إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 25 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح الخامس والعشرون

١ «حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ عَشَرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ ٱلْعَرِيسِ».

أفسس ٥: ٢٩، ٣٠ ورؤيا ١٩: ٧ و٢١: ٢، ٩

هذا المثل كمثل الوكيل في الأصحاح السابق، يُعلم وجوب السهر والاستعداد لملاقاة المسيح عند مجيئه الثاني بغتة.

مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ أي الملكوت الذي أتى المسيح ليقيمه على الأرض، وهو هنا يعني كنيسته المنظورة. ومشابهة الكنيسة للعريس سبق الكلام عنهما في شرح متّى ٢٢: ٢ (انظر أيضاً أفسس ٥: ٢٥ – ٣٢ ورؤيا ١٩: ٧، ٩ و٢١: ٢٩). والمقصود بالعريس المسيح، كما يتضح من مزمور ٤٥ وسفر نشيد الأنشاد. والعروس هي الكنيسة بجملتها.

عَشَرَ عَذَارَى المقصود بهن أعضاء الكنيسة بمقتضى الظاهر، حيث لا يتبين المؤمن بالحق منهم إلا في النهاية. وحال الكنيسة عند مجيء المسيح ثانية تشبه حالة العذارى هنا.

واستعار للكنيسة الإناث دون الذكور للمناسبة، فإن الكنيسة مؤنثة، وعادة الأعراس يومئذٍ أن تكون رفيقات العروس إناثاً. فليس للعذارى معنى خاص غير الإناث، ولا يصح أن نحسب كونهن عذارى دليلاً على زيادة طهارتهن، لأن خمساً منهن جاهلات. لكن ذلك ضروري لمناسبة المثل لأن عادة الأعراس في تلك الأيام أن تكون رفيقات العروس عذارى. ويوافق معنى المثل ما ورد في ٢كورنثوس ١١: ٢ ورؤيا ١٤: ٤. وليس المقصود أن عددهن عشراً سوى أنه وفق العادة. ويشبه ذلك ما ذكر في سفر راعوث (راعوث ٤: ٢). والعشرة عدد حسبه اليهود أقل ما يلزم لاجتماع قانوني في الصلاة، أو لاجتماع فرقة لأكل الفصح، أو لإقامة حفل عرس.

مَصَابِيحَهُنَّ كانت عادة اليهود أن يحتفلوا بالعرس ليلاً، فلزم أن يحملوا مصابيح للإضاءة والزينة. والمقصود بها هنا الإقرار بالدين (لوقا ١٢: ٣٥). وعدم التفريق بين المصابيح يدل على أنه لم يظهر فرق بين المؤمنين الحقيقيين والمؤمنين في الظاهر.

خَرَجْنَ لِلِقَاءِ ٱلْعَرِيسِ أي خرجن من بيوتهن إلى بيت العروس ليرافقنها في ملاقاة العريس عند مجيئه ليأخذها من بيت أبيها إلى بيته حيث الوليمة، ويذهبن معها إلى هناك. وسرد المثل على هذه الصورة يعطينا فكرة واضحة عن تلك العادات الشرقية القديمة، وكثير منها معمول بها حتى اليوم.

٢ «وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ».

متّى ١٣: ٤٧ و٢٢: ١٠

حَكِيمَاتٍ أظهرن حكمتهن بأنهن اهتممن بأمور المستقبل واستعددن لها.

جَاهِلاَت كانت جهالتهن أنهن لم ينتبهن لأمور المستقبل وما تقتضي من الاستعداد. والفرق بين الحكيمات والجاهلات كالفرق بين الذي بنى بيته على الصخر والذي بنى بيته على الرمل (متّى ٧: ٢٤ – ٢٧). ولنا من هذا المثل أن الكنيسة لا تزال إلى آخر الزمان تشتمل على أعضاء مخلصين وأعضاء مرائين، كما ظهر في مثل الحنطة والزوان (متّى ١٣). ومساواة عدد الحكيمات للجاهلات ليس جوهرياً في المثل، فلا يلزم منه تساوي عدد المرائين والمخلصين.

٣ «أَمَّا ٱلْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتا».

أراد بذلك الإقرار ظاهراً بالدين دون النعمة الباطنة، فهن بمنزلة المزروع في الأرض المحجرة في مثل الزارع (متّى ١٣: ٥، ٢٠، ٢١).

٤ «وَأَمَّا ٱلْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتاً فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ».

أي اعترفن بالدين ظاهراً، ولكن كان لهن نعمة في الباطن. والمقصود بالزيت هنا النعمة التي هي موهبة الروح القدس (زكريا ٤: ٢، ١٢ وأعمال ١٠: ٣٨). ونحصل على هذه النعمة بالصلاة وغيرها من الوسائط الروحية (٢كورنثوس ١: ٢١ و١يوحنا ٢: ٢٠، ٢٧) ويمكن للمسيحيين بتلك النعمة أن «يضيئوا كأنوار في العالم» (فيلبي ٢: ١٥ و٢بطرس ١: ١٠).

٥ «وَفِيمَا أَبْطَأَ ٱلْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ».

١تسالونيكي ٥: ٦

أَبْطَأَ ٱلْعَرِيسُ في هذا إشارة إلى طول المدة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني. ولا ريب أنها أطول مما انتظرت الكنيسة، فقد مرَّ عليها أكثر من عشرين قرناً ولم يجئ العريس بعد.

نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ لا لوم عليهن بذلك في المثل ولا على الكنيسة في المعنى، لأن هذا النوم طبيعي لمن يطيلون السهر. والحكيمات نمن كالجاهلات، فلا بأس من النوم بعد تكميل الاستعداد. ولم تُمنع الجاهلات من دخول الوليمة لسبب نومهن.

٦ «فَفِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا ٱلْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَٱخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ».

متّى ٢٤: ٣١ و١تسالونيكي ٤: ١٦

نِصْفِ ٱللَّيْلِ هو الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إلى المصابيح المعدة للإضاءة، ويصعب فيه الحصول على لوازم المصابيح إذ لم تكن مهيأة. ولنا من هذا أن المسيح يأتي ثانية والناس في غفلة عن مجيئه.

صَارَ صُرَاخٌ الصوت الذي يوقظ الناس من نومهم في نصف الليل يكون غالباً مفاجئاً لكل العالم، فتسمعه كل أذن ويكون مخيفاً إذا لم يستعدوا له. وقد استنتج البعض من هذا الكلام أن المسيح يأتي في نصف الليل حقيقة، فجعلوا السهر جزءاً من العبادة الواجبة على المسيحي، ولكن الأرض كروية يأتي المسيح إليها في وقت واحد. فالوقت الذي يكون نصف الليل عند قوم يكون نصف النهار عند آخرين! وذلك الصوت الذي ينادى به العالم كله في ذلك اليوم ينادى به كل إنسان في نهاية حياته. والصارخ حينئذٍ هو الموت. والاستعداد اللازم لملاقاة العريس هو عينه لازم لملاقاة الموت.

٧ «فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولَئِكَ ٱلْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ».

فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولَئِكَ ٱلْعَذَارَى هذا غير مقصور على النيام الأحياء على الأرض حين مجيء المسيح ثانيةً، فهو يصدق على جميع المدعوين مسيحيين الذين رقدوا في القبور منذ تأسيس الكنيسة إلى نهايتها. ولكن يعسر إيضاح ذلك في المثل.

أَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ ألزمتهن المناداة بإقبال العريس أن ينظرن في أحوال مصابيحهن ليرين أفيها زيتٌ أم لا. كذلك يلزم كل واحد يوم الموت ويوم مجيء الرب ثانية أن يمتحن نفسه كما أن الرب يمتحنه أيضاً. وكثيراً ما حدث أن المؤمنين عند موتهم أظهروا فضائلهم الروحية أعظم إظهار، كأن مصابيحهم أُصلحت جديداً بزيت النعمة. وقد يتفق أن يفاجئ الموت المسيحي بالحق وهو متوقع أن يحيا زماناً أطول في خدمة الرب، فيضطرب في أول الأمر حتى يضعف رجاؤه، فيكون كمصباح يكاد ينطفئ، ثم يرجع إلى نفسه ويرى أساس إيمانه ورجائه فيجدد ثقته، كأن مصباحه أُصلح من مصدر إلهي.

٨ «فَقَالَتِ ٱلْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ».

نلاحظ هنا أن الفرق ليس في المصباح من جهة شكله أو حجمه، بل: هل فيه زيت أم لا؟! كذلك في ديانتنا، يجب أن نعرف: هل نحن حسب الظاهر فقط، لنا صورة التقوى فقط؟

أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ علة ذلك نظرهن في حال مصابيحهن إذ وجدنها كادت تنطفئ من الحاجة إلى الزيت، فظهرت جهالتهن بعدم استعدادهن الضروري. وفي هذا إشارة إلى أنه يأتي على كل إنسان وقت يُمتحن فيه دينه: هل هو دين قلبي؟ ويحتمل أن مصباح المرائي يكفيه مدة الحياة. ولكن متّى اضطُر أن يسير في وادي ظل الموت يظهر ضعف نوره وفراغه من الزيت، فيقع في الحيرة والاضطراب. وهنا طلبت الجاهلات إلى الحكيمات أن يعالجن نقصهن، كذلك سيطلب المسيحيون الدنيويون إلى المسيحيين أن يشاركوهم في فضائلهم، فيكونون كبلعام الذي لم يرد أن يحيا حياة الأبرار مع أنه أحب أن يموت موتهم، وأن تكون آخرته كآخرتهم (عد ٢٣: ١٠).

٩ «فَأَجَابَتِ ٱلْحَكِيمَاتُ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ ٱذْهَبْنَ إِلَى ٱلْبَاعَةِ وَٱبْتَعْنَ لَكُنَّ».

لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي الخ أَبت الحكيمات إجابة طلب الجاهلات لأسباب كافية فأظهرن بذلك حكمتهن. والغاية من ذكر الحديث بين الحكيمات والجاهلات تعليمنا عدة حقائق: (١) أن كل إنسان يعطي الله حساباً عن نفسه لا عن غيره (مزمور ٤٩: ٧ ورومية ١٤: ١٢ و١بطرس ٤: ١٨). (٢) أن وقت الموت أو وقت مجيء الرب ليس وقت الحصول على النعمة، بل هو قبلهما. نعم ربما يوجد الزيت للبيع عند نصف الليل، ولكن لا أمل أن توجد النعمة بعد الموت أو في يوم في يوم الدين. (٣) أنه ليس لأحد من الناس أكثر مما يحتاج لنفسه من النعمة. فلا يقدر مسيحي أن يعطي غيره شيئاً من نعمته لتُحسَب للمعطى له، إنما كل ما يستطيعه هو أن يدل المحتاجين إلى المصدر الذي أخذ هو منه إن بقي وقت لذلك.

ٱبْتَعْنَ لَكُنَّ الشراء هنا كناية عن الرغبة في تحصيل المطلوب وترك كل شيء لأجله، كما ورد في إشعياء ٥٥: ١ ومتّى ٣: ٤٦ ورؤيا ٣: ١٨. فالنعمة لا تُشترى لأنها هبة الله.

١٠ «وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ ٱلْعَرِيسُ، وَٱلْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ ٱلْبَابُ».

لوقا ١٣: ٢٥

جَاءَ ٱلْعَرِيسُ لا بدَّ من أن يأتي المسيح وإن أبطأ قدومه.

وَٱلْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ الآن في غيبة العريس تنوح الكنيسة وتصوم (متّى ٩: ١٥) ولكنه سيأتي ويأخذ عروسه لتكون معه (يوحنا ١٧: ٢٤) فيفرح بها وتفرح به (إشعياء ٦٢: ٥). فمهما حزنت بطول الانتظار فإنها ستعوَّض عنه بفرح الدخول إلى العرس. ويكون ذلك الفرح بمشاهدة المسيح والاقتراب منه ونوال القداسة والراحة وكل الخيرات السماوية بواسطته (رؤيا ١٩: ٧ – ٩ و٢١: ٢).

فزيت المستعدات هو نعمة الله في القلب، وهي الاستعداد الوحيد الضروري، فهي تشتمل على التوبة والإيمان والمسرة الطاهرة. فلا بد من أن المستعدات لملاقاة العريس السماوي تكون ثيابهن قد غُسلت بدم الحمَل، واكتسين بثوب بره وتجددن بروحه القدوس (مرقس ١٦: ١٦ ويوحنا ٥: ٢٤ وأعمال ٣: ١٩ و١تيموثاوس ٦: ١٧ – ١٩ و٢بطرس ٣: ١١، ١٢ ورؤيا ٢٢: ١١)

أُغْلِقَ ٱلْبَابُ ذُكِر إغلاق الباب في سفر التكوين أيضاً (تكوين ٧: ٩٦) وفي سفر الرؤيا (رؤيا ٣: ١٢). وهدف ذلك الإغلاق هو إبهاج الداخلين وراحتهم وأمنهم، ومنع دخول غيرهم. وإغلاق باب السماء يمنع أن يدخل إليه شيءٌ من الوجع أو العالم الشرير وإبليس المجرب وكل الشكوك والأهوال والخطايا والموت. ومعنى الباب هنا مدخل الرحمة بالمسيح (يوحنا ١٠: ٧، ٩) وهو الذي يدخل به الإنسان من الخطية إلى القداسة ومن الموت إلى الحياة ومن الشقاء إلى السعادة ومن العداوة لله إلى المصالحة معه. ويظل هذا الباب مفتوحاً للعالم بأجمعه إلى مجيء المسيح ثانيةً، ولعله يبقى مفتوحاً لكل إنسان إلى ساعة موته. ويستثنى من ذلك من جدَّف على الروح القدس، فإنه يوصد أمامه وهو في الحياة. وأفضل أوقات الدخول في ذلك الباب الساعة الحاضرة بدليل القول الرسولي «هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص» (٢كورنثوس ٦: ٢) ويسمى أيضاً باب الرحمة وباب الرجاء وباب الخلاص. وللمسيح سلطان عليه بدليل قوله «الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ» (رؤيا ٣: ٧) ويغلق دون كل إنسان عند موته ودون العالم يوم الدين (جامعة ٩: ١٠ و١١: ٣ ومتّى ٢٥: ٤٦ ورؤيا ٢٢: ١١).

١١ «أَخِيراً جَاءَتْ بَقِيَّةُ ٱلْعَذَارَى أَيْضاً قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، ٱفْتَحْ لَنَا».

متّى ٧: ٢١ – ٢٣

عمل الجاهلات يشير إلى عمل من يطلب الرحمة بعد فوات وقتها وابتداء يوم الدين. وما قيل في إتيانهن إلى بيت العريس وطلبهن الدخول عبثاً يشير إلى ما يحدث لو أمكن المسيحيين المرائين أن يصلوا إلى باب السماء ويلحوا بسؤال الدخول.

١٢ «فَأَجَابَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ».

مزمور ٥: ٥ وحبقوق ١: ١٣ ويوحنا ٩: ٣١

قد يكون في هذه العبارة إشارة إلى أن لا شيء ينفع الإنسان ليُدخله السماء بعد الموت، فهو سينال القرار حالاً إن كان سيبقى مع الله أم يبقى بدونه إلى الأبد. فلننتبه إذن قبل فوات الأوان.

مَا أَعْرِفُكُنَّ أي لا أعرفكن لأني لم أشاهدكن مع العروس لما دخلت. والمعنى الروحي أن المسيح لا يعرف المرائين تلاميذ له. فمعنى المعرفة هنا الإقرار والقبول كمعناها في قوله: «أَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي» (يوحنا ١٠: ١٤). فيجب أن تبدأ معرفة المسيح لنا في هذه الحياة ليعرفنا عند الموت وبعده إلى الأبد. وقول المسيح لأحدٍ من الناس «ما أعرفك» كافٍ لأن يكون أشد عقاب أبدي له (متّى ٧: ٢٣ و٢تيموثاوس ٢: ١٩). والنتيجة هي ما ورد في قوله «هُوَذَا عَبِيدِي يَشْرَبُونَ وَأَنْتُمْ تَعْطَشُونَ. هُوَذَا عَبِيدِي يَفْرَحُونَ وَأَنْتُمْ تَخْزَوْنَ. هُوَذَا عَبِيدِي يَتَرَنَّمُونَ مِنْ طِيبَةِ الْقَلْبِ وَأَنْتُمْ تَصْرُخُونَ مِنْ كآبَةِ الْقَلْبِ، وَمِنِ انْكِسَارِ الرُّوحِ تُوَلْوِلُونَ» (إشعياء ٦٥: ١٣، ١٤). فإذا غفل أحد عن الاستعداد ليوم الدين في هذه الحياة فإنه يضطرب في ساعة موته أو في يوم مجيء الرب. وإن اجتهد في جبر النقص بنفسه، أو بطلب مساعدة غيره من الناس كان اجتهاده عبثاً لأن استعداد النفس للدينونة عمل حياة الإنسان كلها، فلا يمكن أن يتم في المدة القصيرة بين النزع وهو مضطرب جداً ومفارقة النفس للجسد، ولا يمكن أن يتم في أهوال يوم الدين وانقلاب العالم.

١٣ «فَٱسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْيَوْمَ وَلاَ ٱلسَّاعَةَ ٱلَّتِي يَأْتِي فِيهَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».

متّى ٢٤: ٤٢، ٤٤ ومرقس ١٣: ٣٣، ٣٥ ولوقا ٢١: ٣٦ و١كورنثوس ١٦: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٦ و١بطرس ٥: ٨ ورؤيا ١٦: ١٥

هذا تكرار معنى متّى ٢٤: ٤٢. وخلاصة كل الأمثال التي ذكرها في هذا الخطاب من تأكيد مجيئه وعدم تعيين وقته وجوب السهر والاستعداد بالنعمة الإلهية لذلك، وانتهاز كل فرصة للقيام بالواجبات. والطريق الوحيدة للاستعداد ليوم مجيء المسيح هي أن نستعد كل يوم.

١٤ «وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ».

متّى ١٨: ٢٤ و٢١: ٣٣ ولوقا ١٩: ١٢ الخ

مثل الوزنات كمَثل العذارى العشر، يعلِّمنا وجوب الاستعداد الدائم لمجيء المسيح والحساب. والعبيد هنا كالعذارى هناك، فالمقصود بالفريقين المسيحيون المعترفون بالمسيح علناً. والفرق بين المثلين في أمرين: (١) في مثل العذارى يحاسب الحكيمات عموماً والجاهلات كذلك، وفي مثل الوزنات يحاسب كل شخص بمفرده. (٢) في مثل العذارى لم يعين العمل لهن وهن ينتظرن العريس. وفي مثل الوزنات عيَّن العمل للعبيد وأمرهم بالاجتهاد فيه. فخلاصة تعليم الأول وجوب الاستعداد، وخلاصة تعليم الثاني وجوب الاجتهاد.

وضرب المسيح مثل الوزنات ليعلِّمنا وجوب العمل بكل قوة، وانتهاز كل فرصة في خدمته، ومكافأة الذين يفعلون ذلك، وعقاب المتهاونين. قال الحكيم «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل وَلاَ اخْتِرَاعٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ وَلاَ حِكْمَةٍ فِي الْهَاوِيَةِ الَّتِي أَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَيْهَا.» (جامعة ٩: ١٠) وقال الرسول «كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ» (١كورنثوس ١٥: ٥٨).

كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ أي أن المسيح يعامل الناس في ملكوته معاملة هذا الشخص لعبيده.

مُسَافِرٌ هذا إشارة إلى ذهاب المسيح إلى السماء وقت صعوده وبقائه هناك لا ينظره تلاميذه على الأرض إلى يوم مجيئه الثاني، بلا دليل ظاهر على حضوره لمكافأة الأمناء ومعاقبة الخائنين. وقوله «مسافر» هنا كقوله «سافر» في متّى ٢١: ٣٣.

عَبِيدَهُ أي أرقاءه لا أُجراءه. فهم كأليعازر الدمشقي في بيت إبراهيم، ويوسف في بيت فوطيفار. فبعض السادة رفع مقام بعض العبيد فوكل إليهم الأعمال ذات الشأن، وأذن لهم أن يعملوا ما أرادوا من الأعمال التجارية والصناعية، وأعطاهم رأس مال لذلك على شرط أن يعطوه قدراً معيناً من الربح. والظاهر أن العبيد المذكورين هنا ممن رُفع مقامهم، وبقوا على تلك الحال مدة سفر سيدهم. والمقصود بهؤلاء العبيد كل رسله والمبشرين والمعترفين باسمه، أي كنيسته على الأرض.

سَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ ليستعملوها في خدمته. ودعا هذه الأموال «وزنات» أي البركات الروحية التي أعطاها لكنيسته بجملتها ولأعضائها بمفردهم. وهذه البركات وإن كانت روحية تشتمل على مواهب جسدية يمكن أن تستعمل لغايات روحية، ومنها المناصب، والقدرات العقلية، والفرص لعمل الخير، والغنى والعلم والفصاحة وتأثير السيرة، وكنوز النعمة كالكتب الإلهية وغيرها من الكتب المفيدة، وأيام الراحة والتبشير وخدمة بيت الله (أفسس ٤: ٨ – ١٢). وهذه الوزنات سلمها الله لكل المسيحيين فصاروا جميعهم وكلاءه.

١٥ «فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ».

رومية ١٢: ٦ و١كورنثوس ١٢: ٧، ١١، ٢٩ وأفسس ٤: ١١

خَمْسَ وَزَنَاتٍ (انظر شرح متّى ١٨: ٢٤) إن كانت الوزنة من الفضة فقيمة تلك الوزنات ١٢٥٠٠ جنيه ذهبي وإن كانت ذهباً فقيمتها ٣٠ ألف جنيهاً ذهبياً.

وَزْنَتَيْنِ أي نحو ١٢٠٠ جنيه ذهبي.

وَزْنَةً ٦٠٠ جنيهاً ذهبياً. والمقصود بتلك الوزنات القوى العقلية والجسدية والمواهب الروحية والفرص لعمل الخير التي يهبها الله بسخاء لشعبه. ووفرة النقود التي أعطاها للعبيد إشارة إلى عظمة قيمة أقل المواهب الروحية. ومما يستحق ذكره في هذا المثل أن السيد أعطى ذلك المال كله دفعة واحدة، ولم يكرر العطاء. لكن الرب يعطي عبيده مواهبه ووسائل فعل الخير بلا انقطاع.

عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ عرف السيد صفات كلٍ من أولئك العبيد فأعطاه من النقود ما يستطيع أن يتصرف به بما له من الحكمة والتدبير.

وأعطاهم تلك الوزنات ديناً لا هبة. كذلك أعطى الله البعض مواهب مختلفة لم يعطها غيرهم، فامتازوا على غيرهم بوسائل عمل الخير (رومية ١٢: ٦ و١كورنثوس ٤: ٧ و١٢: ٤ – ٣١ وأفسس ٤: ٧ – ١٢). وكل عطاياه ديْنٌ لا هبة، فكل من زاد قدرةً زاد مسئوليةً، فإن «مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ» (لوقا ١٢: ٤٨) والله لا يضع على أحد مسؤولية فوق طاقته، ولا ينتظر من أحد أكثر مما أعطاه، ولا يترك أحداً من شعبه بلا وزنة ولا مسؤولية. وأقل ما وكله إلى كل إنسان أن يرى نفسه مستعدة للسماء.

وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ أشار بهذا إلى أن المسيح يراقب الكنيسة وهو غير منظور، وأنه لا يحاسب عبيده في الحال، وأن وقت غيبته هي كل المدة بين صعوده ومجيئه الثاني.

١٦، ١٧ «١٦ فَمَضَى ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. ١٧ وَهٰكَذَا ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ».

فَمَضَى أي أخذ يتاجر فور سفر سيده.

وَتَاجَرَ الخ أي بذل الاجتهاد بالحكمة.

فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ كانت نتيجة اجتهاده تضاعُف ماله.

وكذا كان أمر صاحب الوزنتين. والمقصود بذلك أن المسيحي كلما استعمل مواهبه الروحية في عمل الخير زادت قوة ونفعاً، وكلما اغتنم الفرص لذلك العمل كثرت له. إن المسيحي الحقيقي يستعمل كل قواه لمجد المسيح وبنيان كنيسته، وذلك مما فرض عليه (رومية ١٤: ٢ و١كورنثوس ١٤: ١٢) ويجتهد في أن يتقدم وينمو في معرفة الله والنعمة والتقوى، ويقول مع داود «مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟» (مزمور ١١٦: ١٢) ومع بولس الرسول «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال ٩: ٦) فيحسب حريته وشرفه وفرحه أن يخدم المسيح وكنيسته على الدوام.

١٨ «وَأَمَّا ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي ٱلأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ».

أَخْفَى اعتاد الناس قديماً أن يدفنوا أموالهم في الأرض لحفظها (متّى ١٣: ٤٤ – ٤٦). ويحتمل أن العبد فعل ذلك غيظاً من سيده، لأنه أعطى رفيقيه أكثر مما أعطاه، أو لفتوره وكسله في خدمة سيده، أو لأنه لم يتوقع رجوع سيده للمحاسبة. ورجا أنه إن رجع يكتفي بأن يأخذ ما سلمه إياه من المال. وعلى كل حال لم يعمل شيئاً مفيداً بوزنته. ويشير هذا العبد إلى الإنسان الذي يهمل استعمال قواه، وعدم انتهاز فرصه التي يمنحها الله له. وكثيرون مثل هذا العبد ويعتذرون اعتذاره. ومن وجوه ذلك الاعتذار:

(١) إنهم ليسوا في مقام عالٍ ليؤثروا في غيرهم.

(٢) إنهم ضعفاء قليلو الفرص، فيعتذرون لأنهم عاجزون عن القيام بالأعمال العظيمة ويتركون كل عمل.

(٣) إن الذين يقدرون على العمل المطلوب كثيرون، فلا حاجة لخدمتهم.

ثم إن الذي دفن مال سيده في المثل هو صاحب الوزنة الواحدة. ولكن كثيراً ما نرى أن أصحاب المواهب الكثيرة العظمى في الكنيسة يدفنونها، بأن يستعملوها لأنفسهم لا لله. ولعل ذكر أمر صاحب الوزنة الواحدة دلالة على التدقيق في الحساب. فإذا كان السيد يسأل عن وزنة واحدة دُفنت، فكم بالحري يسأل عن أعظم منها من المواهب المدفونة.

فِضَّةَ سَيِّدِه فهي ليست فضته ليتصرف بها كما يشاء. ومما زاد خطأه أنه كسل ورفيقاه اجتهدا، فكان يجب أن يحرك نشاطهما غيرته. الذي كسل في المثل واحد، لكن الذين يكسلون في الكنيسة كثيرون! منهم من يهمل تلاوة الكتاب المقدس والصلاة الانفرادية، أو يدنس يوم الرب، أو يحب العالم أو المال، فيصدق عليهم قول دانيال لبيلشاصر «أَمَّا اللهُ الَّذِي بِيَدِهِ نَسَمَتُكَ، وَلَهُ كُلُّ طُرُقِكَ فَلَمْ تُمَجِّدْهُ» (دانيال ٥: ٢٣).

١٩ «وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ».

بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ كان يمكن الرسل أن يستنتجوا من ذلك أن مجيئه الثاني بعيد. وبُعد ذلك المجيء كافٍ ليمتحن أمانة الكنيسة كلها. وطول حياة كل إنسان كافٍ ليمتحن أمانته واجتهاده. ويوم الدين نهاية غياب ذلك السيد عن الكنيسة كلها.. ويوم وفاة كل إنسان نهاية غياب المسيح عنه.

أَتَى… وَحَاسَبَهُمْ مهما طالت مدة غياب السيد فلا بد أن يأتي. ويوم مجيئه يوم حساب (رومية ١٤: ١٠ و٢كورنثوس ٥: ١١). وهو يوم فرح للأمناء ويوم خوف وخزي للخائنين. ويظهر من هذا المثل أن الحساب لا ريب في وقوعه، وعمومه وتدقيقه، وأن الله لم يعط الإنسان شيئاً الآن لمجرد تمتعه به من الصحة أو القوة الجسدية أو المال، فكل شيء ديْنٌ يُحاسب عليه بكل تدقيق (١كورنثوس ١٤: ١٢) وعليه أن يستعد لذلك الحساب كل ساعة لجهله وقت مجيء سيده.

٢٠ «فَجَاءَ ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا».

كل إنسان يعطي لله حساباً عن نفسه لا عن غيره.

سَلَّمْتَنِي اعترف بأن كل ما كان له كان من مال سيده. فعلى المسيحيين أن يذكروا على الدوام ما أخذوه من الله ليستعدوا لإعطائه الحساب عنه.

رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا أي ربحها لسيده لا لنفسه. وهذا مثل ما جاء في لوقا ١٩: ١٨. فيجب على المسيحي أن يحسب كل نتائج أتعابه لله لأنه هو يعطينا النعمة للحصول عليها (يوحنا ١٥: ٥ و١كورنثوس ١٥: ١٠) والنتائج الصالحة تتبع كل عملٍ عُمل باجتهاد وأمانة (يعقوب ٣: ١٣ ورؤيا ١٤: ١٣) وهي موضوع حقيقي للفرح (في ٢: ١٦). وهبات الله الروحية لنا لا تعفينا من الاجتهاد بدليل قول الرسول «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (فيلبي ٢: ١٢، ١٣).

٢١ «فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».

متّى ٢٤: ٤٧، ٢٣، ٣٤، ٤٦ ولوقا ١٢: ٤٤ و٢٢: ٢٩، ٣٠ وإشعياء ٥٣: ١١ وعبرانيين ٤: ٣ – ١١ و١٢: ٢ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١بطرس ١: ٨ ورؤيا ٣: ٢١

نِعِمَّا وهي اختصار «نِعْم ما فعلت». وهذا المدح من فم الله أفضل من أعظم مديح من الناس وأشرف منه. وهذا مثل قوله في مدح مريم «عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا» أي على قدر استطاعتها (مرقس ١٤: ٨).

ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ لم يقل الصالح والمجتهد، ولا الصالح والناجح، بل الصالح والأمين. فالأمانة كانت أكثر اعتباراً من سائر الصفات عند ذلك السيد، وكذلك هي عند الله.

أُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ لم يكن ثوابه الراحة بل اتساع دائرة عمله، وكذلك يثيب الله عبيده الأمناء (رومية ٢: ٦، ٧) فسعادة السماء لا تقوم بمجرد الراحة بل بسمو الخدمة.

فَرَحِ سَيِّدِكَ أي إلى وليمة فرح تجلس مع سيدك فيها. والعبد الذي يجلس مع سيده يكون قد تحرر. كذلك يثيب المسيح عبيده الأمناء حسب قوله «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا… لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ» (يوحنا ١٥: ١٥) وقوله «طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ… اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ» (لوقا ١٢: ٣٧) (انظر أيضاً ١كورنثوس ١٥: ٥٨ و٢تيموثاوس ٤: ٨ ورؤيا ٢: ١٠ و٣: ٢٠، ٢١). فالذين يدخلون في فرح السيد السماوي يكونون شركاء له في الفرح الذي ناله لأمانته في عمل الفداء، ويكونون رفقاءه في المجد. وذلك الفرح غير محدود في العظمة والبقاء. ولا شك أن هذا الثواب أعظم مما يستحقه أحدٌ من الناس أو يرجوه أو يتصوره.

٢٢، ٢٣ «٢٢ ثُمَّ جَاءَ ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. ٢٣ قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ ٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِك».

ع ٢١

قول السيد لهذا العبد كقوله الذي قبله. والثواب على أمانته لا على قدر ربحه. فالإثابة واحدة بغضّ النظر عن مقدار الربح.

٢٤، ٢٥ «٢٤ ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَةَ ٱلْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. ٢٥ فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي ٱلأَرْضِ. هُوَذَا ٱلَّذِي لَكَ».

دُعي صاحب الوزنة الواحدة إلى الحساب كصاحب الوزنات الخمس. وظهر في جوابه ضعف حجة من يتخذ قلة مواهبه وفرصه عذراً لعدم العمل. وإن الله يطلب أن يخدمه الإنسان، سواء كان قليل المواهب والفرص أم كثيرها. وهذا وفق قول الرسول «ثُمَّ يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِينًا» (١كورنثوس ٤: ٢). وقوله «إِنْ كَانَ النَّشَاطُ مَوْجُودًا فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى حَسَبِ مَا لِلإِنْسَانِ، لاَ عَلَى حَسَبِ مَا لَيْسَ لَهُ» (٢كورنثوس ٨: ١٢).

عَرَفْتُ يظن كثيرون أنهم يعرفون الله، والحق أنه لا يعرفه أحد ما لم يشعر بأنه محبة، أي أبٌ رحيم جواد. ويخطئ بعضهم بأن يحسبه قاسياً كما أخطأ اليهود في أيام حزقيال فقالوا: «الآبَاءُ أَكَلُوا الْحِصْرِمَ وَأَسْنَانُ الأَبْنَاءِ ضَرِسَتْ» وقالوا «لَيْسَتْ طَرِيقُ الرَّبِّ مُسْتَوِيَةً» (حزقيال ١٨: ٢، ٢٥). وكذلك يخطئ من يحسبه رب رحمة بلا عدل، كمن قال عليه الله بلسان نبيه «ظَنَنْتَ أَنِّي مِثْلُكَ» (مزمور ٥٠: ٢١).

قَاسٍ أي طامعٌ بخيلٌ تطلب أكثر مما لك، وظالمٌ لا شفقة في قلبك على العاجزين. وبمثل ذلك يتهم الناس الله بدعوى أنه يكلفهم ما لا يستطيعونه، كتكليف فرعون بني إسرائيل أن يصنعوا الطوب المفروض عليهم بدون أن يعطيهم التبن (خروج ٥: ٧، ٨) فطلبوا عذراً لأنفسهم عن كسلهم فادعوا أن الله قاسٍ ظالم. فخطأهم في تصورهم صفات الله يمنعهم عن خدمته بفرح واجتهاد ومحبة.

تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ وَتَجْمَعُ الخ هاتان الجملتان بمعنىً واحد، أتى بهما تأكيداً لمعنى قوله السابق إن السيد يكلفه بالعمل ويأكل الربح. وهو كذب ستر به كسله. وكثيرون يقولون ما قاله ذلك العبد فيلومون الله على آثامهم. فإن صدقناهم حكمنا بأن الله هو علة خطاياهم، فيشبهون بذلك أباهم آدم في قوله لله «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ» (تكوين ٣: ١٢). والله خلاف ما قال ذلك العبد الكسلان، فإنه لا يحصد حيث لم يزرع، بل هو يزرع بركات كثيرة ويحصد قليلاً من الشكر والخدمة. نعم إنه ينتظر الحصاد حيث يزرع (إشعياء ٥: ٢) لا حيث لا يزرع.

فَخِفْتُ ادَّعى أنه خاف أن تضيع الوزنة بالاتجار بها فيعرض نفسه للوم سيده القاسي وعقابه، فخبأ الوزنة حفظاً لها. وتدل وقاحته في الجواب على كذب دعواه، فإنه لم يبال بغيظ سيدِه، وكان يعلم أنه ليس قاسياً. فلو خاف حقاً لنهض من كسله واجتهد في التجارة لكي لا يلام.

هُوَذَا ٱلَّذِي لَكَ أي هذه الوزنة التي أعطيتني إياها. فكأنه قال: هذا كل ما لك حق أن تسألني إياه. ولم يلتفت إلى تعطيل المال كل تلك المدة الطويلة، وخيبة رجاء سيده، وعدم قيامه هو بالخدمة التي على عبدٍ مثله. ويدلنا كلامه على أنه ظن عذره مقبولاً، وأن لا لوم عليه فصحَّ عليه قول الحكيم «اَلْكَسْلاَنُ أَوْفَرُ حِكْمَةً فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ مِنَ السَّبْعَةِ الْمُجِيبِينَ بِعَقْل» (أمثال ٢٦: ١٦). نعم أمكن ذلك العبد أن يرد الوزنة إلى سيده كما هي، لكن يستحيل أن يرد الإنسان إلى الله المواهب الروحية التي لم يستعملها بالحكمة، لأنه يكون بذلك قد أتلفها. فالمسيحي الكسلان شرٌ من العبد الكسلان، لأنه رد مال سيده وأما المسيحي الكسلان فبذَّره.

٢٦ «َأَجَابَ سَيِّدُهُ: أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ وَٱلْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ».

عرف السيد أن عذر العبد باطل، وأنه كسلان لا يحب سيده ولا يجتهد في خدمته.

يخطئ من يظن أن السيد يتساهل مع الفقراء ويقبلهم في السماء لأنهم فقراء، وهذا غير صحيح البتة. إذ أن الفقير الكسلان هو كالغني البخيل. كلاهما مخطئ. وعلينا أن نربح أنفسنا لملكوت الله بالجهد والتعب وجلب الثمار التي تليق بالحياة الأبدية.

ٱلشِّرِّيرُ كان شره كسله، وسوء ظنه في سيده. لقد أعطانا الله عقولنا وأجسادنا لنستعملها لمجده وخير الناس، فعدم استعمالنا إياها تبذيرٌ وإتلافٌ. فالوزنات التي ننفقها على أنفسنا تُحسب أنها مدفونة، وإهمال القيام بالواجبات شرعاً كالتعدي على الشريعة.

وَٱلْكَسْلاَنُ أبان كسله بأن أخفى مال سيده فلم يربح له شيئاً.

عَرَفْتَ وقع ذا الكلام من السيد موقع الشرط في جوابه، أي إن كنت قد عرفت ما قلتَ، كان يجب عليك أن تفعل حسبما عرفت وتضع مالي عند الصيارفة. وهذا يظهر من قول السيد «مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ عَرَفْتَ أَنِّي.. الخ» (لوقا ١٩: ٢٢). وهو مثل قول أليفاز «إِنَّ فَمَكَ يَسْتَذْنِبُكَ، لاَ أَنَا، وَشَفَتَاكَ تَشْهَدَانِ عَلَيْكَ» (أيوب ١٥: ٦). على أن السيد لم يسلِّم بصدق قول العبد إنه قاسٍ وظالم، كما أنه لم ينفِ عن نفسه التهمة لكي يثبت جهل العبد وكذبه بعدم تصرفه بحسب معرفته واعتقاده. فلو خاف حقاً لاجتهد في دفع غيظ سيده بما يحصله من ربح ذلك المال. ومثل عذر هذا الكسلان عذر كل خاطئ، فإن بطلان العذر يظهر يوم الدين، وتزيد به دينونته. إن أرملة صرفة لم تعتذر بفقرها حتى لا تقدم شيئاً لإيليا النبي (١ملوك ١٧: ١٢ – ١٥). ويوحنا وبطرس لم يمتنعا عن الوعظ لأنهما عديما العلم وعاميان (أعمال ٤: ١٣) ولا يجوز لأحد أن يهمل عمل الخير لقلة وسائله أو مواهبه.

٢٧ «فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ ٱلَّذِي لِي مَعَ رِباً».

متّى ٢١: ١٢ ولوقا ١٩: ٢٣

ٱلصَّيَارِفَة هم الذين يأخذون المال برباً قليل ويعطونه سُلفةً للغير بربح أكثر منه. وشاع ذلك كثيراً في أيام الرومان. كان قصد السيد عندما أعطاه الوزنة أن يزيدها بالاتجار بها، ولكنه رأى أن أقل واجبات ذلك العبد أنه إن كسل عن الاتجار يضع فضته عند الصيارفة. وذلك عمل لا يقتضي نشاطاً أو تعباً، فيربح شيئاً. والربح القليل خير من لا شيء. فمنع الربح عن سيده خطأ يساوي منع رأس المال عنه. وما قيل هنا ليس دليلاً على جواز الربا أو منعه، لأنه إشارة إلى ما اعتاده أصحاب المال يومئذٍ. وقد حرَّمت الشريعة على اليهودي أن يأخذ الربا من ابن ملته، لكن سُمح له أن يأخذه من غيره (خروج ٢٢: ٢٥ وتثنية ٢٣: ١٩، ٢٠). ولم نجد من معنى روحي لذلك سوى أنه ينبغي أن نستعمل الروحيات لمنفعة قريبنا ومنفعة أنفسنا. وتلك الحكمة والتدبير اللذين يستعملهما الناس في الدنيويات. وبهذا أبطل السيد عذر العبد، وبيَّن فساد حجته. كذلك يبطل ما يأتيه الخطاة من الأعذار والحجج يوم الدين لإهمالهم الواجبات الدينية، لأنهم لم يبذلوا الجهد، ولا استعملوا ما وهبه الله لهم من الوسائل، ولم يطلبوا زيادة ذلك.

هل أخذ الربا مخالف لشريعة موسى؟ أليس أن الربا المعقول للأشخاص المحتاجين هو حافز لهم للعمل، وليس لابتزاز أتعابهم. وعلى هذا الأساس تقوم التجارة والعمران.

٢٨ «فَخُذُوا مِنْهُ ٱلْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ ٱلْعَشْرُ وَزَنَاتٍ».

خسر الكسلان كل الوسائل التي له وعُوقب شر عقاب. وظهرت زيادة خسارته بالمقارنة بزيادة ربح الأمين. ولم يرد المسيح بإعطاء ما للواحد للآخر نقل المواهب من الأول إلى الثاني، بل ما نراه كثيراً في العالم أن الله بعد ما يعطي بعض الناس فُرصاً لعمل الخير لا يستعملونها، يأخذها منهم ويهبها لغيرهم، فيكون للأول الخجل والندامة لأنه خسر ما كان يمكنه أن يحصل عليه من الثواب. وهذا مثل قول صموئيل لشاول الملك «يُمَزِّقُ الرَّبُّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ عَنْكَ الْيَوْمَ وَيُعْطِيهَا لِصَاحِبِكَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ» (١صموئيل ١٥ ٢٨). ويصح أن يقال بهذا المعنى أن الخيرات التي كانت للغني في الدنيا كانت للعازر المسكين في الآخرة. والغاية من هذا المثل كله إيقاظ ضمائر الغافلين من المعترفين بالمسيح وتأكيد إجراء الحساب الدقيق يوم الدين على كل ما أهملوه من واجباتهم، وعلى كل تعدياتهم، بدليل أن العبد الذي لم يقتُل ولم يلعن ولم يكذب ولم يسرق ولم يبذر مال سيده، حُكم عليه وعُوقب لمجرد كسله وإهماله.

٢٩ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».

متّى ١٣: ١٢ ومرقس ٨: ١٨ و١٩: ٢٦ ويوحنا ١٥: ٢

هذا كلام جارٍ مجرى المثل مرَّ تفسيره في متّى ١٣: ١٢. ومثله قول الحكيم «يَدُ الْمُجْتَهِدِينَ تَسُودُ، أَمَّا الرَّخْوَةُ فَتَكُونُ تَحْتَ الْجِزْيَةِ» (أمثال ١٢: ٢٤). والمعنى أن الأمين يُجازى بأن يوكل إليه أعظم مما اؤتمن عليه أولاً. وأما الخائن فتؤخذ منه الوسائط التي أُعطيت له ويُعاقب عليها.

وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أي من لا شيء له يدل على اجتهاده وأمانته في تصرفه بوكالته. فمن كان له وزنة ودفنها لم ينتفع بها ولم ينفع غيره بها، هو كمن ليس له شيءٌ. ولا يُقال إن لأحدٍ شيئاً إلا إن استعمله.

فَٱلَّذِي عِنْدَهُ أي ما أُعطيه من المواهب والوسائل أو الوكالة. وكثيراً ما نرى أمثلةً لما يقوله هذا العدد. فالمال ينتقل من أيدي أهل الكسل إلى أيدي أهل الاجتهاد. وعضو الجسد الذي لا يُستعمل يضمر ويضعف، ولكن الذي يُستعمل يعظم ويقوى. وكذلك القوى العقلية فإنها تقوى بالاستعمال وتضعف بدونه.

٣٠ «وَٱلْعَبْدُ ٱلْبَطَّالُ ٱطْرَحُوهُ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان».

متّى ٨: ١٢ و٢٤: ٥١

انظر شرح متّى ٨: ١٢ وهنا قارن بين حال العبد البطال، فإنه قال للأول «ادخل» وقال عن الثاني «اطرحوه». فكان الأول في نور وفرح في بيت سيده، وكان الثاني في الظلمة الخارجية والحزن واليأس. فكان هذا العبد كالتينة التي بلا ثمر (لوقا ١٣: ٦ – ٩) وعقابه كعقاب الضيف الذي لم يكن عليه لباس العرس (متّى ٢٢: ١٣) وكعقاب المرائين (متّى ٢٤: ٥١) فخطيته كخطيتهم. وخلاصة معنى هذا المثل الروحي تظهر ثمان قضايا:

(١) إن المسيحيين كلهم عبيد سيدٍ غاب عنهم.

(٢) إن الله يهب لعبيده مواهب مختلفة وفرصاً متنوعة للخدمة.

(٣) إنه ينتظر من كل مسيحي أن يستعمل مواهبه وما له من الوسائل على قدر طاقته، لمجده، لأن المسيحي نالها ليستعملها لا ليتزين بها.

(٤) إن من تصرف بالمواهب بالحكمة والاجتهاد كما قصد الله زادها له كثيراً ونال الثواب والرضى.

(٥) يأتي يوم فيه يُحاسب المسيحي على كل مواهبه ووسائطه وإن ذلك الحساب يكون خاصاً مدققاً بلا محاباة.

(٦) يظن الخطاة أن الله قاسٍ ظالم بما يكلفهم به، ويمنعهم سوء ظنهم من إتيانهم إليه وخدمتهم له.

(٧) يعتبر الله إهمال الواجبات تعدياً على شريعته، ويعاقب المهمل كما يعاقب المعتدي (عبرانيين ٢: ٣ و٦: ٧، ٨)

(٨) يظهر يوم الدين بطلان كل ما يقدمه الخونة من الأعذار على عدم أمانتهم.

٣١ «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ».

زكريا ١٤: ٥ ومتّى ١٦: ٢٧ و١٩: ٢٨ ومرقس ٨: ٣٨ وأعمال ١: ١١ و١تسالونيكي ٤: ١٦ و٢تسالونيكي ١: ٧ ويهوذا ١٤ ورؤيا ١: ٧

من هذا العدد إلى آخر الأصحاح بقية جواب المسيح على سؤال الرسل «مَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» (متّى ٢٤: ٣) وفيه يبيِّن ما سيحدث يوم الدين ويوضح الأعمال الواجبة على تلاميذ المسيح ليُظهروا محبتهم له مدة غيبته. لقد علَّمهم في مثل العذارى العشر وجوب السهر، وفي مثل الوزنات وجوب الاجتهاد، ويعلمهم هنا العمل الذي يرضاه، وهو إظهار الرحمة للمساكين والمصابين من شعبه، لأنه يحسب الإحسان إليهم إحساناً إليه. وكلام المسيح هنا ليس مثلاً، مع أنه شبَّه في ع ٣٢،٣٣ عمله بعمل الراعي الذي يفصل الخراف عن الجداء. لكنه يصوِّر أموراً مستقبلة لتظهر كأنها حدثت أمامنا.

جَاءَ المجيء الثاني للدينونة في نهاية العالم (متّى ١٣: ٤٠ و٢٤: ٣٠ وأعمال ١٦: ٣١ ورومية ٢: ١٦ و١كورنثوس ٤: ٥) وهذا ما أشار إليه بمجيء العريس (متّى ٢٥: ٦) ورجوع صاحب الوزنات من السفر (ع ١٩).

ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سمى ابن الله نفسه بذلك بياناً لاتحاد لاهوته بالناسوت، وورد هذا اللقب نحو خمسين مرة في هذا الإنجيل. والمراد بذكره هنا أن المسيح حين يأتي ليدين العالم لا يأتي بمجرد لاهوته بل بطبيعتيه (يوحنا ٥: ٢٢).

فِي مَجْدِهِ أي في بهائه باعتباره ابن الله (يوحنا ١٧: ٥) وفي شرفه الذي أعطاه الآب إياه جزاء اتضاعه بتجسده وموته فادياً (مرقس ٨: ٣٨ وفيلبي ٢: ٩، ١٠ ومزمور ٩: ٧). وهذا تتميم لنبوة دانيال ٧: ١٣، ١٤.

ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ وصف الملائكة بالقديسين لطهارتهم (مرقس ٨: ٣٨ و٢تسالونيكي ١: ٧ ورؤيا ١٩: ١٤) ولتمييزهم عن الملائكة الساقطين. وقد خدم الملائكة القديسون المسيح في عمل الفداء واهتموا بذلك العمل (متّى ١٣: ٤٠ و٢٤: ٣١ ولوقا ٢: ٩ – ١٤ وعبرانيين ١: ١٤).

يَجْلِسُ ديّاناً وملكاً (يوحنا ٥: ٢٢) وظافراً بعد محاربته.

عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ أي كرسيه المجيد (إشعياء ٦: ١ ودانيال ٧: ٩ ورؤيا ١٢: ١٣ و٢٠: ١١) فما أعظم الفرق بين حاله حينئذٍ، وحاله عندما كان طفلاً في مذود بيت لحم، وحاله عندما كان يجول وليس له محل يسند فيه رأسه، وحاله حين تركه تلاميذه وأحاط به أعداؤه يستهزئون به، وحاله حين وقف كمذنب أمام بيلاطس، وحين جُرح جَلداً ولبس الشوك، وحين صلب بين لصين.

٣٢ «وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ».

رومية ١٤: ١٠ و٢كورنثوس ٥: ١٠ ورؤيا ٢٠: ١٢ وحزقيال ٢٠: ٣٨ و٣٤: ١٧، ٢٠ ومتّى ١٣: ٤٩

جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ اليهود والأمم (متّى ٢٨: ١٩ ولوقا ٢٤: ٤٧) وهم جميع الأحياء والذين قاموا من الموت من أول خلق الإنسان إلى يوم القيامة (يوحنا ٥: ٢٨، ٢٩ و٢كورنثوس ٥: ١٠ ورؤيا ٢٠: ١٣). فما أعظم ذلك الجمع المشتمل على كل البشر والملائكة. وما أهم ذلك الاجتماع لنا، لأننا نكون هناك إما بين أهل الفوز والمسرة، أو بين أهل الخزي والعار والحزن.

فَيُمَيِّزُ يميِّز ملائكته (متّى ١٣: ٤١ ومرقس ٨: ٣) بين الأخيار والأشرار الذين يجتمعون في هذا العالم، ولكنهم ينفصلون يوم الدين إلى الأبد. وفي الدنيا يتميز بعض الناس على بعض بالغنى والشرف والعلم والتمدن، ولكن كل ذلك لا يعتبر يومئذٍ. فيومها الذي سيُعتبر صفاتهم الظاهرة بأعمالهم. ومن المعلوم أن تلك الصفات تختلف بمقتضى إيمانهم بالمسيح أو عدم إيمانهم به.

كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي الخ يميز بسهولة وصواب. وهذا دليل على معرفة المسيح غير المحدودة، لأنه ميز بها بين عدد لا يحصى من البشر بالسهولة والإصابة اللتين يميز بهما كل يوم بين أفراد قطيعه الصغير من الغنم والمعزى. وهذا مثل قول حزقيال النبي «وَأَنْتُمْ يَا غَنَمِي، فَهكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَحْكُمُ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ، بَيْنَ كِبَاشٍ وَتُيُوسٍ» (حزقيال ٣٤: ١٧). وهو دليل واضح على أن العالم ينقسم في اليوم الأخير إلى قسمين فقط، كما قال المسيح في مثل الحنطة والزوان (متّى ١٣: ٣٠) ومثل السمك الجيد والرديء (متّى ١٣: ٤٨). وبين المؤمنين وغير المؤمنين (مرقس ١٦: ١٦) ولا قسم ثالث بين الذين قاوموا الإنجيل والذين اهتموا به.

٣٣ «فَيُقِيمُ ٱلْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَٱلْجِدَاءَ عَنِ ٱلْيَسَارِ».

ٱلْخِرَافَ أراد بالخراف الصالحين، لأن الخراف وديعة لا تؤذي، ولأنها تحب راعيها وتخضع له، وتشعر باحتياجها إليه (متّى ١٨: ١٢ ويوحنا ١٠: ٧، ١٤ – ١٧ ومزمور ١٠٠: ٣). فكل الذين آمنوا بالمسيح وأظهروا إيمانهم بأعمالهم يُحسبون صالحين أو خراف رعيته.

عَنْ يَمِينِهِ أي في محل الشرف. والدعوة إليه علامة رضى الملك، فالذين في ذلك المكان يقيمون في رضى الملك وحمايته. وتقدم شرح مثل هذا في متّى ٣٢: ٤٤ (انظر أيضاً ١صموئيل ٢٠: ٢٥ و١ملوك ٢: ١٩ وأعمال ٢: ٢٥، ٣٣ وأفسس ١: ٢٠ وعبرانيين ١: ٣).

ٱلْجِدَاءَ المقصود بها الأشرار لأنها أقل من الخراف قيمة ونفعاً وألفة وطاعة.

عَنِ ٱلْيَسَارِ هو محل الإهانة، فالذين في هذا المكان يحكم عليهم الملك ويرفضهم.

٣٤ «ثُمَّ يَقُولُ ٱلْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ».

رومية ١٤: ٩ ورؤيا ١٩: ١٦ ورومية ٨: ١٧ و١بطرس ١: ٤، ٩ و٣: ٩ ورؤيا ٢١: ٧ ومتّى ٢٠: ٢٣ ومرقس ١٠: ٤٠ و١كورنثوس ٢: ٩ وعبرانيين ١١: ١٦

ٱلْمَلِكُ سُمي المسيح في هذا الفصل «ابن الإنسان» و «الراعي» و «الديان» وسُمي هنا أيضاً «الملك». وسمى نفسه بالملك قبل منتهى اتضاعه بأقل من ثلاثة أيام. وكثيراً ما تكلم المسيح قبل ذلك في شأن ملكوته، لكن هذه أول مرة سمى نفسه ملكاً (رؤيا ١٧: ١٤ و١٩: ١٦). فالمسيح يجلس في يوم الدين ملكاً ودياناً ليمتحن ويحكم بالثواب والعقاب، ويُجري قضاءه. فالذي أتى أولاً بصورة عبد (فيلبي ٢: ٧) يأتي ثانياً ملكاً مجيداً. ولا يكون ملك اليهود فقط كما كُتب على الصليب، ولا ملك المختارين وحدهم، بل ملك العالمين، ملك الملوك ورب الأرباب.

تَعَالَوْا اليوم يقول للناس «تعالوا إليَّ» للخلاص فالذين يسمعونه ويأتون إليه يقول لهم «تعالوا» للمجد (يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤) فهذا اعتراف المسيح بهم أمام وجه أبيه والملائكة الصالحين.

يَا مُبَارَكِي أَبِي كان هؤلاء محتقري العالم (متّى ١: ٢٢) فعلم الله أنهم له (٢تيموثاوس ٢: ١٩) فكانوا مباركيه وهم أحياء على الأرض. لكنهم لم يعلموا عظمة بركتهم حتى بلغوا السماء، وعلامات كونهم مباركي الآب أربع وهي:

(١) أنهم منتخبون للخلاص (٢تسالونيكي ٢: ١٣ و١بطرس ١: ٢).

(٢) أنهم عطية الآب للمسيح (يوحنا ١٧: ٦).

(٣) إن الله قدرَّهم على صالح الأعمال بواسطة روحه القدوس.

(٤) إن الله أحبهم ومجدهم في السماء.

رِثُوا يرثون لأنهم أبناء الله بالولادة الجديدة، ولأن المسيح اشترى لهم ذلك الميراث (رومية ٨: ١٤ – ١٧ وغلاطية ٣: ٢٩ و٤: ٦، ٧ وتيطس ٣: ٧ وعبرانيين ١: ١٤ ويعقوب ٢: ٥).

ٱلْمَلَكُوتَ أي كل الحقوق والبركات المختصة بالملكوت، ورأسه المسيح. وعلى هذا قال الرسول «لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ» (رومية ١٤: ١٧).

ٱلْمُعَدَّ الذي يزيد عظمة ذلك الميراث طول المدة التي صُرفت في إعداده، ووفرة كنوز حكمة الله وغناه التي أُنفقت عليه.

لَكُمْ أي أُعدَّ لكل فرد منكم على قدر حاجته، فلم يعد للبشر عموماً، ولا للكنيسة كلها، بل لكل نفس من المؤمنين.

مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ أي منذ الأزل، لا من بدء الخليقة، وذلك في قصد الثالوث الأقدس وقضائه. ومع أن الإعداد كان قبل إنشاء العالم إلا أنه لم يتم إلا بعد موت المسيح، لأن موته كان الجزء الأعظم من ذلك الإعداد. والمسيح صعد إلى السماء ليكمله بدليل قوله «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا» (يوحنا ١٤: ٢) وإعداد ذلك الملكوت للمؤمنين منذ الأزل يؤكد ثبوته لهم وكماله في ذاته (أفسس ١: ٣ – ٥) وإنه هبة من إنعامه لا أجرة، لأنه أُعد قبل أن يُخلق المؤمنون (رومية ٦: ٢٣ و٨: ٢٩، ٣٠ وأفسس ١: ١١ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ و١بطرس ١: ٢).

٣٥، ٣٦ «٣٥ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. ٣٦ عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ».

إشعياء ٥٨: ٧ وحزقيال ١٨: ٧ ويعقوب ١: ٢٧ وعبرانيين ١٣: ٣ ويوحنا ٥ ويعقوب ٢: ١٥، ١٦ و٢تيموثاوس ١: ١٦

لأَنِّي لا بد أن يُظهر المؤمنون بأعمالهم استعدادهم لذلك الملكوت المعد لهم، أي بكونهم معدين له كما هو معد لهم. ويظهر مما يأتي أن كل الناس يدانون في يوم القضاء حسب أعمالهم. ولا تناقض بين هذا وكون الخلاص بالإيمان، لأنه لا سبيل لإظهار صحة الإيمان إلا بالأعمال. وغاية الدينونة العلنية إظهار عدل الله في مجازاة الأخيار والأشرار، وهو يُعلن للمخلوقات بإظهار أعمالهم التي بُني الحكم عليها.

جُعْتُ… عَطِشْتُ… كُنْتُ غَرِيباً الخ ذكر المسيح هنا ستة أعمال فعلها الأبرار وأظهروا بها شفقتهم ورقتهم وعدم الاعتناء بذواتهم واستعدادهم لإنفاق أوقاتهم وأموالهم وقواهم وراحتهم على نفع إخوة المسيح لأجل المسيح.

ومن أمثلة إطعام الجياع ما جاء في ١ملوك ١٧: ١٠ – ١٥ وراعوث ٢: ١٤ – ١٧ ومن أمثلة سقى العطاش ما جاء في متّى ١٠: ٤٠ – ٤٢ ومن أمثلة إضافتهم للغرباء ما جاء في تكوين ١٨: ٢ – ٥ و١٩: ١ – ٣ ومن أمثلة كسوة العريان ما جاء في لو ٨: ٢، ٣، ٦ و١٠: ٣٠ – ٣٧ ومن أمثلة زيارة المسجونين ما جاء في إرميا ٣٨: ٧ – ١٣ و٢تيموثاوس ١: ١٦، ١٧ ومما يستحق الاعتبار في هذا الكلام ستة أمور:

(١) إن الأعمال التي يثاب عليها المرء ليست أعمالاً عظيمة كإطلاق المسجونين أو شفاء المرضى، بل مجرد زيارتهم. فاعتذار من يهمل الواجبات الصغرى بدعوى أنه لم يتيسر له أن يقوم بالكبرى باطلٌ، لأنه قد ظهر من هذا المثل أن كل شخص يقدر أن يخدم الرب يسوع نفسه.

(٢) المراحم التي ذُكرت هنا جسدية لا روحية، كتعليم الجهال ودعوة الخطاة إلى التوبة والإيمان والطاعة، مع أنها أعظم من الأولى. ولهذا سببان:

(أ) أنها حُسبت كأنها فُعلت بالمسيح، فقال «جعت وعطشت» الخ، ولكن لم يصح أن يقول أنا جهلت فعلمتموني. أخطأت فدعوتموني إلى التوبة. ضللت فهديتموني، إلى غير ذلك من المراحم الروحية. و

(ب) إن أُثيب على المراحم الصغرى فلا بد يُثاب على الكبرى، وعدم الاعتناء بالصغرى دليل على إهمال الكبرى «لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟» (١يوحنا ٤: ٢٠).

(٣) إن كل الأعمال التي ذُكرت هي من الخدمة الشخصية وإنكار الذات بإنفاق المال والعناية، وتدل على رقة القلب والمحبة الأخوية لأجل المسيح . وهذه كلها تبرهن أن الذين يقومون بها لهم روح السماء، فهم مستعدون لها.

(٤) إن المسيح كان أعظم قدوة للعالم بممارسته مثل تلك الأعمال، فمَن عمل مثلها يظهر أنه شبه المسيح (٢كورنثوس ٨: ٩).

(٥) لا داعي للمسيحي الحقيقي أن يخاف الحساب في يوم الدين، لأن قانون المحاسبة هو أن أفعال الرحمة التي يفعلها بالبشر تُحسب أنها فُعلت بالمسيح، وهذا خير اطمئنان له.

(٦) كما يتنكر الملوك أحياناً ويجولون بين الرعية ليلاحظوا أعمالهم، يجول المسيح بين شعبه وهو غير منظور، إذ يتنكر في فقراء شعبه. فالذين يؤوون الغرباء من أتباع المسيح يمكنهم أن يستضيفوا ملائكة كما قال الرسول (عبرانيين ١٣: ٢) بل يستضيفون الرب يسوع نفسه.

٣٧ – ٣٩ «٣٧ فَيُجِيبُهُ ٱلأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَارَبُّ، ٣٨ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ ٣٩ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟».

جواب الأبرار هنا أظهر تواضعهم، لأنهم شعروا أنهم لا يستحقوا المدح والثواب. فالذين يتواضعون على الأرض يبقون متواضعين في السماء. وأظهر أيضاً تعجبهم فقد جهلوا أنهم عندما فعلوا الخير بإخوتهم فعلوه بالمسيح، لأنهم لم يخدموه شخصياً. فتبين من أقوالهم أنهم لم يحسبوا نوال ذلك الثواب أجرة استحقوها بأعمالهم الصالحة، وقد أصابوا بذلك. ولا ضرورة للحكم بأن الأبرار نطقوا بنفس تلك الأجوبة، لكنها هي خلاصة أفكار قلوبهم، وقد عرفها فاحص القلوب وأعلنها.

٤٠ «فَيُجِيبُ ٱلْمَلِكُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ».

أمثال ١٤: ٣١ و١٩: ١٧ ومتّى ١٠: ٤٢ ومرقس ٩: ٤١ وعبرانيين ٦: ١٠

لنا من جواب المسيح أربعة أشياء:

(١) إن المسيح عندما يجازي الأبرار لا يقتصر على اعتبار أعمالهم، بل يلاحظ غاياتهم من تلك الأعمال.

(٢) إن الفضيلة المسيحية التي جُعلت هنا علامة الإيمان الصحيح بالمسيح هي المحبة، لأنها أعظم الفضائل، بدليل القول الرسولي «أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ» (١كورنثوس ١٣: ١٣) ولأنها إكليل صفات الله فإنه محبة (١يوحنا ٤: ٨، ١٦). فإذا وُجدت المحبة في الإنسان وُجدت فيه سائر الفضائل، وإن فقدها فقد الكل. لقد جعل المسيح التواضع علامة الإيمان به في متّى ١٨: ٣، لأنه أساس تُبنى عليه سائر الفضائل في أول الأمر. لكن المحبة رأس ذلك البناء عند كماله «فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ» (رومية ١٣: ١٠) وهي رباط الكمال (كولوسي ٣: ١٤).

(٣) يحسب المسيح ما صُنع من المعروف لتلاميذه إكراماً له وأنه صُنع له، بحسب قوله «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي. وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متّى ١٠: ٤٠، ٤٢). وقوله لشاول وهو يضطهد الكنيسة «لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» (أعمال ٩: ٤) وهذا دليل على شدة الاتحاد والشركة في الشعور بين المسيح وشعبه حتى أنه يحضر معهم حيث كانوا، ويشاركهم في فقرهم وضيقهم، ويحسب المساعدة لهم عين المساعدة له، واضطهادهم هو عين اضطهاده. ويظهر ذلك الاتحاد أيضاً من آيات كثيرة مثل (يوحنا ١٥: ٤ – ٦ و١كورنثوس ٦: ١٥ وأفسس ٥: ٢٣ – ٣٢).

إِخْوَتِي أي تلاميذي (يوحنا ٢٠: ١٧) وشركائي في ضيقتي (عبرانيين ٢: ١٠، ١١). والمسيح وهو ملك على عرش المجد لا يزال يحسب المؤمنين به من البشر إخوته.

هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ أي الذين هم أقل اعتباراً واشتهاراً عند المؤمنين من غيرهم، والمحتقرون عند سائر أهل العالم. ومدح المسيح على صنع المعروف لإخوته لا يعني أننا لا نفعل الخير لغيرهم (متّى ٥: ٤٤).

٤١ «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ ٱلْيَسَارِ: ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ».

مزمور ٦: ٨ ومتّى ٧: ٢٣ و١٣: ٤٠، ٤٢ ولوقا ١٣: ٢٧ و٢بطرس ٤ ويهوذا ٦

ٱذْهَبُوا عَنِّي المسيح نفسه الذي قال لهم أولاً «تعالوا إليَّ» قال لهم أخيراً «اذهبوا عني». فالذين قالوا لله في حياتهم الدنيا «ابعد عنا» (أيوب ٢٢: ١٧) سيسمعونه يقول لهم ابعدوا عني. وهذا بدء عذاب جهنم لأن «أمام الله شِبَعُ سُرُورٍ» (مرقس ١٦: ١١) والبعد عنه الموت الثاني.

يَا مَلاَعِينُ هذا عكس ما قيل للأبرار، فإنه قال لهم «يا مباركي أبي». والملاعين هم المحرومون من كل خيرٍ ومسرة والمُعاقبون بالآلام والأحزان. ولم يقل لهم «يا ملاعين أبي» كما قال للأبرار «يا مباركي أبي» لأن من الله الخلاص، وأما الهلاك فيأتي على الناس من أعمالهم، فهم لعنةٌ على أنفسهم (إشعياء ٥٠: ١).

إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ هذه النار ليست للتطهير بل للعذاب، وهي علامة غضب الله على الخطاة لأنه بالنسبة إليهم «نَارٌ آكِلَةٌ» (عبرانيين ١٢: ٢٩) فعلى ذلك يكون عقابهم مؤكداً شديداً دائماً

ٱلْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ سبق أن الملكوت أي السماء معدٌ للأبرار، ولكنه لم يقل إن جهنم معدَّة للأشرار، بل للشياطين (رؤيا ١٩: ٢٠ و٢٠: ١٨) والشياطين هم الملائكة الساقطون (يهوذا ٦ ورؤيا ١٢: ٨، ٩) وقد أُعدَّ لهم محل العذاب الذي استحقوه. فأشرار الناس اقتدوا بهم وشاركوهم في الإثم فأعدوا أنفسهم لمرافقتهم، فذهبوا إلى أماكنهم كما ذهب يهوذا الإسخريوطي إلى مكانه (أعمال ١: ٢٥) فإذاً دينونتهم عادلة.

٤٢ – ٤٥ «٤٢ لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. ٤٣ كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي. ٤٤ حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضاً: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ ٤٥ فَيُجِيبُهُمْ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا».

أمثال ١٤: ٣١ و١٧: ٥ وزكريا ٢: ٨ وأعمال ٩: ٥

ما يستحق الاعتبار في هذه الأعداد سبعة أمور:

(١) إن الأشرار دينوا هنا، لا أنهم سرقوا أو تعدوا الوصايا، بل لمجرد إهمالهم الواجبات، فلهم لم يُظهروا المعروف لتلاميذ المسيح ولا لمسيحهم بواسطتهم، فأظهروا عدم مشابهتهم للمسيح، وعدم استعدادهم لملكوته بعدم اعتنائهم بالفقراء والمحتاجين والغرباء والمسجونين. فإذا دين هؤلاء فبالأولى أن يُدان مرتكبو الفظائع، ويعاقب مُهملو النعمة والمجدفون والمضطهدون.

(٢) إن الأعمال التي دينوا على إهمالها يستطيع أن يعملها كل إنسان يريد أن يقوم بها.

(٣) خلاصة إثمهم إنهم عاشوا لأنفسهم، فأنفقوا عليها القوات والمواهب التي وهبها الله لهم لنفع غيرهم من البشر في تخفيف أحزانهم وتكثير أفراحهم. ولا يلزم من ذلك أن الأشرار يدانون يوم القضاء على مجرد ما أخطأوا به إلى إخوتهم بغضّ النظر عما ارتكبوه ضد الله، إذ الغاية هنا بيان عدل الله في عقاب الأشرار بأمثلة تدركها أذهان البشر.

(٤) جهل الأشرار عظمة خطيتهم فظنوا أن حكم الله عليهم سيكون على إهمالهم ما يجب عليهم لغيرهم من الناس، ولم يفطنوا أنهم أهملوا بذلك ما يجب عليهم للمسيح. وخطايا الناس أفظع مما يظنون، ونتائجها تمتد دائماً إلى ما لم يخطر لهم على بال.

(٥) ادَّعوا أن المسيح لو أتى بنفسه لكانوا خدموه، ولو عرفوا أنه يمكنهم خدمته بالإحسان إلى تلاميذه لأحسنوا إليهم. وكذلك الناس اليوم يخدعون أنفسهم بتركهم الواجبات الصغرى الحاضرة مدَّعين أنه لو فُتحت لهم الأبواب إلى كبار الواجبات لقاموا بها خير قيام.

(٦) ليس في جوابهم شيءٌ يدل على التواضع أو التوبة، بل خلاصته تبرير أنفسهم، فصفاتهم في الآخرة تبقى كصفاتهم في الدنيا. ويمكن الناس أن يقوموا بأعمال تذيع صيتهم بين أهل الأرض، كما فعل الفلاسفة والأبطال والمكتشفون والمخترعون. ولكن ليس لمثل هؤلاء اعتبار في يوم الدين إن قال لهم المسيح «فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا».

(٧) إن قوله «بي» أساس يُبنى عليه ما يستحق الثواب من الأعمال.

٤٦ «فَيَمْضِي هٰؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَٱلأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».

دانيال ١٢: ٢ ويوحنا ٥: ٢٨، ٢٩ ورومية ٢: ٧ الخ ورؤيا ٢١: ١ – ٨

عَذَابٍ أَبَدِيٍّ… حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ هما حالان أولهما في أبعد بعدٍ عن الله. وثانيهما في أقرب قربٍ إليه. والأول أجرة الخطية، والثاني هبة الله، ولا يوجد موقف ثالث.

لقد وُصف كلاهما بما وُصف به الآخر. فإذاً يدوم شقاء الأشرار كما تدوم سعادة الأبرار. وورد هذا الوصف ٦٦ مرة في الإنجيل، في ٥١ منها بياناً لدوام سعادة الأبرار، ومرتين بياناً لسرمدية الله، وست مرات بياناً لدوام عقاب الأشرار. فعقاب الأشرار يبقى ما بقيت سعادة الأبرار ووجود الله وملكوت المسيح. ومن الشواهد على أبدية العقاب بعد الموت ما يأتي من الآيات (مزمور ٩: ١٧ وإشعياء ٣٣: ١٤ ومرقس ١٦: ١٦ ولوقا ١٦: ٢٦ ويوحنا ٣: ٣٦ و٢تسالونيكي ١: ٧ – ٩).

لقد أوضح السيد له المجد قيمة الديانة العملية المثمرة بإطعام الجائع وكسوة العريان ونفقة الخير والرحمة للفقير والمسكين. أي أن الإيمان يجب أن يعمل بالمحبة لأجل خدمة الآخرين، فإننا نتصل بالله مترجين نعمته ورحمته، ثم نتصل بأخينا الإنسان لنفرج كربه ونخفف ضيقه.

تتضمن الحياة الأبدية، علاوة على خلود النفس، أنها تكون في أحسن حال للعمل، وتنال أسمى السعادة والبركات والثواب بدون خطر السقوط في الخطية، وأنها تعاين الله وتكون مثله في القداسة. والمسيح هو الذي اشترى لها كل ذلك (٢تيموثاوس ١: ١٠). وكما أن الحياة الأبدية كناية عن كمال السعادة والقداسة، كذلك العذاب الأبدي كناية عن تمام الشقاء والإثم.

ومما يحقق لنا دوام العذاب في جهنم أنه لا يمكن أن يُغفر للخاطئ بلا توبة، ولا يمكنه أن يدخل السماء بدون تجديد قلبه. فكيف يستطيع ذلك في جهنم حيث لا تأثير للروح ولا لوسائط النعمة؟ فليس في الجحيم سوى كل ما يثبته في الإثم! وقد أخبرنا الله بكل هذا التحذير لأنه محبة، وهو يريدنا أن نهرب من الموت الأبدي وننال الحياة الأبدية. فإن صعب علينا الكلام عن عذاب الأشرار أو قراءة أخباره، فكم يصعب ويؤلم احتماله.

ولا بد أن جميع الناس يقفون يوم الدين عن يمين الديان أو عن يساره. فلنا الآن أن نختار الموقف الذي نحبه، إذ لا اختيار لنا في ذلك اليوم. ولا بد من أن جميعهم يسمعون إما قوله «تعالوا إليَّ» أو قوله «اذهبوا عني». ولنا الآن أن نختار سماع الصوت الذي نحبه. ولا بد من أن جميعهم ينالون إما الحياة الأبدية أو العذاب الأبدي، فحياتنا الزمنية ووسائط النعمة وُهبت من الله لكي نتمسك بالحياة الأبدية. فإهمالنا الحياة يعرِّض نفوسنا للموت والهلاك!

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى