إنجيل متى | 23 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الثالث والعشرون
في هذا الأصحاح آخر خُطب المسيح العلنية العامة. ولما فرغ من الخطاب خرج من الهيكل واقتصر بعد ذلك على تعليم تلاميذه. وكل هذا الأصحاح خطاب واحد لا مجموع أقوال مختلفة، كرر فيه بعض ما قاله قبلاً (انظر لوقا ١١: ٤٣ – ٤٥ و١٣: ٣٣ – ٣٦). وخلاصة هذا الخطاب هي إنذار الشعب وتحذيره من معلميه الدينيين. نعم فيه صرامة ولكنها نتجت عن محبته وشفقته، لأن غايته كانت تحذير الغنم من الذئاب.
١ «حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ».
حِينَئِذٍ أي في الوقت الذي أبكم فيه المعترضين.
ٱلْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ الأرجح أن التلاميذ كانوا قريبين منه وأن الجموع كانوا محيطين بهم.
٢ «قَائِلاً: عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ».
نحميا ٨: ٤، ٨ وملاخي ٢: ٧ ومرقس ١٢: ٣٨ ولوقا ٢٠: ٤٦
كُرْسِيِّ مُوسَى كان موسى مشرِّعاً وقاضياً لبني إسرائيل (خروج ١٨: ١٣) وقد خلفه في ذلك معلمو الناموس ومفسروه، فحُسبوا أنهم جلوس على كرسيه.
جَلَسَ كان من عادات المعلمين في ذلك العصر أن يجلسوا وقت التعليم.
ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّون كان أكثر الكتبة من فرقة الفريسيين، ولذلك بكّتهم المسيح معاً. وكثيراً ما كان المسيح يحادث الكتبة في زمن تبشيره، ويجتهد أن يقنعهم بأنهم ضالون وأثمة. ولكنهم لم يستفيدوا شيئاً من تعليمه ولا من مشاهدتهم آياته، فأخذ يحذر تلاميذه منهم.
٣ «فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَٱحْفَظُوهُ وَٱفْعَلُوهُ، وَلٰكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ».
رومية ٢: ١٩ الخ
فَكُلُّ مَا قَالُوا مما هو وفق شريعة موسى فقط، وحذرهم سابقاً من اتّباع تقاليدهم (متّى ١٥: ١ – ٦). وكان الكتبة والفريسيون أعضاء المجلس الكبير، فكانت لهم سلطة سياسية. ولهذا أمر يسوع تلاميذه أن يكرموهم الإكرام اللائق بوظيفتهم، ويطيعوهم في الأمور السياسية التي لا تخالف شريعة الله. وكانوا رؤساء الدين أيضاً، فوجب أن يطاعوا في كل ما يأمرون به من الشريعة الإلهية، ولو كانوا أشراراً.
حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا ذكرت مخالفة أعمالهم لتعليمهم في رومية ٢: ١٨ – ٢٤. فأقدس الوظائف لا تقدس أصحابها. فمن الخطأ أن نكرم سيرة معلمي الدين إن كانت شريرة. وهذا الخطأ شاع في كل زمان ومكان. فيا له من توبيخ صارم أن نكون قوالين غير فعالين، كأنما ديانتنا هي باللسان فقط لا في القلب. وأكثر ما ينطبق هذا على رجال الدين. فليحذر خدامه قبل أن يحذروا الآخرين!
٤ «فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ ٱلْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ ٱلنَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ».
أَحْمَالاً ثَقِيلَةً أمر الفريسيون الشعب بحفظ الشريعة الموسوية الطقسية بكل اعتناء، فكان ذلك نيراً ثقيلاً كما شهد بطرس الرسول (أعمال ١٦: ١٠). وكلفوا الشعب بكثير من بذل الوقت والتعب والنفقات، فكان اليهود بما حمَّلهم الفريسيون كدوابٍ حُمِّلت أثقالاً فوق طاقتها.
لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا فإنهم أبوا أن يشاركوا الشعب في شيء من نفقات الهيكل. ولم يكلفوا أنفسهم بممارسة شيء من الطقوس ليرضوا الله، ولم تكن عبادتهم قلبية ولو كلفتهم القليل، كحركة الإصبع.
٥ «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ ٱلنَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ».
متّى ٦: ١، ٢، ٥، ١٦ وعدد ١٥: ٣٨، ٣٩ وتثنية ٦: ٨ و٢: ١٢ وأمثال ٣: ٣
وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ أي الأعمال الدينية.
لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ ٱلنَّاسُ فيمدحونهم بالتقوى، غير مكترثين برضى الله الذي هو القصد الوحيد من كل أمور الدين (متّى ٦: ٥)
فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ قال الله لشعبه بفم موسى في شأن الناموس «فيكون علامة على يدك وعصابة بين عينيك» (خروج ١٣: ١٦) وقال في كلماته «اربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك» (تثنية ٦: ٨ و١١١: ١٨ وأمثال ٣: ١، ٣ و٦: ٢١). فاتخذ اليهود هذا المجاز حقيقة، وأخذوا أربع جمل من الشريعة الأولى (من خروج ١٣: ١ – ١٠) والثانية من خروج ١٣: ١١ – ١٦ والثالثة من تثنية ٥: ٤ – ٩ والرابعة من تثنية ١١: ١٣ – ٢١. وكتبوها على رقٍ وجعلوها أحرازاً ربطوها على عضد أيديهم اليسرى ليكون أقرب إلى القلب، وآخر على الجبهة بين العينين بربط من الجلد.
وكان كل يهودي مكلفاً بذلك متّى بلغ سن الثالثة عشرة. وكانوا يأتون ذلك وقت العبادة فقط. وأما الفريسيون فكانوا يلبسونها دائماً في كل مكان حتى في الأسواق، ويعرضونها أكثر من غيرهم للتظاهر بزيادة التقوى والغيرة في الناموس. ولم يأت اليهود ذلك إلا بعد سبي بابل.
أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ أمر الله اليهود أن يجعلوا على هدب الذيل عصابة أسمانجونية (عدد ١٥: ٣٧ – ٤١ وتثنية ٢٢: ١٢) ليتذكروا وصايا الله عندما ينظرون إليها كالخيط الذي يعقد على الإصبع ليذكر من ربطه سبب ربطه. ونسب اليهود إلى تلك العصابة قداسة خاصة، فلذلك لمست المرأة المصابة بنزف الدم مثلها من ثوب المسيح (متّى ٩: ٢٠ ولوقا ٨: ٤٤ انظر أيضاً متّى ١٤: ٣٦). وأمر الكتبة أن يكون عدد الخيوط الأسمانجونية في الهدب ٦١٣ وفق عدد أوامر الشريعة، على ما ظنوا. وكبر الفريسيون أهداب ثيابهم أكثر من غيرهم دلالة على زيادة اجتهادهم في حفظ دقائق الشريعة.
٦ «وَيُحِبُّونَ ٱلْمُتَّكَأَ ٱلأَوَّلَ فِي ٱلْوَلاَئِمِ، وَٱلْمَجَالِسَ ٱلأُولَى فِي ٱلْمَجَامِعِ».
ٱلْمُتَّكَأَ ٱلأَوَّلَ كانت المائدة من موائد الولائم عند اليهود مؤلفة من ثلاث قطع. على طرفي واحدة منها الاثنتان الأخريان على وضع عمودي. فتشبه مربعاً نزع أحد أضلاعه. فيكون الرابع مدخلاً لموزعي الطعام. وكانوا يضعون حول ثلاثة الجوانب الخارجة منها أسرة يتكئ عليها الأَكلة ورؤوسهم على أكفهم اليسرى متجهة إلى المائدة، وأرجلهم منفرجة إلى الوراء. فكان متكأ صاحب الوليمة في الصدر مقابل مدخل المائدة، والمتكأ الأول أي محل الشرف عن يمينه. فرغب الفريسيون فيه للكبرياء.
ٱلْمَجَالِسَ ٱلأُولَى كان في صدر كل مجمع يهودي صندوق تحفظ فيه رقوق الشريعة، ومنبر تقرأ عليه التوراة. وقرب ذلك المنبر مجالس يجلس عليها شيوخ المجامع تجاه الشعب، فرغب الفريسيون في الجلوس عليه تكبراً على غيرهم. وبذلك أخطأوا، وإلا فمجرد الجلوس عليها ليس خطية.
٧ «وَٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ ٱلنَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي».
ٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ لم يكتفِ الفريسيون بالتحيات العادية التي يليق استعمالها بالجميع، بل أحبوا أن يحييهم الناس بأعظم التحيات بدعوى أنهم أقدس من غيرهم. فكانوا يذهبون إلى الأسواق حيث يكثر الناس، طمعاً في أن ينالوا التحيات هناك.
سَيِّدِي سَيِّدِي هذا ترجمة «ربي» في اليونانية ومعناها في الأصل رئيس، ثم أُطلقت على المعلم الديني. وكان عند اليهود ثلاثة ألقاب شرف يلقبون بها المعلمين قدر علمهم وقداستهم، وهي: راب ورابي ورابوني. والثاني أعظم من الأول والأخير أعظم من كليهما. فرغب الفريسيون أن يلقبوا ببعض تلك الألقاب.
وما أصدق هذا الوصف على رجال الدين الذين يهتمون بالمظاهر فقط، الذين لسوء الحظ مرات كثيرة يصدق فيهم القول «لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها». وما أشد انطباق هذا الكلام على الذين يتخذون الوظائف وسيلة للعظمة لا غاية للخدمة.
٨ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ ٱلْمَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ».
٢كورنثوس ١: ٢٤ ويعقوب ٣: ١ و١بطرس ٥: ٣
وأما أنتم فلا تُدعَوا سيدي: أي لا تقبلوا الألقاب التي تشير إلى الشرف الديني والأفضلية في التقوى أو السلطان المتعلق بها. وقد منع المسيح تلاميذه من قبول تلك الألقاب لأنها من علامات الكبرياء، ولأنها علامة رئاسة في الروحيات لم يسلم المسيح بأن تكون بين التلاميذ.
لأن معلمكم واحد المسيح: لا ريب في أن المسيح وحده هو المستحق أن يكون معلماً في الكنيسة، بمعنى أنه يسن شرائعها إذ هو وحده معصوم من الغلط. وكل من يدَّعي حق سن الشرائع من البشر، أو يغير الذي رسمه المسيح، يسلب حقوق المسيح، لأن المسيح هو معلم الكنيسة (يوحنا ١٣: ١٣)، وهو الرئيس الوحيد لها، ولم يزل حياً ليرشدها بحضوره الروحي القدوس. فهو لا يحتاج إلى خليفة
إِخْوَةٌ أي أنكم قدام الله وفي الكنيسة متساوون في الرتبة والشرف. وما قيل في هذا العدد لا يمنع أن يكون في كنيسة المسيح معلمون بأمره، يعلمون الشعب التعليم الذي وضعه هو، وأن يسموا بألقاب تشير إلى أنواع وظائفهم كرعاة وشيوخ الخ (كولوسي ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١) ولا يمنع من تلقيبنا بعض الناس بما يدل على اعتبارنا إياهم لتقدمهم في السن أو في العلم، ولكنه يمنع من ادعاء السلطان الشخصي في الكنيسة والأمور الروحية، ويمنع من روح الكبرياء ومحبة المدح والحصول على الإكرام العالمي.
٩ «وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى ٱلأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
ملاخي ١: ٦
أَباً عَلَى ٱلأَرْضِ منع هنا من إعطاء الإكرام والطاعة المختصين بالله وحده لأحد من الناس. فإقامة إنسان مقام الله عبادة وثنية كإقامة صنم. والمسيح لم يُجز لأحد أن يدَّعي على الكنيسة رئاسة كرئاسة الأب لعائلته. ولم يسمح لأحد أن يطيع غيره من الناس في الروحيات الطاعة التي تجب على الابن لأبيه في الأمور الدينية (رومية ١٤: ٤، ١٠، ١٢ و١بطرس ٥: ٣). وهذا لا يمنع الولد من أن يسمي والده أباً (أفسس ٦: ٤) ولا الشاب من أن يلقب بذلك الأكبر منه سناً احتراماً له (قضاة ١٧: ١٠ و٤٨: ١٩ و٢ملوك ٦: ٢١ و١٣: ١٤ وأعمال ٧: ٢ و٢٢: ١ و١كورنثوس ٤: ١٥ و١يوحنا ٢: ١٣، ١٤) ولا يمنع من تلك التسمية إشعاراً بالمحبة كما فعل بولس (١كورنثوس ٤: ١٤، ١٥ وفليمون ١٠). وكما فعل بطرس (١بطرس ٥: ١٣). إن كان الله أبانا فمن نحن بقية البشر مهما عظم مركزنا الديني.
لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ بمعنى أنه رب الضمير الوحيد (أفسس ٤: ٦ وعبرانيين ١٢: ٩) فشرائعه التي في كتابه هي الشرائع الوحيدة التي كلف الكنيسة بها. وتعليم المسيح إيانا أُبوة الله من أفضل التعاليم. ولو لم يعلم العالم إلا ذلك لكفى أن يأتي من السماء إلى الأرض. نعم عرف الناس الله خالقاً وملكاً ودياناً قبل مجيء المسيح، لكنهم لم يعرفوه أباً.
١٠ «وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ ٱلْمَسِيحُ».
مُعَلِّمِينَ معنى هذا العدد كالعدد السابق. ورغب الفريسيون في ثلاثة ألقاب وهي «سيدي» و «أب» و «معلم» فحذر المسيح تلاميذه من طلب تلك الألقاب كبرياء، أو تلقيبهم الناس بها طاعة لهم في الروحيات. ولم يرد المسيح أن نقيم مقامه أحداً من البشر ولو أفضلهم، لأنهم ليسوا معصومين من الغلط ليكونوا معلمين مكانه. وليسوا قادرين أن يكفروا عن الآثام ككهنة. ولم يعينهم الله وسطاء بينه وبيننا لأنهم أناس انفعالاتهم كانفعالاتنا، يحتاجون مثلنا إلى دم المسيح وإرشاد الروح القدس. نعم يميل الناس أن يستندوا على رئيس ديني منظور، لكن الاستناد على المسيح غير المنظور أكثر أمناً. ورغب الكتبة في أن يكونوا رؤساء أحزاب تنسب إليهم كحزب هليل وحزب شمعي، أما المسيح فلم يشأ أن يكون في كنيسته أحزاب ولا أن تنسب تلك الأحزاب إلى البشر. ووبخ بولس الكورنثيين لمخالفتهم هذا (١كورنثوس ١: ١٢، ١٣) وقال يعقوب «لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!» (يعقوب ٣: ١) فالمسيح هو المعلم الوحيد في الروحيات الذي يجب أن نطيعه. فليس لأحد من الناس حق أن يأمر بشيء في الأمور الروحية لا يستطيع أن يُثبته بقوله «هكذا قال الرب».
١١ «وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ».
متّى ٢٠: ٢٦، ٢٧
تكلم المسيح سابقاً بما يوافق هذا المعنى، وفيه قاعدة ملكوته الضرورية وهي أن عظمة الإنسان على قدر نفعه. فالذي يخدم المسيح وكنيسته أكثر من غيره هو أعظم من ذلك الغير. والمسيح نفسه خير مثال لتلك العظمة لأنه «لم يأتِ ليخدَم بل ليخدُم». وسمَّى الناس الذين أضروا البشر بحروبهم كإسكندر الكبير ويوليوس قيصر ونابليون «عظماء». وأما المسيح فسمَّى خادمي البشر ونافعيهم «عظماء». فإذا رفضنا ألقاب الرئاسة وتلقبنا بألقاب الخدمة ونحن نخالف ذلك فعلاً، كان عملنا عبثاً.
١٢ «فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِع».
أيوب ٢٢: ٢٩ وأمثال ١٥: ٣٣ و٢٩: ٢٣ ولوقا ١٤: ١١ و١٨: ١٤ ويعقوب ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٥
يكره الله المتكبرين ويخفض الأعين المرتفعة. والكبرياء من أعظم الموانع لنمو الفضائل المسيحية، بدليل قول المسيح «كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض» (يوحنا ٥: ٤٤) فالله يحب المتواضعين ويرفعهم في حينه (١بطرس ٥: ٥). فالتواضع من أفضل البراهين على تجديد القلب وتقترن به مواعيد كثيرة.
١٣ «لٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ ٱلدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ».
لوقا ١١: ٥٢
أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وجه المسيح بقية كلامه من وعظه في الهيكل إلى الكتبة والفريسيين، بعدما خاطب تلاميذه بالجزء الأول منه وذلك من عدد ١ – ١٨، وصرح بإثم معلمي الدين غير الأمناء من اليهود. فقال لهم ثماني مرات «ويلٌ لكم» وسبع مرات «أيها المراؤون» ومرتين «أيها الجهال والعميان» ومرة «أيها الحيات أولاد الأفاعي».
كان وعظ المسيح الأول العام مجموع تطويبات لتلاميذه الحقيقيين (ص ٥) وكان وعظه الأخير العام مجموع ويلات وتهديدات لأعدائه.
تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ الخطية الأولى التي وبخ عليها الكتبة والفريسيين هي محاربتهم للملكوت الجديد الذي أتى المسيح لينشئه بتعليمه، أي مقاومتهم للإنجيل. وكان هؤلاء باعتبارهم معلمي الشعب كحفظة مفاتيح قصر استعملوها للإغلاق دون الفتح، بدليل قوله «لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ» (لوقا ١١: ٥٢) لأنهم رفضوا إنذار يوحنا المعمدان وتعاليم المسيح وشهادة معجزاته وأدلة النبوات الواضحة المتعلقة به المثبتة دعواه، وصدوا الناس عن معرفة طريق الخلاص بوضعهم الطقوس مكان قداسة القلب والسيرة.
ٱلدَّاخِلِينَ أي عامة الشعب الذين سمعوا المسيح بسرور (مرقس ١٢: ٣٧) ومالوا إلى الإيمان به، ولكن الرؤساء أنذروهم وأغروهم برفضه، وأغلقوا ملكوت السماء قدام الناس بثلاثة أمور: (١) سوء تعليمهم و(٢) سوء سيرتهم و(٣)اضطهادهم. ولم تزل أبواب السماء مغلقة قدام الناس في أماكن كثيرة بمثل تلك الأمور إلى هذه الساعة.
١٤ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذٰلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».
مرقس ١٢: ٤٠ ولوقا ٢٠: ٤٧ و٢تيموثاوس ٣: ٦ وتيطس ١: ١١
الخطية الثانية: هي التي وبخ المسيح الكتبة والفريسيين عليها هي الطمع، فإنه حملهم على خطيتين: ظلم الناس، واتخاذ الدين وسيلة إلى حشد الأموال.
تَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلأَرَامِلِ كان الكتبة والفريسيون فقهاء الشعب فوكل إليهم المحتضرون كتابة الوصية واتخذوهم أوصياء، فاغتنموا بذلك الفرصة لاختلاس أموال الناس، ولا سيما أموال الأرامل العاجزات عن مقاومتهم. واقتصر المسيح على أكلهم بيوت الأرامل لأن ظلمهم إياهن أفظع من ظلمهم غيرهن، لأنهن موضوع شفقة الله والإنسان.
تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ أطالوا صلواتهم بسبب الطمع، فإنهم أطالوها ليحسبهم الناس أتقياء ويوكلوهم على أموالهم وأموال أولادهم، أو أن يقدموا لهم التقدمات باعتبار أنهم أولياء الله. قيل إن بعض الفريسيين كان يشغل ثلاث ساعات متوالية بالصلاة. والمسيح لم يوبخهم على مجرد إطالة الصلاة بل على غايتهم الخداعية من تلك الإطالة.
تَأْخُذُونَ أي تجلبون على أنفسكم باستحقاقكم.
دَيْنُونَةً أَعْظَمَ أي عقاب الله في جهنم. وكانت دينونتهم أعظم من دينونة غيرهم، لأنهم اتخذوا وظيفتهم التي هي رئاسة الشعب ووكالة الله سبباً في سلب أموال الناس، وجعلوا التقوى تجارة وستراً للإثم.
١٥ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ٱبْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً».
رؤيا ١٨: ٦
الخطية الثالثة: هي غيرتهم الطائفية التي لم تنتج عن محبة الحق.
تَطُوفُونَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ هذا كلام جارٍ مجرى المثل يشير إلى أعظم الاجتهاد .
دَخِيلاً الدخيل الوثني يتهوَّد بقبوله الختان والمعمودية وسائر طقوس الديانة. فالمسيح لا يوبخ على الاجتهاد في إرشاد الوثنيين الجهلاء إلى الحق والخلاص شفقة على نفوسهم وغيرة لله، لكنه يوبخ على الاجتهاد الذي غايته نوال المدح من الناس وزيادة عدد الطائفة لزيادة القوة الشخصية.
ٱبْناً لِجَهَنَّمَ أي مثل الذين في جهنم وأهلاً لها. وهذا وصف لمن جاوز الحد في الشر. ولا نتوقع أن يتبع المرائين إلا المراؤون! فكان دخلاء الفريسيين حينئذٍ ليسوا وثنيين مخلصين ولا يهوداً مخلصين، فإنهم هدموا حواجز الخطية التي وضعها دينهم الأول، ولم يأخذوا شيئاً من حواجز الدين الثاني، فظلوا غائصين في شرور الوثنيين، وزادوا عليها شرور اليهود، فضوعفت لهم دينونة الدينين. ومثال أولئك الدخلاء بيت هيرودس، الذين كانوا أكبر الأشرار. وانتقاد المسيح لدخلاء الفريسيين لا يعني أنه يذم كل الدخلاء، فإن بعضهم كانوا من الأتقياء المخلصين (أعمال ١٣: ٤٣).
١٦ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْقَادَةُ ٱلْعُمْيَانُ ٱلْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِٱلْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلٰكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ ٱلْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ».
متّى ١٥: ١٤ وع ٢٤ ومتّى ٥: ٣٣، ٣٤.
الخطية الرابعة: التي ارتكبها الكتبة والفريسيون هي تعليمهم الكاذب في أمر القسم.
ٱلْقَادَةُ ٱلْعُمْيَانُ كانوا بمنزلة القادة للشعب باعتبارهم معلميهم الروحيين، وكانوا كالعميان لأنهم جهلوا طريق الحق، وجرّوا غيرهم إلى طريق الباطل، فكانوا ضالين ومضلين.
ٱلْقَائِلُونَ أي في تعليمهم الشعب.
مَنْ حَلَفَ بِٱلْهَيْكَلِ نهى المسيح عن الحلف بالهيكل قبل ذلك، وصرح بأن ذلك كالحلف بالله (متّى ٥: ٣٤).
فَلَيْسَ بِشَيْء أي لا يوجد على الحالف شيئاً، فمن نذر شيئاً أو وعد بشيء وحلف على القيام بإيفائه بالهيكل، فكأنه لم ينذر ولم يعد. وكثيراً ما شاع الحلف بالهيكل بين اليهود.
بِذَهَبِ ٱلْهَيْكَلِ الأرجح أن المقصود بذلك القربان الذهبي في الخزانة المقدسة. فأذنب أولئك المعلمون لأنهم أجازوا تعليمهم الكذب والحنث خداعاً، والاستخفاف بالمُقسَم به الذي هو الله. وفي هذا التعليم تمييز باطل، والغاية منه تعظيم شأن القرابين وتفضيلها على الهيكل ليرغب الشعب في إكثار التقدمات، فيربح أولئك المعلمون.
يَلْتَزِمُ أي يجب عليه أن يفي بالوعد المقسم عليه.
لم يكن معلمو الناموس يريدون القسم على الإطلاق، ولكنهم جُرّوا للتساهل مع العامة الذين استعملوا القسم على أنواعه رغم التحذير والإنذار. ولكن هؤلاء المعلمين أخطأوا كما يخطئ رجال الدين والكنيسة مرات كثيرة، بأنهم ينزلون للناس بدلاً من أن يرفعوهم.
١٧ «أَيُّهَا ٱلْجُهَّالُ وَٱلْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ ٱلْهَيْكَلُ ٱلَّذِي يُقَدِّسُ ٱلذَّهَبَ؟».
ٱلْجُهَّالُ وَٱلْعُمْيَانُ لأنهم لم يستطيعوا أن يدركوا أن ليس للذهب قداسة في ذاته، وأن القداسة المنسوبة إليه كانت من الهيكل، وأن قداسة الهيكل كانت من الله الذي اتخذه بيتاً يُعبَد فيه. فإذاً تمييزهم بين الحلف بالهيكل والحلف بذهبه باطل، فكلاهما ليس بشيء، والاعتبار كله لإله الهيكل.
١٨ «وَمَنْ حَلَفَ بِٱلْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلٰكِنْ مَنْ حَلَفَ بِٱلْقُرْبَانِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ».
المذبح المقصود هنا هو مذبح المحرقات في دار الكهنة وهو مصنوع من النحاس. وكان طوله ٢٠ ذراعاً وعرضه ٢٠ ذراعاً وعلوه عشر أذرع (٢أخبار ٤: ١) وعليه قدموا كل ذبائحهم الدموية. واعتادوا أن يحلفوا به كثيراً.
بِٱلْقُرْبَانِ المقصود بالقربان هنا ما يقدم على المذبح، فجعلوه أقدس من المذبح ليزيدوا اعتباره في عيون الناس فيزيد ربحهم به.
يَلْتَزِمُ أي يثبت عليه أن يقوم بما حلف بالقربان أن يفعله.
١٩ «أَيُّهَا ٱلْجُهَّالُ وَٱلْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ أَمِ ٱلْمَذْبَحُ ٱلَّذِي يُقَدِّسُ ٱلْقُرْبَانَ؟».
خروج ٢٩: ٣٧
ٱلْجُهَّالُ وَٱلْعُمْيَانُ هذا مثل ما ذكر في ع ١٧ فقد ميَّزوا بين أمرين لا فرق بينهما. فالذي قدس القربان هو المذبح الذي وُضع عليه، والذي قدس المذبح هو الله الذي ذلك المذبح له.
٢٠، ٢١ «٢٠ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِٱلْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ، ٢١ وَمَنْ حَلَفَ بِٱلْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ».
١ملوك ٨: ١٣ و٢أخبار ٦: ٢ ومزمور ٢٦: ٨ و١٣٢: ١٤
علّم المسيح في هذين العددين أن كل قسم بالمذبح أو القربان أو الهيكل أو الذهب هو بالحقيقة قَسمٌ بالله، وأن كل ما ميزه الفريسيون بين الأقسام بها باطل. فالأقسام أو الحلف بواحد مما ذُكر على أمور زهيدة إثمٌ. والأقسام بكل منها في أمور ذات بال يُلزم المُقسم بالقيام بما أقسم به عليه. فكان خطأ الفريسيين بأنهم غفلوا في تعليمهم التمييز بين الأقسام عن الله الشاهد في كل قسَمٍ.
بِالسَّاكِنِ فِيهِ أي بالله الذي كان الهيكل بيته، حيث أظهر مجده قديماً بين الكاروبيم (١ملوك ٨: ١١، ١٣ ومزمور ٨: ١) فكانت الذبائح التي تُقدم فيه لله وكذلك كل صلاة وتسبيح بناءً على أنه مكانٌ تلتقي به روح الإنسان بالله.
٢٢ «وَمَنْ حَلَفَ بِٱلسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ ٱللّٰهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْه».
مزمور ١١: ٤ ومتّى ٥: ٣٤ وأعمال ٧: ٤٩
بِٱلسَّمَاءِ أي السماء العليا حيث يُظهر الله مجده بنوع خاص.
بِعَرْشِ ٱللّٰهِ هذا مأخوذ من عادة الملوك الأرضيين أن يجلسوا على عرش لإظهار مجدهم للرعية. ونتيجة كل ما قيل في شأن الأقسام أنها كلها بالله، وأن كلها متساوية في إلزام الذي أقسم، إذ الشاهد بكلٍ منها هو الله. فلو بقي المسيح على الأرض بالجسد لوبخ كثيرين من الناس اليوم على نفس غلط الفريسيين.
٢٣ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ ٱلنَّعْنَعَ وَٱلشِّبِثَّ وَٱلْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ ٱلنَّامُوسِ: ٱلْحَقَّ وَٱلرَّحْمَةَ وَٱلإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هٰذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْك».
لوقا ١١: ٤٢، ١صموئيل ١٥: ٢٢ وهوشع ٦: ٦ وميخا ٦: ٨ ومتّى ٩: ١٣ و٢: ٧
الخطية الخامسة: التي ارتكبها الكتبة والفريسيون هي أنهم جعلوا عرضيات الدين جوهرياته، وجوهرياته عرضياته، فاهتموا بالقشور دون اللباب.
تُعَشِّرُونَ أمر الله اليهود في شريعة موسى أن يؤدوا عُشر دخلهم نفقة على اللاويين (لاويين ٢٧: ٣٠ وعدد ١٨: ٢٠ – ٢٤) وعشراً آخر منه لخدمة الهيكل (تثنية ١٤: ٢٢، ٢٤) وعُشراً ثالثاً منه لخدمة لهيكل (تثنية ١٤: ٢٢، ٢٤) وعُشراً آخر ينفقه على الفقراء كل سنة ثالثة (تثنية ١٤: ٢٨، ٢٩). أي أن كل واحد من اليهود كان عليه أن ينفق مما يقرب ثُلث دخله في سبيل الله. هذا علاوة على ما كان يتبرع به.
ٱلنَّعْنَعَ وَٱلشِّبِثَّ وَٱلْكَمُّونَ هذه بقول صغيرة طيبة الرائحة، تستعمل غالباً في الأطعمة لتزيدها لذة. وقد تستعمل أدوية لكنها قليلة القيمة. واختلف اليهود في وجوب تأدية عشرها مع عشر حاصلات الحقول من الحنطة والخمر والزيت المعينة في الشريعة (تثنية ١٢: ١٧). فحكم الكتبة والفريسيون بوجوب تلك التأدية، فلم يلمهم المسيح على ذك الحكم، بل لامهم على أنهم أهملوا التدقيق في أمور أولى منها وألزم.
تَرَكْتُمْ أي غفلتم واستهنتم.
أَثْقَلَ ٱلنَّامُوسِ أي أهم مطالب الشريعة. نعم أن كل مطالب الله في الشريعة ذات شأن، ولكن أعظمها وأهمها قداسة القلب والسيرة وسائر الفضائل الروحية. لكن الفريسيين اعتنوا بالأمور العرضية كأنواع اللباس والطعام وحفظ الطقوس الخارجية، ولم يكترثوا بالتواضع والإيمان والمحبة ونحوها. فإن العهد القديم نفسه صرّح بما هو الأهم فيه (انظر إشعياء ١: ١٧ وميخا ٦: ٨ وهوشع ١٢: ٦)
ٱلْحَقَّ المقصود بالحق هنا التمييز الروحي بين العرض والجوهر، وبين الرمز والمرموز إليه، وظل الخيرات والخيرات نفسها (لوقا ١٢: ٥٧ ويوحنا ٧: ٢٤). ويصح أيضاً أن يراد بالحق هنا العدل.
ٱلرَّحْمَةَ أي إظهار الرفق والشفقة على الناس ولا سيما المصابون والخطاة (متّى ٥: ٧). وكثيراً ما قصر الفريسيون عن هذه الفضيلة (لوقا ٧: ٣٩ ويوحنا ٨: ٣ – ٥).
ٱلإِيمَانَ كثيراً ما ورد الإيمان في العهد القديم بمعنى الأمانة لله والاتكال عليه. وهذه الفضائل الثلاث (الرحمة والحق والإيمان) تشمل أعظم واجباتنا للناس ولله. أما الفريسيون فغفلوا عنها لأنهم كانوا ظالمين منتقمين محبين الذات خادعين مرائين، لكنهم عشروا النعنع والشبث والكمون بكل تدقيق.
هٰذِه أي الواجبات التي اعتنوا بها.
تِلْكَ أي الواجبات العظمى وأنهم اكتفوا بالجزء الأصغر من واجباتهم دون الأعظم وبذلوا كل الجهد في حفظ الطقوس الخارجية بدلاً من الطهارة القلبية. فالتقي بالحق هو الذي يهتم بشريعة الله كلها، بجزئياتها وكلياتها، ويحترم كل وصية منها الاحترام الذي أراده الله لها.
٢٤ «أَيُّهَا ٱلْقَادَةُ ٱلْعُمْيَانُ، ٱلَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ ٱلْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ ٱلْجَمَل».
ٱلْقَادَةُ ٱلْعُمْيَانُ أهم ما يضطر إليه القادة هو النظر الصحيح، وإلا أضلوا من يقودونهم. وكان عمى الفريسيين أنهم جهلوا خطايا قلوبهم، وهو أشر أصناف العمى، وهو سبب عدم تمييزهم بين الحق والباطل في الروحيات.
يُصَفُّونَ كان عادة اليهود تصفية الخمر والماء أحياناً قبل الشرب لئلا تكون في إحداها بعوضة، وهي بموجب الشريعة نجسة كالجمل. فأكلهما محرَّم (لاويين ١١: ٤، ٢٣، ٤١، ٤٢).
ما أبدع هذه المبالغة وما أوقعها في النفس! فالقول ببلع الجمل من قبيل المجاز الذي يزيد الكلام روعة وجمالاً.
يَبْلَعُونَ ٱلْجَمَل من أعظم الخلاف أن يجتهد الإنسان في حفظ الناموس إلى حدٍ يصفي عنده شرابه عن صغائر كالبعوضة، وهو ولو استطاع لبلع الحيوان الكبير المحرم أكله كالجمل! أراد المسيح بهذا أن يظهر غلط من يتجنب الصغائر ويرتكب الكبائر مطمئناً. ومثال ذلك ما تراءى في سيرة الفريسيين في بذل الدراهم ليهوذا الإسخريوطي ليسلم إنساناً زكياً إلى الموت، وهم يرفضون ضمها إلى خزانة الهيكل عندما ردها إليهم! واستئجار شهود زور على المسيح ووقوفهم خارج دار بيلاطس «صارخين اصلبه اصلبه» وهم يعتزلون دخول تلك الدار خوفاً من أن يتنجسوا. ولومهم التلاميذ على أكلهم الخبز بأيدٍ غير مغسولة، وهم يبطلون الوصية الخامسة من وصايا الله العشر بتعليمهم الكاذب في شأن القربان.
٢٥، ٢٦ «٢٥ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ ٱلْكَأْسِ وَٱلصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ ٱخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! ٢٦ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلأَعْمَى، نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ ٱلْكَأْسِ وَٱلصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً».
مرقس ٧: ٤ ولوقا ١١: ٣٩
الخطية السادسة: التي وبخ المسيح الكتبة والفريسيين عليها هي تفضيلهم الطهارة الطقسية على طهارة القلب والسيرة.
خَارِجَ ٱلْكَأْسِ وَٱلصَّحْفَةِ كانوا يغسلون آنية الطعام بكل عناية خوفاً من النجاسة الطقسية (مرقس ٧: ٢ – ٥).
مَمْلُوآنِ ٱخْتِطَافاً وَدَعَارَةً هذا مجاز قُصد به أمران: (١) أنهم حصلوا على طعامهم وشرابهم بالظلم والخداع لأنهم طماعون. و(٢) أنهم شرهوا ونهموا في الطعام والشراب طوعاً لشهواتهم لا لتغذية أجسادهم.
ٱلأَعْمَى نسب المسيح إليه العمى لأنه لم يرَ الأمر الواضح الذي للبصير. وهو فرط جهالة من يدَّعي الطهارة بتنقيته خارج الإناء الذي لا يمس الطعام أو الشراب، وتركه داخله بلا غسل! وأظهر بهذا التعبير جهل الفريسيين باجتهادهم في تطهير أجسادهم وتركهم نفوسهم نجسة بخطايا يكرهها الله والناس.
نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ.. الخ الكأس النظيفة هي النظيفة خارجاً وداخلاً. والإنسان الطاهر هو الطاهر طقسياً وأخلاقياً. فالأدب الظاهر ليس شيئاً ما لم يكن نتيجة الأدب الباطن. فأول واجبات الإنسان هو أن ينقي قلبه من الشر (إرميا ٤: ١٤). وهذا وفق قول الحكيم «فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ» (أمثال ٤: ٢٣) إن الدين هو أساس الأخلاق لا الأخلاق أساس الدين، والله وحده يقدر أن يطهر داخل الإنسان (مزمور ٥١: ٧، ١٠ وحزقيال ٣٦: ٢٥، ٢٦ ويوحنا ٣: ٣، ٥).
٢٧، ٢٨ «٢٧ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. ٢٨ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً، وَلٰكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً».
لوقا ١١: ٤٤ وأعمال ٢٣: ٣
الخطية السابعة: التي وبخ المسيح الكتبة والفريسيين عليها هي الرياء. نعم إن الخطايا التي وبخهم عليها سابقاً لم تخلُص من الرياء، لكن المسيح وبخهم هنا على الرياء المحض الظاهر.
قُبُوراً مُبَيَّضَةً المؤمنون المخلصون هياكل حية مقدسة، وأما الفريسيون المراؤون فليسوا سوى قبور موتى مبيضة. وكان اليهود يحسبون لمس القبر ينجس، بناءً على قوله «كُلُّ مَنْ مَسَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ قَتِيلاً بِالسَّيْفِ أَوْ مَيْتًا أَوْ عَظْمَ إِنْسَانٍ أَوْ قَبْرًا، يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ» (عد ١٩: ١٦، ١٨). وكان يهود أورشليم يبيضون قبورهم في الخامس عشر من شهر آذار كل سنة لينتبه لها الغرباء الزائرون، فلا يمسوها غفلة لئلا يتنجسوا. وفعلوا ذلك امتثالاً لقوله «فيعبر العابرون في الأرض، وإذا رأى أحد عظم إنسان يبني بجانبه صوة حتى يقبره القابرون» (حزقيال ٣٩: ١٥) وكان المسيح يخاطب اليهود بذلك في الزمن الذي كانوا قد أكملوا فيه تكليس القبور فكانت بيضاء جداً.
مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً كان أغنياء اليهود يجتهدون أيضاً في تزيين قبور موتاهم إظهاراً لإكرامهم ومحبتهم لهم، ودلالة على غنى العائلة. ولا لوم عليهم في ذلك لأن الذين يعتقدون بقيامة الأموات يعتنون بمدافن الموتى. وقال المسيح إن الفريسيين مثل تلك القبور، فإن خارجها أبيض جميل، وداخلها عظام أموات! لأنهم يظهرون للناس أتقياء وهم يرتكبون الخطايا الفظيعة عمداً. وهذا هو الرياء الذي يكرهه الله.
مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً كان الرياء ظاهرهم كالكلس على القبور: الإثم داخلهم كنجاسة القبور، كالحسد والشهوات والطمع والبُغض والانتقام وحب الرئاسة. والحق أن المرائين كالقبور نجسون ومنجَّسون.
٢٩، ٣٠ «٢٩ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ ٱلصِّدِّيقِينَ، ٣٠ وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ ٱلأَنْبِيَاءِ!ِ».
لوقا ١١: ٤٧
الخطية الثامنة والأخيرة: التي وبخ المسيح الكتبة والفريسيين عليها هي تظاهرهم بزيادة الاحترام للأنبياء الموتى، وتلويم قاتليهم، بينما هم متمثلون بالقتلة، لا بالأنبياء ولا بالشهداء.
تَبْنُونَ قُبُورَ ٱلأَنْبِيَاءِ الخ أظهر اليهود إعجاباً ظاهرياً بصفات أولئك الأنبياء وإكراماً لأسمائهم، وقصدهم أن يحسبهم الناس أتقياء كالأنبياء غيورين للدين مثلهم. وكان الأولى أن يكرموهم بالسير في خطواتهم والاقتداء بفضائلهم. لكنهم عملوا عمل هيرودس الكبير، فمع أنه عملاق في الإثم بنى قبر داود وزيَّنه أفخر زينة.
وَتَقُولُونَ أي تظهرون بالفعل والكلام. فإنهم أبانوا غيظهم على آبائهم وكرههم لأعمالهم، لكنهم سلكوا سلوك آبائهم باضطهادهم الأتقياء وقصدهم قتل المسيح، فشاركوا آباءهم في قتل رجال الله.
٣١ «فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ ٱلأَنْبِيَاء».
أعمال ٧: ٥١، ٥٢ و١تسالونيكي ٢: ١٥
تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُم لأنكم تذمون الخطايا وترتكبونها، وتلومون القتلة وتتمثلون بهم، وتكرمون شهداء الأنبياء ولا تجرون بحسب تعاليمهم ولا تقتفون خطواتهم، فتشهدون على أنفسكم بأنكم تعرفون الحق وأنتم تسيرون في سبيل الشر. فلم يقصد المسيح أن بناءهم المدافن هو بمثابة شهادتهم على أنفسهم، بل اعتمد على أعمالهم، لأن شهادة ذلك البناء زور لمخالفتها سيرة حياتهم.
أَبْنَاءُ قَتَلَةِ ٱلأَنْبِيَاء وذلك ليس بالتسلسل الطبيعي، بل بأعمالكم الشريرة لأنها تظهر تسلسلكم منهم، وأنكم ورثتم خصالهم الخبيثة بأنكم تسيرون في سبلهم، تضطهدون الصديقين وتقصدون قتل المسيح، ورياؤكم في كل ذلك جعلكم مكروهين جداً في عيني الله.
٣٢ «فَٱمْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ».
تكوين ١٥: ١٦ و١تسالونيكي ٢: ١٦
هذا أمرٌ لفظاً وخبرٌ معنى. فمناه أنهم سيبقون على ما هم عليه إلى أن يملأوا مكيال آبائهم. ويحسن أن نتصور لفهم هذا التشبيه مكيالاً كاد يمتلئ، وأنه متّى امتلأ يُنزع من مكانه. فأراد المسيح أن الأمة اليهودية منذ أيام الآباء ارتكبت إثماً فوق إثم، وذخرت لنفسها غضب الله. فكانت لا تحتاج أن تزيد على ما سلف من آثامها سوى قتل ابن الله ليمتلئ مكيال شرهم، ويأتي وقت نزعهم من مكانهم وزمن عقابهم. وذلك وفق قول الله لإبراهيم في شأن الأموريين «َفِي ٱلْجِيلِ ٱلرَّابِعِ يَرْجِعُونَ إِلَى هٰهُنَا، لأَنَّ ذَنْبَ ٱلأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى ٱلآنَ كَامِلاً» (تكوين ١٥: ١٦). فلم يمتلئ مكيال شرهم إلا بعد مرور ٤٠٠ سنة من خطاب الله لإبراهيم. ويوافقه أيضاً ما قيل في الآيات الآتية (إرميا ٤٤: ٢٢ ورؤيا ١٤: ١٥، ١٨).
٣٣ «أَيُّهَا ٱلْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ».
متّى ٣: ٧ و١٢: ٣٤
هذا كلام قوي جداً ولا عجب إن ثاروا حانقين ساخطين. وقارن هذا القول بإنذار يوحنا المعمدان في متّى ٣: ٧.
أَيُّهَا ٱلْحَيَّاتُ شبههم بالحيّات لأنهم مثلها في الخداع والأذى.
أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي سماهم قبلاً «أبناء قتلة» وسماهم هنا «أبناء الأفاعي» دلالة على المشابهة لشر الحيات.
كَيْفَ تَهْرُبُونَ أي ما دمتم على تلك الصفات لا يمكنكم أن تهربوا من الدينونة.
دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ أي الحكم عليهم بعذاب جهنم. وتكلم المسيح بذلك باعتبار أنه ديان إلهي لمن لا يصغون إلى إنذاره. وهذا خلاصة ما أنبأهم به من قوله «الويل لكم» ثماني مرات. وللمسيح وحده الحق بأن ينطق بمثل ذلك الكلام، لأنه وحده يعلم ما في القلوب، وهو الذي عينه الله دياناً للعالمين.
٣٤ «لِذٰلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ».
متّى ١٠: ١٧ و٢١: ٣٤، ٣٥ وأعمال ٥: ٤٠ و٧: ٥٨، ٥٩ و٢٢: ١٩ و٢كورنثوس ١١: ٢٤، ٢٥
أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً سمَّى اليهود معلميهم في الدين بهذه الأسماء، فاتخذها المسيح أسماء لرسله وسائر المبشرين الذين عزم على أن يرسلهم. وإرسالهم إلى الأشرار برهان على عظمة شفقته عليهم ورغبته في خلاصهم.
فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ مثل استفانوس (أعمال ٧: ٥) ويعقوب (أعمال ١٢: ١، ٢)
وَتَصْلِبُونَ لم يكن لليهود يومئذٍ أن يصلبوا أحداً، لكنهم كانوا يسلّمون من يحكمون عليه بالموت صلباً إلى الرومان ليجروا الحكم فيه. ولا شك أنهم فعلوا ذلك بالمسيحيين. وعدم وروده في التواريخ ليس دليلاً على عدم حدوثه، لأن تواريخ تل الأزمنة قليلة ومختصرة جداً.
وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ ومن أمثال ذلك ما ذُكر في سفر الأعمال (أعمال ٥: ٤٠ و٢٢: ١٩، ٢٤) وما ذُكر في ٢كورنثوس ١١: ٢٤، ٢٥.
فِي مَجَامِعِكُمْ (متّى ١٠: ١٧ وأعمال ٢٢: ١٩) لأن المجمع كان مكاناً للحكم والقصاص.
وَتَطْرُدُون الخ وقع ذلك على أكثر الرسل. ولنا مما ذُكر أن منح الله وسائط النعمة يعظم إثم الذين يرفضونها ويعجل عقابهم.
٣٥ «لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ ٱلصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا ٱلَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلْمَذْبَحِ».
رؤيا ١٨: ٢٤ وتكوين ٤: ٨ و١يوحنا ٣: ١٢ و٢أيام ٢٤: ٢٠، ٢١
يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ شبَّه المسيح هنا إثم الأمة اليهودية بسفكها الدم الزكيّ، وشبَّه ما استحقته من القصاص على ذلك بنهرٍ يعظُم بكل قتل ارتُكب من أيام هابيل إلى آخر قتل ترتكبه تلك الأمة. وكله يصب دفعة واحدة عليها في الأيام الأخيرة. فإن الأمة اليهودية صُورت في كل عصورها بشخص واحد. وأن الجيل الذي كان في عصر المسيح اشترك بسفكه دم المسيح ورسله في إثم الأمة كلها، بل في إثم كل قاتل منذ خلق الإنسان، ولذلك اشتركت في عقاب أولئك الأثمة (متّى ٢٧: ٢٥ وأعمال ٥: ٢٨) ومن ذلك خراب هيكلهم ومدينتهم، وقتل بعضهم وسبي الباقين.
كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ أي كل عقاب يستحقه سفاك الدم الزكي (٢ملوك ٢١: ١٦ و٢٤: ٤ وإرميا ٢٦: ١٥ ومرقس ٤: ١٣) ومثل ذلك قوله على بابل «وَفِيهَا وُجِدَ دَمُ أَنْبِيَاءَ وَقِدِّيسِينَ، وَجَمِيعِ مَنْ قُتِلَ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا ١٨: ٢٤). فالله عاقب العبرانيين على آثامهم في وقت ارتكابهم إياها بعض العقاب (إشعياء ٩: ١٢ – ١٧). وأبقى إيقاع بعضه على أولادهم الذين تبعوا خطواتهم الأثيمة وفقاً لقوله «أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ» (خروج ٢٠: ٥) نعم إن الله لا يحسب إثم الآباء على الأبناء إن كانوا أبرياء «اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ… بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ، وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ» (حزقيال ١٨: ٢٠). وذلك بشرط أن لا يرتكب الابن خطية أبيه، ولا يلتمس له العذر عنها، وإلا كان شريكاً له فيها وفي عقابها. وكثيراً ما نرى أن نتائج خطايا الإنسان تقع على أولاده، كفقر أولاد السكارى والمسرفين والذين يخالفون شرائع الصحة والعفة.
دَمِ هَابِيلَ كان هابيل أول قتيل قتله أخوه قايين. وكان اليهود مثل ذلك القاتل روحاً وفعلاً، فشاركوه في العقاب. ويظهر من هذا أن الله يراقب كل المظالم التي تقع على عبيده، ولا بد أن يطالب بدمهم.
زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا لم يتحقق من هو زكريا هذا. لكن ظن أكثر المفسرين أنه النبي الذي ذُكر في سفر الأيام الثاني (٢أخبار ٢٤: ٢٠ – ٢٢) فإن اليهود قتلوه في دار بيت الرب، وقال عند موته «الرب ينظر ويطالب» ولكن ذاك كان ابن يهوياداع. ويحتمل أنه كان له اسمان كما كان لكثيرين من اليهود، مثل متّى الذي كان اسمه أيضاً لاوي، ومثل لباوس الذي سُمي أيضاً تداوس. ويحتمل أن يكون المقصود بالابن: الحفيد، وذلك وارد بكثرة في الكتاب المقدس. ويوافق ذلك أن يهوياداع مات في سن المئة والثلاثين، ولم يُقتل زكريا إلا بعد موته بمدة. وظن البعض أن المسيح لم يقل «ابن برخيا» لأن لوقا نقل كلام المسيح بدونه، ولم يوجد ذلك في قول متّى في أقدم النسخ. فعلَّة وقوعه هنا هي أن أحد النساخ في القرون الأولى أدخله تفسيراً، فحُسب زكريا بن يهوياداع زكريا بن برخيا كاتب النبوة المعروفة (زكريا ١: ١) ولعل هذا هو الأرجح.
ٱلَّذِي قَتَلْتُمُوه أي قتلته أمتكم، ولكنكم شاركتم القتلة في ذلك لأنكم نسجتم على منوالهم.
بَيْنَ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلْمَذْبَح المقصود بالهيكل هنا قدس الأقداس، وبالمذبح مذبح المحرقة تجاهه في دار الكهنة (متّى ٢٦: ٦١ ويوحنا ٢: ١٩).
٣٦ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هٰذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هٰذَا ٱلْجِيلِ».
هذا نتيجة ملئهم مكيال آبائهم. فالذي أضاف آخر جزء إلى المكيال وملأه شريكٌ للذي وضع فيه أول جزء! ولا ظلم في ذلك لأنهم عملوا أعمال آبائهم، وأظهروا أن روحهم كروح أولئك الآباء. ولأنهم قادرون أن يتخلصوا من ورثة الإثم والقصاص بالتوبة وطلب الرحمة.
عَلَى هٰذَا ٱلْجِيلِ خربت أورشليم بعد ذلك بأربعين سنة، فلا بد أن كثيرين من المخاطبين وغيرهم من اليهود المعاصرين شاهدوا خرابها. وبهذا تم قول المسيح حقيقة. وظن كثيرون أن المسيح أراد بقوله «هذا الجيل» أمة اليهود بلا التفات إلى الزمان كما ورد في متّى ١٢: ٤٥ وأعمال ٢: ٤٠ وفي ٢: ١٥ وهو المرجح.
٣٧ «يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا».
لوقا ١٣: ٣٤ وتثنية ٣٢: ١١، ١٢ ومزمور ١٧: ٨ و٩١: ٤
يَا أُورُشَلِيمُ رثى المسيح تلك المدينة بهذا الكلام سابقاً (لوقا ١٣: ٣٤، ٣٥) إظهاراً لشفقته عليها بعد اضطراره إلى إنذارها. أما شفقته فكانت على شعب الأمة المضَلين. وخص المسيح أورشليم بالذكر لأنها المدينة المقدسة عند اليهود ومركز سياستهم ودينهم، ولأنها زادت على غيرها من المدن شراً كما زادت عليها عظمة. ولما رثى أورشليم لم يرثِ الساكنين فيها حينئذٍ فقط، بل رثى كل من سكنها في العصور الماضية، وكل من يسكنها في السنين المستقبلة فقد مثلوا جميعهم أمامه كأنه يخاطبهم وهم يصغون إليه.
قَاتِلَةَ ٱلأَنْبِيَاءِ أي المعتادة أن تسفك دم الأنبياء، والمستعدة أن تسفكه (١ملوك ١٨: ٤ ونحميا ٩: ٢٦ وإرميا ٢: ٣٠ و٢٦: ٢٣ وعبرانيين ١١: ٣٧). وأراد بالأنبياء رُسل الله في كل عصر. وأراد بقوله «قاتلة» كل المظالم والتعديات التي أوقعها اليهود على أولئك الرسل.
رَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا متّى ٢١: ٣٥ ويوحنا ١٠: ٣١، ٣٩ وأعمال ٧: ٥٨ و٢١: ٣١ و٢٢: ٢٢، ٢٣.
كَمْ مَرَّةٍ… أَنْ أَجْمَعَ أظهر المسيح بهذا فرط محبته ورقة قلبه على أهل أورشليم، وشوقه الشديد إلى أن يحميهم ويعتني بهم. وأشار بذلك إلى وعظه وإرساله رسله أمام وجهه إليهم.
أَوْلاَدَكِ أي سكانك وسائر أمتك، وأراد بقوله «أجمع» أنه يحميهم من الهلاك الزمني والهلاك الأبدي. ورثى المسيح اليهود للمصائب التي ستأتي عليهم لصلبهم إياه. لكنه لم يرثِ نفسه للآلام التي ستقع عليه منهم.
كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ كثر هذا التشبيه في الكتاب المقدس دلالة على عناية الله وحمايته (تثنية ٣٢: ١١ ومزمور ١٧: ٨ و٣٦: ٧ و٥٧: ١ و٦١: ٤ وإشعياء ٣١: ٥ وملاخي ٤: ٢ ومتّى ٢٤: ٢٨).
وَلَمْ تُرِيدُوا (إشعياء ٢٨: ١٢ و٣٠: ١٥ ويوحنا ٥: ٤٠). نعم إن أفراداً من اليهود قبلوا المسيح وآمنوا به ونجوا، ولكن اليهود باعتبار أنهم أمة رفضوه وأظهروا عنادهم وشرهم برفضهم ما أظهره من المحبة لهم. وفي هذا العدد وما يليه بيان حرية الإنسان التامة، والمسؤولية التي عليه لمقاومته وعناده وشره برفضه محبة المسيح. وفيه أيضاً بيان سلطان الله المطلق الذي يظهر بقضائه على تلك الأمة، والتصريح بأنه لا بد من وقوع ذلك القضاء. ولا زال المسيح يشفق على الخطاة الساقطين إلى هاوية الهلاك، كما شفق يومئذٍ على أثمة اليهود. ولا زال يرغب في إنقاذهم، ويتضرع إليهم بكتابه المقدس، وكلام مبشريه، أن يأتوا إليه ليخلصوا. وعلة عدم نجاتهم الوحيدة هي أنهم لم يريدوا. ومِن رفض المسيح هلك لا محالة لأنه ليس بغيره الخلاص.
٣٨ «هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً».
بَيْتُكُمْ أي هيكلكم الذي كان سابقاً بيت الله (٢أخبار ٦: ٢ ومزمور ٢٦: ٨) لكن الله هجرهُ فصار بيتهم لا بيته.
خَرَاباً كان حينئذٍ خراباً من الناحية الروحية، ولكنه مزمع أن يصير خراباً حقيقياً فإن المسيح بعد نطقه بهذا الكلام بقليل ترك الهيكل إلى الأبد (متّى ١٤: ١) وهذا دليل على بدء خرابه. والذي قاله المسيح عن الهيكل وقع على أورشليم نفسها وعلى سائر بلاد اليهود. وبعد هذا الترك بقليل جاء الرومان آلة انتقام الله وأكملوا الخراب.
٣٩ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي مِنَ ٱلآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
مزمور ١٨: ٢٦ ومتّى ٢١: ٩
هذا وداع المسيح للهيكل وللأمة اليهودية وختام كلامه لها، وما قاله بعد إنما خاطب به رسله المختارين.
إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي لم يظهر المسيح بعد قيامته إلا لقليلين انتخبهم الله شهوداً بقيامته (أعمال ١٠: ٤٠، ٤١).
حَتَّى تَقُولُوا هذه نبوة برجوع اليهود في المستقبل إلى الرب (تثنية ٤: ٣٠، ٣١ وهوشع ٣: ٤، ٥ وزكريا ١٢: ١٠ و١٤: ٨ – ١١ ورومية ١١: ٢٥ – ٣٢) وهذه النبوة لم تتم بعد، ولكن لا بد من إتمامها.
مُبَارَكٌ ٱلآتِي الخ هذا مقتبس من مزمور ١١٨: ٢٦ وقد نادى به بعض التلاميذ عند الاحتفال بدخوله أورشليم (متّى ٢١: ٩) والذي اشترك فيه بعض الناس. كذلك سيكون نداء كل الأمة اليهودية عن يقين أن يسوع هو المسيح والترحيب به بسرور وقبوله بفرح.
السابق |
التالي |