إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 18 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح الثامن عشر

١ «فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ؟».

مرقس ٩: ٣٣ الخ ولوقا ٩: ٤٦ الخ و٢٢: ٢٤

فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي قرب زمن المعجزة في كفرناحوم.

تَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ… قَائِلِينَ نستفيد مما قال مرقس أن سؤالهم هنا نتيجة سؤاله إياهم عن موضوع مشاجرتهم في الطريق (مرقس ٩: ٣٣). ويُحتمل أن الذين تجادلوا ليسوا الذين سألوه هنا، وأن هؤلاء المتجادلين سكتوا خجلاً، فرفع الآخرون المسألة إلى المسيح.

مَنْ هُوَ أَعْظَمُ الخ جهل الرسل حقيقة ملكوت المسيح فظنوه أرضياً لا سماوياً، وسياسياً لا روحياً، وتوهموا أنه عند يملك يفعل كسائر الملوك في تعيين موظفين مختلفين ليدبروا أمور المملكة، وأنه لا بد من أن يكونوا هم أولئك الموظفين. فعلة جدالهم في الطريق وسؤالهم المسيح هنا أن يتحققوا من منهم يأخذ الوظيفة الأولى بعد المسيح! ولعل قول المسيح (في متّى ١٦: ٢٨) حملهم على أن يتوقعوا إظهار ملكوته في الحال. وبقي جدالهم في من هو الأفضل إلى قرب موت المسيح (متّى ٢٠: ٢٠ ولوقا ٢٢: ٢٤). ويرينا ذلك أن أفضل الناس لا يخلو من نقصٍ إذ جميعنا خطاة ويعوزنا مجد الله.

٢ «فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ».

أراد المسيح أن يبين لهم أن شرائع ملكوته لا تسمح بما يظهر فيه حب الرئاسة والكبرياء، فدعا ولداً من اللاعبين حوله وأقامه في وسطهم ليبين لتلاميذه (بواسطة صفات الأولاد المتجانسة مع روح المسيح) ماذا يجب أن تكون الصفات الضرورية للمسيحي الحقيقي.

٣ «وَقَالَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».

مزمور ١٣١: ٢ ومتّى ١٩: ١٤ ومرقس ١٠: ١٤ ولوقا ١٨: ١٦ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢

تَرْجِعُوا أي تتغيروا حتى لا يبقى فيكم شيءٌ من حب الرئاسة وحب الذات والكبرياء. والكلمة اليونانية المترجمة «ترجعوا» تشير إلى الاستمرار على إصلاح السيرة. إنه هين على الإنسان أن ينتقل من طائفة إلى أخرى، ولكن التغير المشار إليه هنا، وهو الرجوع عن الكبرياء إلى التواضع، وعن الاهتمام بأمور هذا العالم إلى الاهتمام «مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ الل» (كولوسي ٣: ١) صعبٌ.

مِثْلَ ٱلأَوْلاَد لا في الجهالة (١كورنثوس ٤: ٢٠) ولا في التقلب (أفسس ٤: ١٤) بل (١) في التواضع خاصة (ع ٤) و(٢) الثقة بكلام أبيهم، والاقتناع بما قسم لهم والاتكال على عنايته (متّى ٦: ٣١) و(٣) الطاعة لأمر الآب (١بطرس ١: ١٤) وفي حُب التعليم منه (١بطرس ٢: ٢) و(٤) الصدق والخلوص (١كورنثوس ١٤: ٢٠).

فَلَنْ تَدْخُلُوا لم يكن هذا جواباً لسؤالهم عمن هو الأعظم في ملكوت السماوات بل بيان الشرط الذي لا يمكن دخول ذلك الملكوت بدون القيام به مطلقاً. فغاية هذا الجواب استئصال كل أفكار الافتخار والسلطة ومحبة الذات وكل أمل بذلك من قلوب تلاميذه. لو قصد المسيح أن يجعل بطرس رئيس الرسل وخليفته لاغتنم هذه الفرصة ليعلن هذا، بل إن الذي قاله ينافي أنه أراد أن يجعل أحداً من الرسل رئيساً للآخرين. وأجابهم المسيح بغير ما يقتضي سؤالهم، تنبيهاً على أن هذا هو الأولى أن يسألوا عنه، لأنهم سألوه عمن هو الأعظم في ملكوت السماوات، فأجابهم عن شرط الدخول إلى ذلك الملكوت لأنه هو الأهم. وأبان لهم في جوابه أن الصفات التي أظهروها في سؤالهم إن داموا عليها منعتهم من دخول ملكوته السماوي.

٤ «فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هٰذَا ٱلْوَلَدِ فَهُوَ ٱلأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ».

فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَه في هذه العبارة جواب المسيح لسؤال الرسل وهو أن الأعظم في ملكوت السماء هو من كان أكثر تواضعاً.

هٰذَا ٱلْوَلَدِ أقام المسيح الولد في وسطهم ليكون مثلاً للتواضع، خاصة لأن معظم اختلاف الأولاد الصغار عن البالغين هو في التواضع، لأن الكبرياء لا تكون قد نمت في قلوبهم. ومثال المسيح نفسه أفضل شرح لمعنى كلامه هنا لأنه «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي ٢: ٦ – ٨) ولما أظهره من التواضع في غسل أرجل تلاميذه (يوحنا ١٣: ٣، ٥، ١٢ – ١٥).

ٱلأَعْظَم الخ لم ينل هذا المقام الأعلم أو الأغنى أو الأقدر بل الأكثر تواضعاً، فإنه ينال المقام الأول في السعادة والمجد. فتواضع المؤمنين فضيلة يعتبرها أفضل اعتبار. وظهر هذا مما قيل في ١كورنثوس ١٥: ٣٩ – ٤١ إن به يمتاز بعض القديسين عن البعض في المجد.

٥ «وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هٰذَا بِٱسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي».

متّى ١٠: ٤٢ ويوحنا ١٣: ٢٠ وغلاطية ٤: ١٤

غاية ما أورده في هذا العدد وما يليه هو دفع ما يمكن أن يدخل أذهان تلاميذه من الظن أنه إذا كانوا كالأولاد الصغار في اتضاعهم لا يقبلهم أحدٌ، ويكونون عرضة للإهانة والظلم.

وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هٰذَا أي أحد أولاد الله الروحيين. وهذا وفق قوله «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي» (متّى ١٠: ٤٠) وقوله: «بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى ٢٥: ٤٠) فهذا الوعد لم يقتصر على أناس من أمة واحدة في زمن واحد، فهو مطلق عام. فمن عادة الناس الافتخار بعظمة من يزورهم من الأغنياء وأرباب المناصب والترحيب بهم، ولكن من قبل مسيحياً باسم المسيح حُسب أنه قبل ملك الملوك.

بِٱسْمِي أي من أجلي، بدليل علاقته بي وأنه تلميذ لي. فليس المقصود من يقبل الضيوف ليشتهر بالكرم، أو لمجرد الشفقة عليهم.

يقَبِلَنِي: أي كل لطف يوجَّه إلى أحد تلاميذ المسيح لأجله يُحسب أنه وُجه للمسيح نفسه، فيجازيه باعتبار ذلك. فأعلن بما ذكر اعتباره لتلاميذه وعنايته الخاصة بهم.

٦ «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ ٱلرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ ٱلْبَحْرِ».

مرقس ٩: ٤٢ الخ ولوقا ١٧: ١، ٢ ورومية ١٤: ١٣ الخ و١٥: ١ – ٣ و١كورنثوس ٨: ٩ الخ و١: ٣٢، ٣٣ و٢تيموثاوس ١: ٦) الخ

أَعْثَرَ أي جعله يخطئ (متّى ٥: ٢٩).

هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ أي تلاميذي المتواضعين، أو أولادي الروحيين البسطاء الذين يظهرون أنهم عرضة لجور الناس واعتدائهم. وفي هذا العدد طمأنينة لأولاد الله من ذلك الخطر، لأن فيه تأكيداً لهم أن الله يحرسهم ويدافع عنهم.

ٱلْمُؤْمِنِينَ بِي أي الذين يعترفون بأني المسيح ويتخذونني مخلصاً لهم. وقوله «المؤمنين بي» هو وصف صادق للمسيحي الحقيقي من جهة الإيمان. نعم إن المسيحي يصدق الأنبياء والرسل والقديسين والملائكة، ولكنه يؤمن بالمسيح.

خَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِه أي أفضل له أن يموت قتلاً من أن يكون علة سقوط غيره في الخطية وهاوية الهلاك الأبدي، كما أن الموت الزمني أفضل من الموت الأبدي، وكذلك الطرح في بحيرة الماء خيرٌ من الطرح في بحيرة النار والكبريت (رؤيا ١٩: ٢٠).

حَجَرُ ٱلرَّحَى أي حجر الطاحون الكبير. فربط ذلك الحجر بعنق إنسانٍ مطروح في البحر يؤكد موته غرقاً.

لُجَّةِ ٱلْبَحْرِ أو في عرض البحر أو أعماقه، أي بعيداً عن البر حيث البحر عميق. فهذا النوع من القصاص (أي الإغراق في البحر) اعتاده المصريون واليونانيون والرومان، ويستعار لعقاب لا نجاة منه. فالمراد هنا أن موتاً مؤكداً كهذا أفضل من نتيجة إغواء أحد تلاميذ المسيح البسطاء الضعفاء الذين أعلن المسيح هنا أنه المحامي عنهم، وأنه لا يمكن أن يتعرض أحدٌ لهم بشرٍ دون أن يعاقب. ونستنتج من هنا أن أقل إغواء يمكن اعتباره من أفظع الآثام.

٧ «وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ ٱلْعَثَرَاتِ. فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي بِهِ تَأْتِي ٱلْعَثْرَةُ».

١كورنثوس ١١: ١٩ و٢تسالونيكي ٢: ٣ – ١٢ و١تيموثاوس ٤: ١ – ٣ و٢تيموثاوس ٣: ١ الخ و٤: ٣، ٤ ويهوذا ٤ ومتّى ١٣: ٤١، ٤٢ و٢٦: ٢٤ و٢بطرس ٢: ٣، ٢١

وَيْلٌ كلمة عذاب، وفي الأصل اليوناني كلمة أسفٍ وإنذار.

لِلْعَالَمِ أي لسكان العالم.

من العثرات: اتخذ المسيح ذكر خطية إعثار أحدٍ من تلاميذه وسيلة إلى ذكر كثرة تجارب الإثم التي حدثت في الأرض وستحدث. وهي علة ضيقات المؤمنين بالمسيح والإهانة له. لأنها أوقدت نار الخصام بين الإخوة، والبدع في الكنيسة، والحروب بين الممالك، وأسالت دموع الحزن والشقاء في الدنيا، وكانت علة هلاك النفوس في الأخرى. ومن أول المعاثر العظمى التي حدثت في العالم وأعظمها سقوط آدم، فبعثرته سقط كل الجنس البشري في الخطية والشقاء منذ آدم إلى الآن. ومنها ما أتاه بلعام العراف الآرامي (عدد ٣١: ١٦ ورؤيا ٢: ١٤) وما فعله يربعام ملك إسرائيل. وذُكر في الكتاب نحو ثلاثين مرة أنه «جعل إسرائيل يخطئ» ومنها ما أجراه بعض القياصرة الرومان من اضطهاد الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد. ومنها ما ارتكبه ديوان التفتيش في القرون المتوسطة، فإنه سفك دماء القديسين وأجراها على الأرض كالماء. ومن أصحاب المعاثر من أنشأوا الهرطقات في الكنيسة كأريوس وبيلاجيوس وسوسنيوس وغيرهم ممن كانوا داخل الكنيسة. ومن أصحاب المعاثر الكفرة، وهم خارج الكنيسة، فإنهم اجتهدوا أن يبطلوا إيمان، المؤمنين ومنهم فولتير وروسو وهيوم وأمثالهم. ومن أرباب العثرات الذين لحب الدراسة أوقدوا نيران الحروب في الأرض، فأتلفوا أموال الناس وحياتهم ونفوسهم. ومن المعاثر العظمى المسكرات فإنها أهلكت أكثر ممن أهلكتهم الحروب كلها، ومنها الكتب الضارة ومعاشرة الأشرار، ومنها سوء تربية الوالدين لأولادهم، وسوء سيرة المدعين أنهم مسيحيون، ومنها الخصومات بين الإخوة والنميمة فإنها تنزع سلام الكنيسة وفائدتها للغير.

فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ قال ذلك تأكيداً للوقوع، لا ليبيِّن أن تلك العثرات تحدث إجباراً أو صدفةً، ولا أنه من الجائز حدوثها. وتأكيد حدوثها ناتجٌ عن أن هذا العالم هو عالم التجربة والخطية، وأن الشيطان يجرب دائماً، وأن من جنوده الأشرار وهم كثيرون. وأفضل الناس ضعفاء وجهلاء مائلون إلى الإثم لشهوات الجسد الباقية فيهم. ولهذه الأسباب كلها كان لا بد من إتيان العثرات التي يستحيل الهرب منها تماماً، فيسمح الله بوقوعها لامتحان الصالحين (دانيال ١١: ٣٥ و١كورنثوس ١١: ١٩).

وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ الخ هذا يبين أن وضع العثرات أمام الغير اختياري، فهو إثمٌ. ولذلك يحاسب الله كل مجرِّب، وليس لمجرِّب عذرٌ في قضاء الله لأن الله لا ينزع اختيار الإنسان أو حريته، وهو لا يُجبر أحداً على أن يخطئ أو أن يضع عثرة أمام غيره. فإن لم يتب عوقب كما يستحق. ولا يفارق العقاب الأثيم كما لا يفارقه ظله وهو يسير في ضوء الشمس!

٨، ٩ «٨ فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. ٩ وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ ٱلنَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ».

متّى ٥: ٢٩، ٣٠ ومرقس ٩: ٤٣ الخ ولوقا ١٤: ٢٦ الخ و١٨: ٢٢، ٢٣ ومتّى ١٩: ٢١، ٢٢ ولوقا ٩: ٢٣ الخ وعبرانيين ٤: ١١ ورؤيا ٢١: ٢٧

بعد أن حذر المسيح تلاميذه من أن يكونوا عثرة لغيرهم ولو من أضعفهم، أخذ يحذرهم من علة السقوط المتعلقة بهم كشهوة الجسد التي تحارب الروح وتحطمها. وافترض في ذلك (ما لا يحدث حقيقة) إن أعز أعضاء جسد الإنسان لديه هي علة تعديه شريعة الله، وحكم أنه لو حدث مثل ذلك كان خيراً للإنسان أن يخسر تلك الأعضاء من أن يخطئ بها. وهو يعني أنه خيرٌ للإنسان أن يخسر يداً أو عيناً ويذهب إلى جهنم. ومعناه أن ترك العوائد أو الأعمال المألوفة أو الخطايا صعبٌ على الإنسان مثلما يصعب عليه خسارة أحد أعضائه.

إن هذا المجاز قوي جداً، وبالطبع لا يؤخذ بحرفية الكلام بل بروحه. فقد قصد المسيح أن يرينا هول ما تقترفه اليد أو العين أو أي الأعضاء الأخرى بسبب عصياننا كلمة الله.

إِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ… عَيْنُكَ استعمل المسيح هذا المجاز قبلاً في وعظه على الجبل (شرح متّى ٥: ٢٩، ٣٠) وأشار به هناك إلى تعدي الوصية السابعة، وأراد به هنا الخطايا عامة. فتخصيص المسيح هنا كلامه للرسل بعد أن خاطب به العموم سابقاً لا بد أن يجعله ذا تأثير عظيم في قلوبهم.

تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْرَجَ… أَعْوَرَ ليس المراد بذلك أن الجسد يقوم في اليوم الأخير بلا شيء من أعضائه، لأن الناس يقومون كاملي الأجساد (١كورنثوس ١٥: ٤٢ – ٤٤). فأورد ذلك بالمعنى الروحي الرمزي، لأن القطع والقلع المذكورين هنا ليسا حرفيين، إنما المقصود بهما الإشارة إلى اعتزال الإنسان المتعلقات المالية التي تجذبه إلى الخطية من الأعمال والصداقة واللذات التي هي عزيزة لديه كأعز أعضاء جسده. فخيرٌ لمثل هذا الإنسان أن يتركها كلها وينال السماء من أن يتمتع بها هنا ويهلك أخيراً.

ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ أي عقاب كل من يفضِّل التمتع بالخطية على تركها والاتحاد بالمسيح. وفي ذلك بيان أن عقاب الأشرار لا نهاية له.

١٠ «اُنْظُرُوا، لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

مزمور ٣٤: ٧ وعبرانيين ١: ١٤ وأستير ١: ١٤ ولوقا ١: ١٩

هذا العدد يتبع العدد السادس ويتعلق به، فما بينهما اعتراض أو استطراد، وفيه تحذير من الكبرياء واحتقار الصغار من المؤمنين (متّى ١٠: ٤٢).

اُنْظُرُوا نبههم بذلك إلى تجربة خفية وهي الكبرياء واحتقار أولاده الروحيين، وإلى الخطر من السقوط فيها وذلك مثل قوله في متّى ١٦: ٦ ولوقا ١٢: ١٥.

لاَ تَحْتَقِرُوا أي: إياكم أن تستهينوا بأحد من تلاميذي فكراً أو قولاً أو فعلاً أو أن تظنوا إعثارهم وإهلاكهم أمر يسير (رومية ١٤: ١ – ٣، ١٣، ١٤).

هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَار أي أولاد المسيح الروحيين، وسُموا صغاراً إشارة إلى ضعفهم وإلى رقة قلب المسيح عليهم.

أَقُولُ لَكُمْ أي عن يقين أن ما يأتي حقٌ لا وهمٌ يهودي.

مَلاَئِكَتَهُمْ أي الأرواح الطاهرة الذين يحرسونهم. وهم ليسوا أرواح القديسين الموتى بل ملائكة حقيقيين يرسلهم الله ليحفظوا محبيه من الشر (تكوين ٣٢: ١، ٢ و٢ملوك ١٩: ٣١ ومزمور ٣٤: ٧ و٩١: ١١، ١٢ وأعمال ٢٧: ٢٣ وعبرانيين ١: ١٣، ١٤). ولا يلزم من ذلك أن يكون لكل مؤمن ملاك مختص به يحرسه من وقت ولادته الجديدة إلى ساعة موته، إنما المفهوم أن الله يرسل الملائكة لخدمة المؤمنين بوجه العموم.

يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي يوضح معنى هذا قول الملاك في لوقا ١: ١٩ «أنا جبرائيل الواقف أمام الله» فيكون المراد أن الملائكة الذين يحرسون المؤمنين هم ملائكة الحضرة، وهم أعظم الملائكة رتبة. وجرى المسيح في هذا على اصطلاح البلاط الملكي فإن أصحاب الرتبة الأولى يقفون في المكان الأقرب إلى الملك، ولهم أن يروا وجهه (أستير ١: ١٤ و١ملوك ١٠: ٨ وأمثال ٢٢: ١٩ وإرميا ٥٢: ٢٥ ودانيال ١: ٥ ولوقا ٢١: ٣٦). فغاية المسيح في هذا أن يعلمهم: (١) أنه إن كان أعظم الملائكة لا يحتقرون هؤلاء الصغار، فلا يجوز أن إخوتهم المؤمنين يحتقرونهم. (٢) إن مقام ملائكتهم يُظهر مقامهم عند الله. فإذاً المكرمون عند الله في السماء لا يجوز أن يهينهم إنسان على الأرض.

فائدة: ما أعظم عناية الله بالمؤمنين، فقد أطلق عليهم لقب «هؤلاء الصغار» وأوصى المسيح رسله بهم، فأعلن أن يحرسهم الملائكة المأذون لهم أن يدخلوا إلى حضرة الملك السماوي ليرجعوا من لدنه بالرحمة والبركة لهم.

١١ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ».

متّى ٩: ١٢، ١٣ ولوقا ٩: ٥٦ و١٩: ١٠ ويوحنا ٣: ١٧ و١٢: ٤٧ و١تيموثاوس ١: ١٥

أورد المسيح في هذا العدد سبباً ثانياً لتحريم احتقار المسيحيين أحد إخوتهم الصغار، فإنه علاوة على أن ملائكة السماء يحرسونهم، أتى ابن الإنسان الذي هو ابن الله من السماء ليخلصهم. فمع أنهم كانوا أثمة معرضين للهلاك تألم المسيح ومات من أجلهم، فصاروا أعزاء لديه.

مَا قَدْ هَلَكَ أي من كانوا تحت الدينونة لخطاياهم، لا يقدرون أن ينقذوا أنفسهم ولا يقدر غيرهم من المخلوقات أن ينقذوهم. فلنا من ذلك (١) أن الله يعتبر العالم بأسره في حال الهلاك، لا رجاء له في نجاةٍ من نفسه (٢) لم يأتِ المسيح ليملك مُلكاً أرضياً، ولا لمجرد التعليم والتهذيب، بل ليخلّص الأثمة من الهلاك.

١٢، ١٣ «١٢ مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلاَ يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ عَلَى ٱلْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ ٱلضَّالَّ؟ ١٣ وَإِنِ ٱتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتِّسْعَةِ وَٱلتِّسْعِينَ ٱلَّتِي لَمْ تَضِلّ».

لوقا ١٥: ٤ الخ ويوحنا ١٠: ١١ الخ

أورد المسيح في هذين العددين سبباً ثالثاً لتحريم احتقار الصغار من عائلة المسيح الروحية، وهو قيمتهم العظيمة في عيني الآب السماوي الذي لا يريد أن يهلك أحد منهم، ويفرح بنجاتهم من الهلاك.

مَاذَا تَظُنُّونَ؟ أي احكموا بهذا المثل حسب اختباركم، واستنتجوا منه ما هو شعور الله من جهة من كان هالكاً وخلص. ثم أن المسيح ذكر هذا المثل مرة أخرى (لوقا ١٥: ٤ – ٦). وضربه حينئذ توبيخاً للفريسيين، ولكنه ضربه هنا تعليماً للتلاميذ.

مِئَةُ خَرُوفٍ وَضَلَّ وَاحِدٌ عندما يكون القطيع كبيراً لا ينتبه الراعي في الحال لضياع خروف منه. والقول بضياع واحد يبين فرط اعتناء الراعي به.

حذر المسيح تلاميذه في عدد ٦ من هذا الأصحاح من أن لا يُعثروا أحداً من الصغار، وحذرهم في عدد ١٠ منه من احتقار أحدٍ منهم. فإن كان الراعي الصالح يعتني بخروف واحد من قطيعه السماوي فكذلك يجب أن يعتني تلاميذه به.

ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ إن قصد المسيح بالتسعة والتسعين الذين لم يضلوا قط من خليقته، فهم الملائكة الذين لم يسقطوا، أو هم سكان عوالم أخرى ثبتوا في الطهارة التي خُلقوا عليها. وإن كان المسيح يقصد الناس كما قال «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى» فمراده أن الذين يحسبون أنفسهم أبرياء لا يحتاجون إلى مخلّص. والاحتمال الأول أرجح.

عَلَى ٱلْجِبَال أي حيث يأمن عليهم.

وَيَذْهَبُ يَطْلُب في هذا إشارة إلى بعض ما يقاسيه الراعي الصالح السماوي (يوحنا ١٠: ١٥) من التعب والألم بالاعتناء والتفتيش عن الهالكين من الناس ليخلصهم.

فرح الراعي في أن يجد الخروف بقدر ما حزن واضطرب عليه وهو ضال. فالتسعة والتسعون لم تكن عرضة للخطر، فلم يكن وجودها في أمنٍ موضوع فرح خاص. لذلك يفرح الله بالخطاة الراجعين إليه أكثر مما يفرح بالملائكة الذين لم يضلوا. وكثيراً ما يذكر الكتاب المقدس زيادة الفرح في السماء بنجاة الهالكين من البشر (إشعياء ٥٣: ١١ وميخا ٧: ١٨ ولوقا ١٥: ٧، ١٠ وعبرانيين ١٢: ٢). ونتيجة كل ذلك أنه لا يجوز لأحد أن يحتقر أو يعثر من يفتش المسيح عنه ويعتني به ويفرح.

١٤ «هٰكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ».

لوقا ١٢: ٢ ويوحنا ٦: ٣٩، ٤٠ و١٠: ٢٧ الخ

في هذا العدد نتيجة المثل السابق الذي أظهر الله فيه عدم إرادته أن يهلك أحد من الناس (يوحنا ١٢: ٢٨) واستعماله الوسائط لإنقاذه وهي تحريم إعثار أحد إياه أو احتقاره. وأن من يفعل ذلك يخالف قصد الله وعمله. فيصح لنا أن نستنتج مما ذكر من أمر إرادة الآب أن الذين يموتون في الطفولة يخلصون لأنهم داخلون في قوله «هؤلاء الصغار» وإلا ما جاز أن يشبِّه الناجين من البالغين بالصغار. وأن نستنتج أيضاً أن الأطفال لم يخلصوا لطهارتهم، بل لأن المسيح أتى ليخلّصهم حسب قوله في عدد ١١.

١٥ «وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَٱذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ».

لاويين ١٩: ٧ ولوقا ١٧: ٣ ويعقوب ٥: ٢٠ و١بطرس ٣: ١

في آيات ٧ – ١٤ حذَّر المسيح تلاميذه من إعثار غيرهم من المسيحيين. وأخذ يبين هنا واجبات المسيحيين حين يعثرهم الغير بأن يظلموهم.

أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ أي أحد المسيحيين أو من تحسبه قريباً إليك. وربما كان المعنى أي إنسان. وهنا يأمر المسيح بتطبيق القانون (الذي وضعه لسلوك بعض المسيحيين مع بعضهم) مع كل الناس، لأنهم إخوته وأبناء أبٍ واحد سماوي. والمراد بالأخطاء هنا الضرر الشخصي لا العدول عن سبيل الإيمان وإنكار المسيح ودينه.

فَٱذْهَبْ وَعَاتِبْهُ دليلاً على أنه يجب على البريء المظلوم أن يسعى في إصلاح الأمر بذهابه إلى الظالم ليبين له خطأه بدل أن يشكوه إلى الغير أو ينتقم منه أو يحقد عليه، فلا يبقي العداوة له في قلبه. وهذا وفق قول موسى النبي «لا تبغض أخاك في قلبك. إنذاراً تنذر صاحبك ولا تحمل لأجله خطية» (لاويين ١٩: ١٧) وليس في ذلك شيءٌ يحط شرف البريء لأن المسيح أتى من السماء بغية المصالحة قبل أن نطلبها. فلو طبَّق الناس هذا القانون لنجوا من خصومات وحروب كثيرة. فقد يخطئ بعض الناس إلى البعض عن غير قصد، كما أخطأ أبيمالك إلى إبراهيم (تكوين ٢١: ٢٦). فربما ظهر عند العتاب ما حُسب تعدياً أو ظلماً ليس كذلك، كما وقع بين الثلاثة الأسباط رأوبين وجاد ومنسى وسائر أسباط إسرائيل لبناء مذبح عند الأردن (يشوع ٢٢: ٢٤).

بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لأنه إذا عاتبه أمام الناس حملته شهامته أن يغتاظ من التوبيخ العلني، أو أن يستحي من الاعتراف أمامهم بالذنب، فيجتهد في تبرير نفسه ويقسي قلبه. مع أنه إذا انفرد به سهُل عليه أن يقنعه بالحق. لكن إذا لم يكن العتاب بلطف ومحبة وحكمة «اتسع الخرق على الراقع» وعُمقَ الجرح بدل أن يُشفى. وصُب الزيت على النار بدلاً من أن ينصب على الماء. فلنسمع «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ» (غلاطية ٦: ١).

رَبِحْتَ أَخَاكَ أي أبقيته صديقاً لك بعد ما كنت في خطر أن تخسره بسبب العداوة بينكما، وربحته أيضاً خادماً للمسيح، وخلّصت نفسه. لأنك إذا تركته وهو مذنب إليك بدون عتاب فربما بقي في طريق شره بلا توبة وهلك في خطيته. ولكن بمعاتبتك إياه بالمحبة يشعر بخطئه ويتوب (يعقوب ٥: ٢٠). وهذا الربح نتيجة ذلك العتاب.

١٦ «وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ ٱثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ».

تثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥ ويوحنا ٨: ١٧ و٢كورنثوس ١٣: ١ وعبرانيين ١٠: ٢٨

فإذا لم تكفِ الوسيلة الأولى لإصلاح الحال وجب اتخاذ الوسيلة الثانية التي ذكرها المسيح في هذا العدد، وهو أن يأخذ البريء واحداً أو اثنين من الناس ليقنعوا الظالم بخطيته وينبهوا ضميره ويجعلوه يخجل من عناده. والغاية الأولى من ذلك نفع المخطئ بإرشاده إلى التوبة. ولكن إن بقي على عناده كان من أخذه معه شاهداً عليه عند رفع الدعوى إلى الكنيسة، وشاهداً للمظلوم بأنه فعل كل ما أمكنه لإزالة الخصومة بطريق السلام.

شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ ذلك حسب شريعة موسى في إثبات الدعاوي (تثنية ١٩: ١٥). وقلل المسيح عدد من يأخذهم البريء معه للشهادة ستراً للأمر على قدر الإمكان، لئلا يكون عاراً على المذنب وعلى الكنيسة.

١٧ «وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ٱلْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَٱلْوَثَنِيِّ وَٱلْعَشَّارِ».

رومية ١٦: ١٧ و١كورنثوس ٥: ٩، ١١ و٢تسالونيكي ٣: ٦

ذكر المسيح هنا الوسيلة الثالثة لإزالة الشر إذا لم تنفع في ذلك الوسيلتان المذكورتان قبلها، وهي رفع الأمر إلى الكنيسة التي ينتمي إليها العضوان. فإن كانت تلك الكنيسة صغيرة وبعض الأعضاء قريب من بعض يمكن أن تُرفع الدعوى إلى كل أعضائها، وإلا فترفع إلى نواب الكنيسة أو وكلائها. وذلك للحصول على مساعدة الكنيسة لإصلاح المذنب. ولم يُذكر شيء في هذا العدد من أمر تأديب الكنيسة إياه، إنما قُصر على ذكر الواجبات الشخصية في شأن الخلاف.

كَٱلْوَثَنِيِّ وَٱلْعَشَّارِ أي لا تحسبه بعد ذلك أخاً مسيحياً، ولا صديقاً قريباً إليك، بل اعتبره كغيره من الخارجين عن الكنيسة، كما اعتبر اليهود الخارجين عن مجمعهم. ولكن بدون أن يُبغضوا (١كورنثوس ٥: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ١٤، ١٥). يمكنك تجنب مصاحبته لا أن تعاديه أو تضمر له السوء بل اتركه جانباً كإنسانٍ غريب.

١٨ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي ٱلسَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي ٱلسَّمَاءِ».

متّى ١٦: ١٩ ويوحنا ٢٠: ٢٣ وأعمال ١٥: ٢٣ – ٣١ و١كورنثوس ٥: ٤، ٥ و٢كورنثوس ٢: ١٠

هنا إشارة لإجماع الكنيسة على رفض أحدهم أو قبوله، ولها الحق أن تفعل ذلك بالسلطة المعطاة لها من المسيح. بقي أن نتأكد من يمثل الكنيسة هل هم الإكليروس وحدهم، أو القسوس والشيوخ، أم هو مجموع أفراد المؤمنين الحقيقيين. ونرى أيضاً أن هذا العدد والذي يليه مبنيان على ما سبق من جهة الذين يعاندون الكنيسة. وما قيل هنا وُجِّه إلى الرسل فقط، وخُصَّ بهم دون سائر المؤمنين في غير عصرهم. وخطاب المسيح هنا لكل الرسل هو نفس الخطاب الذي خاطب به بطرس قبلاً نائباً عن الباقين (متّى ١٦: ١٩).

وهذا ينفي وهم التلاميذ إن كانوا توهموا أن المسيح أعطى بطرس سلطاناً على غيره من الرسل في وضع قوانين الكنيسة أو إجراء التأديب فيها، لأنه أعطاهم جميعاً سلطاناً واحداً، معجزةً، إذ ألهمهم الروح القدس بوضع تلك القوانين. والمعنى أنه مهما اعتمدتموه بإرشاد الروح القدس من جهة إبقاء بعض الطقوس الموسوية على الكنيسة، أو نسخ بعض ذلك منها، أو مهما اعتمدتم قبول أعضاء في الكنيسة أو منع بعضٍ منها، كان ذلك مثبتاً في السماء أي عند الله.

١٩ «وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

مرقس ١١: ٢٤ ويوحنا ١٤: ١٣، ١٤ و١٥: ٧، ١٦ و١يوحنا ٣: ٢٢ و٥: ١٤

هذا القول كالسابق يشير إلى سلطان أعطاه المسيح الرسل خاصة لتنظيم كنيسته. فأثبت هنا أنه لا حاجة للاثني عشر أن يجتمعوا كلهم لينالوا الإرشاد منه في شأن ما يحلّونه أو يربطونه من أمور الكنيسة، وأنه إذا اجتمع اثنان منهم وهما متفقان على رأي واحد بما هو لخير الكنيسة فطلبا إلى المسيح الإرشاد وسلطان الحكم أُعطياهُ (أعمال ١: ١٤ – ٢٦ و١٥: ١ – ٢٩).

فهذا الوعد ليس للمؤمنين بعد الرسل. نعم إن في الكتاب المقدس مواعيد أخرى تثبت فاعلية صلاة الإيمان انفرادية كانت أم جهورية، ولكن الوعد هنا خاص بالرسل لأجل تنظيم الكنيسة في زمن تأسيسها.

٢٠ «لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ».

متّى ٢٨: ٢٠ ويوحنا ١٤: ١٧

هذا كلام عام قاله المسيح ليثبت ما سبق من وعده الخاص للرسل.

حَيْثُمَا أي في كل مكان، فيصح أن يكون في كل زمان.

ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ لم يتلفت المسيح إلى عدد المجتمعين، بل إلى أن الاجتماع باسمه.

بِٱسْمِي أي بثلاثة أمور تختص بي

(١) أن يكون الاجتماع بسلطاني وأمري ونيابةً عني، لتكون علاقتكم بي في ذلك كعلاقتي بالآب (يوحنا ١٠: ٢٥ و١٦: ٢٣).

(٢) أن يكون الاجتماع لخدمتي، أي للصلاة والتسبيح ودرس كتابي لكي أتمجد (يوحنا ١٤: ١٣ و١٥: ٧).

(٣) أن يكون الاجتماع بالاتكال على استحقاقي وآلامي وشفاعتي.

فَهُنَاكَ أَكُونُ أي أكون مع الاثنين أو الثلاثة كما أكون مع الألوف المجتمعة باسمي. فحضور المسيح مع كنيسته الآن حسب هذا الوعد بمنزلة حضور السحابة في خيمة الاجتماع (خروج ٤٠: ٢٤) وفي الهيكل (٢أخبار ٥: ١٤). وحيث حضر المسيح تحلّ كل بركة. وفي هذا العدد برهان على بركة اتفاق المسيحيين في الصلاة، كما أنه يبرهن لاهوت المسيح.

٢١ «حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟».

لوقا ١٧: ٤

تكلم المسيح على أسلوب تعامل المُساء إليه مع الأخ المسيء، ليرده عن خطئه ويأتي به إلى المصالحة، وهم لا يتم إلا بأن يغفر المُساء إليه للمسيء. فتنبَّه بطرس ليسأل عن عدد المرات التي يجب أن يغفر لأخيه فيها، فقوله «كم مرة» يلزم منه ظنه أن مرات الصفح عن الإساءة محدودة. جاء في تلمود اليهود أنه يجب أن يغفر المساء إليه إلى المسيء ثلاثاً لا أكثر، استناداً على ما جاء في نبوة عاموس (١: ٣ و٢: ٦) وأيوب (٣٣: ٢٩، ٣٠). وزاد بطرس على ذلك أربعاً، فظن أنه أظهر بذلك زيادة الحلم والأناة.

أَغْفِرُ لَه الغفران أن يشعر المُساء إليه نحو المسيء ويسلك معه كأنه لم يسئ إليه. فيجب على المسيء أن يسأل المغفرة (لوقا ١٧: ٤) وحينئذٍ يجب على المُساء إليه أن يغفر له. ولكن إذا لم يطلب الغفران لم يجز للمُساء إليه أن يحقد عليه أو يقصد الانتقام منه، بل يجب أن يشفق عليه ويسعى في خيره (لوقا ١٠: ٣٠ – ٣٧).

٢٢ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ».

متّى ٦: ١٤ ومرقس ١١: ٢٥ وأفسس ٤: ٣٢ وكولوسي ٣: ١٣

سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّات يُشار بهذا حسب اصطلاحهم قديماً إلى عدد غير مقيد . فأراد المسيح به أنه يجب أن يُغفر للمخطئ كلما سأل المغفرة لأن «الله يكثر الغفران» (إشعياء ٥٥: ٧ ومزمور ٧٨: ٣٨). فيجب أن نتمثَّل به، فإننا ننال الرحمة من الله بغير حساب، فيجب علينا أن نرحم الناس كذلك.

٢٣ «لِذٰلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ».

ضرب المسيح هذا المثل ليعلم تلاميذه شريعة الملكوت الجديدة في شأن الغفران للمذنبين إلينا، وهو يصح أن يُحسب شرحاً للطلبة الخامسة من الصلاة الربانية التي هي «اغفر لنا ذنوبنا الخ»

يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً المراد بهذا المثل أن الله يعامل أهل كنيسته على الأرض كما يعامل الملك بعض رعيته. ولكن المقارنة بين الملك الأرضي والملك السماوي قاصرة، فلا نتوقع المعنى الروحي من كل كلمة من كلمات هذا المثل.

يُحَاسِبَ عَبِيدَه أي عبيد الملك في المثل. والمقصود بعبيده هنا خدمه لا الذين تحت الرق، لأنه هدد واحداً منهم بأن يُباع (عدد ٢٥). والظاهر أنهم كانوا أمناء صندوق الدولة، ويحتمل أنهم كانوا ضامنين أو ملتزمين داخل المملكة. و «العبيد» هنا هم أعضاء كنيسة المسيح في كل زمان ومكان. وليس المقصود بالحساب هنا حساب يوم الدين المشار إليه في متّى ٢: ١٩ وفي ٢كورنثوس ٥: ١٠. ولكنه كالحساب المذكور في لوقا ١٦: ٢. ويجري الله هذا الحساب عندما يجعلنا نقارن خطايانا بمطالب شريعته المقدسة، ونشعر بأنه وضع آثامنا أمامه وخفياتنا في ضوء وجهه (مزمور ٩٠: ٨). وعندما ينبِّه ضمائرنا الغافلة، وعندما يجلب علينا الضيقات حتى نرى أننا قريبون من الموت (٢ملوك ٢٠: ١) نشعر أننا لا نستطيع أن نجيبه «على واحد من ألف» من آثامنا (أيوب ٩: ٣) فإنها أكثر من شعور رؤوسنا (مزمور ٤٠: ١٢). وهكذا حاسب الله داود لما أرسل إليه يوناثان النبي (٢صموئيل ١٢) وحاسب أهل نينوى لما أرسل إليهم يونان، وحاسب اليهود لما أرسل إليهم يوحنا المعمدان.

٢٤ «فَلَمَّا ٱبْتَدَأَ فِي ٱلْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشَرَةٍ آلاَفِ وَزْنَةٍ».

وَاحِدٌ مَدْيُونٌ من الضرورة أن يكون مثل هذا أمين صندوق الملك، أو ضامن دخل قسم كبير من المملكة حتى يدان بمثل هذا المبلغ العظيم.

بِعَشَرَةٍ آلاَفِ وَزْنَة إن كان المقصود بأن تلك الوزنات من الفضة فقيمتها نحو مليوني ونصف مليون جنيه ذهبي، وإن قُصد أنها من الذهب فقيمتها ٦٠ مليون جنيه ذهبي. ويساعدنا على تصور عظمة هذا المبلغ أن نتذكر أن كل ما استعمل من الذهب في خيمة الاجتماع لم يزد على تسعٍ وعشرين وزنة (خروج ٣٨: ٢٤). وإن ما أعده داود لبناء الهيكل لم يزد على ثلاثة آلاف وزنة، وإن ما قدمه رؤساء الشعب لم يزد على خمسة آلاف وزنة (١أخبار ٢٩: ٤ – ٧) وإن الهبة الملكية التي قدمتها ملكة سبا إلى سليمان لم تزد على ١٢٠ وزنة. وإن ما وضعه ملك أشور من الغرامة على حزقيا لم يزد على ٣٠ وزنة (٢ملوك ١٨: ١٤) وإن الغرامة التي وضعها ملك مصر على اليهودية بعد موت يوشيا في وقت فقر البلاد لم تزد على وزنة واحدة. وأراد المسيح أن يشير بوفرة هذا المبلغ إلى كثرة الدَّين الذي على الخاطئ لله بسبب عصيانه وعجزه عن إيفائه. فإنه عندما يراها كما يراها الله لا بد أن يقول «فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَيْفَ يَزْكُو مَوْلُودُ ٱلْمَرْأَةِ؟» (أيوب ٢٥: ٤) و «وإن كنت تراقب الآثام يا رب فمن يقف؟» (مزمور ١٣٠: ٣) و «لاَ تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ» (مزمور ١٤٣: ٢). فأسهل علينا أن نحصل على عشرة آلاف وزنة لنوفي ديناً علينا لإنسان من أن نحصل على ما يكفر عن خطية واحدة من خطايانا لله، بدون مساعدته وتقديمه لنا مبلغ الفداء. فتبين من ذلك أننا عاجزون عن إيفاء ما علينا من الدين لله. ولكن الحمد له أنه أعدَّ لنا الفداء باستحقاق المسيح وموته لإنقاذنا من ذلك الدين العظيم.

٢٥ «وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَٱمْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَى ٱلدَّيْنُ».

لاويين ٢٥: ٣٩ الخ و٢ملوك ١٤: ١ ونحميا ٥: ٥، ٨ وإشعياء ٥٠: ١

كان بيع الأولاد مع الوالدين جائزاً في الشريعة اليهودية (لاويين ٢٥: ٤٩ و٢ملوك ٤: ١ ونحميا ٥: ٦ وعاموس ٢: ٦ و٨: ٦) وسمحت به الشريعة الرومانية.

وَيُوفَى ٱلدَّيْنُ أي يُفي قسمٌ منه بقدر ثمن المبيع. وليس لهذا معنى روحي إلا أن الخاطئ المتروك لاحتمال نتائج أعماله تحت دينونة أبدية، فلا يستطيع أن يبرر نفسه أو أن يحرر ذاته من عواقب آثامه. فكل ما في العالم من ذهب وفضة لا يكفر عنها «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مزمور ٤٩: ٧، ٨) فلا تُفدى نفس الخاطئ بكل الذبائح والتقدمات، ولا بشيء من الأعمال الصالحة. إذاً فالكلام بهذه المبالغ الطائلة هو فقط ليرينا عظمة الدين، ويبرهن لنا أننا لن نستطيع وفاءه وحدنا مهما عملنا.

٢٦ «فَخَرَّ ٱلْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ ٱلْجَمِيعَ».

فَخَرَّ ٱلْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ هذا علامة الوقار اللائق بالملك والتضرع الشديد له.

تَمَهَّلْ عَلَيّ الخ في هذا إشارة إلى غاية الخوف والحزن، لأنه وعد بما يستحيل عليه، رغبةً منه أن ينجو من الخطر المحيط به، إذ لم يكن له ما يوفي الدَين، ووعد أن يوفي الكل. ولم ينطق في شيء من كلامه بأدنى اعتراف بذنبه. فمثل هذا الوعد الباطل تكون أحياناً مواعيد الخطاة في وقت شعورهم بخطاياهم وخوفهم من الموت، فينذرون التوبة والطاعة وإصلاح السيرة وهم عاجزون عن القيام بذلك.

٢٧ «فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ ٱلدَّيْنَ».

مزمور ٧٨: ٣٨ و٨٦: ٥، ١٥ و١٤٥: ٨

هذا الملك الحنون الكريم جاد على ذلك العبد بأكثر مما سأله، فلم يسأله سوى المهلة، فترك له كل الدين. وفي هذا مثال لعظمة رحمة الله الذي يغفر كل خطايانا مجاناً، إجابة لطلباتنا وشفقة علينا. وغاية الإنجيل المناداة بهذه الرحمة (رومية ٧: ٢٤، ٢٥ و١يوحنا ١: ٨، ٩).

٢٨ «وَلَمَّا خَرَجَ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ، كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ».

بِمِئَةِ دِينَارٍ ذلك نحو ثلاث جنيهات ذهبية، فنسبة هذا المبلغ في قلته إلى نسبة ذلك الدين في عظمته كنسبة ١ إلى مليون وربع مليون. وهذا يبين جلياً صغر إساءة إنسان إلى آخر من إخوته بالنسبة إلى ما عليه لله، وذلك كنسبة قطرة ماء إلى كل مياه الأرض. والمقصود من كل ذلك أنه بما أن الله يغفر لنا كل تلك الآثام العظيمة، يجب علينا أن نغفر لإخوتنا الإساءة الزهيدة بالنسبة إليها. ولم يقُل إن ذلك الدَين لم يكن حقاً، إنما ظهر من المثل أنه أخطأ في أن طلب الذي له على أخيه بقساوة كهذه، بعدما نال عظيم الرحمة من الملك وهو أعظم احتياجاً من أخيه.

أَخَذَ بِعُنُقِه عجباً لهذا العبد كيف طلب ما له على أخيه بمثل هذه القساوة بعد ما شعر بحزن المديون وخوفه عند عجزه عن الإيفاء ونال مزيد الرحمة واللطف من سيده الدائن.

٢٩ «فَخَرَّ ٱلْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ ٱلْجَمِيعَ».

الكلمات التي استرحم بها هذا العبد رفيقه هي نفس الكلمات التي استرحم بها ذلك الرفيق سيده، فكان يجب أن تذكره ضيقه والرحمة التي نالها.

٣٠ «فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ ٱلدَّيْنَ».

الذي سُومح بعشرة آلاف وزنة لم يُرد أن يتمهل على مديون له بمئة دينار! من نال رحمة من سيده أبى أن يمنح مثلها العبد أخاه. من سأل المهلة ونال الإبراء المطلق رفض أن يتمهل على صاحبه. فلم يذكر المراحم التي نالها، ولم يشفق على البائس فألقاه في السجن حيث لا سبيل إلى تحصيل ما يوفي الدين. فمن يحقد على أخيه ويضمر له العداوة ويكره أن يتصالح هو مثل ذلك العبد القاسي.

٣١ «َلَمَّا رَأَى ٱلْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ، حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى».

الله لا يحتاج إلى من يشهد له بحال المظلومين في هذا العالم. فلعل المراد بالرفقاء المذكورين هنا المسيحيون الذين يذكرون في صلواتهم الظلم والتعدي وعدم الشفقة والمحبة وروح المصالحة في العالم، فالحزن أجدر بهم من الغضب الذي هو أولى بالملك لأنه الحاكم الديّان. والذي يظلم أحداً من أعضاء الكنيسة يُحزن الجميع.

٣٢ «فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ، كُلُّ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ».

أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ تحقق السيد حينئذٍ رداءة صفات العبد القاسي، وأنه لا يستحق الرحمة التي منحها إياه، وخاطبه بكلام الغيظ. فمن كان مثل هذا العبد في القساوة لا يمكن أن يكون مسيحياً بالحق. فيمكن أن يكون أحد أعضاء الكنيسة مسيحياً في الظاهر وتُعلن صفاته الحقيقية عند الامتحان، كما عُرفت صفات ذلك العبد.

كُلُّ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنِ هذا بيان لعظمته.

لأَنَّكَ طَلَبْتَ أي سألتني بحزن وانكسار فتأثرت وشفقت عليك.

٣٣ «أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ ٱلْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟».

بيَّن السيد للعبد القاسي أنه كان يجب عليه أن يتعلم الشفقة التي نالها، فيعامل العبد رفيقه برحمة، فإنه يجب على من رُحم أن يرحم. فلم يدعُه «شريراً» لأنه أقام دعوى كاذبة على أخيه، بل لأنه طلب حقه بعنف وقسوة بعد أن نال هو أعظم شفقة. فيجب علينا أن نتخذ لطف الله وأناته ومغفرته مثالاً لنا في معاملتنا لغيرنا، وأن نغفر للمذنبين إلينا كما غفر الله لنا.

فلا يليق بالمسيحي الذي ذاق رحمة الله هنا، ويتوقع أن يُرحم أمام عرش الله يوم الدين أن يكون قاسياً حقوداً. وإن كان له أسباب كافية للغضب فيجب ألا يبقي الغضب في قلبه، بل يغفر للمذنب إليه وفقاً للقول الرسولي «اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ» (أفسس ٤: ٢٦)

٣٤ «وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى ٱلْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ».

غَضِبَ سَيِّدُهُ كان هذا السيد في أول أمره دائناً طالباً دينه من مديون، فصار دياناً لمذنبٍ.

سَلَّمَهُ إِلَى ٱلْمُعَذِّبِينَ أي سجنه سجناً مؤبداً مع مقاساة الآلام، وهذا أشرُّ من بيعه الذي هدد به أولاً (ع ٢٥). وكان من عادة القدماء أن يعذبوا المديون إذا رأى الحاكم أنه اختلس مال غيره وأخفاه حتى يعترف. فاعتقد السيد في أول الأمر أن عبده أمين. فلما رأى ما كان منه في معاملة رفيقه تيقن أنه شرير، وظنه مختلساً، فسلَّمه للمعذبين ليعترف. كذلك حكم الله «لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً» (يعقوب ٢: ١٣) فلذلك «بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (متّى ٧: ٢) والمقصود بالعذاب في المثل توبيخ الضمير للمذنب القاسي، واحتقار الأتقياء إياه، وغضب الله عليه، والعقاب بعد الموت.

حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْه لا فرق بين هذا القول وقولنا إلى الأبد، لأنه قيل (في ع ٢٥) «لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي». فقيَّد خروج ذلك العبد بشرط مستحيل، وهو أوضح بياناً لأبدية عقابه. وهذا يشبه ما فعله الفوكيون في بلاد اليونان، فإنهم تركوا مدينتهم وألقوا كرة حديد في مكان عميق من البحر، وأقسموا ألا يرجعوا إلى أن تعوم كرة الحديد على وجه الماء! ولا شك أنهم أرادوا أن لا يرجعوا أبداً. فالواقع أن العدل دان ذلك العبد، والرحمة لم تلتفت إليه. كذلك الخاطئ في سجن الله لا ترجى نجاته إلى الأبد.

فلا صحة لما استنتجه البعض من هذا العدد من أنه يحتمل أن الخاطئ يوفي الدين لله بمقاساته عذاب جهنم ألوفاً من السنين، لأنه لا يوفي دين الخاطئ إلا بفداء يسوع المسيح. فلا توفيه الأعمال الصالحة، ولا إيلام المعذبين عن الخطايا الماضية. فالذين خابوا من رحمة المسيح في الحياة الأرضية يخيبون منها إلى الأبد. فإن قيل: كيف جاز للملك أن يطالب العبد بما وهبه له؟ قلنا إن الملوك قديماً كانوا أرباب سلطان مطلق، وكانت مشيئتهم هي الشريعة. على أن الهبة في مثل هذا المثل يجوز أن تُسترد، لأنها مقيدة بشرط وهو أن يتصرف بها العبد بما يُرضي سيده، وأنه يصح لسيده أن يطالبه بذلك الدين عقاباً له على كفره بنعمته، وقساوته على رفيقه حين كان يجب عليه أن يكون شفوقاً متحنناً.

قال بعضهم: هل يُستفاد من هذا المثل أن الله يعاقب الخاطئ على ما غفر له من الآثام؟ فالجواب لا! على أن النسبة بين عفو ملك أرضي عن المديون وبين عفو الله عن الخاطئ ليست كاملة، والخطية ليست كالدين المالي في كل شيء. فإن الدين المالي إذا أوفاه أحد عن المديون لا يبقي للدائن حق أن يطالب المديون به. وغفران الخطية ليس كذلك، لأنه مقيَّد بشرط أن يُظهر الخاطئ الذي غُفر له روح الطاعة لله، وأن يقتفي خطوات المسيح، ويلبس على الدوام ثوب بره ويتحد به كعضو من جسده. ودليل ذلك قول الرسول «وَلكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا ١: ٧). فإذاً المغفرة لمن يسلكون في نور المحبة والقداسة والشركة مع إخوتهم، ولكن قصة العبد القاسي كلها تُظهر أنه لم يكن قط إنساناً متجدد القلب مغفور الخطايا، وهو مثال لمن يدعي أنه مسيحي لكنه لم يَطهُر قط من خطاياه السالفة.

٣٥ «فَهٰكَذَا أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاَّتِهِ».

أمثال ٢١: ٢ ومتّى ٦: ١٢، ١٤، ١٥ ومرقس ١١: ٢٦ ويعقوب ٢: ١٣.

معنى هذا العدد كمعنى متّى ٦: ١٥ «إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ» وكمعنى كولوسي ٣: ١٣ وأفسس ٤: ٣٢ فالله مع كثرة رحمته شديد العقاب، والإيمان الذي لا يعمل بالمحبة ليس هو الإيمان الذي يبرر الخاطئ.

مِنْ قُلُوبِكُمْ لا قيمة للغفران من مجرد الشفتين فالله لا يغفر هكذا والذي يقول «أنا أغفر ولكن لا أنسى» لا يغفر، إنما يزيد على خطاياه رياءً. ولكن الله إذا غفر يطرح كل الخطايا وراء ظهره (إشعياء ٣٨: ١٧) فهو يصفح عن الإثم ولا يذكر الخطية (إرميا ٣١: ٣٤) وأنه يدوس الآثام ويطرح الخطايا في أعماق البحر (ميخا ٧: ١٩).

كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ قيَّد ترك الزلات هنا بالإخوة المؤمنين، لكن يجب أن نغفر لكل الناس زلاتهم إذا سألونا المسامحة. فهذه الآية تعلمنا أن أبواب السماء مغلقة دون القساة والمنتقمين ومحبي الحقد، وأنه لا غفران في يوم الدين لمن لم يغفروا لغيرهم. وفي هذا المثل فوائد كثيرة: أهمها خمس وهي الآتية:

(١) خطايانا إلى الله عظيمة جداً.

(٢) الله يغفر تلك الخطايا تمام المغفرة مجاناً.

(٣) زلات إخوتنا إلينا زهيدة، بل ليست شيئاً بالنسبة إلى خطايانا إلى الله.

(٤) يجب أن نغفر لإخوتنا زلاتهم من قلوبنا.

(٥) إنه إن لم نغفر لإخوتنا يغضب الله علينا بعدل ويعاقبنا.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى