إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 19 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح التاسع عشر

١ «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ ٱلْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ».

مرقس ١٠: ١ ويونان ١٠: ٤٠

لَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ ترك متّى ذكر أمور كثيرة حدثت فى تلك المدة، أي مدة انتقاله من الجليل ومجيئه إلى تخوم اليهودية. وذكر لوقا ويوحنا بعضها، ومن ذلك إرسال السبعين تلميذاً ورجوعهم إليه (لوقا ١٠: ١ – ١٦). وذهاب المسيح إلى السامرة وإبراؤه عشرة برص هناك (لوقا ٩: ٥١ – ٥٦ و١٧: ١١ – ١٩). ومثل الخروف الضال. ومثل الدرهم المفقود. ومثل الابن الضال (لوقا ١٠ – ١٨: ١٤) وذهابه لوقت قصير إلى اورشليم في عيد المظال وتعليمه هنالك وإقامته اليعازر (يوحنا ٧ – ٩).

ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ هذه نهاية خدمة المسيح الأرضية فى الجليل حيث قضى هنالك أكثر وقت خدمته وذلك نحو ثلاث سنين وهو يبشر الشعب ويعلم الاثني عشر ليكونوا أهلاً للخدمة فى المستقبل. ثم ترك تلك الأرض ولم يرجع إليها بعد ذلك (لوقا ٩: ٥١).

جَاءَ إِلَى تُخُومِ ٱلْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنّ الطريق التى سار فيها المسيح من الجليل إلى اليهودية ليست الطريق المعتادة أو المختصرة، فإنه دار إلى عبر الأردن لتكون له فرصة أن يعلم الشعب هناك. وبين انتقال المسيح ومجيئه إلى تخوم اليهودية مدة جرت فيها الحوادث التى لم يذكر متّى سوى بعضها. والمرجح أنه بين انتقال المسيح من الجليل وبلوغه تخوم اليهودية نحو ستة أشهر، لم يذكر متّى من حوادثها سوى ما في هذا الأصحاح، وأصحاح ٢٠: ١ – ١٨. والمقصود بعبر الأردن هنا ما عرف عند اليونان ببيرية التي سكنها قديماً سبط منسى. وكانت تحت حكم هيرودس أنتيباس، وتسمى الآن الجولان.

٢ «وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ هُنَاك».

متّى ١٣: ١٥ ومرقس ٦: ٥٥، ٥٦

لم يكتف المسيح بشفاء مرضى الذين تبعوه بل علمهم أيضاً بدليل قول مرقس «فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضًا، وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضًا يُعَلِّمُهُمْ» (مرقس ١٠: ١). فالظاهر إنه لم يطلبه أحدٌ عبثاً، فإنه كان مستعداً لشفاء الناس من الأمراض الجسدية يومئذٍ، فبالأولى أن يكون مستعداً الآن لإبراء النفوس من أمراض الخطية. وهذا العدد يشير إلى حوادث عدة أشهر.

٣ «وَجَاءَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ ٱمْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ».

ذكر متّى من حوادث بيرية هذه الحادثة لما فيها من أهمية التعليم فى شأن الطلاق.

ٱلْفَرِّيسِيُّونَ هؤلاء الأعداء تبعوه إلى أقصى البلاد لمقاومة تعاليمه.

لِيُجَرِّبُوهُ أي ليجدوا علة للشكوى عليه إلى رؤساء الدين، أو ليهيجوا الشعب عليه كما فعلوا بعد ذلك فى سؤالهم المسيح عن جواز تأدية الجزية لقيصر (متّى ٢٦: ١٦).

هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ الخ أجاب المسيح على هذه المسألة صريحاً فى وعظه على الجبل (متّى ٥: ٣٢). وبيَّن أنه لا يجوز إلا لعلة واحدة. ولعل الفريسيين لم يسمعوا ذلك الوعظ، أو أنهم أرادوا أن يعرفوا هل هو باقٍ على تعليمه الأول. وانقسم اليهود يومئذٍ إلى فرقتين، قالت إحداهما بمذهب الرباي شمعي وهو عدم جواز الطلاق إلا لأسباب نادرة، وتبحث الأخرى مذهب الرباي هِلَيل، وهو جواز الطلاق لأي علة كانت، وبنى ذلك على ما قيل فى تثنية ٢٤: ١. فأراد الفريسيون أن يوقعوا المسيح بمسائلهم المذهبية، ويحتمل أنهم أرادوا أن يوقعوه بما يشتكون به عليه إلى هيرودس لأنه كان قد طلق امرأته بنت الحارس الغساني، فيقبض عليه ويقتله كما قتل يوحنا المعمدان لتبكيته إياه على مثل هذا الأمر.

٤، ٥ «٤ فَأَجَابَ: أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟ ٥ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً».

تكوين ١: ٢٧ و٥: ٢ وملاخي ٢: ١٥ تكوين ٢: ٢٤ ومرقس ١٠: ٥ – ٩ وأفسس ٥: ٣١ و١كورنثوس ٦: ١٦ و٧: ٢

أَمَا قَرَأْتُمْ أي قد قرأتم. حاد المسيح عن الفخ الذي أخفوه له بتقديمه الجواب من موسى لا من نفسه، فاستشهد بما في كتبهم في شأن عهد الزواج كما هو فى سفر التكوين ١: ٢٦ – ٢٧ ففيه أن العلاقة بين الرجل وامرأته دائمة لا تتغير بتغير انفعالات الزوجين.

ذَكَراً وَأُنْثَى أي بعلاً واحداً وزوجة واحدة لا بعلاً وزوجتين ولا زوجة وبعلين. فأظهر الله بأن خلق الإنسان فى أول الأمر ذكراً وأنثى، أنه يريد أن لا يكون لبعل واحد سوى زوجة واحدة، وأنه لا يريد أن يطلق المرء امرأته، لأنه ما كان يمكنه أن يطلقها ويقترن بأخرى (تكوين ١: ٢٧ و٥: ٢).

وَقَالَ نسب المسيح القول هنا إلى الله، وهو فى سفر التكوين منسوب إلى آدم (تكوين ٢: ٢٣) وذلك لأن آدم نطق به بوحي من الله. والدليل على ذلك أن آدم لم يكن يعلم حينئذ العلاقة الوالدية.

يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ ليس المقصود أن يبعد عن مكانهما، بل أن يرتبط بعلاقة أشد من العلاقة التي بينه وبينهما.

جَسَداً وَاحِداً أي أن يكون اقتران أحد الزوجين بالآخر كاقتران أحد أعضاء الجسد بالآخر، وأن يدوم ذلك الاقتران بدوام الزوجين، فلا ينتهي إلا بموت أحدهما. وأراد الله بذلك أن الاقتران اتحاد شرعي واتحادٌ في المحبة والمقاصد والأعمال واللذات والأفراح والأحزان.

وخلاصة الأمر أن كلاً من الزوجين يطلب سعادة الآخر، ويسعى إلى تحصيلها كما يطلبها، ويسعى فى تحصيلها لنفسه، وأن يحزن لحزن الآخر ما داما فى الحياة. فنتعلم أنه لا يجوز الارتباط بالزواج إلا باتفاق الشخصين اتفاقاً تاماً وبالمحبة القلبية. نعم إن الاقتران بالزواج اختياري، ولكن الانفصال ليس كذلك، لأن العلاقة بين الزوجين لا يمكن نزعها بأسهل من نزع العلاقة بين الوالد وولده والأخ وأخيه.

٦ «إِذاً لَيْسَا بَعْدُ ٱثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَٱلَّذِي جَمَعَهُ ٱللّٰهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ».

فَٱلَّذِي جَمَعَهُ ٱللّٰهُ هذا كلام عام يبين أن عهد الزيجة من خطط الله المرسومة، ولذلك لا يجوز نقضه.

لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَان أي لا ينقض ذلك العهد بشريعة سياسية ولا بشريعة كنسية، ولا يمكن أن ينقضه غير الله، بموت أحد الزوجين.

٧ «فَسَأَلُوهُ: فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟».

تثنية ٢٤: ١ ومتّى ٥: ٣١

فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى سأله الفريسيون ذلك ليظهروا مخالفته لموسى لتوقعهم أنه يجيبهم بأن موسى خالف شريعة الله.

٨ «قَالَ لَهُمْ: إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلٰكِنْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هٰكَذَا».

قال الفريسيون في سؤالهم «أوصى» فقال المسيح فى الجواب «أذن» وبين اللفظتين فرقٌ عظيم في المعنى.

قَسَاوَةِ قُلُوبِكُم ظن بعضهم أن المقصود بتلك القساوة قساوتهم على نسائهم، فلو مُنعوا من التطليق ضربوهن وظلموهن أو قتلوهن، فأجاز موسى الطلاق لأنه أصغر الشرَّين. والأرجح أن المقصود بها مطلق القساوة التى ينتج منها العناد وعدم الشعور بوجوب الطاعة لشريعة الله، ولذلك لم يطيعوا وصية الله الأصلية فى شأن الزواج لمخالفتها ميول قلوبهم، وعوائق كل الأمم حولهم. فلما رأى موسى أنه لا يستطيع منعهم من التطليق وضع كل ما قدر عليه من الصعوبات فى سبيله. وقال «قلوبكم»مع أن الكلام كان مع أسلافهم بناءً، لأنه اعتبر اليهود أمة واحدة من أول عهدها إلى آخره، وإشارة إلى أن قلوبهم قاسية كقلوب آبائهم.

إذن: إنما أذن وقتياً بمجرد الحكم السياسي، بلا استناد إلى شريعة أصلية، لعلمه أنهم اعتادوا الطلاق مدة إقامتهم بمصر، وأنهم عنيدون قساة لا يمكنهم أن يردهم دفعة واحدة إلى الشريعة الأولى.

كِتَابُ طَلاَقٍ هذا كان بالنظر إلى أحوال بني إسرائيل يومئذٍ أفضل واسطة لمنع الطلاق عند الغضب، لأن كتابة مثل ذلك الكتاب كانت تقتضي وقتاً طويلاً عند أرباب الشريعة، فيكون للرجل وقت كافٍ لخمود غضبه ومراجعة أفكاره والنظر في عاقبته ومصالحة امرأَته.

مِنَ ٱلْبَدْءِ أي منذ رسم الله عهد الزيجة.

لَمْ يَكُنْ هٰكَذَا أي لم يؤذن للرجال فى تطليق نسائهم.

٩ «وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ ٱلزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَٱلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي».

متّى ٥: ٣٢ ومرقس ١٠: ١١ ولوقا ١٦: ١٨ و١كورنثوس ٧: ١٠، ١١

ما قاله المسيح هنا قاله فى بيت دخل إليه (مرقس ١٠: ١٠) وهو جواب لأسئلة بعض تلاميذه.

أَقُولُ لَكُم كان قوله في أحوال يهود عصره، فإذن موسى ليهود عصره بالطلاق لا يجوز التطليق لليهود في زمن المسيح، فإنه على قول المسيح زنى.

وصرّح المسيح في هذا العدد بشريعة ملكوته، فرجع إلى شريعة الفردوس، وفق ما قاله قبلاً (متّى ٥: ٣٢) وتلك الشريعة هي الوحيدة في الطلاق للمسيحيين الذين يخضعون للمسيح رباً وإلهاً. فعزز المسيح قدسية الرباط الروحى وشرفه. فمن يزني، رجلاً كان أم امرأة، يحطم هذا الرباط. لذلك فمن يتزوج بمطلقٍ أو مطلقةٍ على هذه الصورة هو زانٍ أيضاً.

١٠ «قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: إِنْ كَانَ هٰكَذَا أَمْرُ ٱلرَّجُلِ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ».

أمثال ٢١: ١٩

هذا يدل على أن أفكار التلاميذ صارت مثل أفكار سائر اليهود في لزوم تسهيل الطلاق. فظهر لهم أنه إذا لم يستطع الإنسان تطليق امرأته وهو يكره البقاء معها لسوء أخلاقها خير له أن لا يتزوج.

١١ «فَقَالَ لَـهُمْ: لَيْسَ ٱلْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ بَلِ ٱلَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم».

١كورنثوس ٧: ٢، ٧، ٩، ١٧

ليس الجميع يقبلون هذا الكلام أو (هذا النصح): أي قول التلاميذ «فلا يوافق أن يتزوج». حكم المسيح أن ذلك لا يوافق إلا النادر من الناس، لأنه ضد الطبع البشري. فإذاً قولهم باطل.

بَلِ ٱلَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم إمكان بقاء الانسان بلا زيجة يتوقف على طبعه وميوله، فالله خلق الناس مختلفي الصفات، فما يسهل على البعض يصعب على الآخر. أما من يكره الزواج طبعاً أو لا يميل إليه فمستثنى من ذلك. على أنه يستحسن أن لا يتزوج الإنسان في أيام الضيق والاضطهاد كما فعل بعض الرسل (١كورنثوس ٧: ١، ٧، ٨، ٢٦، ٢٧، ٣٧) وقوله «أعطي» يدل على أن الميل إلى البتولية صفة خَلْقية لمن أُعطي لهم، لا هبة روحية يمكن الحصول عليها بالصلاة.

١٢ «لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هٰكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ ٱلنَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. مَنِ ٱسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ».

١كورنثوس ٧: ٣٢، ٣٤ و٩: ٥، ١٥

ذكر المسيح هنا ثلاثة أنواع من الناس يمكنهم أن يقبلوا قول الرسل ويمتنعوا عن الزواج. (١) الذين ولدوا ولم يستطيعوا الزيجة. و(٢) الذين لم يستطيعوا الزيجة لما أجراه الناس عليهم قساوة، وكثر مثل هؤلاء قديماً في قصور الملوك والأعيان فأمنوهم كثيراً ورفعوا من شأنهم وولوهم أعظم المناصب. وكثر ذلك حتى صار لفظ الخصي لقباً لأرباب المناصب العالية، بغضّ النظر عن كون الملقب يستطيع الزيجة أم لا. ومن الملقبين بذلك فوطيفار فقد سُمي خصياً وهو متزوج (تكوين ٣٩: ١). ولعل وزير كنداكة مثله (أعمال ٨: ٧). و(٣) الذين قاوموا الميل إلى الزواج وغلبوه حتى صاروا كالخصيان، فهم خصيان مجازاً لا حقيقة. وإنما امتنع هؤلاء عن الزواج وأماتوا ميولهم إليه ليعطوا كل وقتهم وأفكارهم للتبشير بالإنجيل كما فعل بولس (١كورنثوس ٧: ٧). ولذلك نصح لغيره أن يقتدي به (١كورنثوس ٧: ٣٢ – ٣٤). فليس قصد المسيح هنا أن يؤخذ كلامه حرفياً، فهو كقوله بقطع اليد وقلع العين (متّى ٥: ٢٩، ٣٩ و١٨: ٨، ٩). فلا شئ يجيز ما فعله أوريجانوس إذ خصى نفسه حقيقة، فإنه أخطأ في فهمه كلام المسيح حرفياً، مع أنه مجاز أراد به إماتة الشهوات. ولا شيء في ذلك يوجب أن ينذر الإنسان بتوليتة كما توهم بعضهم. وخلاصة قول المسيح هنا أن أكثر الناس يتزوجون، فيجب أن يحتملوا ما ينشأ أحياناً عن الزيجة من مصاعب بدون طلب النجاة منها بالتطليق. ولذلك يجب على الإنسان أن لا يرتبط بعهد زيجة بلا تروٍّ وفحص وصلاة، فتكون الزيجة «في الرب فقط» (١كورنثوس ٧: ٣٩).

لأَجْلِ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ اى ليخدموه لا لينالوه.

أَنْ يَقْبَل أي يقبل قول الرسول «لا يوافق أن يتزوج» ويميت الميل الطبيعى إلى الزواج.

فَلْيَقْبَلْ أي فله أن يقبل، فهو إذن لا أمر. والخلاصة أن المسيح لا يمنع البتولية لمن يريدها لخدمة المسيح، فلا ريب أنه كان خيراً للبشارة في أول التبشير بالإنجيل في الأماكن البربرية الوثنية حيث يقاسي المبشرون مشقات كثيرة أن يكون المبشر أعزب. ولكن لا إشارة فى كلام المسيح هنا إلى أن البتولية أقدس من الزيجة، أو أن الأولى ترضي الله أكثر من الثانية. وقد كان الكهنة واللاويون في العهد القديم يتزوجون، وبطرس كان متزوجاً، والأرجح أن غيره من الرسل كانوا متزوجين (١كورنثوس ٩: ٥). وفي العهدين القديم والجديد حُسبت الزيجة رمزاً إلى اتحاد الله بشعبه، وحُسب في العهد الجديد المنع عن الزواج من تعاليم المرتدين عن الإيمان (انظر تعاليم الكتاب المقدس فى هذا الشأن لاويين ٢١: ١٤ ومتّى ٨: ١٤ وأعمال ٢١: ٨، ٩ و١كورنثوس ٧: ١، ٢ و٩: ٥ و١تيموثاوس ٣: ٢ و٤: ١، ٣ وعبرانيين ١٣: ١٤).

١٣ «حِينَئِذٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلاَدٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ، فَٱنْتَهَرَهُمُ ٱلتَّلاَمِيذ».

مرقس ١٠: ١٣ الخ ولوقا ١٨: ١٥ الخ

في هذا العمل إشارة إلى العائلة التي لا تكمل بالزوجين فقط، بل بالأولاد أيضاً. ولا شك أن اليهود المؤمنين احترموا أفراد العائلة ورفعوا شأنها. وهنا يثبت السيد المسيح قيمة الوالد وعظمة حاضره ومستقبله، فلم يجارِ المنتهرين بإسكات الأولاد، بل دعاهم إليه. وهنا منتهى التشجيع على التهذيب الروحى الصحيح منذ نعومة الأظفار. والأرجح أن الذين قدموا أولادهم إلى المسيح كانوا مؤمنين التمسوا البركات الروحية لأولادهم، فالذين يحبون أولادهم ويثقون بأن المسيح هو الله ومصدر كل بركة يفعلون ذلك. ولا بد أن هؤلاء كرسوا أنفسهم للمسيح، فزادوا على أن كرسوا أولادهم له. وكان اليهود يقدمون أولادهم لله بالختان، لأنه ختم عهد الله لإبراهيم وهو قوله «أكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك» (تكوين ١: ٧). وعلى هذا النسق قدم أولئك الوالدون أولادهم للمسيح اعتقاداً منهم أنه الله. وكذلك يفعل الوالدون المسيحيون اليوم حين يقدمون أولادهم إلى المعمودية.

ضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وذلك علامة لمنح البركة (تكوين ٤٩: ١٤ ومتّى ٩: ١٨).

وَيُصَلِّي وثقوا بفائدة صلاتة كثقة الناس بفائدة صلوات الأنبياء والأتقياء بينهم (عدد ٣٢: ٦ ولوقا ٢: ٢٨).

ٱنْتَهَرَهُمُ ٱلتَّلاَمِيذ أي انتهروا الذين أتوا بالأولاد (مرقس ١٠: ١٣). ولعل ذلك لأنهم رأوا الأولاد صغاراً فلا يستفيدون شيئاً من تعليم المسيح، فلم يروا في مجيئهم إليه سوى تعبه وتعطيله عن تعليم البالغين.

١٤ «أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: دَعُوا ٱلأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».

متّى ١١: ٢٥ و١٨: ٣

قال مرقس إن المسيح اغتاظ من فعل التلاميذ فسُرَّ بتقديم الأولاد إليه. وفي ذلك دليل على أن المسيح أرحم من تلاميذه، والوصول إليه أسهل من الوصول إليهم. فلو عرف الناس رقة قلبه ما مالوا إلى واسطة بشرية أو ملكية للاقتراب إليه والحصول على مطالبهم، فلا قلب فى السماء ولا في الأرض أرق من قلبه.

دَعُوا ٱلأَوْلاَدَ يَأْتُونَ أي دعوا من يقدمونهم يأتون بهم. وهذا تنشيط للوالدين اليوم على أن يقدموا أولادهم لله فى المعمودية متوقعين البركة التي التمسها أولئك الوالدون اليهود. فالبركة الروحية التي نالها أولئك الأولاد يومئذٍ ينالها أولاد المسيحيين اليوم. وفيه تنشيط للأحداث أن يأتوا إلى المسيح بإلايمان متوقعين القبول في أول إدراكهم حقيقة الإتيان إليه.

إِلَيَّ هذا يؤكد كل التأكيد أن المسيح اهتم بالأولاد وهو يمارس عمل الفداء وأنه جعل لهم محلاً في كنيسته على الأرض، وأنه جعل لمن يموتون منهم فى الطفولية مكاناً في المنازل السماوية الأبدية.

لاَ تَمْنَعُوهُمْ أي لا تمنعوا الوالدين بانتهاركم إياهم من تقديم أولادهم إليَّ. ويتضمن ذلك نهي كل الوالدين عن منع أولادهم من المجيء إلى المسيح بسوء قدوتهم أو بسوء تعليمهم أو بإهمالهم تربيتهم الدينية، أو بكل ما يشكك الأولاد في قدرة المسيح على تخليصهم. فالوالدون الذين يقصرون عنايتهم على خير أولادهم الزمني يقودونهم إلى العالم فيمنعونهم من المجيء إلى المسيح.

لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات أي كنيسة المسيح على الأرض وفي السماء. وهذا وفق ما قيل في متّى ١٨: ٣ والمقصود بقوله «مثل هؤلاء» الذين صفاتهم كصفات الأولاد في التواضع والثقة والطاعة والرقة (١كورنثوس ١٤: ٢٠) وخلوصهم من الخطايا التي لصغرهم لم يكونوا عرضة لها ولم يستطيعوها. والأولاد مع هذه الصفات الحسنة محتاجون إلى المسيح الطبيب الروحي، كالمصابين بالأمراض الجسدية ليشفيهم من داء الخطية الكامن فيهم.

١٥ «فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ».

وزاد مرقس على ذلك «فَاحْتَضَنَهُمْ… وَبَارَكَهُمْ» (مرقس ١٠: ١٦) ففعل كما سئل في ع ١٣ (انظر تثنية ٣٤: ٩ وأعمال ٨: ١٧ و١٩: ٦) وليس القصد الأول من هذه الحادثة بيان الحالة التى يصير إليها الأطفال بعد الموت، لكن يمكننا أن نستنتج منها ما يقوي رجاءنا في خلاصهم. فالمسيح لما كان على الأرض أخذ الأولاد على يديه بلطفٍ ومحبة واحتضنهم، فبالأولى أنه يرحب بهم الآن وهو فى السماء بعد أن مات على الصليب وفداهم بدمه.

وإذا قارنا بذلك كل تعاليم الإنجيل في هذا الشأن لم نشكّ البتة بأن في السماء ربواتٍ لا تحصى من الأطفال مفديين مقدسين وممجدين.

وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ أي من مكان فى بيرية إلى مكان آخر فيها.

١٦ «وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ؟».

مرقس ١٠: ١٧ ولوقا ١: ٢٥ و١٨: ١٨ الخ

وَإِذَا وَاحِدٌ هو شاب (ع ٢٠) غني (ع ٢٢) ورئيس أحد المجامع (لوقا ١٨: ١٨) ذو تواضع وغيرة دينية، لأنه أتى إلى يسوع راكضاً وجثا له (مرقس ١٠: ١٧) وذو أدبٍ وصفات محبوبة (مرقس ١٠: ٢١، ٢٢). جاء بغية الحصول على أفضل المواهب، أي الحياة الأبدية من الواهب الوحيد لهذه الموهبة بدليل قوله «أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ» (يوحنا ١٠: ١٠). وكان ذلك الشاب مع كل تلك الصفات محتاجاً إلى ما يجعله أهلاً ليدخل الملكوت السماوي.

أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ هو لقب احترام خاطب به اليهود رجال الدين عندهم.

أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ الأرجح أن ذلك الشاب فريسي غيور فى القيام بكل مطاليب الشريعة على قدر ما فهم منها، فسأل المسيح ذلك ليرى هل مما فعله سابقاً يكفيلتأكيد الحياة الأبدية، أو هل بقي عليه شيءٌ من الواجبات يخبره المسيح به. فكان يعتقد أن الخلاص بالأعمال لأنه لم يسمع قط من معلمي اليهود أن الخلاص بالنعمة أو بالإيمان. ولعل ضميره لم يطمئن كل الاطمئنان مع أنه لم يوبخه على تركه شيئاً من الواجبات المعلومة.

لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ أي لأستحقها بعملي. والحياة هنا خلاصة كل السعادة السماوية السرمدية.

١٧ «فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ. وَلٰكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ فَٱحْفَظِ ٱلْوَصَايَا».

تثنية ٨: ١ وحزقيال ٢٠: ١١ ورومية ١: ٥ وغلاطية ٣: ١٢

لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ (في ترجمة حديثة تقول «لماذا تسألني عن الصالح» لم يرد المسيح نفي الصلاح أو الألوهية عن نفسه، ويحتمل أنه قصد بذلك واحداً من ثلاثة أمور: (١) التوبيخ اللطيف للشاب على الإطراء المعتاد لا على المدح القلبي. و(٢) أنه لم يرد أن يخاطبه كما يخاطب أحد الربانيين. و(٣) الإشارة إلى عدم الاتفاق بين كلام هذا الشاب واعتقاده، فقد لقَّبه بما يختص بالله وحده وهو يعتقد أنه مجرد إنسان. وهذا أهم ما قصده المسيح. وسأله المسيح ذلك ولم ينتظر الجواب بغية أن يتأمل فيه حسناً فيستنتج أن المسيح إله.

فَٱحْفَظِ ٱلْوَصَايَ أمره أولاً بحفظ الشريعة تمهيداً لتعليمه حقَّ الإنجيل وفقاً لقول الرسول «قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ» (غلاطية ٣: ٢٤) وبرهاناً له على أنه خاطئ لم يحفظ الشريعة كما يطلب الله، ولا يستطيع ذلك. ولم يُرِد المسيح أن يعلمه قدرة الإنسان على التبرير بالأعمال، لأنه قال في الوقت نفسه «لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» وبذلك تشهد بقية تعاليم الكتاب (رومية ٢: ٢٠، ٢٨ و٤: ٦ وغلاطية ٢: ١٦ وأفسس ٢: ٩ و٢تيموثاوس ١: ٩). وقول المسيح للشاب «احفظ الوصايا» هو الجواب الوحيد لسؤاله «أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟» لأن خلاصة سؤاله: كيف يخلص الإنسان بالأعمال؟ فلا جواب لذلك إلا الطاعة الكاملة لكل وصايا الله من مولودٍ بلا خطية، أي حفظ الشريعة كلها فكراً وقولاً وفعلاً منذ الولادة إلى نهاية العمر. فلو سأل الشاب المسيح إن كان قد نال أحدٌ من البشر الحياة الأبدية بطاعته لأجابه: كلا!

١٨، ١٩ «١٨ قَالَ لَهُ: أَيَّةَ ٱلْوَصَايَا؟ فَقَالَ يَسُوعُ: لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِٱلزُّورِ. ١٩ أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ».

خروج ٢: ١٣ ولاويين ١٩: ١٨ وتثنية ٥: ١٧ ومتّى ١٥: ٤ و٢٢: ٣٩ ورومية ١٣: ٩ وغلاطية ٥: ١٤ ويعقوب ٢: ٨

أَيَّةَ ٱلْوَصَايَا؟ ظن الشاب أن المسيح أشار إلى آيةٍ غفل هو عنها، أو لعله سمع الجدال الشديد بين الفِرق اليهودية في أية هي الوصية العظمى (متّى ٢٢: ٣٦). وظن أن المسيح أشار إلى وصية بعينها هي أعظم الوصايا.

فَقَالَ يَسُوع لم يذكر المسيح في جوابه إلا ما على اللوح الثاني من الوصايا، وهي واجبات الإنسان لغيره من الناس. وليس لنا أن نستنتج من ذلك أن المسيح يعتبر الواجبات علينا للناس أهم من الواجبات علينا لله. وإنما اختار الجزء الثانى من الوصايا لأنه أسهل لإقناع الشاب بعدم قيامه بكل واجبات الشريعة.

أَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِك هذا خلاصة ما في اللوح الثاني من الوصايا (لاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٢٢: ٣٩). وفي قوله: «أحب قريبك كنفسك» أربعة أمور:

(١) النهي عن إضرار القريب في ذاته أو ماله أو صيته.

(٢) أنه إذا كان للإنسان دعوى بينه وبين قريبه وجب أن يعامل كلٌّ الآخر بالحق والعدل كما يعامل نفسه.

(٣) أن يطلب كل إنسان خير القريب الزمني والروحي، ولا يقتصر على الاعتناء بفائدته الشخصية.

(٤) أن يستعد دائماً لإنكار ذاته إسعاداً لقريبه إذا كان في حاجة إليه، كما يريد أن قريبه يفعل به كذلك.

٢٠ «قَالَ لَهُ ٱلشَّابُّ: هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟».

هذا جواب شخصٍ صادق لا يدَّعي التقوى، وهو جواب عارف لمطالب الشريعة، وقد حفظها حفظاً خارجياً على قدر معرفته بها، فكان أديباً منذ حداثته. فقوله كقول شاول الطرسوسي في نفسه قبل إيمانه بالمسيح «مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ» (فيلبي ٣: ٦).

فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟ هذا دليل على أنه لم يحصل على كمال راحة الضمير، ولم يزل شاعراً باحتياجه إلى شيء لم يعمله بعد، وأنه رغب في أن يستفهم من هذا المعلم الجديد المشهور عن وصية لم يعلّمها غيره من الربانيين قبله، وأنه ظن نفسه مستعداً لطاعة تلك الوصية إن أخبره بها.

وكانت تعوزه أشياء كثيرة لم يخبره المسيح سوى بواحدٍ منها. وما أعوزه معرفة نفسه والقلب الجديد والإيمان بالمسيح وروح إنكار الذات في سبيل الله ونفع الناس. وزاد مرقس على ذلك قوله «فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ» (مرقس ١٠: ٢١). وعلة تلك المحبة ليست شيئاً من أقوال ذلك الشاب أو أعماله، لكنه أحبه محبة الشفقة والرغبة في خلاص نفسه. وكان هو حسن الآداب يجذب إليه محبة الآخرين خلافاً لسائر الفريسيين المرائين. وهذه المحبة ذُكر أمثالها كثيراً في العهد الجديد (انظر يوحنا ٣: ١٦ وغلاطية ٢: ٢٠ وأفسس ٢: ٤ و١يوحنا ٤: ١٠، ١٩).

ونرى من ذلك أنه يمكن الإنسان أن يكون أديباً محبوباً حسن الصفات راغباً في الخلاص باحثاً عنه مستعداً لعمل كثير من الواجبات لأجله، ومع ذلك لا يحصل على النجاة الأبدية.

٢١ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَٱذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي».

متّى ٦: ٢٠ ولوقا ١٢: ٣٣ و١٦: ٩ وأعمال ٢: ٤٥ و٤: ٣٤، ٣٥ و١تيموثاوس ٦: ١٨، ١٩

أَنْ تَكُونَ كَامِلاً أي في الطاعة للشريعة. قال الشاب «هذه كلها حفظتها» فلم يسلم المسيح بذلك، بل أتاه بما يُظهر نقصه، وأفاده بطريق نوال الكمال، وهو المحبة التي هي كمال الناموس. ومطلوب ذلك الناموس أن يُحب الله فوق كل شيء، وأن يُحبَّ القريب كالنفس. فإن كان ذلك الشاب قد أطاع الناموس كمال الطاعة، يكون مستعداً أن يسلم ماله طاعة لأمر الله ونفعاً لقريبه، فأمره بما امتحنه به ليريه أي الأمرين أحب إليه: ماله وذاته، أم الله وقريبه؟

بِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ أمر المسيح الشاب بشيئين:

(١) ما ذكره هنا، و

(٢) قوله «اتبعني». فكأنه قال له اتخذت مالك إلهاً لك وأحببت الدنيويات واتكلت عليها فاتركها طاعةً لله. عرف المسيح نقطة ضعف ذلك الشاب وشخَّص حالته كطبيب ماهر. فلو كان إلهه حب العلم الدنيوي أو اللذات أو الرئاسة لأمره المسيح بتركها، ونبَّه ضميره بذلك كما نبه ضمير المرأة السامرية بقوله لها: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ» (يوحنا ٤: ١٦). وذلك، لا ليخلِّص نفسه بتوزيع ماله على الفقراء، بل ليظهر له هل أحب الرب من كل قلبه أو لا. وليس ما أمره به هو الشيء الذي يعوزه، بل الوسيلة التي يتوصل بها إلى معرفة نقصان طاعته لأوامر الله.

وفي ما ذكر أربع فوائد:

(١) أنه لا دليل على أن اقتناء المال إثم، فالإثم هو المحبة الزائدة للمال «لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ» (١تيموثاوس ٦: ١٠).

(٢) لا دليل فيه على أن توزيع المال على الفقراء ونذر الفقر الاختياري فضيلة في عيني الله، وأنه ضروري لطالبي السماء، لأن كثيرين تبعوا المسيح ولم يأمرهم بما أمر ذلك الشاب به، ومنهم زكا الذي كان غنياً (لوقا ١٩: ٨) وإبراهيم كان غنياً جداً ولم يؤمر بذلك مع أنه كان خليل الله. فإن أعطى الإنسان الفقراء كل ماله من دون أن يعطي الله قلبه لم ينتفع شيئاً.

(٣) يجب على كل مسيحي أن يكون مستعداً دائماً لطاعة أمر الرب بتركه وظيفته (متّى ٩: ١٩) وماله (متّى ١٨: ١٩ و٢٠: ٢٢) وأصحابه (تكوين ١٠: ٢٧) بل حياته أيضاً (متّى ١٠: ٣٩).

(٤) خطية واحدة قد تمنع الإنسان من دخول السماء وهو غافل عنها، فإن محبة المال وحدها منعت ذلك الشاب من الحياة الأبدية. فإذاً يجب على كل إنسان أن يحذر منَ «الْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ» (عبرانيين ١٢: ١) وأن يصلي كما صلى داود «اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (مزمور ١٣٩: ٢٣، ٢٤ «ومِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي» (مزمور ١٩: ١٢).

فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ في هذا الوعد امتحان لإيمانه، لأنه وعده بكنز غير منظور بدل المال المنظور. وحقق له المسيح بهذا أنه لا يصير بعد توزيع أمواله على الفقراء بائساً، بل أنه يملك كنزاً حقيقياً في السماء، وهو نصيب كل مسيحي حقيقي (متّى ٥: ١٢ و٦: ٢٠ ويوحنا ٦: ٢٧ و١بطرس ١: ٤). ولم يبين المسيح لذلك الشاب أنه يشتري السماء بماله، بل حقق له أنه إن ترك ماله وصار مسيحياً ملك ذلك الكنز. نعم إنه ليس ضرورياً أن يوزع الإنسان كل أمواله في سبيل فعل الخير، ولكن نعجب من كثيرين يدَّعون أنهم مسيحيون ولا يبذلون شيئاً من أموالهم في سبيل بشرى الخلاص في بلادهم أو في البلاد الوثنية، ومع ذلك يتوقعون دخول ملكوت السماء ونوال الخلاص.

وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي هذا هو الشرط الثاني والأهم، وكان الشرط الأول تمهيداً له. وقوله: «اتبعني» كقوله «كن من جملة تلاميذي» (متّى ١٠: ٣٨ ومرقس ٤: ٢٠). فترك المال بلا التمسك بالمسيح لا ينفع شيئاً. فذلك الشاب بإتباعه المسيح يتعلم كل ما يتعلق بالدين الحق من الإيمان والتوبة والمحبة والسيرة المقدسة النافعة والطاعة لكل أوامر الإنجيل.

وهذا الشرط لا بد من أن يقوم به كل من يتوقع الخلاص. وليس المقصود من اتباع المسيح السير وراءه حقيقة، لأن ذلك مستحيل. إنما المقصود به سماع تعاليمه والاتكال عليه وطاعة أوامره والاقتداء به والعمل في كرمه والإقرار بدينه وإنكار الذات لأجله.

٢٢ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلشَّابُّ ٱلْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ».

«وُزن» هذا الشاب «بالموازين فوجد ناقصاً» (دانيال ٥: ٢٧) فاشتاق إلى الحياة الأبدية بعض الاشتياق، ولكنه أحب ماله أكثر منها، فلم يحتمل ما امتحنه المسيح به. فلم يكن كإبراهيم إذ امتحنه الله واحتمل (تكوين ٢٢: ١ – ١٢). شيءٌ واحدٌ أعوزه، فأعوزه الكل! لقد حكم على نفسه بعدم أهليته للدخول إلى الحياة الأبدية. عُرضت عليه «اللؤلؤة الكثيرة الثمن» (متّى ١٣: ٤٦) فلم يشترها.

مَضَى حَزِينا لأنه سُئل ما لم يرد أن يعطيه، ولأنه لم يمكنه أن يبقى له ماله وينال الحياة الأبدية، أي أنه لم يستطع أن يعبد ربين: الله والمال. وقد تبرهن أن طاعته للناموس ناقصة، فحزن لأن ضميره أمره بوجوب طاعة المسيح، ووبخه على عدم الامتثال. فهو لم ينطق بكلمة، لأن جواب المسيح أفحمه فأحزنه فصرفه. ورأى المسيح انطلاقه فلم يعترضه ولم يدعُه إلى الرجوع بتخفيف الشرط الأول، كأن يكتفي بتوزيع بعض ماله ويبقي لنفسه الآخر. والشرط لا يزال باقياً وإلا فلا يقبل. فمن اقتدى بحنانيا وسفيرة في أمر حقلهما وأبقى بعض الثمن خسر نفسه. وهذا آخر عهدنا بذلك الشاب. نعم إن المسيح أحبه لكن لم يرد أن يخلصه بدون أن يختار لنفسه النصيب الصالح. وعلى كل إنسان أن يختار لنفسه، إما الحياة الأبدية أو الموت (تثنية ٣٠: ١٩ ويشوع ٢٤: ١٥ و١ملوك ١٨: ٢١).

أَمْوَالٍ كَثِيرَة كانت هذه الأموال شركاً له لأنه رأى بها لذة الحياة والقوة واعتبار الناس له، فتعلق قلبه بها أكثر من تعلقه بالله، فعظُم عليه أن يتركها إرضاءً له. فلو كان إيمانه كإيمان موسى لما كبر لرفض أن يُدعى ابن ابنة فرعون، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه «كان ينظر إلى المجازاة» (عبرانيين ١١: ٢٤، ٢٦). قال الرسول: «الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ» (كولوسي ٣: ٥) فعلينا جميعاً أن نسمع النصيحة: «أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَامِ» (١يوحنا ٥: ٢١).

٢٣ «فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ».

متّى ١٣: ٢٢ ومرقس ١٠: ٢٤ الخ و١كورنثوس ١: ٢٦ و١تيموثاوس ٦: ٩، ١٠

ٱلْحَقَّ أَقُولُ قال ذلك تقريراً لما كان عازماً أن يقوله على خطر الغِنى، وتوجيهاً لأفكارهم إليه. وهذا تعليقه للحاضرين على ما كان من أمر الشاب، فاتخذه مثالاً ليبين أنه «يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَات».

يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ أي مثل ذلك الشاب، لأن تجاربه كثيرة لما في الغِنى من أسباب الراحة واللذة والكبرياء والجاه والقوة ونسيان الله. وفوق ذلك أن للمال قوة غريبة على جذب القلوب إليه. ولذلك كان الغنى شركاً يعسر على الإنسان أن يتخلص منه. ومعظم الأغنياء لا يشعرون باحتياجهم إلى الغنى الروحي لاكتفائهم بالغنى الجسدي. وما عُلم من تاريخ العالم يشهد بصحة قول المسيح إن قليلين من الأغنياء يتقون الله. نعم إن إبراهيم كان غنياً تقياً، وكذلك داود وحزقيا ويوشيا ويوسف الرامي. ولكن هؤلاء قليلون جداً بالنسبة إلى أغنياء عصورهم. ولنا من قول المسيح إن الغِنى خطر على أربابه يجذب قلوبهم إلى الاتكال عليه، ومع ذلك نرى كل إنسان يشتهي المال ويبذل الجهد في جمعه مع اعترافه بأنه يضر كل من يقتنيه من الناس، وينسى أن نفسه من ذلك الكل. وكثيراً ما كان نجاح الإنسان في حشد الأموال في الدنيا هلاكاً له في الآخرة، لأنه «هكَذَا طُرُقُ كُلِّ مُولَعٍ بِكَسْبٍ. يَأْخُذُ نَفْسَ مُقْتَنِيهِ» و «رَاحَةَ الْجُهَّالِ تُبِيدُهُمْ» (أمثال ١: ١٩، ٣٢). (انظر أيضاً لوقا ١٢: ١٥ – ٢١ و١٦: ١٩ – ٢٥ و١تيموثاوس ٦: ٩، ١٠ و١٧ – ١٩). وللفقراء هذه التعزية، وهي أنهم ليسوا عرضة لهلاك النفوس كالأغنياء. نعم إن فقرهم لا يخلّصهم، لكنه يقيهم تجارب الإثم التي تصيب الاغنياء. فيجب أن نصلي من أجل الأغنياء بدلاً من أن نحسدهم.

إِلَى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي يعسر أن تكون للغني الصفات التي تؤهله لدخول ملكوت النعمة على الأرض وملكوت المجد في السماء.

٢٤ «وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰه».

هذا كلام جارٍ مجرى المثل عند اليهود، يُضرب للأمر المستحيل وللنادر أو البعيد الوقوع. فالجمل من أكبر الحيوانات المألوفة في اليهودية. وثقب الإبرة أصغر الثقوب. وحسب بعضهم أن المسيح أراد بثقب الإبرة الخادعة (أي الباب الصغير) في الرتاج (أي الباب الكبير) الذي فيه تلك الخادعة. وهذه يعسر على الجمل الدخول منها. ولكن لا دليل على أنهم كانوا يسمون الخادعة بثقب الإبرة ولا أن المسيح أراد ذلك.

وما قصده المسيح أنه يستحيل أن يتجدد الغني المتكل على غناه ويخلص بدون النعمة الإلهية. ويقوي هذا التفسير ما نقله مرقس عن المسيح في ذلك وهو قوله «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!» (مرقس ١٠: ٢٤). فالمال لا يُهلك النفس، بل الاتكال عليه. فإن كان للإنسان قليل منه وأحبه كثيراً أهلكه. وإن لم يكن له شيءٌ منه واشتهاه أكثر من كل البركات هلك. وإن كان له مال وافرٌ وأحب الله أكثر منه وأنفقه في سبيل الله والإحسان لم يلحقه ضرر منه.

٢٥ «فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟».

كان سبب تعجبهم مخالفة كلام المسيح لكل ما اعتقدوه من قيمة الغِنى. فلم تزل أفكارهم في ملكوت المسيح زمنية جسدية، فكانوا يحسبون الغنى من أمجاد ذلك الملكوت، فتحيروا وارتابوا من قول المسيح أنه يعسر على الأغنياء أن يدخلوا ذلك الملكوت. وقد وجدوا أنهم يحبون المال ويرغبون في الحصول عليه. فلهذا وقعوا تحت ذلك الحكم.

٢٦ «فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: هٰذَا عِنْدَ ٱلنَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلٰكِنْ عِنْدَ ٱللّٰهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ».

تكوين ٨: ١٤ وأيوب ٤: ٢ وإرميا ٣٢: ١٧ وزكريا ٨: ٦ ولوقا ١: ٣٧ و١٨: ٢٧ الخ

فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ نظر إليهم ليقوي تأثير كلامه فيهم، كما فعل غير مرة (مرقس ٣: ٣٤ و٨: ٣٣ ولوقا ٢٢: ١٦).

هٰذَا عِنْدَ ٱلنَّاسِ أي خلاص الغني. لأنه لا يمكن لحكمة البشر أو قوتهم أن تخترع طريقاً يتغير بها ميل الإنسان الطبيعي إلى حب المال، ولا يستطيع أحد تعلَّق في شرك حب المال أن يفلت منه من تلقاء نفسه.

عِنْدَ ٱللّٰهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاع المعنى أنه يمكن الغني بنعمة الله أن يخلص، وذلك وفق قول الرسول «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في ٤: ١٣). فلم يُرد المسيح أن الله يستطيع أن يخلص الغني الذي يحب المال ويعبده، إنما أراد أن الله قادر بفعل روحه أن يغير قلب الغني حتى يستطيع أن يترك ماله ويتبع المسيح كما أمر الشاب، وشهد بذلك الواقع فإن الله أعطى بعض الأغنياء نعمة فحسبوا أموالهم لله وأنفسهم وكلاء المسيح، وأنفقوا تلك الأموال في سبيل البشرى الخلاصية في أوطانهم وفي الخارج، فصاروا وسائط خير جزيلة في الأرض، وأمثلة لقوة تلك النعمة التي جعلت شاول المضطهد أن يغدو بولس المبشر.

٢٧ «فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟».

تثنية ٣٣: ٩ ومتّى ٤: ٢٠ ومرقس ١٠: ٢٨ ولوقا ٥: ١١

فَأَجَابَ بُطْرُسُ انصرف الشاب عندما أمره المسيح أن يترك كل شيء ويتبعه، وهذا جعل بطرس يذكر أنه ترك السفينة والشبكة عند بحر الجليل عندما دعاه المسيح ليتبعه، وكذلك فعل أخوه، ورفيقاه ابنا زبدي، وترك متّى وظيفته ورفقاءه. فتساءل بطرس: تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا بعد تلك الخسارة؟ فلم يخلُ كلامه من إظهار البر الذاتي. وكان الأولى أن يترك المستقبل لعناية المسيح ومحبته بدون سؤال.

تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ ترك الرسل قليلاً، لكنه كان كل ما يمتلكون. فقد فعلوا ما أمر المسيح به ذلك الشاب الغني.. وهذا ما يفعله كثيرون من الوثنيين فيخسرون كثيراً ولا يربحون شيئاً. ولكن ترك كل شيء مع اتباع المسيح هو الطريق الوحيد إلى نيل السعادة الأبدية.

فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟ أكد المسيح لهم أنه لا يكون له ملكوت أرضي لأنه قرُب أن يموت، فلم يبقَ لهم أن يرجوا المناصب في ذلك الملكوت. وأخبرهم هنا أن الغِنى خطر للنفس وحذرهم منه، فماذا بقي لهم؟ وما هو الكنز الذي وُعد به الشاب بقوله «فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ» (ع ٢١) فهل بقي لهم نصيب في ذلك الكنز؟!.

٢٨ «قَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي ٱلتَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ».

إشعياء ٦٥: ١٧ و٢٦: ٢٢ وأعمال ٣: ٢١ و٢بطرس ٣: ١٣ ورؤيا ٢١: ٥ ومتّى ٢٠: ٢١ ولوقا ٢٢: ٢٨ الخ و١كورنثوس ٦: ٢ ورؤيا ٢: ٢٦

أجاب المسيح بطرس بالرفق والرحمة، ولم يوبخه على قلة إيمانه بذلك السؤال، وأعلن له الميراث المحفوظ للذين تركوا كل شيء لأجله.

أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي أي في احتمال العار والتواضع.

فِي ٱلتَّجْدِيد أي عند زوال اتضاع ابن الإنسان وعند نواله مجده. وهذا مثل قوله «متّى جاء ابن الإنسان في مجده» (متّى ٢٥: ٣١). ومثل قول بطرس «الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ» (أعمال ٣: ٢١) (انظر إشعياء ٦٥: ١٧ و٦٦: ٢٢) وذلك التجديد يكون يوم قيامة الموتى كقول الجالس على العرش «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا!» (رؤيا ٢١: ٥) وقول رسوله «وَلكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً، وَأَرْضًا جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ» (٢بطرس ٣: ١٣) (انظر رومية ٨: ١٨ – ٢٥). وخلاصة قول المسيح في شأن إثابة رسله ثلاث قضايا: (١) أن ليس لهم شيء من الثواب في هذه الدنيا. وذلك خلاف ما توقعوا. فما كان أمامهم بدل الوظائف والرتب العالية والمجد سوى الإهانة والخسارة والآلام والموت. و(٢) إن الإثابة كلها تكون في المستقبل عندما يجدد ابن الإنسان كل شيء. و(٣) أن التجديد يتضمن تمجيد ابن الإنسان ومشاركة شعبه في مجده.

مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يكون مجيء المسيح ثانية بمجد عالٍ قدر ما كان مجيئه الأول بتواضع. فيجلس على كرسي المجد في المجيء الثاني ملكاً غالباً دياناً، بدل مذود البقر الذي وُلد فيه في المجيء الأول.

تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً أراد المسيح بقوله: «أنتم» الرسل باعتبار أنهم جماعة لا كل فرد منهم، لأن يهوذا الاسخريوطي سقط، وأقيم متياس بدلاً منه. وفي هذا القول وعد للاثني عشر رسولاً بشرف خاص عند تمجيد المسيح. وهذا يشير إلى الارتقاء إلى رتبة ثانية من رتب الشرف والأمانة والأثابة العظمى والمكافأة. والأرجح أننا لا ندرك كل مضمون هذا الوعد لأنه صعب على الإدراك كسائر النبوات قبل إتمامها.

لقد عرف المسيح أن الرسل لا يمكنهم إدراك الأمور السماوية إلا بما اعتادوه من الأمور الأرضية، ولذلك شرح لهم مقصوده بالتشبيه، فشخص لهم بكلامه ملكاً عظيماً جالساً على كرسيه يحيط به أعيان بلاطه من مشيرين وقضاة وغيرهم. ولعله بنى كلامه على ما جاء في (دانيال ٧: ٤، ٢٧) عندما تنبأ بملكوت المسيح. وورد مثل ذلك في قول يوحنا الرسول «وَرَأَيْتُ عُرُوشًا فَجَلَسُوا عَلَيْهَا، وَأُعْطُوا حُكْمًا» (رؤيا ٢٠: ٤).

تَدِينُون لا شك أن المسيح هو الديان المعين من الله (يوحنا ٥: ٢٢) وأنه ليس غيره أهلاً لذلك، لأنه يقتضي معرفة كل شيء حتى خفايا القلوب، فنسبة القضاء إلى رسله تحتمل ثلاثة معانٍ: (١) أنهم يتشرفون بتلقيبه إياهم أنهم قضاة. وكان القضاة بمنزلة الملوك قبل زمان شاول. و(٢) أنهم يتشرفون بجلوسهم قرب الديان على كراسي القضاء، كأنهم شركاؤه في المجد. و(٣) أنهم يشهدون بعدل الديان عند تصريحه بالقضاء كما شهد الملاك بقوله «عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا» (رؤيا ١٦: ٥).

أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ معنى ذلك في العهد القديم اليهود، شعب الله الخاص. ومعناه في العهد الجديد غالباً كل المؤمنين لأنهم أولاد إبراهيم المؤمن. فما وعد المسيح رسله به هنا من مشاركتهم في المجد والقضاء وعد الله به جميع المؤمنين (دانيال ٧: ٢٢ ورومية ٨: ١٧ و١كورنثوس ٦: ١، ٣ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ ويهوذا ١٤، ١٥). وفي هذا الكلام ما يدل على درجات المجد والسلطة للمؤمنين في السماء. ويفيد ذلك ما قاله المسيح في أحد أمثاله من أنه أثاب أحد وكلائه بأن سلَّطه على عشر مدن، وأثاب آخر بأن سلطه على خمس. ومثله قول الرسول في المؤمنين على سبيل المجاز «لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ» (١كورنثوس ١٥: ٤١).

٢٩ «وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ».

مرقس ١٠: ٢٩ الخ، ولوقا ١٨: ٢٩ الخ

وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ أخبر المسيح الرسل هنا بأن الشرف الذي وعدهم به ليس مختصاً بهم، فيكون لغيرهم ممن ماثلوهم بأن أنكروا ذواتهم من أجل اسمه. وفي ذلك توبيخ لطيف للرسل على ما أظهروه من إمارات الافتخار بما قالوه وسألوه في العدد السابق.

بُيُوتاً… أَوْ حُقُولاً الأمور المذكورة هنا تركها أصعب على الإنسان من ترك كل ما سواها، لأنها تشتمل على كل لذات العالم وشرفه ومناصبه ومن فيه من الرفقاء والأصدقاء. وهذه كلها يجب على المسيحي أن يتركها إذا منعته من اتباع المسيح. ولا يقتضي كلام المسيح وجوب أن يترك المؤمن به الأمور المذكورة في كل زمن بل يقتضي ذلك أيام الاضطهاد الشديد. واختبر مثل ذلك ألوف وربوات المسيحيين. ولم يقتصر وعده بالإثابة على الذين تركوا تلك الأمور زمن الاضطهاد، بل وعده لغيرهم من المؤمنين الذين يكونون مستعدين في أيام الأمن والراحة أن يتركوا كل مالهم لأجل اسم المسيح، إذا اقتضت الحال ذلك. والتبشير اليوم باسم المسيح في بعض البلاد الوثنية يقتضي على المبشر أن يترك الأصحاب والبيوت والأموال، وذلك ليس أقل من ترك ما ذُكر هنا.

يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وهنا الكلام مجاز أيضاً يقصد به التكثير، وفي الوقت ذاته يؤكط المسيح السعادة لأتباعه الحقيقيين، فهم يُثابون بقدر وافر من الخيرات. وأشار المسيح هنا بالأكثر إلى ثواب المسيحي في الدنيا. وليس مقصود المسيح من هذا الكلام ما دل عليه بحروفه من أن كل من ترك أخاً يعوض عنه بمئة أخ إلى آخر ما هنالك، بل إن المسيح يجازي المؤمنين عما خسروه بما يزيد سعادتهم مئة ضعف ومن ذلك حصولهم على:

(١) الابتهاج الروحي.

(٢) راحة الضمير

(٣) التعزية في الضيق.

(٤) تيقنهم محبة الله لهم.

(٥) الفرح بالروح القدس

(٦) الثقة بغفران خطاياهم.

(٧) سكن المسيح في قلوبهم.

(٨) حصولهم على زيادة الأصدقاء الأعزاء.

(٩) إزالة الخوف من الموت.

وهذه كلها متضمنة في قول الرسول «أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا، أَمِ الْعَالَمُ، أَمِ الْحَيَاةُ، أَمِ الْمَوْتُ، أَمِ الأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ، أَمِ الْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ» (١كورنثوس ٣: ٢١، ٢٢). وبقي في هذا الوعد فوق البركات الروحية (وهي الأكثر) كثيرٌ من البركات الزمنية. فلا ريب في أنه لا يدخل الدين المسيحي مكاناً إلا نفع أهله، فإنه به زاد نجاح الأعمال والأمن على المال وعلى الحرية الشخصية وعلى الحياة. وهو يجعل السلام والألفة بين الناس من أمم وأقاليم مختلفة، ويُديم الصداقة بين الأصحاب، ويجعل الإنسان يعد الخيرات الزمنية علامة رضى الله وعربون الخيرات الزمنية وبذلك تزيد لذته به. ونتيجة كل ذلك أن الدين المسيحي وإن كلف الإنسان بذل كثير من الخيرات الدنيوية، يعوِّضه منه بما يزيد عليه، فلا ينفق شيئاً في سبيل المسيح والإنجيل إلا والله يجزيه ربحاً أكثر منه.

وَيَرِثُ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّة كل البركات التي ينالها المسيحي من روحية وزمنية عربون السعادة الآتية ورمز إليها و «ظل الخيرات العتيدة». فالخيرات التي يحصل عليها هنا ناقصة ممزوجة بشيء من البلايا وزائلة، والتي يحصل عليها هناك تامة خالصة من كل بلية، باقية إلى الأبد. وهذه العبارة الوجيزة وهي قوله «يرث الحياة الأبدية» تتضمن كل أفراح الآخرة.

٣٠ «وَلٰكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».

متّى ٢: ١٦ و٢١: ٣١ الخ ومرقس ١٠: ٣١ ولوقا ١٣: ٣٠

هذا كلام جارٍ مجرى المثل استعمله المسيح مراراً، ليبين تغيير الأحوال. فعلى الإنسان أن لا يحكم بأمور المستقبل بما شاهده من أمور الحال. وهذا نتيجة ما كان من أمر الشاب الغني. وفي ذلك إنذار لجميع التلاميذ ولا سيما من كان منهم في خطر السقوط كيهوذا الاسخريوطي، ولجميع المرائين وجميع المتكلين على برهم الذاتي كذلك الشاب إذ قال «هذه كلها حفظتها منذ حداثتي».

والأولون الذين يكونون آخرين خمسة أقسام:

(١) الذين هم أولون في عيون أنفسهم فيكونون آخرين في عيني الله.

(٢) الأولون باعتبار الناس فيكونون آخرين باعتبار الله. وأمثلة الاثنين الفريسيون بالنسبة إلى العشارين والخطاة، فإنهم كانوا أولين في عيون أنفسهم، واعتبرهم الناس كذلك. لكنهم كانوا آخِرين عند الله، وسبقهم العشارون والخطاة إلى ملكوت السماوات. ويحتمل أن يكون مثل ذلك في الكنيسة المسيحية.

(٣) الأولون باعتبار زمن دعوة لهم، فيصيرون آخِرين في قبولها، كاليهود. فإن الله دعاهم قبل كل الأمم فسبقتهم الأمم إلى ملكوت السماوات.

(٤) الأولون في وسائط النعم فيصيرون آخرين في نوال فوائدها، كالناصرة حيث تربى المسيح. وكفرناحوم حيث صنع أكثر آياته. وهاتان لم تستفيدا من هذا الأكثر كما استفادت السامرة من الأقل، لأنها قبلت المسيح بالفرح. وكيهوذا الاسخريوطي فإنه نال أكثر الوسائط بالنسبة إلى أحد اللصين اللذين صُلبا مع المسيح.

(٥) الأولون في المقام والرتبة والغنى في هذا العالم يصيرون آخرين في العالم الآتي بالنسبة إلى لعازر وأمثاله. وأكثر ما يصير الأولون آخرين في يوم الدين.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى