقدمة الشكر.
وَأَعْطَاهُم أي الكأس كما أعطاهم الخبز، فلا شيء في عمله يدل على أن الكأس تختص بالرسل والخبز لهم ولغيرهم .
ٱشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُم أمرهُ بذلك أعم من أمره بالخبز، فكأنه أراد أن يحذر كنيسته من ضلالة عرف أنها تحدث بعدئذٍ عند بعض الناس، وهي منع الكأس عن العامة.
٢٨ «لأَنَّ هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا».
خروج ٢٤: ٨ ولاويين ١٧: ١١وإرميا ٣١: ٣١ ومتّى ٢٠: ٢٨ ورومية ٥: ١٥ وعبرانيين ٩: ٢٢
هٰذَا هُوَ دَمِي أي رمز دمي وتذكاره كما جاء في أمر الجسد في شرح العدد ٢٦. وكان دم الحيوانات في القرون الماضية يرمز إلى دم المسيح. ومنذ ذلك الوقت صارت كأس العشاء الرباني أي خمرها تشير إليه (عبرانيين ٩: ١٣، ١٤).
ومعنى الدم هنا الحياة، وهو كذلك في تكوين ٩: ٤ ولاويين ١٧: ١٤. وكان دم المسيح دم حياته لأنه مات بسفكه، وهو دم ثمين، ودم ملكيٌّ، ودم زكي، ودم كفارة، ودم تقدمة اختيارية، ودم مقبول عند الله فداءً عن العالم.
ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ كانت العهود كلها تُثبَّت قديماً بسفك الدم (عبرانيين ٩: ١٩، ٢٠)، ولا اختلاف بين العهدين إلا في الواسطة. فالعتيق كان بدم الحملان على يد موسى (خروج ٢٤: ٨) والجديد كان بدم الحمل على يد المسيح (يوحنا ١: ٢٩) انظر للمقارنة بينهما ما ورد في غلاطية ٤: ٢١ – ٣١ وعبرانيين ٨: ٩ – ١٣ و١٠: ١٦ – ١٨ وقارن تثنية ٢٨: ١ و٣٠: ١٦ مع رومية ٧: ٢٥ و٨: ١). وفي العهد القديم تلميحات وإشارات إلى العهد الجديد (إرميا ٣١: ٣١ – ٣٤). أما دم خروف الفصح فرُشَّ على قائمتي الباب وعتبته، وأما دم المسيح فرُشَّ على قلوبنا. والملاك المُهلك جاوز بني إسرائيل ولم يُهلك أبكارهم لما رأى الدم. والله يتجاوز عنا في يوم الدين عند إهلاكه أصحاب القلوب التي لم تُرش بدم المسيح بنظره إلى هذا الدم.
ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ أي بدلاً من أن يسفك دمهم، والمراد بالكثيرين كل الذين يقبلون دم المسيح شرطاً لخلاصهم بموجب العهد الجديد. (متّى ٢٠: ٢٨ ورومية ٥: ١٥، ١٩ و١تيموثاوس ٢: ٦ وعبرانيين ٩: ٢٨ ورؤيا ٥: ١١ و٢٢: ١٧).
لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا أي لتحصيل الصفح عن الخاطئ. كان دم ذبائح العهد القديم يشير إلى ذلك الصفح ولم يحصله، لكن دم ابن الله الوحيد الكثير الثمن حصَّله (أعمال ٥: ٣١ وعبرانيين ٩: ٢٢) وذلك لثلاثة أسباب: (١) ذلك الدم جعل المغفرة ممكنة دون منافاة عدله وحقه، لأن المسيح مات بدل الخاطئ فأوفى العدل حقه وأثبت صدق الله. (٢) أنه جعل تلك المغفرة لائقة لأنه يطهر قلب الخاطئ ويزيل ميله إلى ارتكاب الإثم (١يوحنا ١: ٧ وتيطس ٢: ١٤). (٣) إنه يؤكد للخاطئ أن له مغفرة عند الله (مزمور ٣٠: ٤).
والتعليم المشار إليه بالخبز والكأس واحد، إلا أن الكأس توضح بعض أموره أكثر إيضاح. ومن ذلك أن المسيح مات على الصليب ذبيحة من أجل خطايانا (متّى ٢٠: ٢٨ ويوحنا ١: ٢٩ و١٢: ٢٤، ٣٢ و٣٣ و١٥: ١٣ ورومية ٣: ٢٥ و٥: ٦، ٨، ١٠ و١كورنثوس ١٥: ٣ وأفسس ٥: ٢ وعبرانيين ٧: ٢٢ و٩: ١٢، ١٦، ٢٦، ٢٨ و١٠: ١٠، ١٩ و١بطرس ٢: ٢٤ و١يوحنا ١: ٧ ورؤيا ١: ٥ و٥: ٩). ومنه أنه صار عهداً بين الله ويسوع، وهو أن الله يقبل موت المسيح بدلاً من الخاطئ، وبين المسيح والمؤمن به وهو أنه يقبله إذا آمن به وتاب. والكأس هي ختم هذا العهد. وفي أكل الخبز زيادة إيضاح لأمر ذي شأن، وهو أن المسيح يُشبع حياة الإنسان الروحية إذا قبله بالإيمان.
٢٩ «وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ ٱلآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هٰذَا إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي».
رؤيا ١٩: ٧، ٩
إِنِّي مِنَ ٱلآنَ لاَ أَشْرَبُ أي إني لا أحضر معكم في هذا العشاء ثانية على الأرض بالجسد، لأني عازم أن أموت وتتم بموتي كل الرموز والإشارات. فهذا الفصح هو الفصح الأخير الذي آكله معكم. فعندما نجتمع في بيت أبي نشترك حينئذٍ في ما كان يشير إليه كل ما ذُكر.
نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ أي الخمر، سمّاها كذلك بعد البركة، وهذا دليل على أنها لم تستحل إلى دمه. ومن المحال أن تستحيل إلى ذلك لأن كل قطرة من دمه كانت لا تزال تجري في عروقه.
ٱلْيَوْمِ أي الوقت
أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً الخ لم يُقصر العشاء الرباني على أن يكون بدلاً من فصح اليهود وتذكاراً لموت المسيح، بل كان أيضاً إيماءً وتلميحاً إلى وليمة عرس الحمَل في ملكوته السماوي وعربوناً لها. وأراد المسيح أن يتوقع المؤمنون به كلما تناولوا ذلك السر مجيئه الثاني بالجسد. فهو وليمة أرضية أشار بها المسيح إلى الوليمة السماوية. وأفراحنا الروحية هنا على مائدة الرب ظل للأفراح العلوية الدائمة. وقوله «أشربه» لا يلزم منه أن في السماء خمراً أو ما شابهها من المشتهيات الجسدية، ولا ولائم حقيقية هنالك. ولكن لأن الولائم تحل محل الأفراح والراحة بعد التعب والجهاد ومجتمع الأصحاب، ولأن الخمر كانت تُشرب في عيد الفصح فرحاً بالنجاة من عبودية مصر واعتياد شربها في كل الولائم في ذلك الوقت، استعارها المسيح كناية عن المسرات السماوية والفرح بالنجاة من رق الخطية. وأبان بقوله «معكم» أن كل تلاميذه يجتمعون به في السماء. وأشار بقوله «أشربه جديداً» إلى معناه الروحي. وأراد بقوله «ملكوت أبي» السماء حيث يملك بلا معارض.
٣٠ «ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ».
مرقس ١٤: ٢٦ الخ
سَبَّحُوا اعتاد اليهود أن يترنموا في آخر الفصح بمزموري ١١٥، ١١٦ فالأرجح أن المسيح وتلاميذه سبحوا الله بالترنيم بهما. ويظن أن المسيح في نحو ذلك الوقت بعد الترنيم أو قبله تحدَّث بما جاء في يوحنا ١٤ – ١٦، ثم صلاته المذكورة في يوحنا ١٧ منها. ويحسن أن يسبح الشعب ربَّه بترنيمات وتسابيح كلما اجتمعوا للعبادة، ولا سيما متّى اجتمعوا للعشاء الرباني وذكر الفوائد العظمى المتعلقة به.
خَرَجُوا إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ أي إلى بستان جثسيماني كما يدل عليه ما جاء في ع ٣٦.
وخلاصة ما ذُكر من أمر العشاء الرباني في عشر قضايا:
رسم المسيح فريضة العشاء الرباني طقساً دائماً في كنيسته إلى أن يأتي ثانية، كما يتبين من أمره هنا. ومن قول بولس إنه «تسلَّم من الرب». فعلى كل المسيحيين ممارسة هذا السر (١كورنثوس ١١: ٢٦).
لكل مسيحي نصيبٌ في فوائد موت المسيح، وهذا سبب ذكره ذلك الموت، في قوله «جسدي الذي أبذله لأجلكم» و «جسدي المكسور لأجلكم» و «دمي المسفوك لأجلكم».
بُني ذلك السر على الفصح وحل محله، فذاك كان يذكر اليهود بنجاة أبكارهم من الهلاك الزمني، وهذا يذكر المسيحيين بالنجاة من الهلاك الأبدي لكل المفديين بموت المسيح فصحنا (رومية ٨: ٢ و١كورنثوس ٥: ٧) وهذا السر هو العلاقة بين النظام اليهودي والنظام المسيحي.
هذا السر كما رسمه المسيح موافق جداً ليشخِّص أمامنا موت المسيح على الصليب،وليجعله مؤثراً فينا، لأن العناصر المحسوسة تعين النفس على إدراك الحقائق الروحية.
يحضر المسيح مع شعبه روحياً كرئيس المتكأ كلما مارسوا العشاء الرباني بالطاعة والإيمان والتوبة والشكر، ويتحدون به اتحاداً مُحيياً. ويجدد لهم كل فوائد موته المُشار إليه بذلك السر وفوائد حياته في السماء. ولهذا يتضمن لنا أكثر مما تضمنه الفصح لليهودي التقي، لأن الفصح كان له مجرد تذكار ورمز، وأما العشاء الرباني فيزيد على ذلك بأنه اتحاد روحي حقيقي. فعلاوة على أنه إشارة إلى ما عمله المسيح لأجلنا فهو دلالة على أن المسيح حال فينا وفقاً لقول الرسول «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية ٢: ٢٠) وقوله «الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ» (كولوسي ١: ٢٧).
لا تتوقَّف منفعة تناول هذا السر على كيفية ممارسته، ولا على ماهية الآنية التي يتناول منها، ولا على أن الخبز فطير أو خمير، ولا على رتبة خادم الدين، ولا على الكلمات التي ينطق بها لتخصيص الخبز والخمر بخدمة العشاء الرباني.. بل يتوقف على إيمان الذي يتناوله، لأنه كما أن الجسد يقتات بالخبز والخمر فيصيران جزءاً منه بالأكل والشرب، هكذا عندما نقبل بالإيمان خبز العشاء الرباني وخمره نصير شركاء جسد المسيح ودمه ونقتات به (١كورنثوس ١٠: ١٦).
لا بد أن يُطحَن القمح قبل أن يؤكل خبزاً، ولا بد للعنب أن يُعصر قبل أن يُشرب خمراً. كذلك جسد المسيح لا يمكن أن يكون حياتنا ما لم يُسحق ويموت لأجلنا. وهذا ما يشير إليه استعمال الخبز والخمر في العشاء الرباني.
العشاء الرباني، علاوة على ما ذُكر، إنباءٌ بوليمة عرس الحمل في السماء وظلٌ لها (ع ٢٩ ومرقس ١٤: ٢٥).
رسم المسيح هذا السر لنذكر به موته لا حادثة أخرى من حوادث حياته الأرضية كميلاده أو تجليه أو صعوده. وأظهر بهذا أن موته هو الأمر الجوهري في دينه الذي يجب أن يؤمن به كل مسيحي ويستند عليه للخلاص.
كلما مارس المسيحيون هذا السر شهدوا علناً بموت المسيح وخضوعهم للمصلوب وباتكالهم عليه، وهكذا «يخبرون بموته» كما أمر ١كورنثوس ١١: ٢٦ وشهدوا بأكلهم وشربهم مع غيرهم من المؤمنين أنهم إخوة في عائلة واحدة وأعضاء جسد واحد رأسه المسيح.
٣١ «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ ٱلرَّعِيَّةِ».
متّى ١١: ٦ ويوحنا ١٦: ٣٢ وزكريا ١٣: ٧
الأرجح أن الذي قاله المسيح هنا قاله وهو سائر إلى جثسيماني.
كُلُّكُمْ تنبأ قبل ذلك بأن واحداً من رسله يسلمه، وهذا خرج منهم (وهو يهوذا). وتنبأ هنا بأمرٍ يشترك فيه كل الباقين.
تَشُكُّونَ فِيَّ أي تقعون في أحوال يضعف بها إيمانكم بأني المسيح، حتى أنكم تستحون بي وتتركونني. وعلة شككم هو تسليمي إلى أعدائي على يد يهوذا وقبضهم عليَّ، وما يحدث لي من الإهانات ويصيبني من الآلام، خلاف ما كنتم تتوقعون أن يبلغه المسيح ابن الله.
فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ أي الليلة التي تناولوا فيها العشاء الرباني وسمعوا مواعظ المسيح الأخيرة. ففيها جُرِّبوا بإنكار المسيح، فسقطوا. كذلك يأتي يومٌ على المسيحيين يتجربون بأشد التجارب بعد أن يحصلوا على أحسن وسائط النعمة. ولا عجب أن صار الصليب عثرة للعالم، لأن رسل المسيح عثروا بظله قبل أن يُرفع المسيح عليه.
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ في زكريا ١٣: ٧. علم الرب بسابق العلم ترك تلاميذه إياه وتمام تلك النبوة به. وفي الأصحاح الذي اقتبست تلك الآية منه إشارات كثيرة إلى المسيح وعمل الفداء منها ذكر فتح ينبوع للتطهير من الخطية، وذكر رجل في يده جروح جُرِح في بيت أحبائه، وذكر راعٍ هو رجل رفقة رب الجنود.
أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ يحتمل أن يكون معنى هذا أن الله ضربه، أو أنه سلمه للضاربين (قارن خروج ٤: ٢١ مع خروج ٨: ١٥) وهو المراد هنا. وأجرى الله ذلك بسماحه لليهود والرومان أن يضربوه لأجل خطايا العالم (رومية ٨: ٣٢).
الراعي في هذه الآية هو المسيح كما يظهر من زكريا ١١: ٧ – ١٤. وأصل ما اقتبسه البشير في العبراني خطاب الله للسيف وأمره إياه بالضرب، ولا فرق بين الأصل والاقتباس في المعنى، فالاقتباس مجازٌ عقلي أُسند به الفعل إلى الآمِر. ومثله ما جاء في إشعياء ٥٣: ٤ – ١٠. فالذين ضربوه فعلوا باختيارهم ما قصد الله حدوثه، فلم يمكنهم ضربه لو لم يقضِ الله به.
خِرَافُ ٱلرَّعِيَّةِ المراد بالخراف هنا الرسل الذين هربوا عندما قُبض على المسيح كقطيع غنم مرتعب، وتطلق الخراف أحياناً على كل شعب الله (يوحنا ١٠: ١٦) ولعل المسيح أشار أيضاً بهذا القول إلى الأمة اليهودية التي كانت في الأصل رعية الله وتبددت منذ رفضت الراعي المضروب.
٣٢ «وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ».
متّى ٢٨: ٧، ١٠، ١٦ ومرقس ١٤: ٢٨ و١٦: ٧
بَعْدَ قِيَامِي قد أنبأ بقيامته مرتين قبل ذلك (متّى ١٦: ٢٠، ٢١ و٢٠: ١٩) وهذه هي المرة الثالثة. ولكن ليس هناك إشارة على أنهم أدركوا معنى هذا النبأ ولا أنهم تأثروا منه أكثر من ذي قبل.
أَسْبِقُكُم في هذا إشارة إلى عمل الراعي لخرافه فإنه «مَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ» (يوحنا ١٠: ٤) وفيه إنباءٌ بأن الخراف وإن ضُرب الراعي وتبددت تُجمع أيضاً، وأنه سيجمع تلاميذه وإن تركوه. وقال ذلك ليكون تعزية لهم في وقت الحزن، وتشجيعاً لهم عند الخوف، وإعلاماً لهم أين يجدونه.
إِلَى ٱلْجَلِيلِ أمضى المسيح أكثر وقت تعليمه في الجليل، وآمن به هنالك أكثر تابعيه. والجليل وطن أكثر رسله، فمن الطبيعي أن يرجع إليه بعد قيامه. وما أجمل أن يعود تلاميذه إلى المكان الذي أخذهم منه لأن في ذلك قوة لهم هم بأمسِّ الحاجة إليها. ولكن عليهم أن يقيموا في مدينة أورشليم إلى أن يُلبسوا قوة من الأعالي، وبعد ذلك يتمم الوعد لهم. ولعله عيَّن حينئذٍ جبلاً قرب طبرية للاجتماع بهم (قابل متّى ٢٨: ١٦ مع يوحنا ٢١: ١). ولا يقتضي هذا أن المسيح خصص ذلك الاجتماع بالرسل وحدهم، ولعله جعله لكل المؤمنين به (لوقا ٢٤: ١٣ – ٣١، ٤١) لأن متّى قال في إنبائه بهذا الاجتماع إن بعض الحاضرين شكوا، فلا نظن أنهم من الرسل بعدما شاهدوه مراراً في أورشليم حياً بعد موته. والمرجح أن الاجتماع ضمَّ من يزيدون على ٥٠٠ أخ (١كورنثوس ١٥: ٦). وتعيينه الاجتماع العام في الجليل لا ينفي أن المسيح اجتمع أحياناً مع بعض تلاميذه في أورشليم قبل ذلك.
٣٣ «فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً».
وَإِنْ شَكَّ فِيكَ ٱلْجَمِيعُ يستنتج مما ورد في بشارتي متّى ومرقس أن بطرس تكلم بهذا بعدما خرجوا جميعاً من متكأ الفصح. لكن يظهر مما قاله لوقا ويوحنا أنه تكلم بذلك قبل خروجهم، فلعله قاله مرتين. ولا عجب إن كان المسيح يكرر التحذير لبطرس مرتين، فكرر بطرس إنكار شكه فيه كذلك. ومما يقوي ذلك أن التحذير الذي ذكره متّى ليس هو التحذير الذي ذكره لوقا (قارن هذا العدد مع لو ٢٢: ٣١، ٣٢)
لم يلتفت بطرس إلى ما في كلام المسيح من التعزية والوعد، بل إلى ما هو محزن فيه، فجاء جوابه كما يأتي:
فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أظهر بطرس في هذا محبته للمسيح، كما أظهر مبادرته المعتادة إلى الرد السريع، والجسارة، وإظهار اتكاله على نفسه، وجهله بضعفه وكبريائه التي جعلته يظن أنه أثبت من سائر التلاميذ. فكان سقوطه سبيلاً له إلى أن يعلم أنه قابل السقوط. وكان على بطرس أن يتيقن ذلك في إنباء المسيح وليسأل الله المعونة. وذكر لوقا هنا أكثر مما ذكره متّى في شأن هذا الحديث (لوقا ٢٢: ٣١، ٣٢).
ولنا مما ذكر أربع فوائد: (١) العزم الشديد على تجنب الخطية لا يكفي ليمنع الإنسان من ارتكابها، وكذلك النذر والوعد وإن ختمه بدمه. (٢) لا أحد يعرف ضعفه وما سيرتكبه قبل أن يُجرَّب. (٣) قد يترك الله المسيحيين الحقيقيين يقعون في الخطايا الفظيعة ليعلِّمهم ضعفهم. (٤) يجب أن نسأل الله أن يعيننا على الدوام (٢كورنثوس ١٢: ٩، ١٠ وفي ٢: ١٢، ١٣ و٤: ١٣).
٣٤ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّات».
مرقس ٤: ٣٠ ولوقا ٢٢: ٣٤ ويوحنا ١٣: ٣٨
يَصِيحَ دِيكٌ يحتمل صياح الديك ثلاثة معانٍ:
الهزيع الأول من الليل المعروف عادة عند اليهود، كما يظهر من قول المسيح «لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحًا» (مرقس ١٣: ٣٥).
وقت من الوقتين اللذين اعتاد الديك أن يصيح فيهما. أولهما نحو نصف الليل، والثاني قرب الفجر.
صياح الديك معين كما جاء في قوله «اللَّيْلَة قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ» (مرقس ١٤: ٣٠). فوجه الاختلاف بين البشيرين في هذا النبأ تُدفع بأن أحدهم أراد بصياح الديك أحد تلك المعاني، والآخر غيره. والظاهر أن متّى ويوحنا قصدا بصياح الديك قسماً من الليل، ومرقس ولوقا قصدا به صياح الديك حقيقة، لأنهما ذكرا أن الديك صاح مرتين. وذكر هذه النبوة الإنجيليون الأربعة. ولما تمت كانت دليلاً قاطعاً على أن المسيح يعلم الغيب بذاته فهو إله.
تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّات ظن بطرس أن إنكاره إياه ولو مرة واحدة محال، فقال المسيح له إنه ينكره ثلاث مرات. أي ينكر معرفته إياه كما جاء ذلك في إنباء المسيح (لوقا ٢٢: ٣٤) وفي إنكار بطرس (متّى ٢٦: ٧٤). وهو يتضمن إنكار أنه من تلاميذه (لوقا ٢٢: ٥٨). وهذا الإنكار ليس إلا إنكار إيمانه بأن المسيح ابن الله، وهو منافٍ لإقراره السابق (متّى ١٦: ١٦) وإثمٌ عظيم كان يمكن أن يهلكه، لولا توبته (لوقا ١٢: ٩). على أن كثيرين تمثلوا ببطرس في إنكار المسيح وقت الضيق ونسيان نذورهم.
٣٥ «قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ! هٰكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ ٱلتَّلاَمِيذِ».
كان يجب أن يصدق بطرس أن المسيح يعرفه أكثر مما يعرف هو ذاته، لكنه ثبت على كلامه وزاد عليه. إنه يسهل على الإنسان ذكر الموت بشجاعة والموت بعيدٌ عنه، لكنه متّى لاقى الموت وجهاً لوجهٍ جَبُنَ وخاف أشد الخوف. فالاتكال على النفس مقدمة السقوط (أمثال ١٦: ١٨ و١كورنثوس ١٠: ١٢).
جَمِيعُ ٱلتَّلاَمِيذِ أظهر تأكيد بطرس أنه أمين للمسيح، فاقتدى به سائر الرسل، لكنهم جميعاً تركوا معلمهم وهربوا عند اقتراب الخطر (ع ٥٦). ولم يجبهم المسيح شيئاً على قولهم بل ترك الأمر إلى العاقبة لتظهر صدق قوله وقدر أمانتهم.
٣٦ «حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: ٱجْلِسُوا هٰهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ».
مرقس ١٤: ٣٢ الخ ولوقا ٢٢: ٣٩ الخ ويوحنا ١٨: ١
ضَيْعَةٍ أي أرض مزروعة، والمقصود بها هنا أرض محاطة بسياج، فيها أشجار زيتون وغيره، لأنها سُميت أيضاً بستاناً (يوحنا ١٨: ١، ٢٦) وكانت في جبل الزيتون. واسمها في العبراني جثسيماني. وكانت صالحة للتنزه والانفراد. ويحتمل أن صاحبها كان صديقاً ليسوع لأنه اعتاد أن يذهب إليها مع تلاميذه (لوقا ٢٢: ٣٩، ٤٠).
جَثْسَيْمَانِي كلمة عبرانية معناها «معصرة زيت» وهي شرق أورشليم على سفح جبل الزيتون الغربي (لوقا ٢٢: ٣٩) بينها وبين أورشليم وادي قدرون (يوحنا ١٨: ١). «وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ، لأَنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيرًا مَعَ تَلاَمِيذِهِ» (يوحنا ١٨: ٢).
وغاية المسيح في ذهابه إلى ذلك البستان هي أن يقوي نفسه بالصلاة لأجل آلامه المستقبلة، وأن يحتمل هناك بعض تلك الآلام التي يجب أن يحتملها، وأن يعطي أعداءه فرصة لأن يمسكوه بلا هياج ولا ضرر لتابعيه. وما عمله المسيح مثال لنا لنلجأ إلى الله وقت التجربة بالصلاة.
لِلتَّلاَمِيذِ أي لثمانية منهم.
ٱجْلِسُوا هٰهُنَا الأرجح أن المكان الذي أمرهم بالجلوس فيه كان قرب مدخل البستان، ووجودهم هناك كان مانعاً من أن يباغت المسيح أحدٌ وهو يصلي. وأشار بقوله «ههنا» إلى محل منفرد تحت أشجار البستان.
هُنَاكَ أي داخل البستان
٣٧ «ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَٱبْنَيْ زَبْدِي، وَٱبْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ».
متّى ١٤: ٢١ و١٧: ١ ولوقا ٨: ٥١
وأَخَذَ مَعَهُ أي انفرد بالتلاميذ الثلاثة المذكورين هنا دون سائر الرسل.
بُطْرُسَ وَٱبْنَيْ زَبْدِي أي يعقوب ويوحنا (متّى ١٠: ٢) وكان قد اختار هؤلاء الثلاثة ليشهدوا مجده الإلهي على جبل التجلي. واختارهم هنا شهود آلام نفسه وتواضعه لأنه قرَّبهم منه تعزية لهم. واحتياجه إلى مثل هذه التعزية دليل واضح على شدة حزنه واضطرابه.
وَٱبْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ لا نقدر أن ندرك علة اكتئاب المسيح في البستان كل الإدراك، فهو من أسرار الفداء. ولا بد أنه احتمل هناك جزءاً من الآلام التي كان يجب أن يحتملها في فداء الخطاة، فوفَّى حينئذٍ بعض الدَّين الذي على الخطاة لشريعة الله، ووفَّى ما بقي منه وهو معلق على الصليب (إشعياء ٥٣: ٤ – ٦). وحَمل وقتئذٍ خطايا العالم، وحزن واكتأب من عظمة ثقل ذلك الحمل.
والأرجح أن الشيطان رجع إليه في ذلك الوقت يحاربه جديداً بأشد التجارب، لأن جزءاً من غلبة المسيح لأجلنا هو محاربته الشيطان عنا.
ولأن إبليس الذي هو الحية العتيقة علم أن وقته قصير، فجمع كل قواه للهجوم الأخير على «نسل المرأة» ليمنعه من إتمام عمله العظيم، لأن ما بقي من حياته الأرضية كان «ساعة أعدائه وسلطان الظلمة» (لوقا ٢٢: ٥٣). وهذا معنى قوله «لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ.. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ ههُنَا (أي إلى جثسيماني)» (يوحنا ١٤: ٣٠، ٣١).
ولعل طبيعته الإنسانية حُرمت حينئذٍ من تعزية الأب الذي حجب عنه وجهه كما حصل له وهو على الصليب. وذلك كان أشد عذاب له، ولكنه كان ضرورياً لاحتمال القصاص عن الخطاة. هذا مع معرفته كل حوادث الصلب قبل حدوثها من آلام الجسد والنفس، من خيانة أحد تلاميذه، وإنكار غيره له، وترك الجميع إياه، وكل ما جلبه عليه حسد الرؤساء وبغضهم من الإهانة وقسوة الرومان عليه وهزئهم به وضربهم إياه، واضطراب نفسه وآلام جسده على الصليب.
٣٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى ٱلْمَوْتِ. اُمْكُثُوا هٰهُنَا وَٱسْهَرُوا مَعِي».
مزمور ٥٥: ٤، ٥ ويوحنا ١٢: ٢٧
تألم المسيح لأجل الخطاة كل مدة حياته الأرضية، لكن آلامه زادت في تلك الساعة كثيراً.
حَتَّى ٱلْمَوْتِ المراد بذلك أنه اشتد حزنه كثيراً حتى كادت قواه الإنسانية لا تحتمله. ولربما لم يستطع احتماله، أو لم يأته ملاك من السماء يقويه (لوقا ٢٢: ٤٣)، أو أن آلامه كانت حينئذٍ مثل آلام الموت. ومما يعرف أن الناس قد يموتون من مجرد الحزن الشديد. فإذا كانت أحزان الإنسان الخاصة كافية لإماتته أحياناً، فكم بالأحرى تكون أحزان عالم الخطاة في قلب شخص واحد. قال لوقا «صَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لوقا ٢٢: ٤٤).
اُمْكُثُوا هٰهُنَا عيَّن المسيح لهم مكاناً يلبثون فيه وهو يبعد عنهم قليلاً. وذلك ليدفع عنهم ما يلحقهم من الألم بمشاهدتهم آلامه، أو أنه فضَّل أن يحتمل تلك الآلام بدون أن تراه عينٌ بشرية.
ٱسْهَرُوا مَعِي كإنسانٍ شعر باحتياجه إلى أن يشاركه غيره من البشر في شدة أحزانه، فتعزى قليلاً بقرب أولئك الأصحاب الأعزاء من البشر. لذلك سألهم أن يمكثوا بالقرب منه، وأمرهم أن يسهروا لأن ذلك يُظهر مشاركتهم له في الحزن، لأن النوم دليل على عدم الاكتراث بمصابه، ولأن سهرهم وقاية من مباغتة الأعداء له.
٣٩ «ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ، وَلٰكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ».
عبرانيين ٥: ٧ ومتّى ٢٠: ٢٢ ويوحنا ١٢: ٢٧ ويوحنا ١٥: ٣ و٦: ٣٨ وفيلبي ٢: ٨
تَقَدَّمَ قَلِيلاً أي «انفصل عنهم نحو رمية حجر» (لوقا ٢٢: ٤١) وذلك ليجاهد في الصلاة بأكثر حرية. ولم يكن البعد بينه وبين التلاميذ الثلاثة كافياً لمنعهم في يقظاتهم بين نوماتهم المتوالية أن ينظروه تارة جاثياً على الأرض وطوراً مطروحاً عليها، وأن يسمعوا أجزاءً من صلواته لله. وعلى ذلك قيل في الرسالة إلى العبرانيين «الذين في أيام جسده إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت» (عبرانيين ٥: ٧).
فخيرٌ لكل مسيحي أن ينفرد عن الناس للصلاة الشخصية، لأنه وقتها يستطيع أن يعبِّر عن أفكاره بحرية ويظهر تضرعاته واعترافه وهمومه ومخاوفه وآماله وطلباته لأجل غيره.
خَرَّ عَلَى وَجْهِه قال لوقا إنه جثا على ركبتيه. فلا بد من أنه خرَّ على وجهه بعد أن جثا من شدة تضرعه إلى الله.
يَا أَبَتَاهُ حُجب عن نفسه النور السماوي، ومع كل ذلك لم يشك في بنوته لله ومحبة الآب له. كذلك يعزينا نحن أحسن التعزية في أوقات الأحزان أن نعتبر الله أباً لنا، ونخاطبه باعتبار أنه كذلك، ذاكرين أنه «كما يترأف الآب على البنين يترأف الرب على خائفيه» (مزمور ١٠٣: ١٣).
إِنْ أَمْكَنَ زاد مرقس على هذا قول يسوع «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ» (مرقس ١٤: ٣٦) واقتبس لوقا قوله «إن شئت» (لوقا ٢١: ٤٢). أراد المسيح أن يزيل شدة مرارة الكأس التي كان يشربها، إن كان ممكناً أن تتم إرادة الآب بدونها، لأن إرادة المسيح كانت خاضعة لإرادة أبيه. نعم إن الله على كل شيء قدير، لكنه لا يخالف قضاءه الأزلي. وعدم مخالفته لذلك لا ينافي قدرته. فمراد المسيح بقوله «إن أمكن» إنه إن صحَّ بموجب عدل الله وصدقه وقداسته تخليص الخطاة بدون الآلام التي بدأ حينئذٍ يحتملها، فإنه يرغب في ذلك.
لْتَعْبُرْ عَنِّي لو عبرت الكأس عن المسيح لشربها الخطاة كلهم إلى الأبد، لأنه لا بد من أن يشربها إما هو أو الذين ناب عنهم.
هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ أي كأس الكفارة والموت (قارن هذا مع متّى ٢٠: ٢٢) وهي تشتمل على الآلام التي يجب أن يحتملها ليكفر عن آثام البشر. وينبغي أن نعلم أنه أشار بذلك إلى آلامه النفسية لا إلى آلامه الجسدية، لأن ما قاله لتلاميذه سابقاً في شأن موته ينفي ظنَّ خوفه من الموت الجسدي، ويدل على ذلك أيضاً أنه حين جُلد وصُلب وتألم لم ينزعج البتة. ويستحيل أن ابن البار يخاف من تسليم روحه عند الموت إلى يدي أبيه.
إن كأس آلام المسيح هي كأس خلاصنا، شرب كل ما فيها من المر وملأها لنا ابتهاجاً. فإن كانت كأس الأحزان لم تعبر عن ابن الله وهو يسأل ذلك، فهل يحقُّ لنا أن نتذمر إذا طلبنا منه رفع كأس الحزن عنا ولم تُرفع. على أن صلاة المسيح لم تكن عبثاً، لأن الله أجابه بمد يد المساعدة ليقويه على احتمال آلامه (عبرانيين ٥: ٧ ولوقا ٢٢: ٤٣). وسبب أنه لم يُجِز عنه تلك الكأس أنه لا طريق للخلاص بغير أن يشربها، لأن محبة الله لابنه تمنع تعذيبه بلا لزوم. فإنه لعظمة شفقته على البشر الساقطين لم يشفق على ابنه (رومية ٨: ٣٢).
لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا كان المسيح إنساناً تاماً كما كان إلهاً تاماً.. فكانت له مشيئة إلهية. وكان قابلاً للوجع والحزن والضعف والخوف الذي يختص بالطبيعة البشرية (عبرانيين ٤: ١٥ و٥: ١). وقوله «لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا» من جملة أقواله باعتبار أنه إنسان عليه حمل أكثر ما تستطيع طبيعته البشرية حمله. ولا ريب في أن الطبع البشري يطلب في مثل أحوال المسيح تخفيف ذلك إن أمكن، لأن مثل آلام المسيح مما يستحيل أن تختاره طبيعة بشرية. وحاشا للمسيح باعتباره إلهاً وإنساناً معاً أن يكون قد تحول ولو قليلاً في تلك الساعة عن قصده بالموت عن خطايا العالم أو الندم على ذلك.
بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ بقيت طبيعته البشرية في كل ما اختارته أو رفضته ثابتةً في الخضوع لإرادة الآب (مزمور ٤٠: ٦، ٧ ويوحنا ٤: ٣٤)، فلم يكن يريد شيئاً منافياً لإنجاز عهد الفداء. ويظهر من قوله هنا انتصار الروح على الجسد، أي غلبة الروح النشيط الصبور الخاضع لإرادة الآب على الجسد الذي هو محدود القوة على احتمال الآلام. ونحن نظهر مشابهتنا للمسيح بإخضاع مشيئتنا لإرادة الله، وشربنا بالصبر كل كأس من كؤوس الحزن يضعها الآب بيدنا، وإلا فليس لنا روح المسيح ونحن ليس له.
بين أقوال المسيح التي ذكرها متّى ومرقس ولوقا من صلواته فرق زهيد، ولعل سبب ذلك أن كلاً منهم قصد إيراد المعنى لا الألفاظ بعينها. ولا يبعد عن الظن أن المسيح في صلواته الطويلة المكررة نطق بكل الكلمات التي ذكرها الإنجيليون وغيرها أيضاً. فذكر كل إنجيلي ما عرف منها أو استحسنه بحسب غايته.
٤٠ «ثُمَّ جَاءَ إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: أَهٰكَذَا مَا قَدِرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟».
ٱلتَّلاَمِيذِ أي الثلاثة: بطرس ويعقوب ويوحنا، وأتى إليهم للتعزية وليحذرهم من خطر التجربة.
فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً قال لوقا إنهم ناموا حزناً (لوقا ٢٢: ٤٥). وقد أثبت الأطباء أن الحزن الشديد وتوقع الموت يجلب النوم الثقيل. ولكن يختلف تأثير ذلك باختلاف الطباع، فإنه يوقظ البعض وينيم البعض الآخر. وتخلَّص التلاميذ من شدة الحزن بالنوم، ولكن المسيح غلب الحزن بالصلاة. وكان فعلهم في تلك الساعة كفعلهم في جبل التجلي، لأنهم ناموا حينئذٍ والمسيح يصلي. ولا عجب من أن التلاميذ ناموا لأنه كان نحو نصف الليل.
فَقَالَ لِبُطْرُسَ وجَّه المسيح كلامه إلى بطرس لأن بطرس سبق ووعد بالمحبة للمسيح والثبوت فيها أكثر مما وعد بهما باقي الرسل.
أَهٰكَذَا مَا قَدِرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي كأنه قال: إن لم تستطيعوا مقاومة النوم فكيف تستطيعون مقاومة التجارب العظمى؟ قلتم إنكم مستعدون أن تموتوا معي، أفلا تقدرون أن تسهروا قليلاً معي في ضيقتي؟
سَاعَةً وَاحِدَةً لا دليل لنا على أن المسيح أراد بالساعة معناها الحقيقي، وأنها نفس الزمن الذي مضى عليهم وهم نائمون، أو أنه أراد بها «وقتاً قصيراً». وفي السؤال إظهار حزنه لنومهم وتعجُّبه منه، وتبكيته لهم عليه لأنهم لم يشعروا بالخطر المحيط بسيدهم وبهم أيضاً. ولأنهم نسوا مواعيدهم منذ عهد قصير، ولأنهم لم يظهروا المشاركة التامة له في الحزن. ولا شك في أنه زاد حزناً لما رآهم نائمين بعد ما طلب منهم أن يسهروا معه.
٤١ «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ».
مرقس ١٣: ٣٣ و١٤: ٣٨ ولوقا ٢٢: ٤٠، ٤٦ وأفسس ٦: ١٨.
اِسْهَرُوا وَصَلُّوا ذكر المسيح واجبين ينبغي أن يقترنا معاً، فكان عليهم أن يسهروا لأنهم كانوا حينئذٍ عُرضة لتجارب عظيمة، وليكونوا مستعدين لدفعها في أول هجومها وهم صاحون منتبهون. وعليهم أن يصلوا، أي أن يطلبوا معونة الله، لأن من الحماقة أن يحارب الإنسان الشيطان بدون طلب المعونة الإلهية. فيجب علينا أن نلجأ إلى الله في أول قدوم التجربة.
لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ ومعنى ذلك كمعنى الطلبة السادسة في الصلاة الربانية. فأراد أن يسهروا ويصلوا لئلا تغلبهم التجربة. والتجربة التي كانوا معرَّضين لها حينئذٍ هي فقدان ثقتهم بالمسيح وتركهم إياه عند زوال أمانيهم وآمالهم الأرضية. ولا يليق بأحد أن يدخل في التجربة اختيارياً لأن المسيح نفسه لم يدخل في التجربة إلا لما أصعده الروح (متّى ٤: ١).
أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ أي ميلكم إلى السهر معي وإلى كل خدمة لي أمر حسن. قال ذلك وهو عالم أن بطرس سينكره والكل يتركونه، لأنه تأكد أنهم يحبونه وأنهم عازمون على أن يكونوا أمناء له وثابتين في الإيمان به. وإنهم قالوا بإخلاص إنهم مستعدون أن يمضوا معه إلى السجن وإلى الموت (لوقا ٢٢: ٣٣ ومتّى ٢٦: ٣٥). ولكن مجرد الميل الحسن إلى الصلاح لا يتكفل بحفظ الإنسان (سواء كان رسولاً أو غيره) من الوقوع في الخطية عند التجربة.
وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ المراد بالجسد هنا الانفعالات البشرية التي تجعل الإنسان ينفر من الألم والعار والخطإ وتعرُّض الروح للتجربة. وذكَّر المسيح رسله بضعف أجسادهم لا ليعذرهم على نومهم بل ليحثَّهم على السهر والصلاة. ومن اقتران الروح النشيط بالجسد الضعيف في المسيحي تحدث فيه المحاربة بين الطبيعتين الروحية والجسدية (رومية ٧: ٢١ – ٢٥). «لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر» (غلاطية ٥: ١٧) ولكن روح المسيح النشيط غلب الجسد الضعيف وقت التجربة. وأما الرسل فجسدهم الضعيف غلب روحهم النشيط حينئذٍ.
٤٢ «فَمَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ».
فَمَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قال لوقا إنه «كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لوقا ٢٢: ٤٤).
أظهر متّى أن الفرق بين صلاة المسيح الأولى وصلاته الثانية، في زيادة تسليم إرادته إلى إرادة الآب، لأنه لم يسأل في الثانية أن تعبر الكأس عنه بل أن تكون له القدرة على إتمام إرادته تعالى. وأجاب الله صلاته كما أجاب صلاة بولس بأن أعانه على التجربة (٢كورنثوس ١٢: ٨ – ١٠) ومجيء الملاك لمساعدته كما قال لوقا دليل على أن طبيعة المسيح الإلهية لم تساعد طبيعته البشرية في وقت آلامه، لأن المسيح تألم كأحد البشر، واحتاج إلى تعزية بشرية كسائر الناس وإلى الضروريات الجسدية من مستلزمات القوت والكسوة وما أشبههما، وقوَّت الملائكة طبيعته البشرية كغيره من الأتقياء (عبرانيين ١: ٧).
٤٣ «ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً».
لم يكف توبيخ المسيح للرسل وأمره إياهم بالسهر أن يمنعهم من النوم الذي تسلط عليهم. ولم يذكر متّى أن المسيح أيقظهم ولا أنه تركهم نائمين. لكن نستنتج من مرقس أنه أيقظهم، ولم يستطيعوا أن يجيبوه بشيءٍ لفرط ما عراهم من الخجل (مرقس ١٤: ٤٠).
٤٤ «فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذٰلِكَ ٱلْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ».
تكرار الصلاة لفرط الأشواق القلبية ليس بالتكرار الباطل الذي نهى المسيح عنه (متّى ٦: ٧) ولا ريب في أن الله أجاب صلوات المسيح بمنحه القوة على احتمال كل ما كان عليه من الآلام، وهو وفق قول الكتاب «الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طَلِبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ» (عبرانيين ٥: ٧). ونحن عندما نصرخ إلى الله في بليَّة يهبنا القوة على احتمالها بالصبر والنعمة، لنستفيد منها استجابةً لصلواتنا التي ندعوه فيها لرفع تلك البلية عنا.
٤٥، ٤٦ «٤٥ ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: نَامُوا ٱلآنَ وَٱسْتَرِيحُوا. هُوَذَا ٱلسَّاعَةُ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلْخُطَاةِ. ٤٦ قُومُوا نَنْطَلِقْ. هُوَذَا ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ ٱقْتَرَب».
إِلَى تَلاَمِيذِهِ ليس إلى الثلاثة فقط بل إلى الثمانية الآخرين أيضاً. ولم يظهر من كلامه هنا المعنى الذي قصده في خطابه لهم، لكن مقتضيات الحال توضحه، فإن المسيح كان يتوقع مجيء يهوذا الخائن بفرقة من العسكر ليقبض عليه، فوضع بعض تلاميذه قرب مدخل البستان كحراس يحفظونه من هجوم الأعداء عليه بغتة. وأخذ معه البعض وأمرهم بالسهر والصلاة، ثم انفصل عنهم قليلاً وصلى سائلاً الآب دفع تلك التجربة عنه إن أمكن، وإلا فيمنحه قوةً على احتمالها. فكانت نتيجة صلواته أنه تأكد أن عبور تلك الكأس عنه غير ممكن، ولكنه نال قدرةً على شربها، ولذلك امتنع عن طلب عبورها عنه، واستعد لاحتمال كل ما كان عليه أن يقوم به، فأنبأ تلاميذه بأنه لا حاجة إلى أن يسهروا ويصلوا معه بعد، وإن فرصة مساعدتهم له على مقاومة التجربة قد مضت.
وقد قصد المسيح بقوله «نَامُوا ٱلآنَ وَٱسْتَرِيحُوا» إعفاءهم مما أمرهم به في ع ٣٦، ٣٨، ٤٠، ٤١. وأباح لهم الراحة والنوم بدون تقييد بوقت معين فكأنه قال: لم يبقَ داعٍ لسهركم وصلاتكم معي، وإن فعلتم ذلك لا ينفعني الآن شيئاً. فإذاً ناموا واستريحوا متّى تريدون وبقدر ما تشتهون.
ٱلسَّاعَةُ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ مضت ساعة السهر والصلاة التي ذُكرت في ع ٤٠ وأتت ساعة الآلام.
قُومُوا المرجح أن المسيح قال ذلك عند ابتداء ظهور «الجمع الكثير بالسيوف والعصي والمصابيح» والخلاف بين قوله هنا وقوله قبلاً «ناموا واستريحوا» لفظيٌ لا معنويٌ، لأن المقصود بأمره لهم بالنوم والاستراحة إباحة عدم السهر والصلاة لمنع الأعداء عنه ولنوال القوة له ولهم. وقال بعضهم إن قصد المسيح بقوله «ناموا واستريحوا» هو التعجب والاستغراب. فكأنه قال لهم: أهذا وقت النوم والراحة ومعلمكم يُسلَّم إلى الأعداء؟.. وهذا وفق قوله «لماذا أنتم نيام؟» (لوقا ٢٢: ٤٦) أي هذا وقت الانتباه والعمل لا وقت النوم والراحة.. قوموا ننطلق. وقال آخرون إنه أذن لهم في النوم والاستراحة بذلك القول على تقدير قوله «إن قدرتم» فيكون المقصود: أنا لا أمنعكم من النوم إن لم يمنعكم الأعداء، لكنهم لا بد أن يمنعوكم لأن الخائن قريبٌ منا. وقال البعض إنه مضت مدة بين قوله «ناموا واستريحوا» وبين قوله «قوموا ننطلق» وقد تركهم يسوع نائمين فيها حتى شاهد الجمع مقبلاً فأيقظهم بقوله الثاني. وكل هذه التفاسير مقبولة، والأرجح عندنا ما ذكرناه أولاً.
نَنْطَلِق لمقابلة الأعداء المقبلين، ولمواجهة الخطر الذي لم يُرِد أن يهرب منه أو يمنع وقوعه.
هُوَذَا ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي هو الذي أخبرهم به في عدد ٢١. وكان مستيقظاً مجتهداً في تسليم المسيح فيما كان أصحابه الأحد عشر نياماً.
٤٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ ٱلشَّعْبِ».
مرقس ١٤: ٤٣ الخ ولوقا ٢٢: ٤٧ الخ ويوحنا ١٨: ٣ وأعمال ١: ١٦.
ذكر البشيرون الأربعة القبض على المسيح، وقد شاهد متّى ويوحنا ذلك. ولعل مرقس نقل الخبر عن بطرس الذي هو شاهد عينٍ. والذي أورده لوقا أكثر اختصاراً مما ذكره غيره. ويوحنا وحده ذكر سقوط الجنود الذين قبضوا عليه إلى الأرض.
وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّم أي أن وصول الأعداء أيقظهم من نومهم.
يَهُوذَا أي الإسخريوطي، فإنه كان يعرف ذلك الموضع الذي اعتاد المسيح أن يجتمع فيه بتلاميذه (يوحنا ١٨: ١).
أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ ذُكر هذا ليبين فظاعة خيانته، فمع أنه من رسل المسيح أقنع الرؤساء أن يمسكوه في وقت العيد على غير قصدهم الأول.
جَمْعٌ كَثِيرٌ كان هذا الجمع مؤلفاً
(١) من الجند المعين لخدمة الهيكل (يوحنا ١٨: ٣ ولوقا ٢٢: ٥٢). وكان هؤلاء يهوداً. وذُكروا أيضاً في ٢ملوك ١١: ٩ ويوحنا ٧: ٢ وأعمال ٤: ١ – ٣ وأتوا حاملين عصياً و
(٢) من فرقة عساكر الرومان (يوحنا ١٨: ٣، ١٢) أرسلهم بيلاطس للقبض على المسيح، خاصة بطلب من مجلس السبعين، أو لخدمة ذلك المجلس خدمة عامة في مدة العيد. وهذا يوافق قول بيلاطس لأهل ذلك المجلس «عندكم حرَّاس» (متّى ٢٧: ٦٥) وكان رجال ذلك المجمع متسلحين بسيوف قصيرة.
(٣) من خدم رئيس الكهنة الذين أتوا للمشاورة أو للمساعدة أو للشماتة بمصاب خصم سيدهم كما أظهروا بعد ذلك (ع ٦٧ ومرقس ١٤: ٦٥)
(٤) من بعض أعضاء المجلس من الكهنة والشيوخ الذين أتوا بأنفسهم ليشاهدوا القبض عليه (لوقا ٢٢: ٥٣). ويحتمل أنه كان مع هؤلاء لفيف ممن اعتادوا أن يجتمعوا في المدينة إذ علموا أن فرقة من العسكر تذهب للقبض على أحد منهم. والظاهر أن رجال الجمع كانوا كثيرين كأنهم كانوا يتوقعون مقاومة عنيفة. وربما قصد الرؤساء بجمع أولئك الكثيرين أن يوقعوا الشبهة على المسيح أنه من كبار الأثمة وأهل الشغب. وأخذ ذلك الجمع مصابيح ومشاعل، مع أن القمر كان يومئذٍ بدراً بغية أن يفتشوا عن المسيح في مخابئ ذلك البستان، سواء في كهف أو ظل شجرة لظنهم أنه يختبئ فيه. وكان قدام هذا الجمع كله الخائن يهوذا.
مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَة الخ أي من عند مجلس السبعين على ما يرجح.
٤٨، ٤٩ «٤٨ وَٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: ٱلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ. ٤٩ فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي! وَقَبَّلَهُ».
٢صموئيل ٢٠: ٩
أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً أي عيَّن لهم قبل الوقت ما يمنعهم من القبض على غير المسيح. وهذا ما كان يحتاج إليه القابضون، ولا سيما الجند الروماني ليميزوا بينه وبين تلاميذه.
أُقَبِّلُهُ القبلة علامة المحبة والصداقة والأمانة (خروج ٤: ٢٧ و١٨: ٨ و١صموئيل ٢: ٤١ و٢صموئيل ١٥: ٥) ولنا من عادات اليهود والمسيحيين الأولين إن التلاميذ كانوا يقبّلون معلمهم مثلما كان المؤمنون يقبل بعضهم بعضاً إكراماً (رومية ١٦: ١٦ و١تسالونيكي ٥: ٢٦).
أَمْسِكُوهُ.. بحرص هذا دليل على أن يهوذا خاف أن يأتي أصحاب المسيح ويخلصوه. أو أن المسيح يستعمل قوته في المحاماة عن نفسه. أو أن يتوارى عنهم كما كان يفعل سابقاً حين أحاط الأعداء به ليوقعوا به الضرر (لوقا ٤: ٣٠ ويوحنا ٨: ٥٩ و١٠: ٣٩).
لِلْوَقْتِ تَقَدَّم أي يهوذا قبل كل الجمع.
ٱلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي! مما زاد فظاعة إثم يهوذا رياءه باتخاذ علامة الصداقة وتحية المودَّة وسيلة إلى خيانته القاسية بلا خوف ولا حياء. وهذا يذكرنا بقبلة يوآب الخادعة لعماسا (٢صموئيل ٢٠: ٩، ١٠).
٥٠ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟ حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا ٱلأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ».
مزمور ٤١: ٩ و٥٥: ١٣
صَاحِبُ أي رفيق لا حبيب (متّى ٢٠: ١٣ و٢٢: ١٢).
لِمَاذَا جِئْتَ؟ لم يجهل المسيح غاية مجيئه فسأله لينبه ضميره ويجعله يتأمل في الإثم الذي ارتكبه. وزاد لوقا على ذلك قوله «يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» (لوقا ٢٢: ٤٨) وفي ذلك الوقت حدثت المخاطبة المذكورة في يوحنا ١٨: ٤ – ٨ بين المسيح وقادة العسكر.
٥١ «وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ مَدَّ يَدَهُ وَٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذُنَهُ».
يوحنا ١٨: ١٠
وَاحِد أي بطرس (يوحنا ١٨: ١٠، ١١).
كتب يوحنا إنجيله بعد خراب أورشليم حين زال الخطر عن أتباع المسيح إذا ذُكر اسم أحدهم في أمر يتعرض به لانتقام الحكام.
ٱسْتَلَّ سَيْفَه لم يكن مع الرسل سوى سيفين (لوقا ٢٢: ٣٣) كان أحدهما مع بطرس وفق ما يُنتظر من صفاته في الشجاعة والتسرُّع.
عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ ذكر يوحنا أن اسم هذا العبد كان ملخس. ولعل ذلك العبد كان المتقدم إلى القبض على يسوع.
فَقَطَعَ أُذُنَهُ أي الأذن اليمنى كما أبان يوحنا. كان التلاميذ قد سألوا المسيح قبلاً: أيضربون أم لا؟ (لوقا ٢٢: ٤٩) فلم يصبر بطرس إلى أن يسمع الجواب، فسبق إلى الضرب بسرعة. والدليل على ذلك أن سيفه أخطأ المقتل ولم يبلغ سوى أُذن العبد.
٥٢ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ».
تكوين ٩: ٦ ورؤيا ١٣: ١٠
رُدَّ سَيْفَكَ وجَّه هذا الكلام إلى بطرس لأن السيف كان مسلولاً بيده. وأمر المسيح بذلك دليل واضح على أنه لم يُرد أن يحارب تلاميذه عنه.
إِلَى مَكَانِهِ أي إلى غمده.
كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ الخ هذا كلام جارٍ مجرى المثل وجَّهه المسيح أولاً إلى بطرس، وقصد به أن مقاومته للجمع المقبل عليه من الجهالة، ولا ينفع المسيح ولا يرضيه، بل إنه يجلب الخطر على التلاميذ. ودفع الخطر عن بطرس بشفائه أذن ملخس التي لو بقيت مقطوعة لأقاموا الدعوى عليه. ولكن إبراء المسيح إياها منعهم من إقامة الدعوى خوفاً من إذاعة نبأ المعجزة. وكان يجب أن المشاهدين كلهم يتخذون تلك المعجزة برهاناً على أن يسوع شخص إلهيٌ. وقصد المسيح من قوله لبطرس ما ذُكر، تنبيه تلاميذه على أن مقاومتهم للجند تُعرضهم للقتل. ومعناه عموماً أن الغاصبين يُغصبون والمعتدين يُعتدى عليهم (تكوين ٩: ٦ ورؤيا ١٣: ١٠). والذي يصدق على الشخص يصدق على الأمة. فإذا سلَّت أمة سيوف الحرب للهجوم سلتها الأمة الأخرى للدفاع. وسيف العصيان يجلب على من يستله سيف الانتقام. وتتعلم الكنيسة من ذلك أن ربها لا يريد أن تحمي نفسها أو تنتصر على غيرها بالأسلحة الجسدية (٢كورنثوس ١٠: ٣، ٤) لأن أسلحتها روحية، وهي كلام الله والصلاة والصبر. والانتقام لله لا لها (رومية ١٢: ١٩) ولكن ذلك لا يمنع على الإطلاق استعمال السيف لأن الإنجيل يجيز ذلك في بعض الأوقات (رومية ١٣: ٤).
٥٣ «أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ ٱلآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ ٱثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ؟».
٢ملوك ٦: ١٧ ودانيال ٧: ١٠
أَتَظُنُّ قال ذلك تنبيهاً لإيمان بطرس ليذكر ما رآه من قوة المسيح، لأن عمله دلَّ على أنه نسي قدرة المسيح على المعجزات، وأنه شكَّ في عناية الله بابنه وظنَّه أنه قد تركه. وأكد المسيح بما قاله لبطرس وسائر الرسل أن تسليمه تمَّ باختياره لا رغماً عنه.
أَسْتَطِيعُ أي أقدر إن أردت مقاومة الأعداء.
ٱلآنَ أي في حال قبض الأعداء عليَّ. وخلاصة كل هذا الحديث أنه لو أراد المقاومة وسأل المدد لأرسل الآب السماوي له في الحال المعونة الكافية.
ٱثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً لعله ذكر هذا العدد من جيوش الملائكة وفقاً لعدد تلاميذه في الأصل، فكأنه قال: لي عند الآب بدلاً من اثني عشر شخصاً ضعفاء وأحدهم خائن، اثنا عشر جيشاً من الملائكة المقتدرين قوة. والجيش هنا في الأصل اليوناني «لجئون» أو فيلق، وهو القسم الأكبر من أقسام الجنود الرومان وعدد رجاله عندهم ستة آلاف. وذكر هذا العدد العظيم ليبين قوته بالنسبة إلى تلك الفرقة الصغيرة التي أتت لتقبض عليه. ويحتمل أنه لم يقصد بذلك سوى عدد لا يُحصى من الملائكة. فإذا كان ملاك واحد ضرب في ليلة واحدة ١٨٥ ألفاً من جنود الأشوريين (٢ملوك ١٩: ٣٥) فما قولك باثني عشر جيشاً ينقضّون على تلك الفرقة الصغيرة!
ويتعزَّى المسيحيون بمعرفتهم أن تحت أمر المسيح دائماً جيشاً من الملائكة هذا عدده، وأنه صاحب السلطان مع الآب، وأنه شفيعهم.
٥٤ «فَكَيْفَ تُكَمَّلُ ٱلْكُتُبُ: أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟».
إشعياء ٥٣: ٧ الخ وع ٢٤ ولوقا ٢٤: ٢٥، ٤٤، ٤٦
فَكَيْفَ تُكَمَّلُ أي كيف تكمل إذا سألتُ الآب المساعدة ونجوتُ من الخطر المحيط بي؟
ٱلْكُتُبُ هي التي تنبئ بآلامه وموته (مزمور ٢٢ وإشعياء ص ٥٣ ودانيال ٩: ٢٦ وزكريا ١٣: ٧).
فالمسيح سلم نفسه إلى الأعداء بلا مقاومة لكي تكمل هذه النبوات وغيرها، ويجهز الخلاص للعالم. وتلك النبوات تظهر مشيئة الله وقصده. وليس من العدل أن يضع الله خطايا العالم على يسوع البار إلا وهو راضٍ بذلك. وقال ذلك تعزية للتلاميذ وتقوية لإيمانهم، لأنه أكَّد لهم أن كل تلك الحوادث المحزنة قضى بها الآبُ في سابق علمه. فهي لم تقع على المسيح بغتة، ويجب أن لا يعثر تلاميذه.
٥٥ «فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ قَالَ يَسُوعُ لِلْجُمُوعِ: كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي».
لِلْجُمُوعِ أي لرؤساء الكهنة وقادة جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه (لوقا ٢٢: ٥٢).
كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ لم يعترض المسيح على قبضهم عليه بل على طريقته ووقته، لأنهم قبضوا عليه كما يُقبض على شر الأشقياء وكما قبضوا على باراباس (يوحنا ١٨: ٤٠) كأنهم توقعوا أن يقاومهم مقاومة عنيفة لا كمعلم هادئ محب للسلام. وطريق القبض عليه كما ذُكر زاد عار تسليمه إلى الموت. وما ذكره متّى ليس كل العار الذي وقع عليه حينئذٍ، لأن العسكر والخدم أوثقوه أيضاً (يوحنا ٨: ١٢).
كُلَّ يَوْمٍ أي عدة أيام متوالية في ذلك الزمان، ومراراً في أثناء ممارسته وظيفته.
أَجْلِسُ هادئاً لا أؤذي أحداً، ولا أظهر شيئاً من القسوة التي تقتضيها أعمالكم واستعدادكم إلى أن تمسكوني.
أُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ أي جهاراً حتى لا يكون لكم أن تتهموني بدسائس سرية تحتاجون بها إلى أن تقبضوا عليَّ سراً، ولأن علة دعواكم عليَّ هي كلماتي. فلماذا لم تمسكوني وأنا أُعلم أمامكم؟!
وَلَمْ تُمْسِكُونِي هذا دليل على أنكم لم تجسروا على ذلك علانية، وأنه لا حجَّة لكم تبرركم أمام الناس بقبضكم عليَّ (متّى ٢١: ٤٦).
٥٦ «وَأَمَّا هٰذَا كُلُّهُ فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ ٱلأَنْبِيَاءِ. حِينَئِذٍ تَرَكَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا».
مراثي إرميا ٤: ٢٠ وع ٥٤ ومرقس ١٤: ٥٠ ويوحنا ١٨: ٥
كُتُبُ ٱلأَنْبِيَاءِ أي الكتب التي أنبأت بآلامي وموتي. وخيانة يهوذا وظلمكم لم يكونا إلا بمقتضى قضاء الله الأزلي. فكرر لهم هنا ما قاله قبلاً لتلاميذه (ع ٥٤) وأظهر به لهم أن الذي قدَّرهم عليه لا أيديهم ولا عصيهم ولا سيوفهم ولا رُبطهم، بل مجرد إرادته، وكان ذلك إتماماً لمقاصد الله المكتوبة في كتب الأنبياء.
حِينَئِذٍ تَرَكَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ لأنهم خافوا من هجوم الجند عليهم ليلاً، وبسبب خيبة آمالهم بالقبض على المسيح الذي لم يظهر شيئاً من قوته لإنقاذ نفسه. ولأن كلامه أبان أنه عزم أن يسلم نفسه إلى أيدي أعدائه ليفعلوا به ما قضى الله به. فخوفهم وخيبة آمالهم أنسياهم وعدهم أنهم لا يتركونه (ع ٣٥) فهربوا. ولا شك أن هربهم زاد كأس المسيح مرارة «لأنه داس المعصرة وحدهُ، ومن الشعوب لم يكن معه أحدٌ، ونظر ولم يكن له معين وتحيَّر إذ لم يكن له عاضد» (إشعياء ٦٣: ٣، ٥) والمسيح حين سلم نفسه إلى الأعداء سألهم أن يتركوا تلاميذه (يوحنا ١٨: ٨) وذكر متّى هنا أن كل التلاميذ هربوا، والظاهر أن اثنين منهم (وهما يوحنا وبطرس) عندما رأيا أن لا أحد لحق التلاميذ ليقبض عليهم، رجعا وتبعا المسيح من بعيد.
٥٧ «وَٱلَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، حَيْثُ ٱجْتَمَعَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلشُّيُوخُ».
مرقس ١٤: ٥٣ الخ ولوقا ٢٢: ٥٤ الخ ويوحنا ١٨: ١٢، ١٣، ١٤
حُوكم المسيح أمام القضاة والحكام ست مرات: ثلاثاً قدام قضاة من اليهود، واثنتين أمام بيلاطس، وواحدة أمام هيرودس.. واستُهزئ به أربع مرات. وبُرّئ ثلاث مرات. وحُكم عليه مرتين. وأول محاكمة جرت عليه كانت أمام حنان رئيس الكهنة السابق، وبقي يُسمَّى برئيس الكهنة بعد عزلهِ، وبقيت سلطته الجبرية كما كانت قبل ذلك لتقدمه وفرط ذكائه. وفي هذه المحاكمة لم يُطلب شهود، ولم يذكرها سوى يوحنا (يوحنا ١٨: ١٣ – ٢٣). والمرة الثانية أمام قيافا، وذكرها متّى في هذا العدد ومرقس ١٤: ٥٣ – ٦٤. والثالثة أمام المجلس صباح يوم الجمعة، وذكر وقوف المسيح فيه وما جرى حينئذٍ لوقا وحده (لوقا ٢٢: ٦٦ – ٧١)، ولو أن متّى اقتصر على ذكر اجتماع المجلس والحكم وقتئذٍ (متّى ٢٧: ١). وكانت المحاكمة الأولى فحصاً استعدادياً. وكانت الثانية لإبراز الشهادات عليه من فمه ومن غيره، وحكموا عليه فيها ليلاً، وذلك لم يكن شرعياً. وكانت الثالثة للحكم بالموت عليه شرعاً. وفي أثناء تلك المحاكمات أنكره بطرس. ولا فرق بين ذكر إنكاره قبل ذكر المحاكمة وذكره بعدها. فاستحسن لوقا ذكره قبلها، واستحسنه متّى ومرقس بعدها، واستحسن يوحنا ذكره في أثناء كلامه على المحاكمة.
إِلَى قَيَافَا أي إلى قصر قيافا. والظاهر أن ذلك القصر كان واسعاً معداً لرئيس الكهنة، يشتمل على ساحة واسعة تحيط بها المخادع والغُرف. والأرجح أنه كان لكل من حنان وقيافا موضعاً خاصاً في ذلك القصر. وكان هناك إيوان (أو بيت كبير) ترتفع أرضه عن أرض الساحة (مرقس ١٤: ٦٦) كان يجلس فيه أعضاء مجلس السبعين أحياناً. وأوقف المسيح أمام قيافا ليسمع الدعوى عليه ثانية، لأنه وقف أمام حميه حنان (يوحنا ١٨: ١٩ – ٢٣). وكان ذلك في أثناء مجيء الأعضاء إلى المجلس في نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، على ما يُظن. وقُصد بالمحاكمة الليلية السرية أن لا تعرف بها الجماهير التي تحب يسوع فتحاول تخليصه من أيديهم، بينما هم (أي الرؤساء) يريدون هلاكه لا خلاصه.
وقيافا صدوقي كحنان (انظر شرح ع ٣) تولى رئاسة الكهنة عشر سنين، من سنة ٢٧ – ٣٧م، وهو الذي قال قبل ذلك: خير أن يموت المسيح (يوحنا ١١: ٥٠).
ٱلْكَتَبَةُ وَٱلشُّيُوخُ كان اجتماعهم، اجتماع المجلس الكبير الذي يسمَّى مجلس السبعين، بغتةً. وكان لا يُحسب الاجتماع شرعياً ما لم يكن عدد المجتمعين ثلاثة وعشرين فما فوق. وكان من قوانينهم أنهم مهما حكموا في ذلك المجلس ليلاً فإنه لا يُعد شرعياً ما لم يكرر نهاراً. ويُحتمل أنهم اجتمعوا سابقاً، وكانوا يتوقعون رجوع الفرقة التي ذهبت للقبض على المسيح. والمرجح أن قيافا دعاهم بعدما عرف أنه قُبض على المسيح.
٥٨ «وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ ٱلْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ ٱلنِّهَايَةَ».
يوحنا ١٨: ١٥
أَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَه وذلك لأمرين: (١) محبته الشخصية للمسيح، و(٢) رغبته في مشاهدة ما يحدث.
إِلَى دَارِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ أي إلى ساحة الدار حيث أضرم الخدم ناراً للاصطلاء (لوقا ٢٢: ٥٥) وسبق بطرس تلميذ آخر هو يوحنا، وأدخل بطرس (يوحنا ١٨: ١٥، ١٦).
وَجَلَسَ بَيْنَ ٱلْخُدَّامِ جلس بعض الوقت كما هنا ووقف وقتاً آخر يصطلي كما ذكر يوحنا (يوحنا ١٨: ١٨) والظاهر أنه ظن أن لا أحد يعرفه ولا يلتفت إليه.
لِيَنْظُرَ ٱلنِّهَايَةَ يدل هذا على أن رغبة بطرس في مشاهدة ما يجري هنالك كانت سبب مجيئه.
٥٩ «وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ».
وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ أي كل من حضر المجلس من الأعضاء. والأرجح أن يوسف الرامي ونيقوديموس (وهما من أعضاء ذلك المجلس) كانا غائبين (لوقا ٢٣: ٥١ ويوحنا ٧: ٥٠، ٥١ و١٩: ٣٩).
٦٠ «فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلٰكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ».
مزمور ٢٧: ١٢ و٣٥: ١١ ومرقس ١٤: ٥٥، ٥٦ وأعمال ٦: ١٣ وتثنية ١٩: ١٥
فَلَمْ يَجِدُوا أي لم يجدوا شهادة يستطيعون أن يبنوا عليها الحكم بقتله «لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ» (مرقس ١٤: ٥٦، ٥٩).
وَلٰكِنْ أَخِيراً أي بعد المحاورات عبثاً.
شَاهِدَا زُورٍ هذا أقل عددٍ تقوم به الشهادة شرعاً (عدد ٣٥: ٣٠ وتثنية ١٧: ٩ و١٩: ١٥).
٦١ «وَقَالاَ: هٰذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ».
متّى ٢٧: ٤٠ ويوحنا ٢: ١٩
قال المسيح لليهود منذ ما يزيد عن سنتين قبل ذلك «انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ.. وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ» (يوحنا ٢: ١٩، ٢١) وشهدوا عليه هنا بأنه قال ذلك عن الهيكل الحقيقي. وبين شهادتهم وقول المسيح فرق عظيم، لأنه قال إنه يقيمه في ثلاثة أيام إذا نقضوه هم. وهم شهدوا أنه قال: أنا أقدر أن أنقضه. وما قاله على جسده مجازاً قالوه على هيكل أورشليم حقيقة. وهذه الشهادة الكاذبة لم تنفعهم شيئاً لأن الشهود اختلفوا فيها. ولو أثبتوا عليه أنه هدَّدهم بأن يخرب الهيكل لحكموا عليه بالتجديف (أعمال ٦: ١٣). على أن أعضاء المجلس كلهم كانوا يعلمون ما أراد المسيح بالهيكل كل المعرفة، ودليل ذلك قول المجلس لبيلاطس «تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ» (متّى ٢٧: ٦٣).
٦٢ «فَقَامَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هٰذَانِ عَلَيْكَ؟».
مرقس ١٤: ٦ الخ
سؤال رئيس الكهنة هنا نتيجة عجزه عن أن يجد علة للشكوى ضده، فحاول أن يحمل المسيح على أن يشتكي على نفسه. وحَمل إنسانٍ أن يشتكي على نفسه إذا لم تثبت الدعوى عليه ينافي قوانين العدل. ومعنى السؤال: هل شهادة هذين الشاهدين عليك من جهة نقض الهيكل صادقة أم كاذبة؟ وقيام رئيس المجلس في مثل تلك الحال ليخاطب المدَّعى عليه دليل على أنه محتدٌّ لأنه عجز عن أن يجد علة على المسيح.
٦٣ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ: أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ؟ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».
إشعياء ٥٣: ٧ ومتّى ٢٧: ١٢، ١٤ ولاويين ٥: ١ و١صموئيل ١٤: ٢٤، ٢٦.
فَكَانَ سَاكِتاً ولعل المجلس أيضاً بقي ساكتاً يتوقع الجواب من يسوع. وكان سكوت المسيح إتماماً لنبوة إشعياء (إشعياء ٥٣: ٧) ووفقاً لشهادة بطرس (١بطرس ٢: ٢٣). وسكت لعلمه أن المجلس قرر قتله، وأن كلامه لا يدفعهم إلى عدل أو رحمة. ولو فسر ما قصده من كلامه عن نقض الهيكل ما قبلوا تفسيره ولا تعليمه.
أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ هذا هو القسَم العادي في الشريعة اليهودية (عدد ٥: ١٩، ٢١ ويشوع ٧: ١٩) ومعناه: أسألك أن تحلف بالله أن تشهد بالحق كله، كأنك واقف في حضرة الإله الحي.
هَلْ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ؟ لا علاقة لهذا السؤال بشهادة الشاهدين، فظهر منه الدافع الحقيقي. فلم يكن حكم الإدانة بسبب كلام المسيح عن الهيكل، ولا أنه يهيج الفتنة بين الناس كما شهدوا عليه أمام بيلاطس (لوقا ٢٣: ٢) بل يدينونه لأنه وهو إنسان فقير ادَّعى أنه المسيح المنتظر.
ٱبْنُ ٱللّٰهِ يظهر من بشارة لوقا أن السؤال الواحد هنا هو مجموع سؤالين، أي «هل أنت المسيح؟» و «هل أنت ابن الله؟». ولم يفرِّق أنبياء العهد بين مضموني هذين السؤالين لأنهم اعتقدوا أن المسيح هو ابن الله (مزمور ٢: ٧ و٤٥: ٦، ٧ وإشعياء ٧: ١٤ و٩: ٦ وميخا ٥: ٢). وأما اليهود في أيام المسيح فالمرجح أنهم اعتقدوا أن المسيح نبي وملك وفاتح منتصر. وسبب ذلك السؤال كله هو أن يجدوا ما يشتكون به على المسيح من تجديف. ولم يكن يسوع مضطراً إلى الإجابة، فتكلم لا ليتخلَّص منهم، بل لئلا يستنتجوا من سكوته أنه رجع عن دعواه أنه المسيح ابن الله. وكان في وسعه أن ينجو من دعواهم أنه جدف إما بأن ينكر قوله إنه المسيح ابن الله، وهذا محال، وإما أن يعترف به ويبرهن صحته. لكنهم لم يسمحوا له بإقامة البرهان.
٦٤ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ».
يوحنا ١٣: ٣١ ومزمور ١١٠: ١ وأعمال ٧: ٥٥ ودانيال ٧: ١٣ ومتّى ١٦: ٢٧ و٢٤: ٣٠ ولوقا ٢١: ٢٧ ويوحنا ١: ٥١ ورومية ١٤: ١٠ و١تسالونيكي ٤: ١٦ ورؤيا ١: ٧
أَنْتَ قُلْتَ هذا كقولك «نعم». فقال يسوع هنا إنه هو المسيح وإنه الله، وكذا فهم المجلس. ولم يقل لهم ما يدل على أنهم أخطأوا الفهم. ولنا من ذلك أنه يجب علينا أن نتكلم إذا فُهم من سكوتنا إنكار الحق. وجواب المسيح على طلب الحلف يثبت أن القَسَم في المحاكمة يجوز إذا كانت الدعوى حقيقية وذات شأن.
مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ أي الذي أدعيه الآن بالكلام ستكتشفون صحته بالعيان. فالذي قدمه المسيح هنا علامةٌ على صحة دعواه، وإنذارٌ لهم وإنباءٌ بالدينونة.
جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ أي عن يمين الله، وذلك مكان الشرف والوقار والقضاء والراحة (مزمور ١١٠: ١ ودانيال ٧: ١٣، ١٤).
وبهذا نسب يسوع إلى نفسه النبوات التي أنبأ بها داود ودانيال بالمسيح. وربما أشار بقوله إنه ابن الإنسان إلى الفرق العظيم بين حال تواضعه وهو واقف يحاكم موثقاً كمذنب قريباً أن يموت مهاناً، وحال ارتفاعه حين يصير المحكوم عليه حاكماً والحاكمون محكوماً عليهم.
وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ هذا كما في متّى ٢٤: ٣٠. كان الرؤساء قد طلبوا أن يُريهم آية من السماء فأبى (مرقس ٨: ٤١) ولكنه الآن وعدهم بتلك الآية وهي مجيئه الثاني ليدين العالم. ولعله أشار أيضاً إلى مجيئه الروحي ليهدم مدينتهم، وهو رمزٌ إلى مجيئه يوم الدين العظيم. وسؤال رئيس الكهنة عن أمرين: كون يسوع هو المسيح، وكونه ابن الله. فأجابه يسوع بالإيجاب، وزاد على المطلوب بقوله إنه ديان العالم.
٦٥ «فَمَزَّقَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ!».
٢ملوك ١٨: ٣٧ و١٩: ١
فَمَزَّقَ… ثِيَابَهُ هذه هي العلامة المألوفة للحزن عند اليهود (٢ملوك ١٨: ٣٧). وقصد رئيس الكهنة أن يُظهر بها أسفه واقشعراره من فظاعة التجديف في حضرته. وكان هذا إغراءً للمجلس ليحكم على يسوع كما حكم هو عليه. وكان كل ما أظهره من الانفعالات رياءً لأنه فرح بسماع إقرار يسوع الذي سيتذرَّع به ليحكم عليه. على أنه بموجب شريعة موسى لا يجوز لرئيس الكهنة أن يمزق ثيابه (لاويين ١٠: ٦ و٢١: ١٠). ولعله نهي الشريعة عن تمزيق ثيابه يختص بحزنه الخاص بعائلته، لا في الحزن العام.
نتعجب من سرعة هذا الحكم مما يدل على تواطؤ المجتمعين، الذين انتظروا مجرد كلمة يقولها المتهم أمامهم ليحكموا عليه كالغوغاء التي لا تعرف العدالة ولا الإنصاف.
قَدْ جَدَّفَ لأنه ادَّعى لنفسه بعد أن حلَّفه الصفات المختصة بالله وحده. ولا شكَّ أن المسيح بجوابه ساوى نفسه بالآب. فلو كان مجرد إنسان لكان جوابه تجديفاً، ولكان القضاء عليه عدلاً (يوحنا ١٠: ٣١ – ٣٣). ولكنه لم يكن مجرد إنسان، ولم يتكلم بغير الحق، فهو لم يجدف. فكان على أعضاء المجلس أن ينظروا في دعواه ليعلموا أحقٌ هي أم لا، لكنهم صرفوا أذهانهم عما يثبت دعواه من البراهين القاطعة، وافترضوا بدون أدنى دليل أنه خادع.
٦٦ «مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَأَجَابُوا: إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ ٱلْمَوْتِ».
لاويين ٢٤: ١٦ ويوحنا ١٩: ٧
مَاذَا تَرَوْنَ؟ طلب بهذا حكم المجلس باعتباره رئيساً.
إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ ٱلْمَوْتِ «الجميع حكموا عليه» بذلك (مرقس ١٤: ٦٤) وقولهم «إنه مستوجب الموت» صورة الحكم التي اعتادها اليهود في حكمهم على المدَّعى عليه بالقتل عندما كان لهم السلطان على إجراء ذلك. ولكن الرومان منعوهم عنه (يوحنا ١٨: ٣١) فلم يبقَ لهم إلا صورة الحكم.
وحكموا على المسيح بما ذُكر بناء على ما قيل في شريعة موسى التي أمرت برجم المجدِّف (لاويين ١٤: ١٠ – ١٦ وتثنية ١٨: ٢٠). وكان يمكن لأعضاء المجلس أن يأمروا الناس برجم يسوع بالرغم من الحكام الرومان، فهكذا فعلوا باستفانوس الشهيد المسيحي الأول، كما كان يمكنهم أن يستأذنوا بيلاطس في ذلك. ولكنهم لم يفعلوا هذا خوفاً من أن كثيرين من الشعب يدافعون عن يسوع ويعملون على إنقاذه، فاستحسنوا أن يسألوا بيلاطس أن ينفِّذ حكمهم بأن يقتله. وكان القتل عند الرومان في مثل هذه الحادثة بالصلب، وهذا علة صلب يسوع دون رحمة. وكان أعضاء ذلك المجلس يعتبرون حكمهم نهائياً. لكنهم اضطروا أن يجتمعوا أيضاً ليجعلوا هذا الحكم شرعياً، لأن تلمودهم منع المحاكمة ليلاً. فاجتمعوا ثانيةً بعد طلوع الفجر وكرروا طلب الحكم عليه (متّى ٢٧: ١ ولوقا ٢٢: ٧). وهذه نهاية استماع الدعوى على يسوع ثانية أمام قضاة اليهود.
وما حكموا به عليه لم يكن شرعياً بموجب كتاب التلمود (وهو من أقدس كتب اليهود) لأن التلمود لم يُجز للمجلس أن يفحص ليلاً عن دعوى جنائية يمكن أن يحكم على من تثبت عليه بالموت. ومنع أن يُحكم على المدَّعى عليه بالموت في نفس اليوم الذي يُحاكم فيه. ومنع أن يُحكم عليه بذلك بمجرد شهادته على نفسه. فإذا كان الناس حكموا على ذلك البار واهب الحياة بأنه مستوجب الموت، فهل غريب إذا حكموا على أحد عبيده ظلماً؟ أو يحق لذلك العبد أن يتذَّمر؟
٦٧ «حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ».
إشعياءد ٥: ٦ و٥٣: ٣ ومتّى ٢٧: ٣٠ ولوقا ٢: ٦٣ ويوحنا ١٩: ٣
حِينَئِذٍ بَصَقُوا كان البصق، ولا يزال، غاية الإهانة، وعلامة الكره الشديد (عدد ١٢: ١٤ وأي ٣٠: ١٠ وإشعياء ٥٠: ٦). وكان الذين بصقوا هم غير رجال الشرطة القساة وحراس الهيكل وخدَم رئيس للكهنة (مرقس ١٤: ٦٥ ولوقا ٢٢: ٦٣). والأرجح أن أولئك العسكر ورفقاءهم أخذوا يسوع من المحكمة إلى الدار. وربما عند ذلك تمكن المسيح من مشاهدة بطرس وسمع كلامه باللعنات والأقسام (لوقا ٢٢: ٦١) والتفت إليه. ونظرته تلك أبكت بطرس بكاءً مراً. وكان من عاداتهم يومئذٍ أن يسلموا المحكوم عليه بالموت إلى العسكر ليهينوه ويهزأوا به كما شاءوا. فالظاهر أن أعضاء المجلس سلموا يسوع إلى أولئك الفئات من الناس وذهبوا إلى بيوتهم وبقوا فيها إلى الصباح. والأرجح أن وقت انصرافهم كان نحو الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فيكون المسيح قد احتمل إهانة أولئك القساة وتعذيبهم نحو ثلاث ساعات.
لَكَمُوهُ أي ضربوه بجمع الكف ليظهروا بغضهم وإهانتهم وغيظهم مما نسبوا إليه من التجديف.
لَطَمُوهُ أي ضربوه براحة اليد وهذه طريقة أخرى لتعذيبه وإظهار ما سبق. وقد أنبأ إشعياء بكل هذه الإهانات منذ سبع مئة سنة قبل وقوعها (إشعياء ٥٠: ٦ و٥٣: ٣، ٧).
٦٨ «قَائِلِينَ: تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا ٱلْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟».
مرقس ١٤: ٦٥ ولوقا ٢٢: ٦٤
قال مرقس إنهم غطوا وجهه ولكموه وقالوا له تنبأ إلخ (مرقس ١٤: ٦٥). وفعلوا ذلك هزءاً بادِّعائه أنه نبي لأن النبي يقدر أن يعرف ضاربه وإن كان وجهه مغطى. ولأن المسيح صبر على ذلك ولم يجبهم بشيء اتخذوا ذلك دليلاً على أنه لا يستطيع أن يعلم من ضربه وأنه خادع. فوا أسفاه! كيف أن اليدين اللتين أبكمتا الأرواح وسكَّنتا البحار والرياح وتكلمتا بكلمة الحياة صارتا عرضةً لقساوة أولئك الأشقياء نحو ثلاث ساعات!
فما أعظم الفرق بين ما صار إليه المسيح وما يليق أن يكون فيه. فإن المنقذ هنا صار موثقاً، والديان مشكواً عليه، ورئيس المجد مهاناً، والقدوس البار محكوماً عليه بالذنب، وابن الله محسوباً مجدفاً، والذي هو القيامة والحياة مسلَّماً للموت، ورئيس الكهنة الأزلي مديناً من رئيس الكهنة الوقتي.
٦٩ «أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِساً خَارِجاً فِي ٱلدَّارِ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ ٱلْجَلِيلِيِّ».
مرقس ١٤: ٦٦ ولوقا ٢٢: ٥٥ ويوحنا ١٨: ١٦، ١٧، ٢٥
أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِساً ذكر دخول بطرس دار رئيس الكهنة في ع ٥٨ وإن خدَم البيت أضرموا ناراً في ساحة الدار ليصطلوا. والاصطلاء كان حينئذٍ مقبولاً لأنه كان ليل، وأورشليم عالية، وكان الشهر نيسان العبراني، فدخل بطرس بينهم ليصطلي. ونتعلم من هذا أنه من الخطر على تلاميذ المسيح أن يخالطوا أعداءه، ولو لأسباب جائزة بنفسها.
جَارِيَةٌ أي إحدى إماء قصر رئيس الكهنة وهي البوابة (مرقس ١٤: ٦٦ ويوحنا ١٨: ١٧)
وَأَنْت أي أنا أعرف أن يوحنا تلميذ يسوع (١٨: ١٦) ولابد أنك أنت كذلك. وهذه الجارية سألت بطرس قبل هذا أو بعده قائلة «أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِ هذَا الإِنْسَانِ؟» (يوحنا ١٨: ١٧).
٧٠ «فَأَنْكَرَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ قَائِلاً: لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ».
فَأَنْكَرَ هذا إنكاره الأول وكانت علتهُ حياؤه وخوفه، كما أن إيمانه بالمسيح ضعُف وهو يرى المسيح ضعيفاً كل الضعف عند القبض عليه. ولعله قال في نفسه: إقراري بالمسيح يضرني ولا يفيده.
لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ هذا تجاهل أظهر به أعظم الاستغراب من اتهامها إياه أنه من تلاميذ يسوع، وزاد على هذا قوله «لست أنا» (يوحنا ١٨: ١٧). وقوله «لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ!» (لوقا ٢٣: ٥٧).
٧١ «ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى ٱلدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: وَهٰذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ».
وخَرَجَ إِلَى ٱلدِّهْلِيزِ اعتزل بطرس ضوءَ النار وذهب إلى ظلمة الدهليز ليتجنب التفاتهم وأسئلتهم، فإنه خاف على حياته. ولا شكَّ أن ضميره كان يؤنبه ويزيده خوفاً.
قال مرقس إنه في أثناء ذلك صاح الديك أول مرة (مرقس ١٤: ٦٨) ولم يكن ذلك الهزيع المعروف عندهم «بصياح الديك» لأن ذلك كان قرب الفجر، وإنكار بطرس الأول كان في بدء محاكمة يسوع نحو نصف الليل أو بعده بقليل.
رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَت الخ يظهر من قول مرقس أن الجارية الأولى أخبرت الجارية الثانية بظنها أن بطرس من تلاميذ المسيح بقولها «إن هذا منهم» (مرقس ١٤: ٦٩) وإن الجارية الثانية قالت ذلك أمام آخرين. ويظهر مما قال لوقا ويوحنا أن آخرين صدقوها بالخبر والاستفهام (لوقا ٢٢: ٥٨ ويوحنا ١٨: ٢٥).
٧٢ «فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ: إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ».
فَأَنْكَرَ أَيْضاً هذا إنكاره الثاني.
بِقَسَمٍ أتى ذلك إثباتاً لصدق ما قال ودفعاً للريبة والشبهة عنه. فنرى من ذلك أن سقوط بطرس كان متسارعاً منذ بدئه، وقد نسي ما قاله المسيح عن خطية الحلف (متّى ٥: ٣٤) وزاد ذلك الإثم على كذبه.
إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ هذا قوله للجارية، وأما ما خاطب به الآخرين الذي صدَّقوها بسؤالهم فقوله «لست أنا» (يوحنا ١٨: ٢٥).
٧٣ «وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ ٱلْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ».
قضاة ١٢: ٦ ولوقا ٢٢: ٥٩
وَبَعْدَ قَلِيلٍ أي بعد نحو ساعة (لوقا ٢٢: ٥٩). وفي تلك المدة كان بطرس قد رجع من الدهليز إلى النار (يوحنا ١٨: ٢٥).
ٱلْقِيَامُ وَقَالُوا كان بين أولئك القيام نسيب ملخس الذي قطع بطرس أذنه (يوحنا ١٨: ٢٦).
لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ أرادوا بذلك أن لهجته تدل على أنه جليلي. ومن جملة ما يميز أهل الجليل عن أهل اليهودية أن الجليليين كانوا يفرقون في نطق السين والثاء. والمسيح قضى أكثر الوقت في الجليل فلذلك سُمِّي جليلياً. وكان أكثر تلاميذه الأولين من هناك، فنسبوا كل تلاميذه إلى الجليل (مرقس ١٤: ٧٠ ولوقا ٢٢: ٥٩ وأعمال ٢: ٧).
٧٤ «فَٱبْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ! وَلِلْوَقْتِ صَاحَ ٱلدِّيكُ».
يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ أي يسأل الله أن يعاقبه إن كان كاذباً. ولعل القسم هنا كان أشدَّ مما سبقه من أقسام.
إِنِّي لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ! هذا إنكاره الثالث. ولم يظهر في هذه الحادثة إن كان ثلاثة أشخاص اتهموا بطرس، ولم يظهر أنه دفع التهم بثلاثة أجوبة فقط، بل الأرجح أن الذين اشتركوا فيها كثيرون، وأنه كرر الإنكار بأقوال مختلفة متوالية في وقت قصير بدليل تنوع أنباء الإنجيليين الأربعة. والأمر الجوهري إن بطرس أُتهم ثلاث مرات متميزة، وأنه أنكر المسيح ثلاث مرات كذلك. والأرجح أنه في كل مرة من هذه الثلاث كانت الاتهامات من الحاضرين كثيرة ومتنوعة، وكانت إنكاراته كذلك. فذكر بعض البشيرين بعضها وذكر البعض بعضاً آخر. ومما يقوي ذلك أنه يبعد عن الظن أن لا يكون في مدة الساعات الثلاث التي جرت فيها المحاكمة وبطرس بين أعداء المسيح سوى ثلاثة أسئلة وثلاثة أجوبة. والخلاصة أن عدد مرات السؤال والجواب كانت ثلاثة كما ذُكر، ولكن الأسئلة والأجوبة في كلٍ منها كانت متعددة.
صَاحَ ٱلدِّيكُ أشار متّى بذلك إلى صياح الديك المعتاد في مثل ذلك الوقت، ولذلك سُمي الهزيع الثالث «صياح الديك» وأوله الساعة الثالثة بعد منتصف الليل (مرقس ١٣: ٣٥) ولم يلتفت متّى إلى عدد مرات ذلك الصياح، ولكن مرقس ذكر أن هذا الصياح هو الصياح الثاني (مرقس ١٤: ٧٢). فالظاهر أن بطرس لم ينتبه إلى الصياح الأول ولم يتأثر به.
٧٥ «فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً».
ع ٣٤ ومرقس ١٤: ٣٠ ولوقا ٢٢: ٦١، ٦٢ ويوحنا ١٣: ٣٨
فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ صاح الديك أمرٌ زهيد في نفسه ولكن الروح جعله واسطة لتنبيه ضمير بطرس. وقال لوقا «إنه عندما صاح الديك التفت المسيح ونظر إلى بطرس» (لوقا ٢٢: ٦١). والأرجح أن ذلك كان عند نهاية المحاكمة وتسليم يسوع إلى الشرطة ليهزأوا به قبل أن غطوا وجهه. وقصد المسيح بنظره إلى بطرس حينئذٍ أربعة أمور:
أن يذكره بإنبائه له أنه سينكره، ووعد بطرس له بالثبات.
إظهار حزنه على أن أحد أحبائه أنكره.
تبكيت بطرس لتنبيه ضميره.
إظهار شفقته على بطرس ومحبته له. ولم يكن في تلك النظرة شيءٌ من الغضب. وتأثير صياح الديك مع نظر يسوع ذكَّر بطرس بالحوار السابق بينه وبين المسيح (ع ٣٣ – ٣٥) وأقنعه بفظاعة إثمه وقاده إلى التوبة.
خَرَجَ إِلَى خَارِجٍ الخ لم يكن خروجه هرباً من الخطر، بل لفرط حزنه الذي حبَّب إليه الانفراد. وبكى لخجله وأسفه على ما كان من ضعفه وخوفه وكفره بالنعمة، وإثمه بأنه أنكر المسيح بأقسام بعد افتخاره بشجاعته وثباته. والحق أن إثمه كان عظيماً جداً لأنه ارتكبه بعد أن كان تلميذاً للمسيح ثلاث سنين، سمع أثناءها تعاليمه وشاهد معجزاته، وكان واحداً من الثلاثة المتميِّزين على غيرهم، وتعشى معه منذ بضع ساعات، وسمع تحذيره له من هذا الإثم، ووعده قائلاً «ولو متُّ معك لا أنكرك». وكانت دواعي هذا الإنكار قليلة لأن أحداً لم يهدده ولا اعتدى عليه. وشاهد يوحنا هناك، ويوحنا معروف أنه من تلاميذ المسيح، ولم يصبه شيءٌ.. غير أن أسف بطرس لم يكن كأسف يهوذا، لأن أسف يهوذا كان أسف اليأس، وأسف بطرس أسف التوبة الحقيقية. والدليل على ذلك انفراده وشدة ندمه ودوام تأثيره. فكانت توبته كتوبة داود (مزمور ٥١). فالفرق بين المرائي والمسيحي أن الأول يسقط ولا يقوم، والآخر يسقط ويقوم تائباً متواضعاً متجدد الحياة الروحية. وما قيل عن بطرس هنا آخر ما لنا من خبره إلى صباح يوم الأحد حين ذهب مع يوحنا إلى القبر.
وفي هذه الحادثة خمس فوائد:
ضعف الإنسان في عمل الصلاح. فبطرس الرسول رفيق المسيح سقط، والذي كان أول معترف أن المسيح ابن الله صار أول منكرٍ أنه يعرف الرجل. والذي سُمي بالصخرة ظهر في وقت التجربة أنه قصبة مرضوضة. فمن من الناس يستطيع أن يتكل على نفسه؟ إن أشد العزم وكثرة النذور لا يكفلان الإنسان من السقوط ساعة التجربة.
إذا دخل المسيحي بين أعداء المسيح ولم يُعلن أنه من أصحابه يُخشى عليه بعد قليل أن يُعتبر من أعدائه.
خطوة واحدة في سبيل الإثم تقود إلى ثانية، والثانية تقود إلى ثالثة، وهلم جراً، كما كان من أمر بطرس. فخطوته الأولى كانت الاتكال على ذاته كما ظهر من قوله «إن شك فيك الجميع فأنا لا اشك أبداً». والثانية الكسل الروحي، فإن المسيح أمره أن يسهر ويصلي فنام. والثالثة أنه ترك المسيح وهرب خوفاً. والرابعة معاشرته الأشرار دون أن يضطره أحدٌ لذلك. وهذه الخطوة قادته إلى الخامسة، وهي إنكار المسيح ثلاث مرات باللعن والحلف.
يُظهر السلوك بعد التوبة الحقيقية صدق التوبة وعمقها. والسلوك هو الشرط الضروري لنوال المغفرة لا سببه، لأن سببه هو دم يسوع وشفاعته.
المسيحي الحقيقي عرضة للسقوط في الخطية كغيره من الناس، لكنه لا يخطئ عمداً بارتكاب ما يعلم إنه خطية. ومتّى سقط في شيء من ذلك تاب وعاد إلى مقاومة الإثم.
السابق |
اللاحق |