إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 17 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح السابع عشر

١ «وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ».

مرقس ٩: ٢ الخ ولوقا ٩: ٢٨ الخ ومتّى ٢٦: ٣٧ ومرقس ٥: ٣٧ ولوقا ٨: ٥١ ومزمور ٨٩: ١٢

بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أي من إنباء المسيح بموته، وعبَّر لوقا عن هذه المدة «بنحو ثمانية أيام» فلعله حسب فوق الأيام الستة، يوم الإنباء ويوم التجلي. فما ذكره متّى كان بين هذين اليومين. وقول لوقا «نحو» يشير أنه لم يقصد التدقيق. وصرف المسيح تلك الأيام في نواحي قيصرية، أي بانياس.

بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا اختار المسيح هؤلاء الثلاثة ليكونوا معه وقت التجلي، كما اختارهم في إقامة ابنة يايرس من الموت (مرقس ٢٦: ٣٧) ولأنهم ثلاثة كان كافياً لإثبات الشهادة شرعاً (تثنية ١٧: ٦ وعبرانيين ١٠: ٢٨).

جَبَلٍ عَالٍ ظنه البعض جبل تابور قرب الناصرة، لكن ذلك بعيد عن الصواب لأن قمته كانت حينئذٍ قلعة حصينة تشغلها عساكر الرومان على ما قال يوسيفوس في تاريخه. والأرجح أن ذلك الجبل هو أحد الرؤوس الجنوبية من جبل حرمون، أي جبل الشيخ، لأن المسيح كان في بعض سفوحه قبل التجلي وبعده (متّى ١٦: ١٣ ومرقس ٩: ٣٠، ٣٣). فذهب يسوع إلى ذلك الجبل ليصلي (لوقا ٩: ٢٨).

والأرجح أن المسيح تجلى ليلاً، فقد اعتاد أن ينفرد للصلاة ليلاً (متّى ١٤: ٢٣، ٢٤ ولوقا ٦: ١٢ و٢١: ٣٧ و٢٢: ٣٩) بدليل أن التلاميذ كانوا وقت التجلي مثقلين بالنوم (لوقا ٩: ٣٢). ولم ينزلوا من الجبل إلا في اليوم التالي (لوقا ٩: ٣٧).

٢ «وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَٱلشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَٱلنُّورِ».

تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ ربما ظهر وقتئذٍ بشيء من المجد الذي لناسوته الآن في السماء والذي ظهر ليوحنا في الرؤيا (رؤيا ١: ١٢ – ١٧) وكان هذا مقدمة لمجد المسيح الذي سوف يظهر (يوحنا ١٢: ١٦، ٢٣ و١٧: ٥، ٢٤ و٢كورنثوس ٣: ١٨). وكان مجد المسيح الأصلي يستتر بناسوته اتضاعاً، فعند التجلي ارتفع الحجاب وقتاً فظهر مجده الأزلي. وحدث التجلي وهو يصلي (لوقا ٩: ٢٩). وكذلك كانت الشهادة السماوية له وقت معموديته (لوقا ٣: ٢١). وذكر بطرس نبأ التجلي في رسالته الثانية (٢بطرس ١: ١٦ – ١٨) وذكره يوحنا في بشارته (يوحنا ١: ١٤). وقد ثبَّت ذلك التجلي إقرار الرسل بأنه هو المسيح ابن الله الحي، لأن بعض أشعة شمس البر ونور العالم ظهرت لهم عند ذلك (عبرانيين ١: ٣).

أَضَاءَ وَجْهُهُ الخ قال مرقس في ذلك «صارت ثيابه تلمع كالثلج» (مرقس ٩: ٣). وقال لوقا «صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا» (لوقا ٩: ٢٩) بزغ حينئذٍ مجده الأزلي حتى تأثرت ثيابه به.

٣ «وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ».

تثنية ٣٤: ٥، ٦ ويوحنا ١: ١٧ و١ملوك ١٩: ١٠، ١٤ و٢ملوك ٢: ١١ ولوقا ٩: ٣١

مُوسَى وَإِيلِيَّا لم يظهر من الكلام هنا كيف عرفهما التلاميذ، والمحتمل أن المسيح خاطب كلاً منهما باسمه. فموسى مات قبل ذلك بنحو ١٢٠٠ سنة على جبل نبو ودفنه الله هناك (تثنية ٣٤: ٦) وانتقل إيليا بلا موت قبل ذلك بنحو ٩٣٠ سنة (٢ملوك ٢: ١١).

والجسد الذي ظهر موسى فيه يحتمل أن يكون قد لبسه وقتياً، أو أنه صورة جسد كالأجساد التي ظهرت فيها الملائكة في أيام رؤساء الآباء، أو لعله جسده الحقيقي أقامه الله قبل القيامة العامة ليبقى له إلى الأبد. وأما إيليا فظهر في جسده عينه ممجداً لأنه لم يمت (لوقا ٩: ٣١).

وكان من اللياقة أن يظهر هذان الرجلان، لا صموئيل ولا داود ولا أليشع ولا إشعياء ولا دانيال، لأن موسى كان نائباً عن الشريعة الرمزية، وإيليا كان نائباً عن الأنبياء. وتنبأ ملاخي بنحو ٤٠٠ سنة قبل ذلك بأن إيليا يأتي قبل زوال النظام العتيق والشروع في النظام الجديد، فتمت هذه النبوة بمجيء يوحنا المعمدان. ويحتمل أنها تمت أيضاً في ظهور إيليا حقيقة. ومما يستحق الملاحظة أن كلاً من المسيح وموسى وإيليا صام أربعين يوماً وأربعين ليلة (متّى ١: ١٣ وخروج ٢٤: ١٨ و١ملوك ١٩: ٨).

فالشريعة والأنبياء سجدا للمسيح في شخصي موسى وإيليا، وشهدا بصحة دعواه، واعترفا أن وظيفتهما انتهت بإتيان المعلم العظيم الذي أشارا إليه، وشهدا به قبل إتيانه. وكأنهما وضعا حينئذٍ عند قدمي المسيح الوكالة التي قد تولياها، بناءً على أن صليبه يعظّم الشريعة الأخلاقية، ويكمل الشريعة الرمزية، ويتمم كل النبوات، ويبلغ كل ما في النظام القديم غايته.

يَتَكَلَّمَانِ مَعَه وموضع هذا التكلم «خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ» (لوقا ٩: ٣١. وإذ كان ذلك الموضوع موته، لا معجزاته ولا تعليمه ولا مجده الحاضر ولا مجده المستقبل، اتضح أن موته أهم المواضيع التي يتكلم عنها في الأرض أو في السماء. وكانت ذبائح الشريعة كلها تشير إلى ذلك الموت، وأنبأ الأنبياء كلهم به «بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا» (١بطرس ١: ١١). فموسى وإيليا سلَّما بأنه لا بد من آلام المسيح وموته لتأسيس ملكوته. (وهو ما عثر به بطرس متّى ١٦: ٢٢). وكان التلاميذ نياماً أثناء بعض وقت حديث موسى وإيليا مع المسيح (لوقا ٩: ٣٢).

٤ «فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ».

جَعَلَ أي شرع وبدأ.

بُطْرُسُ يَقُول منعت الرهبة يوحنا ويعقوب من الكلام، ولكنها لم تمنع بطرس، فأسرع كعادته يتكلم (يوحنا ٢٠: ٥، ٦ و٢١: ٧) لأنه رأى أن موسى وإيليا سيفارقان المسيح (لوقا ٩: ٣٣). فكأن بطرس أراد أن يعيقهما عن الذهاب.

جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا ظهر لبطرس أن البقاء على الجبل مع الرفيقين خير من الحياة بين الناس والتعرض للتعب والإهانة والموت الذي أنبأ المسيح به. وهذا دليل على أنه كان مسروراً بتلك الحال، وصعب عليه زوالها، مع شعوره بأنهم كانوا جميعاً على رأس جبل!

نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالّ هذا يدل على أنه رغب في إكرام سيده بالفعل. وتُصنع المظال من أغصان الشجر (تكوين ٣٣: ١٧). وصنع يونان واحدة منها ليتقي الحر (يونان ٤: ٥) وكذلك صنع بنو إسرائيل في عيد المظال (لاويين ٢٣: ٤٢). والغرض من المظال الوقاية والراحة. وقال مرقس إن بطرس قال هذا «لأنه لم يكن يعلمهم ما يتكلم به، إذ كانوا مرتعبين» (مرقس ٩: ٦) وقال لوقا عن بطرس «وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ» (لوقا ٩: ٣٣). فيظهر أن بطرس تكلم بلا تأمل من تعجبه وخوفه وجهله، فإن سكان السماء لا يرضون الإقامة في الأرض. وحتى إن رضوا فإنهم لا يحتاجون إلى المظال المصنوعة بالأيدي البشرية. ولم يتحدث التلاميذ إلى موسى وإيليا، كما أنهما لم يلتفتا إلى التلاميذ.

لقد ظهر لبطرس أن البقاء مع المسيح وبعض القديسين الممجدين على قمة الجبل أمرٌ حسن، فبالأولى يظهر حسناً لكل مؤمن أن يقف مع المسيح وكل جماعات القديسين والملائكة على جبل صهيون السماوية. على أنه لا حق للإنسان أن يختار وقت الفوز بذلك، بل عليه أن يتوقع دعوة سيده بقوله «هلم صاعداً».

٥ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ ٱسْمَعُوا».

٢بطرس ١: ١٧، ١٨ وإشعياء ٤٢: ١ وتثنية ١٨: ١٥ – ١٩ وأعمال ٣: ٢٢، ٢٣

سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ علامة الحضور الإلهي (مزمور ٩٧: ٢ و١تيموثاوس ٦: ١٦). وسُميت أحياناً مركبة الله (مزمور ١٠٤: ٣ وإشعياء ١٩: ١) وسُميت أيضاً المجد أو مجد الرب. وظهرت هذه السحابة المنيرة لموسى في العليقة الملتهبة (خروج ٣: ٢) وهي التي قاد الله بها بني إسرائيل في البرية (خروج ١٣: ٢١، ٢٢) وهي التي استقرت على جبل سينا عندما صعد موسى ليكلم الله (خروج ١٩: ٩ و١٨ و٢٤: ١٦) وهي التي ملأت خيمة الاجتماع عند إتمامها (خروج ٤٠: ٣٤، ٣٥) وملأت الهيكل عند تدشينه (١ملوك ٨: ١٠) وهي التي ظهرت لرعاة بيت لحم عند ولادة المسيح (لوقا ٢: ٩) وهي التي استقبلت المسيح عند صعوده (أعمال ١: ٩) وهي التي ستحيط بالمسيح عند مجيئه الثاني (متّى ٢٤: ٣٠ و٢٦: ٦٤ ولوقا ٢١: ٢٧ ورؤيا ١: ٧ و١٤: ١٤).

ظَلَّلَتْهُمْ أي ظللت المسيح وموسى وإيليا (لوقا ٩: ٣٤).

صَوْت هو صوت الله الآب. فهذه مرة من ثلاث مرات شهد الله الآب للابن بصوت مسموع. والمرتان الأخريان في متّى ٣: ١٧ ويوحنا ١٢: ٢٨.

ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ هذه شهادة من الآب بأن يسوع ابنه، وأنه هو المسيح. وقدمها الآب عندما أنكر اليهود دعواه وعزموا على أن يقتلوه، وأدى هذه الشهادة عينها عند معمودية يسوع (متّى ٣: ١٧) وبقوله «ابني» أوضح أن المسيح مستحق إكراماً أعظم مما يستحقه موسى وإيليا فإنهما خادماه.

بِهِ سُرِرْت هذا دليل واضح على أن الآب رضي خدمة المسيح التي قدمها على الأرض لخلاص البشر، وكان راضياً بها على الدوام وخاصة وهو يدنو إلى تقديم نفسه ذبيحة.

لَهُ ٱسْمَعُوا أي اقبلوا تعاليمه. رأى بطرس أن يصنع ثلاث مظال: ليسوع وموسى وإيليا، فكأنه ساوى هذين العبدين بالمسيح، وكأن بقاءهما للتعليم في الأرض نافع كبقاء المسيح. فقال الله «له اسمعوا» لا لموسى وإيليا، أي لا للشريعة وللأنبياء، بل لذاك الذي أكملهما. فبالأولى أن لا يسمعوا لتقاليد الشيوخ وتعاليم الكتبة والفريسيين. لأنه بواسطة كلمات ابن الإنسان يعلن لنا الآب ذاته (عبرانيين ١: ١، ٢) وكلماته لا تزول إلى الأبد (متّى ٢٤: ٣٥) فله اسمعوا لتؤمنوا به ولتحبوه وتطيعوه. فذلك الصوت السماوي لكل الناس في كل زمن لا للرسل فقط، ولا يزال المسيح أفضل من كل المعلمين لأنه يفوقهم بطبيعته ومقامه ووظيفته، وشفاعته في الخطاة أكثر فاعلية على الدوام من شفاعة موسى في بني إسرائيل يوم كان معهم في البرية. والإصلاح الذي أنشأه المسيح أعظم وأبقى من الإصلاح الذي أنشأه إيليا.

٦ «وَلَمَّا سَمِعَ ٱلتَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً».

لَمَّا سَمِعَ ٱلتَّلاَمِيذُ سمعوا صوت الآب. بدأت رهبتهم عندما ظللت السحابة المسيح ورفيقيه (لوقا ٩: ٣٤) وزادت عندما سمعوا صوت الله. وهكذا كان الكهنة في الهيكل يرهبون عند ظهور علامة حضور الله (١ملوك ٨: ١١).

سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِم من الخوف والهيبة (دانيال ٨: ١٨ و٩: ٢١ و١٠: ١٠، ١٨). فقد اعتقد قدماء اليهود أن لا أحد يقدر أن يرى الله ويحيا (خروج ٢٠: ١٠ وقضاة ١٣: ٢٢ وإشعياء ٦: ٥).

٧ «فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا».

دا ٨: ١٨ و٩: ٢١

فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ فعل هذا ذلك ليطمئنهم بأنهم في عالم الحس لا عالم الأرواح. وهذا مثل ما جاء في إشعياء ٦: ٥ – ٧ ودانيال ١٠: ٩، ١٠ ورؤيا ١: ١٧ فلمسة المسيح وكلماته شجعتهم كما شجعهم صوته وهو ماشٍ على البحر (متّى ١٤: ٢٧).

قُومُوا لأنهم كانوا ساقطين على وجوههم.

٨ «فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ».

رَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ أي نظروا إلى فوق وذلك بعد أن اطمأنوا من لمسة المسيح وصوته.

لَمْ يَرَوْا أَحَدا أي لم يروا موسى وإيليا. وكانت نهاية ذلك المشهد فجأة مثل بدئه. فلما ارتفعت السحابة توارى موسى وإيليا عن عيونهم.

يَسُوعَ وَحْدَهُ فإن فيه وحده كل ما نحتاج إليه الآن وإلى الأبد، وهو يبقى معنا دائماً بلا تغيير (عبرانيين ١٣: ٨). ذهب السماويان موسى وإيليا، ولم يبق ممن يحتاج إلى مظلة سوى يسوع، فلنصنع له مظال في قلوبنا وفي قلوب غيرنا بتعليمنا إياهم فنكون كلنا هياكل حية.

وكانت من غايات ذلك التجلي أربعٌ:

(١) تثبيت إيمان تلاميذه بأنه المسيح بتمجُّده، وشهادة الآب له، وإعداده إياهم لامتحان إيمانهم وقت صلبه. فأراهم بذلك آية من السماء أبى أن يريها للكتبة والفريسيين (متّى ١٢: ٣٩).. وأنبأ بطرس بتأثير ذلك المشهد فيه (٢بطرس ١: ١٧، ١٨).

(٢) تعزية يسوع نفسه استعداداً لاحتمال آلامه. فإنه كان إنساناً كما كان إلهاً واحتاج في إنسانيته إلى تعزية (لوقا ٢٢: ٤٣).

(٣) بيان الاتفاق التام بين العهدين القديم والجديد، أي بين تعليم الشريعة والأنبياء وتعليم المسيح.

(٤) البرهان على أن يسوع هو المسيح لكل من يقرأ هذا الخبر، وإعلان عظمة مجده في المجيء الثاني.

ونستنتج من ذلك خمس فوائد:

(١) ثبوت تعليم الكتاب في شأن القيامة العامة، لأن ظهور موسى وإيليا الروحيين جسدياً صحة ما وعد به الكتاب من التغيير الذي يحدث في أجساد الأحياء، والذين يقومون من الموت في اليوم الأخير. ومثال القسم الأول إيليا لأنه لم يمت، ومثال القسم الثاني موسى لأنه مات.

(٢) إن المؤمنين الذين غابوا عن هذا العالم لا يزالون في الوجدان والتيقظ، لا في حال السبات. فهم أحياء في العالم العلوي ولهم كل القوى الروحية.

(٣) إنهم يمتازون بمنظرهم عن غيرهم كما كانوا على الأرض، وبهذا نتحقق أن الأموات في الرب يعرف بعضهم بعضاً في السماء.

(٤) إن القديسين في السماء لا يزالون يعتنون بتقدم عمل الفداء على الأرض.

(٥) تعريفنا من هيئة المسيح عند التجلي ماذا تكون هيئة أجساد المؤمنين الروحية يوم القيامة لأنه «يوجد جسد حيواني وجسم رُوحَانِيٌّ.. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٤، ٤٩) وأن المسيح «سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١).

٩ «وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ ٱلْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».

متّى ١٦: ٢٠ ومرقس ٨: ٣٠ و٩: ٩ ولوقا ٨: ٥٦

نَازِلُونَ كان ذلك في صباح الغد (لوقا ٩: ٣٧).

لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً كان الهدف من التجلي تثبيت إيمان الرسل بأن يسوع هو المسيح، وإعدادهم ليكونوا شهوداً بذلك المشهد وغيره من أعماله المجيدة، فإن وقت إعلان ذلك لسائر الناس لم يكن قد أتى. ولو أعلنوه يومها ما صدَّقهم الناس، لأنه لم يكن شيء في منظر المسيح المعتاد وفق ذلك النبأ، فتكون نتيجة إعلانه زيادة هزء الكتبة والفريسيين ومقاومتهم. وإن صدَّقه البعض زادت أوهامهم في أن ملكوت المسيح زمني.

مِنَ ٱلأَمْوَات أي من بين الموتى. أراد المسيح أن يقترن الإعلان بتجليه بإعلان قيامته. وزاد مرقس على ذلك أنهم لم يفهموا مراده بالقيامة (مر ٩: ١٠) مع أنه أخبرهم قبل ذلك صريحاً بأنه يقوم بعد ثلاثة أيام من موته (متّى ١٢: ٤٠).

١٠ «وَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: فَلِمَاذَا يَقُولُ ٱلْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟».

ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١١: ١٤ ومرقس ٩: ١١ الخ ويوحنا ١: ٢١، ٢٥

لما ظهر إيليا على جبل التجلي تذكَّر التلاميذ الوعد الذي جاء في نبوة ملاخي (٤: ٥) والذي يقول إن إيليا يظهر قبل مجيء المسيح، وكان اليهود يتوقعون أن يتم ذلك حرفياً. فسألوه ليعرفوا إن كان توقُّع اليهود حقيقياً، وإن كان ظهور إيليا لثلاثتهم على جبل التجلي هو مجيئه الموعود به، فإن إيليا كان ينبغي أن يأتي أولاً. فإن صحَّ أن ظهوره في التجلي هو الظهور الذي أُنبئ به زادهم حيرة ودهشةً لأنه بعد مجيء المسيح لا قبله.

١١ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ».

ملاخي ٤: ٦ ولوقا ١: ١٦، ١٧ و٣: ٣ – ١٤

إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً أي أن قول الكتبة والفريسيين صحيح من جهة، كما سيأتي.

يَرُدُّ كُلَّ شَيْء أي يصلح الأمة اليهودية بإرشادها إلى التوبة وإصلاح الآراء الفاسدة في حقيقة المسيح وملكوته (متّى ٣).

١٢ «وَلٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذٰلِكَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ».

متّى ١٤: ٣ – ١٠ ومتّى ١٦: ٢١

إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ أي أن يوحنا المعمدان قد أتى بروح إيليا وقوته، فتمت بذلك نبوة ملاخي (لوقا ١: ١٧).

لَمْ يَعْرِفُوهُ أي لم يعرفوا أن يوحنا المعمدان هو المقصود بإيليا في تلك النبوة.

كُلَّ مَا أَرَادُوا أي قتلوه (متّى ١٤: ٦ – ١٢). ونسب يسوع قتل يوحنا إلى الكتبة والفريسيين مع علمه بأن هيرودس هو القاتل لأنهم شاركوه في ذلك بأنهم سُروا بموته. فلو اعترفوا به علانية لم يتجاسر هيرودس أن يقتله لأنه كان يخاف من الشعب (متّى ١٤: ٥).

كَذٰلِكَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَان أي سيفعلون بالمسيح كما فعلوا بسابقه. وهذا ما حدث (لوقا ٢٣: ١١). فالعمى الذي منعهم عن إدراك أن يوحنا هو المقصود بإيليا في نبوة ملاخي، هو نفسه الذي منعهم عن معرفة أن يسوع هو المقصود بالمسيح في أقوال الأنبياء، وحملهم أن يفعلوا بيسوع ما فعلوه بيوحنا.

١٣ «حِينَئِذٍ فَهِمَ ٱلتَّلاَمِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ».

لم يذكر المسيح اسم المعمدان لهم وقتئذٍ، لكنهم فهموا ذلك من فحوى كلامه فتقدموا من تفسير الفريسيين الحرفي إلى إدراك المعنى الروحي الذي قصده ملاخي.

١٤ «وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى ٱلْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِياً لَهُ».

مرقس ٩: ١٤ الخ ولوقا ٩: ٣٧ الخ

حدث هذا بعد ليلة التجلي (لوقا ٩: ٣٧). نزل المسيح من مشهد المجد إلى مشاركة الناس في مصائبهم، وإلى احتمال مقاومة الأعداء، والحزن من قلة إيمان تلاميذه. فاحتياج العاجزين والمصابين إليه يرينا خطأ اقتراح بطرس أن يبقى يسوع والتلاميذ الثلاثة في مظال على الجبل.

ٱلْجَمْعِ كان في ذلك الجمع بعض أصحابه غير التلاميذ التسعة الباقين، وبعض المقاومين له، بدليل قول مرقس «لَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ» (مرقس ٩: ١٥) واغتنم أولئك الأعداء فرصة غياب المسيح ليحرجوهم بأسئلة. ويحتمل أن تلك الأسئلة كانت عن ولادته وعائلته وأسلوب معيشته وحقارته، وغير ذلك مما يناقض ما توقعوه من أمر المسيح. ومقصدهم من ذلك أن من كان على تلك الصفات لا يصح أن يكون المسيح، فسأل المسيح الكتبة لعلمه بمكرهم عما يحاورون التلاميذ به فسكتوا خجلاً.

جَاثِياً لَه احتراماً وتواضعاً.

١٥ «وَقَائِلاً: يَا سَيِّدُ، ٱرْحَمِ ٱبْنِي فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيداً، وَيَقَعُ كَثِيراً فِي ٱلنَّارِ وَكَثِيراً فِي ٱلْمَاءِ».

متّى ٤: ٢٤

ٱبْنِي قال لوقا إنه ابنه الوحيد، وكان مصابه أن الشيطان سكنه، وكان يمزقه، وأنه تألم شديداً، وكثيراً ما سقط بغتة على الأرض كالمصاب بالصرع، وأنه كان أبكم لا يُسمع صوتاً سوى صراخه في نوبة مرضه، وكان عند ذلك يزبد ويصر بأسنانه وييبس. فسكنى الشيطان فيه مع تلك الأعراض جعلته في شر حالٍ وصعَّبت شفاءه.

١٦ «وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ».

أعمال ٣: ١٦ و١٩: ١٥، ١٦

اتَّخذ الأب عجز التلاميذ التسعة سبباً ليلجأ إلى المسيح. ولا شك أن التسعة أمروا الروح النجس بالخروج فلم يطعهم، مع أن المسيح كان قد أعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة (متّى ١٠: ١) ولكن حادثة الولد أظهرت لهم أنها عسرة الشفاء، فضعف إيمانهم فعجزوا عن شفائها (انظر ع ٢٠). فأمر الرسل الشيطان بكلمات لم تقترن بإيمان القلب، فلم تكن ذات تأثير. ولم يخطر في بالهم أن يستعملوا الوسائط لتقوية إيمانهم وزيادة قوتهم الروحية. ولا ريب أن عجز الرسل كان موضوعاً لهزء الكتبة بهم وبمعلمهم بالنتيجة.

١٧ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ، ٱلْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ هٰهُنَا».

عدد ١٤: ١١ وإرميا ٤: ١٤

ظن البعض هذه الكلمات وُجهت إلى الرسل فقط، وأن المسيح قالها حزناً على قلة إيمانهم وضعفهم بمفارقته لهم وقتاً قصيراً، وظنوا ذلك استناداً على ما قيل في آية ٢٠. وظنها آخرون وُجهت إلى الجمع المحيط بالرسل بناءً على قوله «أيها الجيل» كأنه نائب عن كل الأمة ومثالٌ لها، وأن المسيح وجهها بالأكثر إلى الوالد لأنه مثلهم ومن جملتهم بدليل قول مرقس «فأجاب الخ» (مرقس ٩: ١٩). ولكن الأصح أنه قصد توبيخ الجميع، أي الجمع والوالد والتلاميذ، لأن التلاميذ صاروا كسائر الأمة لعدم إيمانهم، فاستحقوا أن يكونوا شركاءها في ذلك التوبيخ.

إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ هذا كلام معلمٍ يشتكي بلادة تلاميذه وعدم استفادتهم من تعليمه، وهو يناسب قول يسوع لفيلبس «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ!» (يوحنا ١٤: ٩). فهذا السؤال أولى بأن يوجه إلى تلاميذه، فكأنه قال لهم: ألم تروا من آيات قدرتي ما يقنعكم إنه لا يستحيل شيءٌ تفعلونه باسمي؟

إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ وهذا السؤال أولى بأن يوجه إلى الكتبة الذين أظهروا بأسئلتهم عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم.

قَدِّمُوهُ إِلَيَّ ما قاله يسوع حينئذٍ لذلك الوالد يقوله اليوم لكل الوالدين داعياً إياهم أن يقدموا أولادهم إليه ليشفي أمراض نفوسهم.

١٨ «فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ ٱلشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ ٱلْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».

متّى ١٥: ٢٨ ويوحنا ٤: ٥٢، ٥٣

ذكر مرقس من أمر ذلك الولد حوادث لم يذكرها متّى للاختصار (مرقس ٩: ٢٠ – ٢٣).

ٱنْتَهَرَهُ أي زجره، والمراد أنه زجر الشيطان الذي فيه بأن وبخه لدخوله في الولد وتعذيبه إياه وأمره بالخروج منه.

١٩ «ثُمَّ تَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالُوا: لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟».

عَلَى ٱنْفِرَادٍ أي في البيت الذي دخلوه بعد المعجزة (مرقس ٩: ٢٤). خجل التلاميذ التسعة واضطربوا لعجزهم عن شفاء الولد، وأرادوا أن يعرفوا علة ذلك رغم أنهم لم يتجاوزوا حدود السلطان المعطى لهم (متّى ١٠: ١ – ٨) وأنهم استعملوه قبل ذلك ونجحوا.

٢٠ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ: ٱنْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ».

متّى ١٤: ٣١، ٢١: ٢١ ومرقس ١١: ٢٣ ولوقا ١٧: ٦ و١كورنثوس ١٢: ٩، ١٣: ٢ وعبرانيين ٣: ١٩

لِعَدَمِ إِيمَانِكُم نتج عدم إيمانهم إما من نظرهم شدة مرض الولد، أو من حضور الكتبة المقاومين واستخفافهم بهم. وكان الإيمان بالمسيح شرطاً ضرورياً لعمل المعجزات باسمه، لا لأنه كان أسهل على الله أن يجري المعجزة على أيدي المؤمنين من أن يجريها على أيدي الكافرين، بل لأنه سُر بأن يقرن إجراء المعجزات بالإيمان به. فالإيمان شرط كل قوة روحية، وعدمه علة الضعف والعجز.

حَبَّةِ خَرْدَلٍ شاع ذلك بينهم استعارة لأصغر المقادير.

لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ هو جبل حرمون أي جبل الشيخ الذي نزل منه.

إِلَى هُنَاكَ الإشارة إلى جهة أخرى في السهل أو إلى جهة البحر. وكثيراً ما يراد بنقل الجبال الأمر العظيم الذي يحتاج إلى قوة فوق قوة البشر (زكريا ٤: ٧ و١كورنثوس ١٣: ٢). فأراد المسيح أن يبين لتلاميذه قوة الإيمان بأنه أقل ما يكون منه في قلوبهم يقدِّرهم على صُنع أعظم المعجزات. فالإيمان يقوي المؤمن، لأن بواسطته يتمسك بقوة الإله القادر على كل شيء. وكرر المسيح تلك الاستعارة في غير هذا الوقت (متّى ٢١: ٢١ ومرقس ١١: ٢٣).

لاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ أي مما يؤول إلى مجد الله وتقدم ملكوته.. كان في وسع المسيح أن يمنع عجز تلاميذه عن شفاء ذلك المصاب بقوته الإلهية، ولكنه أنه سمح بوقوعه في غيبته تمهيداً لتعليمه إياهم قوة الإيمان.

٢١ «وَأَمَّا هٰذَا ٱلْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلصَّوْمِ».

هٰذَا ٱلْجِنْس ظن البعض أن ذلك الشيطان كان أقوى من غيره، لا يخرج إلا بقوة غير معتادة من قوات إخراج الشياطين. ولكن الأحسن أن نفهم أن الإشارة هنا هي إلى كل الشياطين، وأن إخراجهم من أعظم المعجزات، فيحتاج من يخرجهم إلى الإيمان الأقوى.

بِٱلصَّلاَةِ وَٱلصَّوْم لم يكن الإيمان هبة للرسل إلا باستعمال الوسائط لنواله. فإيمانهم الضعيف يمكن أن يتقوى بالصلاة والصوم. فعند ذلك يستطيعون أن يُخرجوا الشياطين. ولعلهم لم يصلّوا كعادتهم أو لم يصوموا في غيبة المسيح والجموع تزدحم حولهم والكتبة يحرجونهم، فضعُف إيمانهم كسراج ضعُف ضوؤه لقلة زيته. أو لعلهم اعتمدوا على قوتهم للقيام بالمعجزة.

والصوم المذكور هو الانقطاع عن كل طعام، وهو يزيد الصلاة قوة وحرارة. لأنه إن كان الجسد شبعاناً عسر على النفس أن تستعمل قواها. ويُكنى بالصوم عن إنكار الذات والامتناع عن الشهوات الجسدية التي تمنع من أعمال العبادة الروحية وذلك وفق قول الرسول: «أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ» (١بطرس ٢: ١١). فيجب علينا أن نُنهض إيماننا ونقويه بواسطة الصلاة وإنكار الذات لنقدر أن نحارب الشيطان وجنوده.

٢٢ «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي ٱلْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ».

ترك الرب حينئذٍ نواحي جبل حرمون وتوجه جنوباً إلى الجليل (مرقس ٩: ٣٠). وفيما كان يجول هنالك كرر لتلاميذه نبوءته السابقة بموته (متّى ١٦: ٢١ – ٢٣) لأن تكرارها كان ضرورياً لصعوبتها عليهم.

يُسَلَّمُ أشار بذلك إلى تسليم يهوذا إياه إلى أيدي رؤساء الكهنة (متّى ٢٦: ١٤، ١٦) وتسليم الكهنة إياه إلى أيادي الرومان (متّى ٢٦: ٤٧ – ٥٠).

٢٣ «فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ. فَحَزِنُوا جِدّاً».

متّى ١٦: ٢١ و٢٠: ١٧ ومرقس ٨: ٣١ و٩: ٣٠، ٣١ و١٠: ٣٣ ولوقا ٩: ٢٢، ٤٤ و١٨: ٣١ و٢٤: ٦، ٧ ويوحنا ١٦: ٦، ٢٠ الخ

فَيَقْتُلُونَهُ لا يكتفي أعداؤه إلا بموته، فعندما قال بيلاطس «أنا أؤدبه وأطلقه» صرخوا «اصلبه اصلبه» (لوقا ٢٣: ١٦، ٢١) فلا شيءيوفي ما على البشر للشريعة إلا موت المسيح، لقولها «اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٤) فالذي يفدي الخاطئ يلتزم أن يموت عنه لأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عبرانيين ٩: ٢٢ ولاويين ١٧: ١١).

فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ قرن المسيح خبر موته بخبر قيامته ليبين أنه لا يبقى تحت سلطان الموت إلا قليلاً.

فَحَزِنُوا جِدّاً لأنهم انتبهوا لقوله «يقتلونه» وغفلوا عن قوله «يقوم» كأنه لم يذكره. ولحبهم المسيح، ولعدم إرادتهم أن يتألم، ولصعوبة فراقه عليهم، ولخيبة آمالهم كسائر اليهود لأنهم كانوا يتوقعون أن يكون المسيح ملكاً زمنياً. ومع هذا الحزن لم يتجاسروا أن يعترضوا على شيء من إنبائه بموته خوفاً من أن يوبخهم كما وبخ بطرس (متّى ١٦: ٢٣). ونستنتج مما جاء في مرقس ٩: ٣٢ ولوقا ٩: ٤٥ أنهم لم يفهموا معنى كلام المسيح، إنما فهموا أنه أشار إلى كارثة هائلة. وسبب عدم إدراكهم لقصده أنهم عجزوا أن يدركوا أن المسيح يموت.

٢٤ «وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ تَقَدَّمَ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ ٱلدِّرْهَمَيْنِ؟».

مرقس ٩: ٣٣ وخروج ٣٠: ١٣ و٣٨: ٢٦

إِلَى كَفْرَنَاحُومَ هي مدينة سكنه.

ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلدِّرْهَمَيْنِ لم يكن هؤلاء عشارين، بل وكلاء كهنة الهيكل. فلم يطلبوا جزية سياسية تُدفع للرومان (كما في متّى ٢٢: ١٩) وإلا كان الحديث بلا معنى. فأداء الدرهمين عمل ديني لخدمة الهيكل لشراء حيوانات تُقدم ذبائح يومية وحطب ودقيق وملح وزيت وبخور وغيره (خروج ٣٠: ١١ – ١٦ و٢ملوك ١٢: ٤، ٥ و٢أخبار ٢٤: ٥، ٦ ونحميا ٣٢: ٣٣). والدرهمان نصف شاقل يؤديه كل ذكر من اليهود يزيد عمره على ٢٠ سنة. ولم يُقصر ذلك على يهود فلسطين بل كان على كل اليهود في الوطن والخارج. فكانوا يجمعون ذلك كل سنة ويضعونه في خزانة الهيكل. وبعد خراب الهيكل أمر الامبراطور فسباسيان أن يُجمع الدرهمان من كل يهودي، وأن يُنفق المجموع على هيكل زفس (أي المشتري). ولما وصل المسيح إلى كفرناحوم تبعه وكلاء الكهنة إلى بيت بطرس وسألوا بطرس «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ ٱلدِّرْهَمَيْنِ؟» فلو كان ذلك للرومان لم يكن إيفاؤهما اختياراً كما يقتضي السؤال.

ويمكن أن يكون سؤالهم هذا كسؤالهم سائر اليهود، أو لعلهم ظنوه يرفض أن يوفي الدرهمين لدعواه أنه نبي، فيجدون علة يشتكون بها عليه إلى رؤساء الشعب. ولم يذكر أحد من البشيرين خبر الدرهمين سوى متّى، ليثبت لاهوت المسيح لقرائه من اليهود، فقد كان طلب اليهود منه دفع الدرهمين ليبرهنوا أنه ليس نبياً، فروى متّى القصة ليوضح الأمور التي حملته على ذلك، والمعجزة المقترنة به.

٢٥ «قَالَ: بَلَى. فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ ٱلْجِبَايَةَ أَوِ ٱلْجِزْيَةَ، أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ ٱلأَجَانِبِ؟».

بَلَى حرف جواب للإيجاب، أي أنه يوفي الدرهمين. وقال ذلك بناءً على علمه أن المسيح يقوم بكل ما توجبه الشريعة اليهودية. ويُحتمل أنه قال ذلك لأن المسيح دفع الدرهمين في السنة الماضية. ولم يخطر ببال بطرس أن إجابته تناقض إقراره السابق بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي.

سَبَقَهُ يَسُوعُ أي أجابه قبل أن يسأله. فمع أن المسيح كان داخل البيت وبطرس، والذين يأخذون الدرهمين خارجاً، علم ما حدث بعلمه الإلهي.

أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ ٱلأَجَانِبِ؟ قصد ببنيهم أفراد العائلة الملكية، وقصد بالأجانب من ليسوا كذلك. وغاية المسيح من السؤال أن يدرك بطرس السبب الذي جعله يعد بأن معلمه سيوفي الدرهمين.

٢٦ «قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: مِنَ ٱلأَجَانِبِ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: فَإِذاً ٱلْبَنُونَ أَحْرَارٌ».

١صموئيل ١٧: ٢٥

أجاب بطرس سؤال يسوع بالصواب، وهو أن الملوك لا يأخذون الجزية من بنيهم بل ممن ليسوا من البيت والعائلة. والظاهر أنه أجاب كذلك وهو لا يدرك قصد المسيح من توجيه السؤال له.

ٱلْبَنُونَ أَحْرَارٌ كأنه قال: أنا ابن الله وأنت أقررت بأني كذلك، والهيكل بيت أبي (يوحنا ٢: ١٦) والدرهمان يؤخذان لخدمة أبي في الهيكل. فلستُ إذاً مكلفاً بتأديتهما. فإيفائي لهما يشير إلى أني أحد الرعية لا ابن.

ويتضح من هذا أن الجزية ليست سياسية، وإلا فيكون يسوع قد ادعى أنه ابن أوغسطس قيصر.

٢٧ «وَلٰكِنْ لِئَلاَّ نُعْثِرَهُمُ، ٱذْهَبْ إِلَى ٱلْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً، وَٱلسَّمَكَةُ ٱلَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا، وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً، فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ».

متّى ١٥: ١٢ ورومية ١٣: ٦، ٧

لِئَلاَّ نُعْثِرَهُم أي لئلا يقولوا إننا نحتقر الهيكل أو إننا أتينا لننقض الناموس. فإن أبيتُ أن أؤدي الدرهمين بناءً على أني ابن الله لا يفهمون قصدي، لأنهم لا يقرون ببنوتي لله. وإن صرحت بتلك البنوة التي منعتُك وسائرَ الرسل من إظهارها يوم إقرارك، اتخذوا ذلك سبباً جديداً للشكوى عليّ ومخاصمتي. فأُؤدي الدرهمين ليُنفَقا على الهيكل، مع أني أعظم من الهيكل (متّى ١٢: ٦) لأني أنا الهيكل الحقيقي (يوحنا ٢: ٢١). فافعلْ ذلك دفعاً للخصام، لا لأنه واجب عليَّ.

فالمسيح مع كونه ابناً «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ» (فيلبي ٢: ٥) «مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤) وخُتن، واعتمد، وأدى جزية الهيكل. فما أتاه ابن الله هنا وفق قول الرسول «امْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرّ» (١تسالونيكي ٥: ٢٢) فنتعلم من ذلك أنه لا يلزم أن نطلب كل حقوقنا إن حصل من ذلك عثرة لغيرنا، كما فعل بولس وقال «لكِنَّنَا لَمْ نَسْتَعْمِلْ هذَا السُّلْطَانَ، بَلْ نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ» (١كورنثوس ٩: ١٢).

ٱلْبَحْرِ أي بحر الجليل الذي تقع كفرناحوم على شاطئه.

أَلْقِ صِنَّارَةً إلقاء الصنارة مهنة قديمة لبطرس.

وَٱلسَّمَكَةُ ٱلَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً هذه الحادثة غريبة في شيء واحد، وهو أن نتيجة طاعة المسيح لم تُذكر. لكن لا ريب في أن بطرس وجد كما وعده يسوع، لأنه إله يقول فيكون.

إِسْتَاراً قطعة فضة تزن أربعة دراهم.

عَنِّي وَعَنْك خضع المسيح بدفع تلك الجزية للشريعة حتى صار بمنزلة مجرد إنسانٍ كبطرس، وأوجد الدرهمين بقوة إلهية. ولم يذكر في هذا الخبر أن سائر التلاميذ أدوا تلك الجزية، فلعله أداها كلٌّ منهم في موطنه. وفي هذا الأمر أبان المسيح تواضعه ومجده كليهما، فأظهر تواضعه بتأدية الجزية وخلو يده منها وهي قدر لا يعتد به، وأعلن مجده بالمعجزة التي صنعها للحصول على ما يؤديه. وهذه المعجزة تظهر معرفة المسيح الخارقة العادة، فإنه عرف ما في فم السمكة في قلب البحر، وقوة مشيئته التي لا تدرك جعلت السمكة تتناول ما يفي بالمطلوب، وتأتي إلى حيث ألقى بطرس صنارته، وتأخذ الصنارة بفمها. فلا ريب في أن يسوع رب الخليقة حتى أن أسماك البحر أيضاً تطيعه. وذلك يذكرنا حادثة يونان النبي فإن «الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ» (يونان ١: ١٧) ودلتنا حادثة السمكة والإستار على السهولة التي تهب بها عناية الله للمؤمنين ما يحتاجون إليه في زمن الضيق، وأن ما يحسبه بعض الناس اتفاقاً أو حسن حظ ليس إلا علامة محبة الله وعنايته الخاصة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى