إنجيل متى | 24 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الرابع والعشرون
١ «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ ٱلْهَيْكَلِ، فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ ٱلْهَيْكَلِ».
مرقس ١٣: ١ الخ ولوقا ٢١: ٥ الخ
خَرَجَ يَسُوع هذا خروجه الأخير من الهيكل، وقد ذهب بعده إلى جبل الزيتون (ع ٣) وتكلم معه تلاميذه في الطريق عن غرابة بناء الهيكل (مرقس ١٣: ٤).
أَبْنِيَةَ ٱلْهَيْكَلِ (راجع متّى ٢١: ١٢) أي كل ما بُني في أرضه من غُرف ودور وأروقة وأعمدة وأبواب جميلة مغشاة بالفضة والذهب، وكان أحدهما من النحاس الكورنثي. قال مرقس إن التلاميذ وجهوا أفكار المسيح إلى حجارة الهيكل. وقال يوسيفوس المؤرخ إن طول بعض تلك الحجارة كان ٤٥ ذراعاً، وعرضه ستاً، وسمكه خمساً، وإنه كان أكبر الحجارة في الجانب الشرقي من الهيكل حيث بُني الجدار من بطن الوادي إلى قمة جبل الموريَّا.
٢ «فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هٰذِهِ؟ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ هٰهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!».
١ملوك ٩: ٧ وإرميا ٢٦: ١٨ وميخا ٣: ١٢ ولوقا ١٩: ٤٤
حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ كان كلامه يظهر وقتئذٍ من أبعد الممكنات، لأن اليهود كانوا يومئذٍ في حال السلم والراحة. وكان الرومان في قوة لا يظن أحد أن تعصاها أمة صغيرة كاليهود. وكان الهيكل واسعاً غنياً في غاية السمو وافتخار الأمة به، ولكن بعد ٤٠ سنة أخربه الرومان في سنة ٧٠م، لأن اليهود عصوا الرومان فأرسل الرومان الجنود لإذلالهم. وأراد تيطس القائد الروماني أن يحتفظ بالهيكل، لكن أحد جنوده ألقى النار إلى الهيكل خلافاً لأمره. ولما بدأت تتقد فيه بذل جهده في إطفائها فلم يستطع، فتم خرابه.
وبعد أن استولى تيطس على المدينة والهيكل أمر بهدم المدينة والأسوار إلى أسسها، ولم يترك إلا ثلاثة أبراج بناها هيرودس الكبير في ناحية الشمال الغربي من المدينة. وفعل العسكر ذلك رغبة في إرضائه، وفي كشف ما دُفن هنالك من الكنوز. فحرث كيرنتيوس روفس أحد قواد تيطس الأرض التي كانت فيها أسس الهيكل. قيل إن الخراب بلغ مبلغاً غريباً حتى تعذر على من قصد ذلك المكان التصديق إنه كان مأهولاً. ولا يناقض نبوة المسيح ما يصادف اليوم من بقايا جدران المدينة التي أقيمت لتوسيع دائرة الهيكل، فإن بقاءها هنالك نتج عن مواراتها بالحجارة التي طُرحت عليها وقت الهدم. ولم يكن من قصد الجنود أن يبقوا حجراً على حجر فوقع ذلك رغماً عن إرادتهم. ولم تظهر بقايا تلك الجدران إلا بعد مرور سنين كثيرة.
٣ «وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلتَّلاَمِيذُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ قَائِلِينَ: قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هٰذَا، وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ؟».
١تسالونيكي ٥: ١ الخ
تنبأ لهم إرميا بمثل هذا الخراب في أيام نبوخذنصر، ويمكن مطالعة الكثير من أصحاحات هذه النبوة لمناسبتها ولزيادة التشابه بين السيد له المجد وهذا النبي العظيم إرميا، الذي تكلم بالحق ولم يشأ أن يساير الباطل.
جَبَلِ ٱلزَّيْتُون هو شرق أورشليم، وتُرى منه المدينة والهيكل بوضوح.
ٱلتَّلاَمِيذُ أي أربعة منهم وهم بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس (مرقس ١: ٣). وهذا لا يستلزم أن بقية التلاميذ لم يسمعوا الخطاب. إنما السؤال كان من الأربعة.
هٰذَا أي خراب أورشليم بناءً على ما قاله وهو في الهيكل (متّى ٢٢: ٣٨) وما قاله وهو على الطريق (ع ٢).
مَجِيئِكَ أشار المسيح إلى مجيئه الثاني في متّى ٢٣: ٣٩ وتوقع التلاميذ رجوعه يقيناً وحقيقة ليعاقب أعداءه ويملك ملكاً أرضياً، حتى أنهم بعد موته وقيامته كانوا لا يزالون يتوقعون قرب مجيئه (١تسالونيكي ٢: ١٩ و٣: ١٣ ويعقوب ٥: ٧ و١يوحنا ٢: ٢٨).
ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ لا نعرف ماذا قصدوا بانقضاء الدهر. هل أرادوا بها نهاية النظام الحاضر وبدء مُلك المسيح على الأرض كانتظارهم مع سائر اليهود، أو هل أرادوا نهاية العالم كله كما أنبأ المسيح (في متّى ١٣: ٣٩، ٤٠ وكما في متّى ٢٩: ٣٨). فجمعوا في هذا السؤال ثلاثة أشياء: (١) خراب الهيكل (٢) مجيء المسيح ثانيةً (٣) انقضاء العالم.
٤ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: ٱنْظُرُوا، لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ».
أفسس ٥: ٦ وكولوسي ١: ٨، ١٨ و٢تسالونيكي ٢: ٣ و١يوحنا ٤: ١
فَأَجَابَ يَسُوعُ نقرأ إجابته في أصحاحي ٢٤، ٢٥ كليهما، وهو ما تفوه به على الجبل. وفي هذا الجواب ثلاثة أمور تستحق الالتفات إليها: (١) إن المسيح لم يبين زمان حدوث ما أنبأ به. (٢) إنه أنبأ بأمرين هما: خراب أورشليم ونهاية العالم. وأولهما رمز إلى الثاني، فيعسر علينا كثيراً أن نميز أي الأمرين كان يشير إليه، وأين ينتهي كلامه عن الأول، وأين يبدأ الثاني. وليس هناك فاصل واضح، لكننا نعلم أن أول كلامه كان يشير بالأكثر إلى خراب أورشليم الذي هو رمز، وآخره إلى نهاية العالم الذي هو المرموز إليه. والذي يقرب أن يكون فاصلاً بينهما هو في متّى ٢٤: ٢٨. وكثير منه يشتمل على كلا الموضوعين. و(٣) أن تلك النبوة كسائر النبوات لم يقصد الله أن نفهمها حق الفهم إلا بعد أن تتم. وغايته منها أن تقوى ثقتنا بصدقه عند إتمامها، لا مجرد إنبائنا بالمستقبل (يوحنا ١٤: ٢٩)
ٱنْظُرُوا حذرهم يسوع قبل أن يجيب سؤالهم من أن يُخدعوا، فأنبأهم بأمور تظهر للناس أنها من علامات مجيئه وهي ليست كذلك.
٥ «فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ».
إرميا ١٤: ١٤ و٢٣: ٢، ٢٥ ومتّى ٢٤: ١١، ٢٤ ويوحنا ٥: ٤٣
كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ أنبأهم بقيام كثيرين يخدعون الشعب فإن كل الأمة اليهودية كانت تنتظر مجيء المسيح وقتئذٍ، مما شجَّع كثيرين على الادعاء أنهم مسحاء، وحمل الأمة على تصديقهم.
بِٱسْمِي أي بدعوى أنهم مسحاء وأن نبوات العهد القديم تمت بهم، وبذلك يُخشى من أنهم يخدعون الرسل أنفسهم. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن مزورين وسحرة جذبوا إليهم كثيرين إلى البرية بعد أن وعدوهم بالمعجزات. فمنهم من جُنَّ ومنهم من عاقبة فيلكس الوالي. وكان من المزورين ذلك المصري الذي ذُكر في سفر الأعمال (أعمال ٢١: ٣٨) أنه جذب إليه كثيرين من الناس إلى جبل الزيتون واعداً إياهم أنه سيخرب أسوار أورشليم بكلمته. وقال أيضاً إن البلاد امتلأت بالمسحاء الكذبة، وإنه كل يوم كان يُمسَك أناسٌ منهم ويُقتلون.
٦ «وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ كُلُّهَا، وَلٰكِنْ لَيْسَ ٱلْمُنْتَهَى بَعْدُ».
بِحُرُوبٍ كان وقت نطق المسيح بهذه النبوة سلام عام، ولكن صار بعده اضطرابات وفتن كثيرة وحروب هائلة في أماكن مختلفة، ومنها الحرب التي اشتعلت في الإسكندرية سنة ٣٨م بين المصريين واليهود المقيمين بها، ومنها حرب اتقدت في سلوكية قُتل فيها خمسون ألفاً من اليهود، وكثرت الحروب في المملكة الرومانية بين أحزابها فقُتل فيها أربعة أباطرة في ١٨ شهراً.
وفي هذه العبارات استعمل المسيح وظيفته النبوية على أكمل وجه، فحذر تلاميذه وأتباعه من الخطر ليحذِّروا الآخرين فينجون هم، وينجو من يسمعون ويتحذرون. ولكنهم لم يتحذروا لسوء الحظ.
لاَ تَرْتَاعُوا أي لا تخافوا من خراب أورشليم حينئذٍ، بل توقعوا علامات أخرى قبله.
٧ «لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ».
٢أخبار ١٥: ٦ وإشعياء ١٩: ٢ وحجّي ٢: ٢٢
أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ تم ذلك بأن هاج خصام وقتل شديد بين اليهود والسامريين، وبين اليهود ومن سكن معهم المدن من اليونانيين، فقتل يونانيو قيصرية عشرين ألفاً من اليهود. ثم انتقم اليهود من اليونانيين الساكنين في القرى. وقام في الرومان قيصران أوثو وفيتليوس، فالتحمت الحرب بين أحزابهما.
مَجَاعَاتٌ منها المجاعة التي تنبأ بها أغابوس (أعمال ١١: ٢٨) وحدثت سنة ٤٩م. وكتب نبأ تلك المجاعات المؤرخون الوثنيون منهم تاسيتوس وسنيكا.
وَأَوْبِئَةٌ ومن ذلك وباء تفشى في روما سنة ٦٥م مات به ثلاثون ألفاً.
وَزَلاَزِلُ منها زلزلة في كريت سنة ٤٦م، وزلزلة في روما سنة ٥١ م وزلزلة في أفاميا سنة ٦٣ وزلزلة في لاذقية فريجية سنة ٦٠م وزلزلة في أورشليم سنة ٦٧م. وذكر أنه في أيام نيرون حدثت زلازل في كولوسي وسميرنا (أي إزمير) ومليتوس وساموس وخيوس وغيرها.
٨ «وَلٰكِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ ٱلأَوْجَاعِ».
أي أن الأوجاع التي تكون وقت خراب أورشليم أشد من الأوجاع المذكورة، وأن تلك الحروب والزلازل والمجاعات وغيرها ليست أدلة على مجيء المسيح ونهاية العالم.
٩ «حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ ٱلأُمَمِ لأَجْلِ ٱسْمِي».
متّى ١٠: ١٧، ٣٢ ويوحنا ١٥: ٢٠ و١٦: ٢ وأعمال ٤: ٢، ٣ و٧: ٥٩ و١٢: ١ الخ و١بطرس ٤: ١٦ ورؤيا ٢: ١٠، ١٣
يُسَلِّمُونَكُم تنبأ المسيح أن لتلاميذه نصيباً من تلك المصائب، وهي الاضطهادات من الخارج. وهذا كان أول شرور أربعة تنبأ بأنها تقع على كنيسته الصغيرة.
يَقْتُلُونَكُمْ أي يقتلونكم أنتم ومن يؤمن إيمانكم (أعمال ٧: ٥٩، ٦٠ و٨: ٣، ٤ و١٢: ٢).
مُبْغَضِينَ أي من الوثنيين واليهود (أعمال ١٦: ١٩ – ٢٢ و١٩: ٢٨ و٢٨: ٢٢ و١بطرس ٢: ١٢ و٣: ١٦ و٤: ١٤). قال تاسيتوس المؤرخ الروماني إن المسيحيين فرقة مكروهة من الناس. وحسب الرومان اعتناق المسيحية إثماً يستحق مرتكبه الموت.
لأَجْلِ ٱسْمِي أي لاعترافكم بي ونسبتكم إليَّ ولسيركم سيرتي. وكان المسيحيون يهيجون بغض الرومان لهم لتوبيخهم إياهم على عبادة الأوثان، وعلى ما كانوا يرتكبونه من الرذائل.
١٠ «وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً».
متّى ١١: ٦ و١٣: ٥٧ و٢تيموثاوس ١: ١٥ و٤: ١٠
تنبأ المسيح في هذا العدد بضيق ثانٍ يأتي على كنيسته، وهو ارتداد بعض أعضائها وخيانتهم لإخوتهم.
يَعْثُرُ ارتد كثيرون عن المسيح للضيقات التي وقعوا فيها، وللاضطهاد ولخسارة المال والأصحاب والحياة، ولبطء نجاح الكنيسة وعدم مجيء المسيح في الحال. وكثيراً ما نرى في رسائل الرسل التحذير من الارتداد، مما يدلنا على كثرة وقوعه.
وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً أي أن المرتد منهم يسلم الثابت. قال تاسيتوس إنه في مدة اضطهاد نيرون الذي سماه «تأديباً» حكم على كثيرين من المسيحيين بالقتل بناءً على شهادة بعضهم. وكان ذلك التسليم إلى المجالس والقضاة الوثنيين.
وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً لم يرد المسيح أن المؤمنين الحقيقيين يفعلون ذلك، بل المدَّعين أنهم مسيحيون. وأشد أعداء الكنيسة في كل عصورها كانوا من أعضائها المرتدين الذين أضروها إضراراً لم يستطعه غيرهم. وزاد لوقا على ما ذكره متّى هنا قول المسيح «سَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ» (لوقا ٢١: ١٦). وذكر متّى من أقوال المسيح مثل هذا قبلاً (متّى ١٠: ٢١).
١١ «وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ».
متّى ٧: ١٥ وأعمال ٢٠: ٢٩ و١تيموثاوس ٤: ١ الخ و٢بطرس ٢: ١.
هذا شرٌ ثالث تنبأ المسيح بأنه يقع على الكنيسة، وهو نشوء بدع وتعاليم فاسدة فيها.
أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ المقصود بالأنبياء هنا معلمو الديانة. وتدل الآيات التالية على تمام هذه النبوة: (أعمال ٢٠: ٣ ورومية ١٦: ١٧، ١٨ و٢كورنثوس ١١: ١٣ وغلاطية ١: ٧ – ٩ وكولوسي ٢: ١٧ و١تيموثاوس ١: ٦، ٧، ٢٠ و٤: ١و٢تيموثاوس ٢: ١٨، ١٩ و: ٦ – ٨ و٢بطرس ٢: ١، ٢ و١يوحنا ٢: ١٨ و٤: ١ و٢يوحنا ٧ ويوحنا ومتّى ٢٤: ٤). وقد وُصف الأنبياء الكذبة في هذه الآيات برسل كذبة ومعلمين كذبة، وأضداد المسيح وأرواح مضلة.
وذكر يوسيفوس عن قيام أنبياء كذبة بين اليهود قبل خراب أورشليم بل في زمن الحصار نفسه، وأنهم وعدوا الناس بنجاة من السماء فمنعوهم عن الهروب من المدينة ومن التسليم إلى الرومان حين عرضت عليهم شروط الصلح وثبتوهم على عنادهم.
١٢ «وَلِكَثْرَةِ ٱلإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ ٱلْكَثِيرِينَ».
تنبأ المسيح هنا بالشر الرابع الذي يقع على كنيسته، وهو أنها تتأثر من الشرور التي تكثر في العالم فتشبه أهله. وهذا ما يشير إليه قوله «تَبْرُدُ مَحَبَّةُ ٱلْكَثِيرِينَ» وتمَّ ذلك كما نرى من الآيات التالية: (غلاطية ٣: ١ و١تيموثاوس ٦: ٩، ١٠ و٢تيموثاوس ١: ١٥ و٤: ١٠ ويعقوب ٢: ٢، ٦ وعبرانيين ١٠: ٢٥ ورؤيا ٢: ٤ و٣: ١٥.
١٣ «وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ».
متّى ١٠: ٢٢ وعبرانيين ٣: ٦، ١٤ ورؤيا ٢: ١٠
يحتمل هذا الكلام معنيين: (١) أن الذي يبقى ثابتاً في إيمان المسيح بمحبة وغيرة، مع احتمال الإهانة والاضطهاد والفقر بدون فتور إلى وقت خراب أورشليم، لا يهلك فيها. جاء في التواريخ أنه لم يُقتل أحد من المسيحيين في وقت حصار أورشليم ولا في وقت خرابها. وزاد لوقا بنقله ما يوافق هذا المعنى وهو قول المسيح «وَلكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ» (لوقا ٢١: ١٨). (٢) أن الذي يثبت إلى يوم موته شهيداً أو يُقتل قتلاً من أجل اسمي، أو الذي يموت موتاً طبيعياً وهو مؤمن بي وبمجيئي الثاني في موكب الغلبة والانتصار ينال خلاصاً أبدياً. وفي كلا المعنيين يعلمنا أن الذي يثبت في إيمانه إلى نهاية ما عيَّنه الله من امتحانه ينال ثوابه (أفسس ٦: ١٣ ورؤيا ٢: ٧ – ١١، ١٧) وفيه وعظ بالصبر والثبات في أزمنة الضيق. ولنا مما سبق أمران: (١) فرط شر العالم قبل خراب أورشليم و(٢) مثله قبل نهاية العالم.
١٤ «وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ هٰذِهِ فِي كُلِّ ٱلْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي ٱلْمُنْتَهَى».
رومية ١٠: ١٨ وكولوسي ١: ٦، ٢٣
بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ أي الإنباء بالخلاص الذي بالمسيح.
فِي كُلِّ ٱلْمَسْكُونَةِ غلب استعمال المسكونة في العهد الجديد للمملكة الرومانية، كما يظهر من قول لوقا «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ» (لوقا ٢: ١) ومثله ما جاء في أعمال ١١: ٢٨ ثم أُطلقت على كل ما عُلم من الأرض المسكونة في تلك الأيام.
ووفقاً لهذه النبوة بشر الرسل والمسيحيون الأولون بالإنجيل في كل أقطار الأرض المعروفة يومئذٍ، في نحو ثلاثين سنة بعد موت المسيح، أي قبل خراب أورشليم بنحو عشر سنين. ومما سهَّل نشر تلك البشارة نشوء كنيسة مسيحية في روما، لأن أخبار تلك المدينة كانت تبلغ كل مكان، لأنها عاصمة المملكة. كما سهَّل نشرها زيارة اليهود المتشتتين في الأرض مدينة أورشليم في عيد الفصح، فاستطاعوا بذلك أن يحملوا أخبار ما سمعوه من أمر الدين المسيحي إلى كل البلاد التي أقاموا بها. ويثبت ذلك قول بولس الرسول «أَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! إِلَى جَمِيعِ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُمْ، وَإِلَى أَقَاصِي الْمَسْكُونَةِ أَقْوَالُهُمْ» (رومية ١٠: ١٨) وقوله «الإنجيل الَّذِي قَدْ حَضَرَ إِلَيْكُمْ كَمَا فِي كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا» وقوله «الإِنْجِيلِ، الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ، الْمَكْرُوزِ بِهِ فِي كُلِّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي تَحْتَ السَّمَاءِ» (كولوسي ١: ٦، ٢٣ أنظر أيضاً ٢تيموثاوس ٤: ١٧).
شَهَادَةً بمحبة الله ومقاصده الرحيمة للجنس البشري الساقط.
لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ لا لشعب الله المختار فقط. وذلك لكي يقبلوا الإنجيل أو يرفضوه فإن قبلوا كانت تلك الشهادة لهم وإن رفضوه كانت عليهم.
ثُمَّ يَأْتِي ٱلْمُنْتَهَى أي نهاية مدينة أورشليم وصيرورة اليهود أمة مستقلة. وحدث ذلك منذ أربعين سنة بعد النطق بهذا الكلام أي نحو سبعين سنة للميلاد. وأعلن المسيح أنه سيبشر بالإنجيل في كل المسكونة قبل تلك النازلة. وما ذكرناه هو وفق قول المسيح لكنه بعض ما دلَّ عليه لا كله. لأن فيه بيان انتشار الإنجيل بين قبائل الأرض قبل مجيء المسيح الثاني في يوم الدين. فلنا مما سبق أنه في الأيام الأخيرة تكثر وسائل معرفة الإنجيل إلى حد لم يعهده العالم قبل كترجمة كتاب الله إلى كل لغات الأرض، وإرسال المبشرين إلى كل أقطار الدنيا منادين بخلاص ابن الله.
ولنا من ذلك أنه كلما قرب المنتهى زاد علامتان من علاماته وضوحاً، إحداهما زيادة شرور العالم مع ارتداد بعض المحسوبين مسيحيين. والأخرى زيادة غيرة الكنيسة في المناداة بالإنجيل ونجاة الخطاة من الهلاك.
١٥ «فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ» ٱلَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ ٱلنَّبِيُّ قَائِمَةً فِي ٱلْمَكَانِ ٱلْمُقَدَّسِ لِيَفْهَمِ ٱلْقَارِئُ».
دانيال ٩: ٢٣، ٢٥، ٢٧ و١٢: ١١ ومرقس ١٣: ١٤ ولوقا ٢١: ٢٠ الخ
ما في هذا العدد إلى العدد السابع والعشرين يختص بالحوادث المتعلقة بخراب أورشليم.
فَمَتَى نَظَرْتُمْ المخاطبون هم مسيحيو اليهودية.
رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ أي الرجسة التي هي علة الخراب. ولا ريب في أن الرسل عرفوا ما أراد المسيح برجسة الخراب لكن يتعذر علينا الآن أن نعرفه. فظن بعضهم أنه أراد بها الجيش الروماني الذي كانت مقدمته تحمل تماثيل القياصرة الرومانيين وألوية على رؤوس عصيها تماثيل النسور. وكانوا يعبدون تلك التماثيل كآلهة. فيكون المقصود بقوله «قَائِمَةً فِي ٱلْمَكَانِ ٱلْمُقَدَّسِ» قيام الجيش أمام أورشليم في حصارها الأول بقيادة سستيوس غالوس سنة ٦٦ للميلاد، وفي حصارها الثاني بقيادة فسباسيانوس سنة ٦٨ وبقيادة تيطس سنة ٧٠. وما يوافق هذا قول لوقا «مَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ» فإنه قال ذلك مكان قول متّى «رِجْسَةَ ٱلْخَرَاب» الخ (لوقا ٢١: ٢٠). وظن آخرون أنها إشارة إلى تدنيس الهيكل عينه سنة ٦٦ بجماعة من اليهود سمّوا الغيورين دخلوا الهيكل للمحاماة عنه فحاربوا فيه وقتلوا وارتكبوا فظائع أُخر فيه. والأرجح الأول على أنه يصح أن يراد بها الأمران على أن الأول رجسة خارجية والثاني رجسة داخلية.
قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ (دانيال ١٩: ٢٦، ٢٧ و١١: ٣١ و١٢: ١١) أشار دانيال إلى اجتهاد أنتيوخس أبيفانس في أبطال المحرقة اليومية لله، والاستعاضة عنها بعبادة جوبتر أولمبيوس الذي أقام تمثاله في الهيكل المقدس. وقال المسيح إنه سيحدث مثل هذا التنجيس والتدنيس قبل خراب أورشليم، وإنه يكون علامة للمسيحيين.
قَائِمَةً فِي ٱلْمَكَانِ ٱلْمُقَدَّسِ كانت أورشليم عند اليهود مدينة مقدسة ولا سيما الهيكل (متّى ٤: ٥) وكذلك كانت الأرض حول تلك المدينة. وعلى هذا يصح أن يكون المقصود من قول المسيح «رجسة الخراب» الجيش الروماني حول المدينة، أو أفعال الغيورين الفظيعة داخل الهيكل.
لِيَفْهَمِ ٱلْقَارِئُ ظن أكثر المفسرين أن هذه العبارة زادها متّى لتنبيه القراء إلى ذلك التحذير، بناءً على أنه لو كان المسيح ذكرها في خطابه لقال «ليفهم السامع». ولا مانع من أنه هو نفسه ذكر تلك العبارة لعلمه أن كلامه سيُكتَب.
١٦ «فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ».
فَحِينَئِذٍ أي حين يحدث ما ذُكر يعلم المسيحيون أن المنتهى قريب، وأن الوقت الذي يجب فيه أن يبادروا إلى الهرب قد أتى.
فِي ٱلْيَهُودِيَّة هذا يدل على أن الخطر لم يكن على الذين في أورشليم فقط، بل كان على الذين في سائر اليهودية أيضاً.
إِلَى ٱلْجِبَالِ يحتمل أن المسيح لم يقصد بهذه الجبال جبالاً معينة. والأرجح أنه قصد أقرب الجبال إلى اليهودية،وهي جبال جلعاد شرق الأردن. فكثيراً ما صارت الجبال ملجأ من العسكر لموافقتها للاختباء، ولتوفر كهوف السكن فيها. وقال أُوسابيوس المؤرخ المسيحي إن كثيرين من المسيحيين هربوا إلى «بيلا» شرق الأردن، وشمال أرض بيرية. ولم يُقتل أحدٌ منهم في الحصار. وبعدما بدأ سستوس غالوس في الحصار أخذ جزءاً من المدينة وأحرقه لأسباب مجهولة، ثم رفع الحصار وتنحى بجيشه عن المدينة، فاغتنم المسيحيون فرصة الهرب وكان ذلك في سنة ٦٨م.
١٧ «وَٱلَّذِي عَلَى ٱلسَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئا».
أوجب بذلك الهروب سريعاً عند ظهور العلامة. ونفهم منه أن سلَّم البيوت كان خارجها، فيمكن الإنسان أن ينزل من على السطح بدون أن يدخل البيت. ولعل سطوح البيوت كانت عند ذاك متصلة حتى يمكن الإنسان أن يجتازها من سطح إلى آخر، ويسرع بالخروج من المدينة. وسبب هذا التنبيه أن نجاة حياتهم هي أهم من إنقاذ أمتعتهم، علاوة على أنها تثقلهم فتعيقهم عن الهرب.
١٨ «وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ».
الذي يخرج إلى الحقل يترك طبعاً رداءه أي ما يلبسه فوق ثيابه في البيت. فنهاه هنا عن أن يرجع ليأخذه مع شدة حاجته إليه في الجبال التي سيهرب إليها. فكان عليه أن يهرب من الحقل إلى الجبل رأساً.
١٩ «وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ».
لوقا ٢٣: ٢٩
أظهر المسيح بهذا الكلام حزنه على اللواتي يصعب عليهن الهروب بسبب حبلهم أو حمل أطفالهن، مما يصعِّب سرعة الهروب، واحتمال تقلبات الجو، والتعرض لمشقات العيش في الجبال.
٢٠ «وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلاَ فِي سَبْتٍ».
فِي شِتَاء لأنه يصعب السفر في ذلك الفصل لتوحل الطرق، وقصر النهار، وشدة البرد، وغزارة المطر في الجبال.
وَلاَ فِي سَبْتٍ لأنه يصعب السفر في ذلك اليوم، إما لتوبيخ الضمير لأنهم حسبوا السفر فيه محرماً بموجب الشريعة، أو لأنهم لا يقدرون أن يُخرجوا أمتعتهم من أبواب المدن فيه، أو لأن رجال الشرطة من اليهود يمنعونهم عن السفر فيه باعتباره ضد الشريعة. وهنا دليل قاطع على أن المسيح احترم شريعة السبت، ولا يريد كسرها كما اتهمه أعداؤه.
ويظهر من قول المسيح «صلوا لكي لا يكون» لا يوجد تناقضاً بين قضاء الله وإجابته الصلاة، لأنه قضى بخراب أورشليم مع قدرته أن يجعل أحوال ذلك الخراب غير ملجئة المسيحيين على السفر في شتاء أو سبت. وقول متّى «في سبت» من جملة الأدلة على أنه كتب إنجيله لأجل اليهود.
٢١ «لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ٱبْتِدَاءِ ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلآنَ وَلَنْ يَكُونَ».
دانيال ٩: ٢٦ و١٢: ١
ذكر المسيح ضيق تلك الأزمنة العظيم لينتبه تلاميذه لأمره بالهروب، وقد أوضحه لوقا أكثر مما أوضحه متّى (لوقا ٢١: ٢٤، ٢٥). وأنبأ به موسى (تثنية ٢٨: ٤٩ – ٥٧). وأنبأ به دانيال (دانيال ١٢: ١). وقال يوسيفوس إنه قتل من اليهود عند افتتاح المدينة مليوناً ومئة ألفاً، وأُسر منهم ٩٧ ألفاً، وعُذب كثيرون ثم قتلوا. وقـُتل في ضواحيها ٢٥٠ ألفاً. فبلغ كل القتلى مليون و٣٥٠ ألفاً. وقال إن الرومان صلبوا ممن أُسروا من اليهود مدة الحصار خلقاً كثيراً حتى لم يبقَ مكان لنصب الصلبان، ولم يجدوا صلباناً كافية لصلب كل أولئك الأسرى. وقال إنه مات كثيرون في المدينة من شدة الجوع، وإن بعض النساء قتلت أولادها وأكلتهم وقال «لو قارنا مصائب جميع الناس منذ الخليقة بما قاساه اليهود لوجدناه أعظم من جميعها». وزاد هول الحصار بأن بدءه كان في عيد الفصح، وكان حينئذٍ على قول البعض ثلاثة ملايين في تلك المدينة.
٢٢ «وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ ٱلأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلٰكِنْ لأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ ٱلأَيَّامُ».
إشعياء ٦٥: ٨، ٩ وزكريا ١٤: ٢، ٣
تُقَصَّرْ أي تُجعل أقصر مما اعتادوه من أوقات محاصرة المدن، أو أنها تقصر عما يتوقعونه بالنظر إلى قوة المدينة. فالأشوريون لم يستطيعوا أن يفتحوا صور إلا بعد حصار خمس سنين. والبابليون حاصروها ١٣ سنة. فلو اتحد أهل أورشليم ودافعوا عنها بغيرة وحمية ما أمكن الرومان نظراً لمتانتها أن يفتحوها إلا بعد محاصرتها سنين عديدة. ومع ذلك فإنهم فتحوها بعد حصار خمسة أشهر. على أنه حدثت الوقائع بين أهل اليهودية والرومان مدة نحو سنتين قبل ذلك.
لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ لأن اليهود كان يقتل بعضهم بعضاً داخلاً، وكان الرومان يقتلونهم من خارج. فلو طال ذلك الوقت كأوقات الحصار المعتادة فنيت الأمة اليهودية بأسرها، وكان أسباب تقصير مدة الحصار سنة
(١) أمر كلوديوس قيصر لهيرودس أغريباس بالكف عن تحصين المدينة بعدما شرع فيه سنة ٤٢، ٤٣م
(٢) انقسام اليهود حزبين وتوانيهم عن الاستعداد اللازم للحصار قبل بدئه وعن الدفاع الواجب في وقته.
(٣) إحراق يوحنا وسمعان رئيسي الحزبين أهراء الحنطة وبقية الأطعمة، وكان فيها ما يكفي كل سكان أورشليم عدة سنين وكان إحراقها قبل مجيء تيطس بقليل.
(٤) مجيء تيطس بغتة، فلم يكن اليهود يتوقعونه، وكانوا مهتمين بفرائض الفصح، فاستولى تيطس على بعض حصون المدينة بلا حرب لعدم انتباه اليهود له.
(٥) العناية الإلهية: لأنه لم تكن أسباب بشرية كافية لتقصير مدة الحصار. قال يوسيفوس العبري وتاسيتوس الوثني «إن هذه المصائب جاءت على اليهود من نقمة الله على قوم امتلأت كأس ذنوبهم» وتيطس بعد أن أجال نظره في المدينة وعلو أبراجها وأسوارها وعظم حجارتها قال «بمؤازرة الله قد ظفرنا في هذه الغزوة، وهو سبحانه الذي أخرج اليهود من هذه الحصون لأنه ماذا تستطيع أيادي البشر أو آلاتهم الحربية أن تصنع في مثل هذه الأبراج» ولم يرتضِ تيطس أن يكلل بعد هذه الغلبة نفسه بالمجد كما جرت عادة الرومان، وقال إنه لم يكن هو صاحب هذا الأمر والعمل، ولكن غضب الله على اليهود هو الذي أعطاه الغلبة.
(٦) تغير فكر تيطس في كيفية الحصار، فإنه عزم في أول الأمر أن يبني سوراً حول أورشليم ويتركها إلى أن تسلم جوعاً. فلو بقي على ذلك لمرَّ عليه سنون قبل أن يفتح أورشليم. ولكنه بعد ما بنى جانباً من السور بدا له أن يهجم عليها ويفتحها عنوة.
ٱلْمُخْتَارِينَ أي المسيحيين الحقيقيين الذين آمنوا من بين اليهود. فلأجلهم قصر الله أيام الحرب لا لأجل اليهود. لأنه لو طالت الحرب في اليهودية لهلك المسيحيون في الجبال التي هربوا إليها جوعاً وبرداً. ولا يبعد عن الظن أن تلك الضيقات هي رمز إلى الضيقات التي تأتي على العالم قبل مجيء المسيح ثانيةً (دانيال ١٢: ١) وكما قصر الله مدة الضيقات الأولى لأجل مختاريه سيقصر الضيقات الأخيرة لأجلهم.
٢٣ «حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا ٱلْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا».
مرقس ١٣: ٢١ ولوقا ١٧: ٢٣ و٢١: ٨
حِينَئِذٍ أي في وقت تلك الضيقات.
هُوَذَا ٱلْمَسِيحُ انتظر اليهود أن الله يرسل النجاة في أشد الضيقات، فادَّعى كثيرون من المخادعين أنهم مسحاء وتبعهم كثيرون، ولا بد أنهم سألوا المسيحيين أن يصدقوهم أيضاً.
فَلاَ تُصَدِّقُوا قال ذلك لأنه قد أتى، ولم يبق لهم أن ينتظروا غيره.
٢٤ «لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ ٱلْمُخْتَارِينَ أَيْضاً».
تثنية ١٣: ١ و ع ٥: ١١ و٢تسالونيكي ٢: ٩، ١٠، ١١ ورؤيا ١٣: ١٣ ويوحنا ٦: ٣٧ و١٠: ٢٨، ٢٩ ورومية ٨: ٢٨ – ٣٠ و٢تيموثاوس ٢: ١٦
مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ انظر شرح عدد ٥.
أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ انظر شرح ع ١١، ومتّى ٧: ١٤ و٢تسالونيكي ٢: ٩ – ١٢.
آيَاتٍ… وَعَجَائِب كاذبة كأفعال السحرة. وتنبأ موسى بمثل ذلك في تثنية ٣: ١ – ١٣. وكانت تظهر أنها صحيحة، حتى أنها لولا نعمة الله لخدعت المسيحيين أيضاً. ولعل المسيح أراد تحذير تلاميذه من توقع مجيئه الثاني على أثر خراب أورشليم.ولا شك أنه قصد تحذير شعبه في العصور الآتية من أن ينخدعوا بأقوال المعلمين الكذبة، كما حذرهم أيضاً بأفواه رسله (٢تسالونيكي ٢: ٨ – ١٢ و١تيموثاوس ٤: ١ – ٣ و٢تيموثاوس ٣: ١ – ٥ ورؤيا ١٣: ١٤ و١٩: ٢١.
٢٥ «هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ».
أنبأهم بذلك لئلا يسقطوا في التجربة ويضلوا، وليتحققوا صدق كلامه عند تمام هذه النبوة.
٢٦ «فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ فَلاَ تَخْرُجُوا! هَا هُوَ فِي ٱلْمَخَادِعِ فَلاَ تُصَدِّقُوا».
أنبأ يوسيفوس بأن بعض المخادعين جذبوا الناس وراءهم إلى البرية، فمنهم من جذب إلى هناك أربعة آلاف نفس (انظر أيضاً أعمال ٢١: ٣٨). وبعضهم اختبأوا في الهيكل وغيره من مخابئ المدينة ليزيدوا إيهام تابعيهم. وكان اليهود ينتظرون أن يظهر المسيح في مكان غير الذي يتوقعونه.
٢٧ «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى ٱلْمَغَارِبِ، هٰكَذَا يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَان».
لوقا ١٧: ٢٤
حقق المسيح لتلاميذه في هذا العدد والذي يليه انه لا يأتي في الخفاء بل في العلن كالبرق وكطيران النسور.
كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ يكون مجيء المسيح كالبرق في أمرين:
(١) أنه واضح و
(٢) أنه فجأة (زكريا ٩: ١٤ ولوقا ١٠: ١٨). ويصح ما قيل هنا على مجيئه لخراب أورشليم، وعلى مجيئه لدينونة العالم. على أنه ينطبق بالأكثر على مجيئه يوم الدين كقوله «هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ» (رؤيا ١: ٧).
مِنَ ٱلْمَشَارِقِ… إِلَى ٱلْمَغَارِبِ لا دلالة في هذا على أن الجيش الروماني يأتي من المشارق لخراب أورشليم، أو أن المسيح يظهر في يوم الدين من الشرق أولاً، لأنه لم يقصد أن ينبئنا عن الجهة التي يأتي منها، بل غايته أن يخبرنا بكيفية مجيئه.
٢٨ « لأَنَّهُ حَيْثُمَا تَكُنِ ٱلْجُثَّةُ فَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ ٱلنُّسُورُ».
أيوب ٣٩: ٣٠ ولوقا ١٧: ٣٨
كثيراً ما يستعير الكتاب المقدس النسور للجيوش الأجنبية التي يرسلها لعقاب الأمم المذنبة (مراثي إرميا ٤: ٩ وهوشع ٨: ١ وحبقوق ١: ٨). والذي يوضح المشابهة بينهما قوله «أَوْ بِأَمْرِكَ يُحَلِّقُ النَّسْرُ وَيُعَلِّي وَكْرَهُ؟ يَسْكُنُ الصَّخْرَ وَيَبِيتُ عَلَى سِنِّ الصَّخْرِ وَالْمَعْقَلِ. مِنْ هُنَاكَ يَتَحَسَّسُ قُوتَهُ. تُبْصِرُهُ عَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ. فِرَاخُهُ تَحْسُو الدَّمَ، وَحَيْثُمَا تَكُنِ الْقَتْلَى فَهُنَاكَ هُوَ» (أيوب ٣٩: ٢٧ – ٣٠) وقصد المسيح هنا ثلاثة أمور:
تشبيه الأمة اليهودية بالجثة لأن أخلاقها فسدت، ولم تعُد صالحة إلا أن لتكون فريسة لجيوش الأمم، كما تكون الجثة فريسة لطيور السماء ووحوش البرية. وتشبيه الجيوش الرومانية بالنسور لأنها رسل الله لانتقامه من اليهود كما أنبأ موسى بقوله «يَجْلِبُ الرَّبُّ عَلَيْكَ أُمَّةً مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ كَمَا يَطِيرُ النَّسْرُ الخ» (تثنية ٢٨: ٤٩). ومن غريب الاتفاق أنه كانت على أعلام الرومان صُوَر النسور.
متّى فقدت أُمة أو كنيسة حياتها الأخلاقية والروحية وأشبهت جثة فاسدة أتت رسل الله للانتقام، كما وقع على الناس زمن الطوفان إذ أرسل الله مياهه فأغرقتهم، وكما حدث لسدوم وعمورة إذ أرسل الله ناره من السماء وأحرقهما، وكما جرى للكنعانيين إذ أرسل الله عليهم بني إسرائيل فأبادوهم، وكما لقي العشرة الأسباط أولاً ثم سبط يهوذا يوم فسدوا بعبادة الأوثان فأرسل الله عليهم البابليين فسبوهم، وكما أصاب المملكة الرومانية أيضاً يوم أرسل الله عليها جنود شمال أوربا فاستولوا عليها (إشعياء ٦٦: ١١ وحزقيال ٣٩: ٤) ولا ريب في أن مثل ذلك يقع على كل خادم خائن لله وولدٍ عاصٍ له.
يرسل الله في اليوم الأخير ملائكته ليعاقب العالم الأثيم وهذا هو الإتمام الأعظم لهذا الإنذار بعد أن وقع جزئياً مراراً كثيرة في تاريخ العالم. فيظهر لنا هذا العدد ضرورة عقاب الخطية وتحقق وقوعه ولزوم شموله.
٢٩ «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ».
دانيال ٧: ١١، ١٢ وإشعياء ١٣: ١٠ وحزقيال ٣٢: ٧ ويوئيل ٢: ١٠، ٣١ و٣: ١٥ وعاموس ٥: ٢٠ و٨: ٩ ومرقس ١٣: ٢٤ الخ ولوقا ٢١: ٢٥ الخ وأعمال ٢: ٢٠ ورؤيا ٦: ١٢
علم المسيح في هذا العدد وما يليه أنه يقترن بمجيئه الثاني تقلبات مخيفة في نظام الكون وجمع مختاريه. وقد رأى بعض المفسرين أن هذا لا يشير إلى خراب أورشليم. وقال آخرون إن كلام المسيح هنا مجاز أشار به إلى أمرين: (١) النوازل التي تحل باليهود بعد خراب مدينتهم كطردهم من الأرض المقدسة وبيعهم عبيداً للأمم. و(٢) سقوط الممالك الوثنية والانقلابات السياسية المشار إليها بإظلام الشمس الخ.
والحق أنه لا يستطيع أحدٌ أن يجزم بتعيين الوقت الذي أشار إليه المسيح، ولكن أكثر المفسرين اعتقدوا أن المسيح تكلم بهذا العدد وما بعده إلى نهاية الأصحاح عن مجيئه العظيم للدينونة. واستخدم في هذا أسلوب الأنبياء في أنهم نظروا إلى عظائم الأمور واعتبروها قريبة، ولم يلتفتوا إلى ما يسبقها من صغائرها. فهم كمن ينظر إلى الجبال على أمد بعيد فيرى قممها قريبةً من بعضها، ولا يرى الأودية الواسعة بينها.
وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ قال الذين اعتقدوا إن هذا يشير إلى مجيء المسيح في يوم الدين «هذا إنباء من عنده ألف سنة كيوم واحد» (٢بطرس ٣: ١٨) فالمدة بيننا وبين ذلك المجيء إن لم تكن «للوقت» أو في الحال لنا، فهي كذلك له. وقال بعض هؤلاء إن قصد المسيح بقوله «للوقت بعد ضيق الخ» أنه لا تكون علامات أخرى لذلك المجيء. ومن تلك العلامات ارتداد كثيرين، وشيوع الشر، وانتشار بشرى الخلاص في كل الأرض، وظهوره فجأةً، وإتيان ملائكة النقمة كالنسور. فليس بعد ما ذكره من العلامات إلا نهاية العالم. ورأى قليل من المفسرين أن ذلك إنباء بمصائب اليهود بعد خراب مدينتهم.
تُظْلِمُ ٱلشَّمْس الخ لعل هذا الإنباء يتم حقيقة ومجازاً، فالحقيقي لا يحتاج إلى تفسير، وهذا هو المعنى الوارد في ٢بطرس ٣: ١٠، ١٢ ورؤيا ٢٠: ٢١. وأما المجازي فيراد به الانقلاب السياسي والاضطراب والخطر كما ورد كذلك مراراً كثيرة في الكتاب (مزمور ١١٨: ٧ – ١٤ و٦٨: ١ وإشعياء ٣: ٩ و٥: ٣٠ و٢٤: ٢٣ و٣٤: ٢، ٤ وإرميا ٤: ٢٨ وحزقيال ٣٢: ٢، ٧، ٨ ويوئيل ٢: ٣١ و٣: ١٥ وعاموس ٨: ٩، ١٠ وميخا ٣: ٦ ورؤيا ٨: ١٢). وتوقع الناس في كل عصر إلى أن المصائب كالمجاعات والأوبئة والحروب من حوادث السماء الغريبة كالخسوف والكسوف وظهور النجوم ذوات الأذناب والشهب والنيازك.
وَقُوَّاتُ ٱلسَّمَاوَات يحتمل أن المقصود بالقوات العناصر التي ذكرها بطرس الرسول في قوله «وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً» (٢بطرس ٣: ١٠).
٣٠ «وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِير».
دانيال ٧: ١٣ وزكريا ١٢: ١٢ ومتّى ١٦: ١٧ ومرقس ١٣: ٢٦ ورؤيا ١: ٧
عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ تظهر تلك العلامة في غاية الوضوح، وتدل أوضح دلالة على مجيء ابن الإنسان حتى لا يشك في مجيئه أحد. ولم يخبرنا المسيح بماهية تلك العلامة، فالبحث عنها عبث. إنما نعلم أن دانيال أنبأ بمجيء المسيح ثانية (دانيال ٧: ١٣) والمسيح نفسه أنبأ بذلك المجيء (متّى ٢٦: ٢٧، ٢٨). وأنبأ بأنه يأتي في مجد أبيه مع الملائكة في سحاب السماء (٢٦: ٦٤ ولوقا ٢١: ٢٧ وأعمال ١: ١١ و١تسالونيكي ٤: ١٧ ورؤيا ١٩: ١٠ – ١٤). ونعلم أيضاً أن الله كلما ظهر لأحدٍ من الناس ظهر بنور لامع.
تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ يحتمل هذا الكلام ثلاثة معان الثالث منها هو المرجح:
(١) نواح أهل اليهودية. وسموا قبائل لأنهم قسموا في الأصل إلى اثنتي عشرة قبيلة. وسينوحون على ما ينزل بهم من المصائب كما أنبأ الله بلسان نبيه زكريا بقوله «وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ ٱلنِّعْمَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ، وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ هُوَ فِي مَرَارَةٍ عَلَى بِكْرِهِ. فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ يَعْظُمُ ٱلنَّوْحُ فِي أُورُشَلِيمَ كَنَوْحِ هَدَدْرِمُّونَ فِي بُقْعَةِ مَجِدُّونَ. وَتَنُوحُ ٱلأَرْضُ عَشَائِرَ عَشَائِرَ » (زكريا ١٢: ١٠ – ١٤) وتمت نبوة المسيح بهذا المعنى لأنه قُتل من اليهود غير ما ذكرنا سابقاً خمسون ألفاً في الإسكندرية وعشرة آلاف في دمشق وثلاثة عشر ألفاً في سثوبولس ومثل ذلك كثير لا محل لذكره هنا. بلغت مناحة اليهود كل البلاد التي تشتتوا فيها وكانت مناحة الخوف أعظم من مناحة التوبة.
(٢) نواح وثنيي العالم على سقوط أوثانهم وتلاشي عبادتهم الوثنية قبل مجيء المسيح عند امتداد ملكوته (مزمور ٢: ٥ وإشعياء ٢: ١٨ – ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٢٥).
(٣) وهو الأهم، وكل ما سواه رمزٌ إليه: نواح غير التائبين وغير المؤمنين عند نهاية العالم المشار إليها بقوله «هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ» (رؤيا ١: ٧) وذلك لإتيان الدينونة عليهم ولرفضهم قبوله مخلّصاً لهم. فلا ينوح الذين طعنوه حقيقة يوم صلبه وحدهم (يوحنا ١٩: ٣٧) بل ينوح معهم الذين طعنوه في كل عصر بآثامهم ورفضهم إياه (عبرانيين ٦: ٦).
وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أي ينظرون المسيح آتياً ليدين العالم. فالذين يعتقدون أن هذا الكلام يتعلق بخراب أورشليم يفهمون من هذا أن اليهود يرون من خراب أورشليم برهاناً واضحاً على صحة دعوى المسيح، لأنه أتم بذلك نبوءته.
عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ المسيح صعد إلى السماء في سحابة، وقيل إنه يأتي كما صعد (أعمال ١: ٩، ١١ ودانيال ٧: ١٣ ومتّى ٢٦: ٦٤ ورؤيا ١: ٧).
بقوة: تظهر قوة يسوع
(١) بإيقاع النقمة على أورشليم والأمة اليهودية
(٢) بامتداد ملكوته في العالم
(٣) بإقامته الموتى يوم الدين (يوحنا ٥: ٢٩، ٣٠ و١كورنثوس ١٥: ٥٢) وحل العالم المادي (٢بطرس ٣: ٧، ١٠، ١٢).
وَمَجْدٍ كَثِير يظهر مجده عند إتيانه
(١) بتأسيس مملكته على الأرض.
(٢) بمجيئه بعد ذلك ليدين الأرض. ويأتي حينئذٍ منتصراً مسربلاً بالمجد بالمقارنة بتواضعه في مجيئه الأول. ويكون بعض ذلك المجد من صفاته الذاتية (متّى ٢٦: ٦٤) وبعضه من تجند الملائكة له وحضورهم معه (متّى ٢٥: ٣١)
٣١ «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا».
متّى ١٣: ٤١ و١كورنثوس ١٥: ٥٢ و١تسالونيكي ٤: ١٦
القول هنا كالقول في متّى ١٣: ٤١، ٤٩ ولعل ذلك أُنجز جزئياً بنجاة المسيحيين عند خراب أورشليم وفقاً لوعده العام في مزمور ٩١: ١١. ولا شك أنه ينجز تماماً عند نهاية العالم حين يجمع كل مختاري الله إلى محل الأمن والراحة كما قيل في ١تسالونيكي ٤: ١٦.
بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْت كما كان عند إعطاء الشريعة من طور سيناء (خروج ١٩: ١٨، ٢٠) وكما كان يجري عند اليهود تنبيهاً للاجتماع إلى الأعياد أو الحروب (لاويين ٢٥: ٩ وعدد ١٠: ١ – ١٠ وقضاة ٣: ٢٧ ومزمور ٨١: ٣ وإرميا ٤: ٥).
مُخْتَارِيهِ (متّى ١٣: ٣٩ و٤١ – ٤٣ و١كورنثوس ١٦: ٥١ ورؤيا ٧: ٢ – ٤).
مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ أي من كل جهات الأرض حسب الاصطلاح العبراني (تثنية ٤: ٣٢ و٣٠: ٤ ومزمور ١٩: ٦) والمعنى أن الملائكة تجمع شعب الله من كل مكان يكون فيه (مرقس ١٣: ١٧).
كان كل ما ذُكر في هذا الأصحاح جواباً لسؤال الرسل الثاني وهو «ما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟» (ع ٣) فبدأ به ليبين علامات خراب أورشليم، وانتهى بتبيين علامات نهاية العالم. ثم أجابهم على السؤال الأول وهو قولهم «متّى يكون هذا؟» فبدأ بالإجابة عن وقت خراب أورشليم وانتهى بالإجابة عن وقت نهاية العالم
٣٢ «فَمِنْ شَجَرَةِ ٱلتِّينِ تَعَلَّمُوا ٱلْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا، تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَرِيبٌ».
لوقا ٢١: ٢٩ الخ
فَمِنْ شَجَرَةِ ٱلتِّينِ ضرب المسيح لرسله مثل التينة قبل أن يجيبهم على سؤالهم ليبين لهم أن العلامات التي ذكرها تحقق الحوادث التي تليها، كما أن ورق شجرة التين يؤكد قرب الصيف.
٣٣ «هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذَا كُلَّهُ فَٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى ٱلأَبْوَابِ».
يعقوب ٥: ٩
هٰذَا كُلَّهُ أي ما ذكره من العلامات التي تتقدم خراب أورشليم في ع ٥ – ١٥، ٢٤ وهذا جوابه الأول على سؤالهم، أي أن الخراب يلي ظهور العلامات سريعاً.
٣٤ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ».
متّى ١٦: ٢٨ و٢٣: ٣٦ ومرقس ١٣: ٣٠ الخ ولوقا ٢١: ٣٢ الخ
لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ هذا جوابه الثاني على السؤال المذكور، أي أن أورشليم تخرب وبعض ذلك الجيل في الحياة. ومعدل حياة الجيل ما بين ثلاثين وأربعين سنة، وخراب أورشليم كان بعد أربعين سنة من وقت هذا الجواب. ولا شك أن كثيرين ممن كانوا أحياء على الأرض حينئذٍ شاهدوا خراب أورشليم، وأن واحداً من الأربعة الذين سألوا المسيح عن ذلك كان حياً وقت ذلك الخراب، وهو يوحنا.
حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ أي كل ما ذكره في شأن خراب أورشليم ومصائب الأمة اليهودية. وقال بعضهم معنى قوله «هذا كله» ما ذكرناه في شأن أورشليم في شرح عدد ٣٣، وزاد على ذلك ما قيل في ع ٢٩ – ٣١. وإن كل هذه النبوات تمت في عصر ذلك الجيل، أي في مدة نحو أربعين سنة، وأن بعضها تم حقيقة وبعضها تم مجازاً. ولا تناقض بين قولهم وقول من اعتقدوا أن تلك النبوات تتم أيضاً في يوم الدين، فيكون التمام الأول رمزاً إلى الثاني. واعتقد هؤلاء أن قصد المسيح بقوله «هذا الجيل» الأمة اليهودية التي جرى عليها ما لم يجرِ على أمة أخرى من أمم الأرض، فإنها تفرقت بن كل الأمم ولم تمتزج بهم منذ العصور البعيدة إلى الآن.
٣٥ «ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ».
مزمور ١٠٢: ٢٦ وإشعياء ٥١: ٦ وإرميا ٣١: ٣٥ الخ ومتّى ٥: ١٨ وعبرانيين ١: ١١ و١بطرس ١: ٢٥
قال المسيح ذلك تأكيداً لصحة إنبائه بخراب أورشليم ونهاية العالم، فإن أثبت شيء يعلمه الإنسان من المخلوقات هو نظام العالم، ولكن كلام المسيح أثبت منه، لأن العالم مع طول مدته ومتانته يزول، ولكن كلام ابن الله حقٌ لا يزول (مزمور ١٠٢: ٢٩ وإشعياء ٥١: ٦). وفيه إشارة إلى طول الزمان الذي يمضي قبل أن تتم نبوته التمام النهائي، وإلى حاجة إيمان الناس بتلك النبوات إلى تقوية وتثبيت.
٣٦ «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ ٱلسَّمَاوَاتِ، إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ».
زكريا ١٤: ٧ ومرقس ٣: ٣٢ وأعمال ١: ٧ و١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠
ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ أي يوم الدين. فرغ من الكلام على وقت خراب أورشليم بعد أن أبان لهم علامتين لذلك (ع ٣٢ – ٣٤).
فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَد قال هذا لقطع رجاء الرسل أن يعرفوا وقت يوم الدين، فالأمر مؤكد والزمان مجهول.
وَلاَ مَلاَئِكَة الله لم يخبرهم. فيتضح إنه لم يرد أن يخبر تلاميذه بذلك الوقت. ويؤكد بذلك قوله «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال ١: ٧). وزاد مرقس على ما قيل هنا قوله «ولا الابن» (مرقس ١٣: ٣٢). وهذا وفق قوله «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ الخ» (لوقا ٢: ٥٢). وما نسب إليه من الجوع والإعياء والنوم والوجع والحزن والبكاء يبين أنه كان إنساناً تاماً كما ظهر من معجزاته إنه كان إلهاً تاماً. وإنه كان يمكنه إذا شاء أن يجعل ناسوته لا يستفيد من لاهوته لأنه «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ.. أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ» (فيلبي ٢: ٦، ٧). ولا نستطيع أن ندرك كيف أن يسوع باعتباره إنساناً لا يعرف الزمان الذي عينه باعتباره إلهاً. ولكن هذا ليس بأبعد من إدراكنا سر التثليث أو سر التجسد.
٣٧ «وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».
بقية كلام المسيح في هذا الأصحاح تحذيرات من الغفلة عن يوم الدين والحث على الاستعداد له، لأنه علم أن عدم تعيينه وقت مجيئه للناس يحملهم على عدم توقعه. وضرب لهم لأجل تلك الغاية مثل الناس قبل الطوفان.
أَيَّامُ نُوحٍ هو العاشر من آدم، وكان واعظاً بالبر. وكان الناس في أيامه أشراراً جداً. وكان حكم الله قريب الوقوع عليهم وهم غافلون، فأرسله الله نذيراً لهم ينبئهم بالدينونة الآتية فبقوا في غفلتهم. لقد نبههم فلم يسمعوا وهكذا كما قال حزقيال (راجع حزقيال ٣٣: ٦ وما بعده).
مَجِيءُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ أي مجيئه للدينونة، ويسمى أيضاً أيام ابن الإنسان (لوقا ١٧: ٢٦) «وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح» (تيطس ٢: ١٣). أنبأ المسيح إنه يكون الناس في مجيئه الثاني كما كان الناس في أيام نوح. وذكر الطوفان في هذا المقام يثبِّت نبأه في العهد القديم.
٣٨ «لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي قَبْلَ ٱلطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ ٱلْفُلْكَ».
تكوين ٦: ٢ الخ و٧: ٤، ١١ الخ ولوقا ١٧: ٢٦ الخ و١بطرس ٣: ٢٠
يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ أي يعيشون كعادتهم غير متوقعين حدوث الطوفان، مع أن نوحاً حذرهم ١٢٠ سنة (دون تعيين زمن حدوثه) وصنع الفلك أمام عيونهم (١بطرس ٣: ١٩، ٢٠ و٢بطرس ٢: ٥ و٣: ٦). فهم لم يخطئوا بالأكل والشرب، بل بالانهماك فيهما، غير ملتفتين إلى الإنذارات الإلهية.
٣٩ «وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ ٱلطُّوفَانُ وَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ، كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».
أُنذروا ولم يؤمنوا (٢بطرس ٢: ٥). فبقوا غير مكترثين وغير خائفين يولمون الولائم ويحتفلون في الأعراس وهم على شفا الهلاك. والأرجح أنهم لم يصدقوا نوحاً حتى دخل الفلك وبدأ المطر يقع إلى أن جرفتهم مياه الطوفان إلى الموت، ولم ينج سوى نوح وعائلته. فهكذا تكون حال الناس عند نهاية العالم، غير مؤمنين وغير مستعدين.
٤٠، ٤١ «٤٠ حِينَئِذٍ يَكُونُ ٱثْنَانِ فِي ٱلْحَقْلِ، يُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ. ٤١ اِثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى ٱلرَّحَى، تُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلأُخْرَى».
لوقا ١٧: ٣٤ الخ
هذان العددان متعلقان بعدد ٣١، وخلاصتهما أن الله يرسل ملائكته ليجمع مختاريه فيأخذ بعض الناس لملاقاة المسيح ويترك الآخرين للهلاك (دانيال ١٢: ٢). والذين ذُكروا فيهما رجال ونساء يمارسون أعمالهم العادية، بعضهم في الحقل والبعض في البيت. وذكرهم دون غيرهم بياناً لأن الله يهتم بمختاريه ولو كانوا من أدنى الناس، ويرسل ملائكته لتأخذهم إليه ولا تترك أحداً منهم. ويظهر من ذلك أن الأشرار والأبرار يبقون مخلصين إلى النهاية (لوقا ١٧: ٣٤). وهذا موافق لما ذكره الرسول بقوله «ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ» ١تسالونيكي ٤: ١٧) ويتضح أن الكلام هنا على اليوم الأخير لا على خراب أورشليم من أن هذا لا تسبقه علامات بخلاف ذاك. وكان على المسيحيين في خراب أورشليم أن يهربوا. وأما هنا فيؤخذون.
٤٢ «اِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ».
متّى ٢٥: ١٣ ومرقس ١٣: ٣٣ الخ ولوقا ٢١: ٣٦
كرر هنا الأمر بالانتباه والاستعداد بناءً على احتمال أن كل ساعة هي الساعة الأخيرة.
٤٣ «وَٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ فِي أَيِّ هَزِيعٍ يَأْتِي ٱلسَّارِقُ، لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ».
متّى ١٤: ٢٥ ولوقا ١٢: ٣٨، ٣٩ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٣: ٣
رَبُّ ٱلْبَيْتِ لم يورد المسيح هذا الإنسان نموذجاً لتلاميذه، لأنه لم يعزم على السهر إلا عندما بلغه النبأ بمجيء السارق، والمسيح أمرهم أن يتوقعوا مجيئه دائماً، ولهذه الغاية عينها كتم عنهم وقت إتيانه. وضربوا المثل قديماً بمجيء السارق ليلاً لكل أمرٍ مفاجئ (١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ٥). ووجه الشبه بين مجيء المسيح للدينونة ومجيء السارق ليلاً أن كلاً منهما يكون بغتة، فإن اللص يأتي حين يظن الناس نياماً، والمسيح يأتي والعالم غافل عنه. ويختلف مجيء المسيح عن مجيء السارق في أنه لا يخيف إلا من جعلوا كنزهم في هذا العالم فقط. وفي هذا إشارة إلى أنه سيكون الناس كلهم في خطر عظيم من الغفلة، وإنه يجب على عبيد الله أن يسهروا على الدوام أي كل الوقت لا وقتاً دون آخر.
فِي أَيِّ هَزِيعٍ قسم اليهود الليل قبل استيلاء الرومان عليهم إلى ثلاثة هُزُع، وقسموه بعد الاستعمار الروماني إلى أربعة، وجعلوا كل هزيع ثلاث ساعات. وذُكر الهزيع الثاني والهزيع الثالث في لوقا ١٢: ٣٨ والرابع في متّى ١٤: ٢٥.
٤٤ «لِذٰلِكَ كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».
١تسالونيكي ٥: ٢، ٦.
غاية المسيح من كل تلك التنبيهات حث تلاميذه على الاستعداد والانتباه والأمانة والصلاة (لوقا ٢١: ٣٦) وبيَّن لهم حقيقة ذلك الاستعداد بقوله «اكنزوا لكم كنوزاً في السماء» (متّى ٦: ٢). وأوضحه بولس الرسول أيضاً (١تسالونيكي ٥: ٤ – ١١).
٤٥ «فَمَنْ هُوَ ٱلْعَبْدُ ٱلأَمِينُ ٱلْحَكِيمُ ٱلَّذِي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ ٱلطَّعَامَ فِي حِينِهِ؟».
لوقا ١٢: ٤٢ وأعمال ٢٠: ٢٨ و١كورنثوس ٤: ٢ وعبرانيين ٣: ٥
ٱلْعَبْدُ ٱلأَمِينُ هو من يقوم بكل ما يجب عليه لسيده.
ٱلْحَكِيمُ هو الذي يتوقع مجيء سيده (أمثال ٢٢: ٣ و٢٧: ١٢). فالأمانة والحكمة صفتان لازمتان للمسيحي.
سيده: المقصود بالسيد هنا الرب يسوع، بدليل قوله «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ» (يوحنا ١٣: ١٣).
أَقَامَهُ… عَلَى خَدَمِهِ يظهر من هنا أن العبد الذي أقامه كذلك رسول أو معلم روحي، ولكن المسيح لم يقصر كلامه على هذا فقط، بل عن كل إنسان منحه المعرفة والمال والوظيفة التي يستطيع بها التأثير في أفكار الناس وأعمالهم. وأوجب الله على مثل هذا أن يحاسب حساباً مدققاً على كل ما وُهبه. والسيد أقام ذلك العبد لا لإظهار شرفه أو رفعة مقامه، بل ليفيد غيره بتعليمه (١كورنثوس ٣: ٥ و٤: ١، ٢ و١٢: ٢٨ و١تسالونيكي ٥: ١٢، ١٣). وأراد بخدمه كنيسته التي هي عشيرة المسيح (أفسس ٣: ١٥).
لِيُعْطِيَهُمُ ٱلطَّعَامَ أي القوت الروحي أو الإرشاد والتعليم (عبرانيين ٥: ١٢ و١بطرس ٢: ٢). ولذلك سُمّي رؤساء الشعب الروحيون رُعاة (يوحنا ٢١: ١٥، ١٧ وأعمال ٢٠: ٢٨). ويعطي الله الناس الغنى والسلطان ووسائط أخرى يستطيع الخادم بها أن يساعد المحتاجين (لوقا ٢٢: ٢٦ و١كورنثوس ٣: ٢ و٤: ١، ٢ و١٤: ٢٢ و٢تيموثاوس ٢: ١٥ و١بطرس ٥: ٢، ٣.
فِي حِينِهِ أي وقت الحاجة. وأفضل أوقات فعل الخير هو الآن! وهذا وفق قول الرسول «حسب ما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان» (غلاطية ٦: ١٠). والخلاصة أن ذلك العبد يقوم بكل أعماله متوقعاً مجيء سيده في كل ساعة فيفحص فيها أعماله.
٤٦ «طُوبَى لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ ٱلَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هٰكَذَا».
رؤيا ١٦: ١٥
طُوبَى… إِذَا جَاءَ سَيِّدُه هذا التطويب للأمين يوم مجيء الرب.
يَفْعَلُ هٰكَذَا أي يكون أميناً لسيده مهتماً براحة إخوته ونفعهم.
٤٧ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِه».
متّى ٢٥: ٢١، ٣٣ ولوقا ٢٢: ٢٩
يُقِيمُهُ الخ يبين من هذا أن عمله لا ينتهي بانتهاء حياته الأرضية، فخدمته على الأرض استعداد لخدمته العظمى في السماء. ولا إشارة بذلك إلى أفضلية بعض القديسين في السماء على الأرض في الرئاسة، إنما يستنتج منه عظمة الإثابة وإظهار رضى الله عليه. وعبَّر عن تلك الإثابة بما اعتاده الملوك بإظهار رضاهم على عبيدهم بترقيتهم ورفع مقامهم، كما فعل فرعون بيوسف (تكوين ٣٩: ٤، ٦) وذلك وفق قول المسيح «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ» (يوحنا ١٢: ٢٦). وقوله «كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ» (متّى ٢٥: ٢١) (انظر أيضاً رومية ٨: ١٧ ورؤيا ٢: ٢٦ و٣: ٢١).
٤٨ «وَلٰكِنْ إِنْ قَالَ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ ٱلرَّدِيُّ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ».
ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ فرض هنا ذلك العبد عينهُ خائناً، بدل أن يكون أميناً.
فِي قَلْبِهِ أي ظن في قلبه وأظهر ظنَّه بعمله.
سَيِّدِي لم يزل يقرُّ بأنه عبده.
يُبْطِئُ قُدُومَهُ ذلك يشير إلى مضي زمان طويل قبل مجيء الرب. وحمله طول هذا الزمان على الظن أن سيده لا يرجع أبداً. وقول هذا العبد كقول القوم الذين ذكرهم بطرس الرسول بقوله «سَيَأْتِي قَوْمٌ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ الآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاق هكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ» (٢بطرس ٣: ٣، ٤). (انظر أيضاً جامعة ٨: ١١ وحزقيال ١٢: ٢٧ ورومية ٢: ٤) وإبطاء المسيح قدومه امتحان لإيمان الكنيسة وعلة ارتداد كثيرين.
٤٩ «فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ ٱلسُّكَارَى».
يَضْرِبُ ٱلْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ أي الأمناء من أولئك العبيد. فاتخذ ذلك العبد رتبته وسيلة إلى الظلم والإمعان في الشهوات واللذات المحظورة. ويحسب المسيح مثل هذا العبد كل مسيحي، ولا سيما المعلم الديني غير الأمين في وظيفته، إذ أنه يتخذ وظيفته فرصة لكي «يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ» (١بطرس ٥: ٣) ويرافق الدنيويين، ويتهافت على مشتهيات هذا العالم.
٥٠ «يَأْتِي سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا».
يَأْتِي رب العبد لا يمنع ولا يعيق قدوم السيد، فلا بد أن يأتي إلى كل العالم يوم الدين، وإلى كل إنسان يوم موته.
فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُه كرر هنا ما ذكره سابقاً من أنه يأتي بغتة حين لا يتوقع أحد إتيانه. ويصدق كلام المسيح هنا على الكنيسة كلها عند نهاية العالم، وعلى كل الناس عند موتهم. ويغلب أن يأتي الموت في وقتٍ يقل انتظاره فيه.
وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا هذا دليل على غرابة المفاجأة في مجيئه، فلا يسبقه النبأ به ولو بساعة واحدة.
٥١ «فَيُقَطِّعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْمُرَائِينَ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ».
متّى ١٨: ١٢ و٢٥: ٣٠
فَيُقَطِّعُهُ اعتاد القدماء أن يقتلوا المذنبين تقطيعاً (١صموئيل ١٥: ٣٣ و٢صموئيل ١٢: ٣١ ودانيال ٢: ٥ و٣: ٢٩ وعبرانيين ١١: ٣٧)
نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْمُرَائِينَ لأنهم حُسبوا شر الناس لاجتهادهم في ان يخدموا سيدين: الأول بالقول والثاني بالفعل (رؤيا ٢١: ٢٧ و٢٢: ١٥)
ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ هذا كناية عن اليأس والألم (متّى ٨: ١٢). وهما عقاب غير الأمين من المسيحيين، وهو عقاب مخيفٌ وأبديٌ. ولنا مما قيل في مثل العبد من ع ٤٢ – ٥١. إن صفات العبد الأمين خمس:
(١) أنه أمين لسيده وأمين في وظيفته.
(٢) أنه حكيم في توقع مجيء سيده، فهو يقول على الدوام «هُوَذَا الدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ الْبَابِ» (يعقوب ٥: ٩)
(٣) أنه صبور على بطء سيده
(٤) يستعمل سلطانه لنفع غيره
(٥) يُثاب بمدح سيده إياه ورفع مقامه. وصفات العبد الرديء خمس وهي:
(١) يشك في مجيء سيده ويقول سيدي يبطئ قدومه
(٢) يستعمل سلطانه لظلم غيره
(٣) يلهو باللذات الجسدية
(٤) يعاشر الدنيويين.
(٥) يعاقب عقاباً فجائياً مخيفاً لا نهاية له.
السابق |
التالي |