إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 16 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح السادس عشر

١ «وَجَاءَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ».

متّى ١٢: ٣٨ ومرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦ و١٢: ٥٤ الخ و١كورنثوس ١: ٢٢

ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلصَّدُّوقِيُّون هما فرقتان من اليهود مختلفتان في بعض العقائد، وبينهما بغضة وخصومة. فكان الفريسيون غيورين للناموس والتقليد، وكان الصدوقيون يرفضون كل التقاليد وبعض أسفار الوحي (متّى ٣: ٧). وبالرغم من تلك العداوة بين الفريقين اتفقا على مقاومة المسيح، فسألاه ما سأله الكتبة والفريسيون قبلاً عبثاً (متّى ١٢: ٣٨).

لِيُجَرِّبُوهُ ليمتحنوا صحة دعواه لشكهم فيها أو لإنكارهم إياها. وكان سؤالهم للتجربة لأنه لم يكن بنيَّة خالصة، بل عن خداع ليصطادوه بفخهم، ويشككوا الناس فيه، فكانوا كالشيطان مجرِّب المسيح والناس. لم يكونوا محتاجين إلى آية من السماء أعظم وأوضح مما شاهدوه أو سمعوا به حتى الآن، ومع هذا انتحلوا السؤال لأن في قلوبهم مرضاً!

آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاء سألوه ذلك لاتهامهم أن ما أتاه من الآيات كان من الأرض بسحر أو شعوذة، أو من جهنم بقوة رئيس الشياطين كما أعلنوا ذلك قبلاً (متّى ١٢: ٢٤). ولعل الناس كانوا يتوقعون أن تظهر عند مجيء المسيح آيات غريبة في السماء، فطلبوا وفق ما توقعوا. والأرجح أنهم طلبوا ذلك تعجيزاً له ليكون لهم حجة على عدم اقتناعهم بالمعجزات التي صنعها قبلاً.

٢ «فَأَجَابَ: إِذَا كَانَ ٱلْمَسَاءُ قُلْتُمْ: صَحْوٌ لأَنَّ ٱلسَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ».

وبخهم على أنهم يستدلون من مظاهر الجو الغامضة على ما سيقع من الحوادث الجوية في الغد، ومع هذا لم يقتنعوا بالبراهين الواضحة التي أقامها على صحة دعواه.

ٱلْمَسَاءُ أي المساء الثاني، وهو بين الغروب والعتمة.

قُلْتُم أي اعتقدتم أن تقولوا في المخاطبات المعتادة في أحوال الجو.

مُحْمَرَّة كثيراً ما تحمر السماء مساءً عند المغرب أو بعده بقليل. وكان القدماء يتخذون ذلك علامة على صحو الغد كعادة الناس اليوم.

٣ «وَفِي ٱلصَّبَاحِ: ٱلْيَوْمَ شِتَاءٌ لأَنَّ ٱلسَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ. يَا مُرَاؤُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلسَّمَاءِ، وَأَمَّا عَلاَمَاتُ ٱلأَزْمِنَةِ فَلاَ تَسْتَطِيعُونَ».

مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ ذلك لا يكون إلا لغيوم تقع عليها أشعة الفجر، فاستدلوا بذلك على قرب المطر.

يَا مُرَاؤُونَ أي يا مخادعون. وصفهم بالرياء لأنهم ادعوا القدرة على الإنباء بالمطر أو الصحو من المظاهر الجوية الغامضة، وهم يسألون زيادة البراهين على أنه قد أتى الزمان الموعود أن يأتي فيه المسيح، وزيادة البراهين منه على أنه هو المسيح المنتظر، مع أنه كان لديهم براهين كافية لإثبات ذلك.

عَلاَمَاتُ ٱلأَزْمِنَةِ أي الأوقات المعينة في النبوات بإتيان المسيح والعصور الإنجيلية. وتلك العلامات هي مجيء يوحنا المعمدان الذي سبق المسيح، والمعجزات التي صنعها يسوع، والنبوات التي تمت في زمانه ومنها «زوال القضيب من يهوذا والمشترع من بين رجليه» (تكوين ٤٩: ١٠) ومنها انتهاء أسابيع نبوة دانيال (دا ٩: ٢٥). فهم لم يروا شيئاً من هذه مع زيادة وضوحها. ولا زلنا نرى كثيرين أذكياء نابهين في أحكامهم الدنيوية، ولكنهم كسالى مخطئون في أحكامهم الدينية، لا يستطيعون إدراك شيء مما يخالف أغراضهم وأهواءهم.

٤ «جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى».

متّى ١٢: ٣٩ الخ

في هذه الآية بقية جواب المسيح، وهو كالكلام في متّى ١٢: ٣٩ وقد فُسر هناك. لقد حسب يسوع أن طلبهم المعجزة كان في غير محله، لأنه قد أعطيت لهم آيات بدل آية. فما معنى هذا الطلب؟ أما آية يونان النبي فتفيد على الأيام الثلاثة بين صلبه وقيامته، كما أنها إشارة إلى توبة أهل نينوى. فهل لهم أن يتوبوا كما فعل أولئك؟

تَرَكَهُمْ وَمَضَى في هذا إشارة إلى سرعة ذهابه عنهم حزناً عليهم وغيظاً لعنادهم ومكابرتهم.

٥ «وَلَمَّا جَاءَ تَلاَمِيذُهُ إِلَى ٱلْعَبْرِ نَسَوْا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً».

مرقس ٨: ١٤

إِلَى ٱلْعَبْرِ أي عبر بحر الجليل، فإنهم كانوا قرب مجدل على الشاطئ الغربي، فعبروا إلى الشاطئ الشرقي.

نَسَوْا الخ أي أهملوا الاستعداد للسفر إلى أرض برية حيث يصعب الحصول على الطعام. وذكر مرقس أنه لم يكن معهم سوى «رغيف واحد» (مرقس ٨: ١٤) وذكر متّى الخبر ككل، لأن الخبز هو المعوَّل عليه في التغذية وأسهل نقلاً في السفر.

٦ «وَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: ٱنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ».

لوقا ١٢: ١

كان موضوع أفكار التلاميذ وحديثهم نسيان الخبز. وكانوا يهتمون بما يحتاجون إليه في المستقبل، فاغتنم المسيح الفرصة ليعلمهم درساً روحياً باستعارة إحدى المواد المتعلقة بعمل الخبز، وهي الخميرة وتأثيرها التخمير وهو بدء الفساد. فاستعار الخمير للمفسدات الأخلاقية، لأنه حُرِّم في أكثر تقدمات الشريعة الموسوية (خروج ٣٤: ٢٥ ولاويين ٢: ١١).

خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّين أي فسادهم الأخلاقي وهو الرياء (لوقا ١٢: ١). وذلك أنهم ادعوا الغيرة للحق وقلوبهم فارغة منها. وقال مرقس «وأوصاهم قائلاً: انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين وخمير هيرودس» (مرقس ٨: ١٥) لأن هيرودس ومعظم أتباعه كانوا من الصدوقيين. والفريسيون طقسيو ذلك الزمن، والصدوقيون طبيعيو نفس الزمن، وكلاهما لم يكن يكترث بالدين، وكلهم كافرون في القلوب لكنهم تظاهروا بالغيرة العظمى للحق.

فائدتان:

(١) أن أفضل الناس يحتاج إلى التنبيه كيلا يقع في التجربة. و

(٢) أن الخطر من المضلين المتظاهرين بالتقوى الزائدة أعظم من خطر المضلّين أصحاب الشرور المُعلنة.

٧ «فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً».

فَفَكَّرُوا اهتموا بالخبز وأظهروا عظمة ذلك الاهتمام بحرارة حديثهم عنه.

إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً فهم التلاميذ كلام المسيح على ظاهر معناه ولم ينتبهوا للمجاز، لأن أفكارهم كانت مشغولة بالخبز، فلم يفهموا من قول المسيح «احترسوا من خمير» إلا الخبز المختمر. ومما عطلهم عن الفهم أنه كان لليهود كلام طقسي كثير في شأن الخمير، فقال بعضهم إنه لا يجوز الحصول عليه من الأمم. ولعل التلاميذ ظنوا أن المسيح حذرهم من أخذ الخبز المختمر من الفريسيين لئلا يتدنسوا منهم كما يتدنسون من الأمم، لأن الفريسيين يقاومونه. ولولا بساطة التلاميذ وجهلهم وبطء فهمهم معاني كلام المسيح الباطنة ما وقعوا في ذلك الغلط بعد مضي زمان طويل لهم معه.

٨ «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزاً؟».

فَعَلِمَ يَسُوعُ أي علم أفكارهم وأقوالهم، ولم يلمهم على نسيان الخبز لكن على عدم ثقتهم بأنه يقدر أن يسدد احتياجهم.

يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ يبين قلة إيمانهم أمران:

(١) عدم فهمهم الأمور الروحية التي أنبأهم المسيح بها باستعارة جسدية. فلو كان لهم إيمان كافٍ لفهموا ذلك، لأن الإيمان قوة تُرى بها الروحيات. و

(٢) كثرة اهتمامهم بالاحتياجات الجسدية وعدم ثقتهم بأن المسيح يقوم بها. ولامهم المسيح على أنهم عموا عن الروحيات باهتمامهم بالجسديات.

٩، ١٠ «٩ أَحَتَّى ٱلآنَ لاَ تَفْهَمُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ خَمْسَ خُبْزَاتِ ٱلْخَمْسَةِ ٱلآلاَفِ وَكَمْ قُفَّةً أَخَذْتُمْ، ١٠ وَلاَ سَبْعَ خُبْزَاتِ ٱلأَرْبَعَةِ ٱلآلاَفِ وَكَمْ سَلاًّ أَخَذْتُمْ؟».

متّى ١٤: ١٧ ويوحنا ٦: ٩ ومتّى ١٥: ٣٤

أَحَتَّى ٱلآنَ لاَ تَفْهَمُونَ أي هل لم تعرفوا بعد مصاحبتكم لي كل هذا الزمان، وسماعكم أقوالي وتعاليمي مراراً كثيرة، أن غاية كلامي وخلاصة تعليمي هي الحقائق الروحية الضرورية لحياة نفوس البشر، لا الأمور الطفيفة كخمير الخبز وفطيره وما أشبه ذلك؟

وَلاَ تَذْكُرُونَ مما زاد اللوم على قلة إيمانهم أنهم شاهدوا منذ قليل عمله المعجز في إشباع ألوف وقت الحاجة، ومع هذا نسوا ما علَّمهم بتلك المعجزتين أنه ما دام معهم فلا يجب أن يهتموا كل هذا الاهتمام بالأمور الجسدية. فكأنه قال لهم: أيها الغافلون، أيعجز من أشبع خمسة آلاف في البرية ثم أربعة آلاف من قليلٍ من الخبز، عن أن يشبع اثني عشر رجلاً؟!.

قُفَّةً… سَلاًّ ميز المسيح بين الأوعية التي جمع فيها الخبز، كما ميز بينها البشير في إنبائه بالمعجزتين.

فائدة: يقتضي أن نتعلم الثقة بالله من اختبارنا رحمته، ولكن قليلين من المسيحيين لا يخجلون إذا سألهم المسيح قائلاً: هل ذكرتم مراحم الله الماضية لكي تطمئن قلوبكم في زمن الشدة؟

١١ «كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ أَنِّي لَيْسَ عَنِ ٱلْخُبْزِ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ تَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ؟».

تعجب المسيح من أن تلاميذه لم يعلموا أن هدفه ومعجزاته كان الطعام الروحي الذي هو غذاء النفوس لا الأطعمة الجسدية كالخبز. ولم يفسر المسيح قصده من الخمير، بل وجه أفكار التلاميذ إلى حيث يمكنهم أن يفهموا ذلك القصد. ولا بد من أنهم استفادوا من توبيخه وانتبهوا بعد ذلك لمعنى كلامه الروحي.

١٢ «حِينَئِذٍ فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْخُبْزِ، بَلْ مِنْ تَعْلِيمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ».

علينا أن نقارن هذا بما ورد عن مثل الخميرة (متّى ١٣: ٣٣) فيستعمل السيد الخميرة لمعنيين مختلفين. وهذا كثير الورود في الأمثال والاستعارات، لأن جوهر المعنى في الخميرة هو العمل السري والانتشار، سواء في الخير أو الشر.

استيقظت عقول التلاميذ لما يهمّ المسيح، وانفتحت عيون إيمانهم حتى فهموا من تلقاء أنفسهم أن قصد بالخمير التعليم الفاسد من المعلمين المرائين.

يَتَحَرَّزُوا لم ينه المسيح تلاميذه عن مخالطة الفريسيين والصدوقيين، بل أمرهم أن يحذروا ضلالهم.

تَعْلِيمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ الخ يشبه الضلال الخميرة في ستة أشياء.

(١) أنه يظهر في بادئ الأمر صغيراً لا يعتد به بالنسبة إلى الحق، كما أن الخميرة تكون صغيرة بالنسبة للعجين كله.

(٢) إنه يشبه الحق في أول أمره، فيعسر تمييزه، كما أن الخميرة لا تختلف عن العجين منظراً.

(٣)إن عمل كلٍ منهما خفيٌ.

(٤) أن كلاً منهما يعمل بالتدريج.

(٥) إن من صفاتهما الامتداد.

(٦)أن الضلال حيث استقر يُفسد عقائد الإنسان، كما أن الخميرة تُصيِّر كل العجين مثلها، فإن «خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ» (غلاطية ٥: ٩).

فائدتان:

(١) أنه يجب على المسيحي أن ينتبه لإنذارات الكتاب كما ينتبه لمواعيده.

(٢) إن الفريسيين والصدوقيين ماتوا لكن خميرتهم باقية على ما كانت عليه من شدة التأثير. فعلى كل فرد وكل كنيسة الانتباه لإنذار المسيح.

١٣ «وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ؟».

مرقس ٨: ٢٧ الخ ولوقا ٩: ١٨ الخ

بدأ المسيح في ذلك الوقت يجهز التلاميذ لقبول تعليم يعسر عليهم التسليم به. كيف لا، وهو من أعسر التعاليم فهماً وأبعدها منالاً، وهو أنه ينبغي أن يتألم ويموت ليتمم عمل الفداء؟ ولهذا افتتح كلامه بسؤاله عما يفتكرون في أمر دعواه أنه المسيح. وهذه الحكمة الإلهية لم يفهمها الرسل عندئذٍ، فكم بالأحرى عامة الناس. إنها تحتاج إلى تعمُّق كبير في فهم قوة الله للخلاص. لأن ذكر الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فقوة الله.

قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّس هي مدينة شمال الجليل في سفح جبل حرمون (الذي هو جبل الشيخ) وتبعد نحو ساعة عن نبع الأردن. وكان اسم المدينة أولاً «لايش ودان» (يشوع ٧٩: ٤٧ وقضاة ١٨: ٢٧ – ٢٩) واسمها اليوم بانياس، وهو مأخوذ من اسم قديم لها، لأنه كان فيها هيكل «بان» أحد آلهة اليونانيين. وقد جدد بناءها فيلبس رئيس الربع، وهو ابن هيرودس الكبير، قبل ذلك بثلاث سنين ووسعها وزينها وسماها قيصرية إكراماً لقيصر طيباريوس إمبراطور روما، وأضيفت إلى اسمه تمييزاً لها عن قيصرية أخرى بُنيت على شاطئ بحر الروم بين يافا وعكا. وجاء المسيح إلى القرى التي في نواحي قيصرية فيلبس يبشر ويعلم. وفيما كان مسافراً بين قريتين من تلك القرى سأل تلاميذه الاثني عشر السؤال المذكور هنا .

ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ لقَّب المسيح نفسه بهذا إشارة إلى ما في دانيال ٧: ١٣ حيث أُشير إلى المسيح. فسألهم ذلك السؤال ليقودهم إلى الإقرار بما هو أسمى من ذلك اللقب وهو «ابن الله».

١٤، ١٥ «١٤ فَقَالُوا: قَوْمٌ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. ١٥ قَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟».

متّى ١٤: ٢ ولوقا ٩: ٧

قدموا من الآراء التي ذكروها رأي هيرودس، وهو أنه المعمدان (متّى ١٤: ٢) إما لسمو رتبته أو لأن رأيه انتشر بين عامة الناس.

إِيلِيَّا توقع كثيرون من اليهود مجيء إيليا نفسه قبل إتيان المسيح بناءً على نبوة ملاخي (متّى ٤: ٥، ٦).

إِرْمِيَا هو نبي كان في اليهودية منذ نحو ٦٠٠ سنة قبل الميلاد.

وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ أي أن أحد الأنبياء الأولين قام من الموت.

وَأَنْتُمْ ثم سألهم عن رأيهم الخاص فيه.

١٦ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ».

متّى ١٤: ٣٣ ويوحنا ٦: ٦٩ و١١: ٢٧ وأعمال ٨: ٣٧ و٩: ٢٠ وعبرانيين ١: ٢الخ و١يوحنا ٤: ١٥ و٥: ٥

أجاب بطرس بالنيابة عن الباقين، لأن الإسراع إلى الكلام كان من طبعه، أو لأن التلاميذ بسبب سرعة بطرس اتخذوه المتحدث باسمهم.

أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ كل أعمال يسوع منذ شرع يتمم وظيفته كانت تبرهن على أنه المسيح، أي الممسوح لإتمام الوظائف الكبرى لشعبه باعتباره النبي والكاهن والملك كما أنبأ الأنبياء (مزمور ٢: ٢ ودانيال ٩: ٢٥). وهو يخص البشرية كلها ويسمو فوقها، فلا أحد يحتكره لنفسه، ولا أحد يستنفده بامتلاكه، فهو للكل على السواء، على شرط أن يُخلصوا له من كل قلوبهم.

ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيّ وُصف الله بالحي تمييزاً له عن آلهة الوثنيين (يشوع ٣: ١٠ وأعمال ١٤: ١٥) ولأنه حاضر بين الناس ويعلم أحزانهم ويعتني بهم، ويهبهم الحياة والقوة. وهذا اللقب عظيم جداً وهو لائق بالمسيح. وجواب بطرس لم يكن عن نفسه وحده، ولا مجرد تقرير ما قاله أندراوس لما عرفه بالمسيح بقوله «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا الَّذِي تَفْسِيرُهُ:الْمَسِيحُ» (يوحنا ١: ٤١) بل كان إقراراً موقراً عن نفسه وعن سائر التلاميذ بأن يسوع قد أثبت كل ما ادعى به من أنه المسيح المنتظر منذ القديم. فلا ريب في أن صدَّق سائر الرسل إقرار بطرس كأنه إقراراهم. وهذا الإقرار بين لهم إيماناً قوياً في وقت أنكر فيه رؤساء الأمة صحة ذلك الإقرار، وكان فيه المسيح في صورة عبد فقير لا ثروة له ولا شرف ملكي ولا شيء يدل على عظمته الملكية.

١٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

أفسس ٢: ٨ و١كورنثوس ٢: ١٠

طُوبَى لَك أي أن الله أظهر لك نعمة سامية بأن وهبك الإيمان لتقرَّ بذلك. فقد سبق مثل هذا الإقرار بالمسيح لفظاً ممن شاهدوه حين سكَّن اضطراب البحر (متّى ١٤: ٣٣) وسبق من فم نثنائيل حين لقي المسيح أول مرة (يوحنا ١: ٤٩) لكن ذلك كان نتيجة العجب وتأثيراً وقتياً. أما إقرار بطرس فكان عن إيمان ثابت، ولم يُبن على مجرد البراهين العقلية بل على تأثير الروح القدس في قلبه أيضاً.

سِمْعَانُ بْنَ يُونَا ناداه بالاسمين بدون اللقب إشعاراً بأهمية ما هو مزمع أن يتكلم به، ومقارنة بين اسمه العائلي الأرضي والاسم الجديد الروحي الذي عزم على أن يسميه به وهو بطرس.

لَحْماً وَدَماً أي بشراً. وقال ذلك تمييزاً للاهوت كما جاء في يوحنا ١: ١٣ و١كورنثوس ١٥: ٥٠ وأفسس ٦: ١٢. وقصد المسيح هنا أنه لم تُعلن له ذلك قوة بشرية، وهو لم يستطع إدراكه من نفسه ولا من إنسان آخر.

أَبِي أي أن ذلك الإقرار كان بإرشاد روح الله الآب له، وتنويره لبطرس. ولولا ذلك لمنعه عمى قلبه الطبيعي وميوله اليهودية عن معرفة أن يسوع هو المسيح. وهذا التطويب الذي قاله المسيح لم يكن مقصوراً على بطرس وحده، بل كان له أولاً ثم لكل التلاميذ، لأن سؤال المسيح كان للاثني عشر، فأجاب بطرس عن نفسه وعن البقية، وإن كان السؤال والجواب بصيغة المفرد.

١٨ «وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ ٱلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا».

يوحنا ١: ٤٢ وغلاطية ٢: ٩ وإشعياء ٢٨: ١٦ وزكريا ٦: ١٢، ١٣ و١كورنثوس ٣: ٩، ١٠، ١١ وأفسس ٢: ٢٠ وإشعياء ٥٤: ١٧ ورومية ٨: ٣٣ الخ ورؤيا ١١: ١٥.

أَنْتَ بُطْرُسُ معنى بطرس صخر (كيفا) في السريانية (وصفا) في العربية. ولقَّب المسيح سمعان بذلك عندما صار تلميذاً له (يوحنا ١: ٤٢) وكرره هنا لأجل إيمانه القوي بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي، إنباءً بما يكون له بعد حين عندما يعتمد من الروح القدس يوم الخمسين من الشجاعة والقوة والثبات. وكان إسراعه بالجواب مع الثقة بما أجاب موافقاً لهذا اللقب. فكل مسيحي له إيمان بطرس بأن يسوع ابن الله وشجاعته في مناداته بذلك هو صخرة يبني المسيح كنيسته عليه كحجر حي (١بطرس ٢: ٥).

هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ الصخرة هنا ترجمة (Petra) «بترا» في اليونانية وهي مؤنثة، ومعناها في اليونانية الصخرة العظيمة الثابتة في مكانها الطبيعي و(Petros) «بطرس» مذكر ومعناه عندهم صخر، أو جزء من صخرة يمكن الإنسان أن يحمله. واختلف الناس في المقصود بهذه الصخرة، ولهم في ذلك أربعة آراء. (١) أن المراد بها بطرس وحده، لأن إيمانه بالمسيح كان كالصخرة العظيمة التي لا تتقلقل. (٢)أنه بطرس وسائر الرسل، لأن القول وُجِّه له كنائب عن الكل. (٣) أنه إقرار بطرس حينئذٍ بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. (٤) أنه المسيح، وأنه أشار إلى نفسه إشارة حسية عندما تكلم بذلك.

وهنا نقول إنه مهما كان قصد المسيح من تلك العبارة لا يمكن أن يخالف تعليم الكتاب المقدس الصريح، وخلاصته في شأن الصخرة التي هي أساس الدين إنها إلهية لا بشرية. وهذا ما أثبتته أسفار الكتاب المقدس، فكلها يقول بصوت واحد «مَنْ هُوَ إِلهٌ غَيْرُ الرَّبِّ؟ وَمَنْ هُوَ صَخْرَةٌ غَيْرُ إِلهِنَا؟» (٢صموئيل ٢٢: ٢٣) وشواهد ذلك كثيرة: (انظر تثنية ٣٢: ٤، ١٥، ١٨، ٣٠، ٣١، ٣٧ و١صموئيل ٢: ٢ و٢صموئيل ٢٢: ٢، ٦، ٧ و٧١: ٣ و٧٣: ٢٦ و٩٤: ٢٢ و٩٥: ١. وإشعياء ١٧: ١٠ و٢٦: ٤ و٣٠: ٢٩ و٤٤: ٨ وحبقوق ١: ١٢ ورومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١٠: ٤ و١بطرس ٢: ٨). ففي كل هذه الآيات يُراد بالصخرة الله أو المسيح، ولم تُوجَّه في الكتاب عن بشر. فإذاً المسيح أمساً واليوم وإلى الأبد هو الصخرة التي هي أساس الكنيسة الوحيد.

وقد قال البعض إن المسيح أراد بالصخرة بطرس عينه، لكنهم اعتقدوا أن ذلك حُصر في تبشيره يوم الخمسين، عندما آمن بالمسيح ثلاثة آلاف نفس، ووضع أساس الكنيسة المسيحية بين اليهود (أعمال ٢) وحين خاطب كرنيليوس ورفقاءه ووضع أساس الكنيسة بين الأمم (أعمال ١٠) فيكون وعد البناء تم في ذلك الوقت وانتهى.

وقال آخرون ممن اعتقدوا هذا الرأي إن الوعد لبطرس كان لزمان خاص، وليس عن الرتبة والمقام، لأن بطرس قال «الَّذِي (أي المسيح) إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَرًا حَيًّا مَرْفُوضًا مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ اللهِ كَرِيمٌ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيِّينَ ­كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ­ بَيْتًا رُوحِيًّا» (١بطرس ٢: ٤، ٥) وفهموا منه أن بطرس نفسه أول حجرٍ وُضع على المسيح من تلك الحجارة الحية. وأخذوا قول بولس الرسول «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ» (أفسس ٢: ٢٠) تأييداً لذلك. ولعل هذا الرأي صحيح.

ولا شك أن المسيح قصد بالصخرة بطرس وسائر الرسل، فالمسيح هو الأساس الوحيد الإلهي الأزلي للهيكل الروحاني المبني من حجارة حية. وكان الاثنا عشر رسولاً أول تلك الأحجار، فهم بالنسبة إلى سائر المؤمنين الأساس الإنساني الأول، فأُعطوا هذا الشرف لإقرارهم أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي.

ولم يكن ذلك المقام للرسل باعتبار أشخاصهم، بل باعتبارهم شهوداً للمسيح ومنادين بتلك الشهادة العظمى التي أداها بطرس عن نفسه وعن سائر الرسل. ويرجح هذا الرأي أمران: (١) أن سؤال المسيح كان موجهاً إلى الجميع وهو قوله «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» (متّى ١٦: ١٥) فأجاب بطرس عن الجميع. فيكون جواب المسيح موجهاً إليه وإن قصد توجيهه إلى الكل. (٢) أن هذا الرأي وفق وعد المسيح للاثني عشر بشرف واحد وسلطة متساوية في قوله «أنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متّى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً آخر» (متّى ١٩: ٢٨) ووفق قول الرسول «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ» (أفسس ٢: ٢٠) ووفق قول يوحنا «وَسُورُ الْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْحَمَل الاثْنَيْ عَشَرَ» (رؤيا ٢١: ١٤). وهذا الرأي يعطي كل واحد حقه، فيثبت أن المسيح هو الأساس الإلهي للكنيسة، وأن الاثني عشر هم الأساس البشري لها. وهو لا ينزع عن بطرس الامتياز الذي وهبه له المسيح من أنه جعله أول حجر من الأساس الإنساني، جزاءً على سبقه سائر الرسل بذلك الإقرار.

وأما الرأي الثالث وهو أن المقصود بالصخرة إقرار بطرس أن يسوع هو المسيح، فهو حسنٌ ووفق سائر تعاليم الكتاب المقدس. ولكن لا دليل على أن المسيح قصد أن يعلّم ذلك حينئذ، فيصعب على هذا الرأي أن نرى ارتباطاً بين الجملة الأولى وهي «أنت بطرس» والجملة الثانية وهي قوله «وعلى هذه الصخرة الخ». وكثيراً ما يستعير الكتاب المقدس البناء للكنيسة، ويستعير الحجارة الحية للمؤمنين المبنيين على المسيح الأساس الأزلي. فلا نتصور بناء أساس بعضه أشخاص وأساس البعض الآخر تعاليم. ومن أدلة الكتاب المقدس أن الكنيسة مبنية على أشخاص لا على تعاليم ما يأتي: ١بطرس ٢: ٤ – ٦ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وغلاطية ٢: ٩ وأفسس ٢: ٢٠ ورؤيا ٣: ١٢ و٢١: ١٤.

وأما الرأي الرابع وهو أن المقصود بالصخرة المسيح، فتمسك به كثيرون لموافقته تمام الموافقة ما قيل في ١كورنثوس ٣: ١١ وآيات أخرى مثلها. وهرباً من أن يجعلوا إنساناً أساساً للكنيسة بدلاً من الله. فلا شك أن الصخرة هي المسيح ولا تصدق على غيره. ولولا القرينة لتمسك أكثر الناس بهذا الرأي، ولكن لا دليل على أن المسيح أشار إلى نفسه حين قال «وعلى هذه الصخرة الخ» فيمكن أنه أشار ويمكن أنه لم يُشر. وعلى هذا الرأي لا علاقة بين جزئي الكلام «أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ الخ» فلا يلزم أن نتمسك به هرباً مما ذكرناه آنفاً. لأنه إذا جعلنا المسيح الأساس الإلهي للكنيسة، وبطرس وسائر الرسل الأساس البشري لها، لم يكن في ذلك ما يسلب حق المسيح ويعطيه لغيره من البشر.

أَبْنِي المسيح أساسٌ وبانٍ. فإنه وإن لم يكن حاضراً الآن بناسوته على الأرض فهو حاضر بروحه مع كنيسته يهتم ببنائها. فكل تقدم لها منه. فيقبل الناس بتنازله أن يبنوا الكنيسة بإرشاده (١كورنثوس : ١٠).

كَنِيسَتِي لا كنائسي. وما أعظم الفرق بين المفرد والجمع، لأن كنيسة المسيح الجامعة الرسولية هي وحدة روحية مقدسة تسمو على الطائفية والعنصرية والجنسية. وهي الارتباط الحي بالمسيح الذي هو رأسها الوحيد. وقد وردت كلمة «كنيستي» في البشائر مرتين، هنا وفي متّى ١٨: ١٧. ومعناها «جماعة المؤمنين بالمسيح». وهي ليست محصورة بأمة أو زمان أو مكان، بل مجموعة من الذين اغتسلوا بدم المسيح ولبسوا ثوب بره وتجددوا بروحه واتحدوا مع المسيح بالإيمان واعتمدوا باسمه وبالروح القدس. وهي جسد واحد ولها رأس واحد الرب يسوع المسيح (كولوسي ١: ١٨).

وقد سميت الكنيسة أيضاً «بيت الله» (١تيموثاوس ٣: ١٥) و «هيكلاً مقدساً» (أفسس ٢: ٢١).

أَبْوَابُ كانت الأبواب قديماً للمدن المسوَّرة مكاناً لاجتماع أصحاب المشورة وأرباب الحكم (٢صموئيل ١٥: ٢) ولإجراء الأعمال المختلفة (أيوب ٢٩: ٧ ومزمور ٩: ١٤ و٦٩: ١٢ وأمثال ٣١: ٢٣ وإرميا ٣٦: ١٠). فتستعار الأبواب للمشورات والمؤامرات والمقاصد ذات الشأن.

ٱلْجَحِيمِ صوَّر الجحيم هنا قلعة ذات أبواب (أيوب ٣٨: ١٧ وإشعياء ٣٨: ١٠ ومزمور ١٠٧: ١٨ ونش ٨: ٦). ويراد غالباً بأبواب الجحيم قوى الشر، فوُعدت الكنيسة هنا بالوقاية من المشورات والمؤامرات والمقاصد الشريرة التي تقصد هلاكها.

لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا ذلك يدل على أن الكنيسة ستُضطهد وتُقاوم، ولكن كل قوات الشر تعجز عن إهلاكها. وهنا أمران يجب الانتباه لهما: (١) أن هذا الوعد لا يتكفل بأن كل كنيسة توقى من الضلال، فيمكن أن يسقط البعض ككنائس آسيا السبع، فإنها ضلت وزُعزعت منائرها من أماكنها. لكنه يتكفل بأن الكنيسة العامة تبقى كالعليقة التي رآها موسى في البرية تتوقد بالنار ولا تحترق، وأن دين المسيح لا يتلاشى فيبقى في قلوب المؤمنين ويدوم ظاهراً في الأرض. و(٢) أنه قد تم هذا الوعد تماماً في كل القرون، من وقت الإنباء به إلى الآن مع شدة المقاومة للكنيسة داخلاً وخارجاً.

١٩ «وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

أُعْطِيكَ الوعد في هذا العدد كما في السابق لبطرس ولرفقائه الرسل. ولأن بطرس سبق إلى الإقرار أكرمه المسيح بأن جعله أول من يفتح أبواب كنيسته لليهود والأمم.

مَفَاتِيحَ كان في قصور الملوك موظفون يسمون «حجاباً أو خزنة» يحملون المفاتيح علامة وظيفتهم كألياقيم، فإنه قيل فيه «وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ، فَيَفْتَحُ وَلَيْسَ مَنْ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ» (إشعياء ٢٢: ٢٢).

مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي كنيسة المسيح، وشُبهت هنا بقصر وشُبه الإدخال إليها أو المنع منها بالمفاتيح. أو شُبهت ببيت مال الملك، فيكون معنى المفاتيح السلطان على فتحه وتوزيع كنوزه على الذين يستحقون أخذها. ووردت المفاتيح بهذا المعنى في لوقا لوقا ١١: ٥٢. فعلى هذا تكون المفاتيح إما مفاتيح التأديب أو مفاتيح التعليم في الكنيسة. ولا شك أن أخذ مفاتيح السماوات بمعناه الأعم خاص بالمسيح وحده، وهو كذلك إلى الأبد وفقاً لقول صاحب الرؤيا «هذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ» (رؤيا ٣: ٧).

وأما بطرس فباعتباره رسول المسيح وشريك سائر الرسل فتح الكنيسة المسيحية لليهود (أعمال ٢: ٣٨ – ٤١ وللأمم أعمال ١٠: ٤٨ و١٤: ٢٧ و١٥: ٧) وأخرج منها الخائنين كحنانيا وسفيرة (أعمال ٥: ٣ – ٥، ٩) وسيمون الساحر (أعمال ٨: ٢١). ومنذ ذلك الوقت إلى الآن لم تزل أبواب الكنيسة المسيحية مفتوحة لكل المؤمنين من اليهود، والأمم والكنوز الإنجيلية متاحة للجميع.

وبطرس مع سائر الرسل نظَّم الكنيسة، وحكموا بمن يستحق أن يكون عضواً فيها، وبالعقائد والأعمال الواجبة على كل عضو. فالرسل في سفر الأعمال وفي رسائلهم بينوا لنا كيف وزعوا على العالم كنوز ملكوت السموات بتعليمهم وكتاباتهم. وهذه المفاتيح لا تشير إلى سلطة سياسية، إنما هي مقصورة على السلطة الروحية.

تَرْبِطُهُ… تَحُلُّه فهم البعض من هذه العبارة المجازية معنى المفاتيح المذكورة من جهة إدخال بعض الناس إلى الكنيسة وإخراج البعض منها. ولكن الأرجح أن المسيح استعملها بالمعنى المتعارف عليه عند اليهود يومئذٍ، وهو الأمر والنهي. وهذا السلطان مُنح لسائر الرسل كما منح لبطرس بدليل قوله «الحق الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء الخ» (متّى ١٨: ١٨). وبهذا المعنى أعطى المسيح الرسل السلطان على أن يعينوا المربوط على المسيحيين من الشريعة الموسوية والمحلول عنهم منها. فلم يرد أن بقي تلاميذه تحت أثقال تفاسير الفريسيين لتلك الشريعة، ولا تحت حِمل طقوس الشريعة بعد تمام الغاية المقصودة منها، فلذلك وَكَل إلى تلاميذه وضع شرائع الكنيسة المسيحية بإرشاده وإرشاد الروح القدس. ومارسوا ذلك السلطان في مجمع أورشليم (أعمال ١٥: ١٠، ٢٠، ٢٨، ٢٩) ومارسوه في الوعظ والتعليم. ومما حكموا به جواز مخالطة اليهود للأمم، وإلغاء التمييز بين الحلال والحرام في الأطعمة، وإبطال الختان. ومن أمثلة معنى الربط ما ذكر في ١كورنثوس ٧: ٢٧.

فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أي ما توافق عليه السماء. إذن فهو ليس شيئاً أرضياً عالمياً، ولا نظاماً كهنوتياً فحسب، بل هو المعمودية بالروح القدس والنار النازلة من السماء. ونفهم من ذلك أن المسيح أعطى رسله سلطاناً غير عادي ليُعصَموا من الغلط في أحكامهم الدينية التي التزمت الكنيسة بها، فإنهم كانوا ملهَمين بالروح القدس بدليل قوله «وأما متّى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يوحنا ١٦: ١٣) وبذلك أُهِّلوا أن يكونوا معلمي دينه وفق ما علمهم شفاهاً بقوله «عَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متّى ٢٨: ٢٠) وصرَّح لهم بأن ما يحكمون به على الأرض يُحكم به في السماء لأن الإرشاد الإلهي يعصمهم في كل أحكامهم من الغلط. فكما أن الملك يسلم بكل ما يحكم به سفيره بناءً على تعليمات ذلك الملك، كذلك المسيح يسلم في السماء بكل ما حكم به الرسل سفراؤه على الأرض، بناءً على ما علمهم إياه. وليس للتلاميذ خلفاء معصومون من الغلط، فسلطان الرسل في ذلك وقتي مختص بهم، مثل اختصاص موهبة التكلم بالألسنة وفعل المعجزات.

فالذي رُبط على المسيحيين من جهة نظام الكنيسة وطقوسها إنما هو ما ربطه عليهم المسيح في البشائر الأربع وأعمال الرسل ورسائلهم. فالكنيسة إذا درست كتاب الله وسألته الإرشاد ليحفظها من الضلال أمكنها أن تفحص طالبي الدخول إليها، وتحكم من جهة أهليتهم لذلك، وتحكم على المتهمين بارتكاب ما يخالف طهارة الكنيسة، أو يفسد التعاليم التي تسلمتها من المسيح. وتحكم عند الاقتضاء بما هو تعليم كتاب الله الصريح من جهة المسائل المتعلقة بالأخلاق أو العقائد، متوقعة أن يرشدها الله في ذلك.

٢٠ «حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ».

متّى ١٧: ٩ ومرقس ٨: ٣٠ ولوقا ٩: ٢١

نهاهم المسيح عن أن لا ينادوا جهاراً بذلك الإقرار، لأنه رأى بحكمته إنه لم يأت الوقت الذي يُظهر فيه كمال دعواه الشريفة. ولم يكن ذلك النهي إلا بعد ستة أشهر، أي بعد موته وقيامته. لقد قدَّم المسيح أدلة كافية أنه هو المسيح بمعجزاته، فأراد أن ينظر الناس إليها ويحكموا لأنفسهم بما رأوا وسمعوا، لا بما شاهده غيرهم. ولم يرد يسوع أن ينادي تلاميذه بأنه المسيح لئلا يهيج اليهود الذين كانوا يتوقعون ملكاً أرضياً ومملكة زمنية، فينشأ عن ذلك خوف هيرودس والولاة الرومان فيطلبون قتل المسيح.

٢١ «مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ».

متّى ٢٠: ١٧ الخ ومرقس ٨: ٣١ الخ و٩: ٣١ و١٠: ٢٣، ٣٤ ولوقا ٩: ٢٢ الخ و١٨: ٣١ الخ.

بعد أن عرف الرسل أن يسوع هو المسيح، تقدم إلى أن يعلمهم أنه مع كونه نبياً وملكاً يجب أن يمارس وظيفته الكهنوتية، أي لا بد أن يتألم قبل أن يملك بدليل قوله «يَنْبَغِي أَنَّ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ» (لوقا ٢٤: ٢٦). وهذا التعليم سبق إليه الأنبياء (إشعياء ٥٣: ٤ – ١٠ ودانيال ٩: ٢٦ ولكن اليهود غفلوا عنه، فقد علَّم كتبتهم أن المسيح سيملك مُلكاً أرضياً، ويكون ظافراً منتصراً يرد المجد إلى إسرائيل، فيجعل اليهود كما كانوا في أيام داود وسليمان. وشاركهم الرسل في ذلك الوهم. فابتدأ يسوع يغير أفكارهم بإنبائه بآلامه وبرفض اليهود له بواسطة أحزابهم الثلاثة المذكورة هنا المترئسة، وبقيامته في اليوم الثالث. وهو علم ذلك منذ البدء (يوحنا ١٨: ١٤) لكنه لم يعلّمه علانية إلا الآن.

يَنْبَغِي أي يجب بمقتضى القصد الإلهي لإتمام غاية إرساله فادياً.

أُورُشَلِيم ليتألم هناك وفق قوله «لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجًا عَنْ أُورُشَلِيمَ» (لوقا ١٣: ٣٣).

وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً انظر متّى ٢٠: ١٩ ولوقا ١٨: ٣٢، ٣٣.

ٱلشُّيُوخِ أي رؤساء الشعب أعضاء مجلس السبعين، وهو المجلس الكبير المعروف بالسنهدريم.

رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَة ومن هؤلاء رئيس الكهنة، ورؤساء الأربع والعشرين فرقة من الكهنة.

ٱلْكَتَبَة أي معلمي الناموس ومن يكتبونه.

يَقُومَ أنبأ المسيح بقيامته ليعزي تلاميذه ويشجعهم بسبب ما اعتراهم من أنباء رفضه وموته. أما هم فلم يدركوا الخبر المحزن ولا الخبر المفرح.

٢٢ «فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَٱبْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هٰذَا».

ما نقرأه هنا من أعمال بطرس يوافق ما نقرأه في أماكن أخرى في الإنجيل من صفاته، فإنه كان يحب المسيح غيوراً في خدمته، لكنه كان سريع الكلام، يعمل بلا روية. فلم يُفهم تمام الفهم معنى كلام المسيح المذكور آنفاً. ويحتمل أنه لحقه شيء من الافتخار الذاتي لما سمعه من مدح المسيح إياه، مع أنه وُجِّه إليه باعتباره نائباً عن سائر الرسل.

فأخذه: بسؤله إياه أن ينفرد معه للكلام. ولعله فعل هذا لثلاثة أسباب: (١) الخوف من تأثير كلام المسيح في أذهان بقية الرسل. (٢) ظنه أن المسيح قال ذلك لشدة انفعالاته من مقاومة الرؤساء له، ولأوهام وقتية محزنة. (٣) تيقنه استحالة أن المسيح قصد حرفية ما قاله، لأن ذلك يلاشي كل رجائه ورجاء غيره في النجاة والانتصار على يد المسيح. ويظهر مما قيل في مرقس ٨: ٣٣ أن المسيح أبى أن ينفرد مع بطرس.

يَنْتَهِرُهُ أي يردعه ويمنعه، وكان ذلك جرأةً عظيمةً منه، فكيف يوبخ التلميذ معلمه؟ وكيف ينتهر سيداً اعترف أنه «ابن الله الحي».

٢٣ «فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلّٰهِ لٰكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».

هذا أشد توبيخ يمكن المسيح أن يتلفظ به ليظهر لبطرس خطأه وتطاوله.

ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ هذه الكلمات عين ما قاله المسيح لإبليس حين جربه في البرية (لوقا ٤: ٨ ومتّى ٤: ١٠) وهي تتضمن رفض نصح بطرس وكراهيته لهذا النصح، وأن بطرس مثل إبليس المجرب، وأنه شريكه في العمل باجتهاده أن يرجعه عن القصد الذي لأجله ترك السماء وأتى إلى هذه الأرض، والذي كانت كل خدمته العلنية في السنين الثلاث الماضية استعداداً له. فكأن المسيح قال لبطرس: هل رجع إليَّ الآن المجرب الأول واستخدم واحداً من تلاميذي ليجربني؟ أبعد عني يا خصمي المقاوم.

مَعْثَرَةٌ لِي أي يمنعني من إتمام الواجبات.

لاَ تَهْتَمُّ أي لا تكترث أو تبالي. وأظهر المسيح لبطرس بهذه الكلمات غلطه وإثمه.

بِمَا لِلّٰه أي بمقاصد الله وأفكاره وغاياته، والمراد هنا قصد الله أن يجعل آلام المسيح وموته واسطة لخلاص البشر. فليس ملكوت المسيح أرضياً كما توهم الناس حتى ذاك الحين، وهو لا يُقاس بمقاييس الناس. فما حسبه القوم اندحار الصليب كان بالحقيقة انتصار الله الحقيقي على الخطية، بالمحبة المفتدية لا بصولجان الملك والسيطرة العالمية.

بِمَا لِلنَّاس أي يشتهيه الناس ويتوقعونه ويقصدونه، كالشرف الدنيوي والربح العالمي إلى غير ذلك مما يختص بالممالك الأرضية كما توقع اليهود. وكان غلط بطرس نتيجة عدم إدراكه سر الصليب، وهو إيفاء العدل الإلهي حقه بموت المسيح، وتحصيل الحياة الأبدية للمؤمنين بذلك. فكان غلطه كغلط اليهود واليونانيين كما قال الرسول «لكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً» (١كورنثوس ١: ٢٣)

٢٤ «حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي».

أنبأ المسيح تلاميذه هنا أنه يجب عليهم أن يتيقنوا ما استغربوه مما ذُكر من أمر آلامه، وأنه يجب عليهم فوق ذلك أن يكونوا مستعدين أن يتألموا هم أيضاً كأعضاء الجسد مع الرأس.

إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أي بلا استثناء

يَأْتِيَ وَرَائِي أي يتبعني تلميذاً لي ليخلص بواسطتي.

فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ أي لا يعتبر راحته ولذته وأمنه الغاية العظمى. وإنكار النفس لا يكون بمجرد اعتزال الشهوات، بل بترك كل شيء يمنعه من خدمة الله الكاملة. ولا إشارة في ذلك إلى تعذيب الجسد الاختياري، إنما إلى احتمال ما يأمر به الله ويحدث في طريق القيام بالواجبات.

يَحْمِلْ صَلِيبَهُ هذا مجاز مبني على أن المحكوم عليهم بالصلب كانوا يحملون صلبانهم إلى حيث يصلبون. ولما كان الصلب أشر أنواع الموت لما فيه من العار العظيم والألم الشديد، استُعير حمل الصليب إلى التسليم بأشد العار، والألم بالتواضع والصبر.

يَتْبَعْنِي أي في كل شيء لا في تعليمي أو سيرتي فقط، بل في احتمال المصائب والموت أيضاً. فكأنه قال: إني صاعد إلى الجلجثة فكونوا مستعدين أن تتبعوني ولو إلى هناك. فلا يمكن أن يكون الإنسان مسيحياً إلا بإنكار الذات وحمل الصليب.

٢٥ «فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا».

لوقا ١٧: ٣٣ ويوحنا ١٢: ٢٥ ورؤيا ١٢: ١١

كرر المسيح هذا القول قبلاً وشُرح في محله (انظر متّى ١٠: ٣٩). فاستعدادنا أن نموت لأجل المسيح يفتح لنا أبواب الحياة الأبدية. فمن ينكر المسيح ليخلِّص حياته الأرضية يضيِّع رجاء الحياة السماوية. والخسارة لأجل المسيح ربح (متّى ٣: ٧، ٨) وبالموت لأجله الحياة، وبالعار المجد، وبالصليب الإكليل.

٢٦ «لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ».

لوقا ١٢: ٢٠

الربح والخسارة كلاهما كفتا ميزان الحياة، فأي الاثنتين نرجح؟ خسارة حسب الظاهر أم خسارة بحسب حق الله. والربح، أي نوع هو؟ ومتّى كان المعطي رابحاً؟ أليس الآخذ هو الرابح؟ لا! ليس الربح في شريعة المسيح وفي دين اتباعه الحقيقيين. كل شيء حسبته نفاية لأربح المسيح.

عبَّر المسيح هنا عن الروحيات بما اصطلح عليه الناس في التجارة، فالربح في كلامه ليس هو ربحاً حقيقياً، وإن ظهر كذلك، والخسارة فيه ليست خسارة.

مَاذَا يَنْتَفِعُ؟ نبه المسيح بهذا السؤال الإنسان لأن يستعمل الحكمة والنظر في المستقبل في الأمور الروحية للنفع، كما يستعملها لذلك في الأمور التجارية.

العالم كله: أي كل ما يمكن الإنسان أن يحصل عليه أو يتوقعه في هذه الأرض من لذة أو شرف أو غنى أو رتبة أو اشتهار أو رئاسة. ومن الواضح أنه يستحيل أن أحداً من الناس يربح العالم كله. لكن لو فُرض إمكان ذلك لم يكن شيئاً بالنسبة إلى خسارة النفس.

خَسِرَ نَفْسَه ظن البعض المراد بالنفس هنا الحياة، فعلى هذا يكون المعنى: إن مات الإنسان فماذا ينتفع من ماله وشرفه وسلطته؟ إنه لا يأخذ شيئاً من ذلك معه، لأنه يخسر بخسارة حياته كل ما كسبه من هذا العالم.. وظن الآخرون إن المقصود بالنفس هنا حياة الروح الخالدة لا حياة الجسد، فعلى ذلك يكون معنى خسران النفس ترك الله إياها وتسليطه الموت الأبدي عليها، وهو يتضمن خسارة أفراح السماء، ومقاساة عذاب جهنم. والاثنان صحيحان، فإن موت الخاطئ جسداً بلا رجاء المسيح يتبعه حتماً هلاك النفس الأبدي.

فبمقتضى العدد السابق إن الذي يخسر حياته الدنيا يمكنه أن يربح حياة أفضل منها عوضاً عنها. وبمقتضى هذا العدد إن الذي يخسر الحياة الأبدية يهلك إلى الأبد. فمن المحال أن يكون ربح بدلاً من هذه الخسارة. وهذا هو الجواب لسؤال المسيح.

ونتيجة ذلك أن التتلمذ للمسيح مع ما يلحقه من الآلام والخسائر خيرٌ من التمتع الوقتي بكل لذات العالم. ونجمع ما ذكر في خمس قضايا.

(١) أنه لكل إنسان نفس، أي جزء أخلاقي لا بد أن يحاسبه الله عنه.

(٢) أنه يمكن أن يخسر الإنسان نفسه، وهذا في غاية الخطر.

(٣) إن فُقدت النفس فاللوم على الإنسان وحده، لأن الله أعد طريقاً لخلاصها.

(٤) إن نفساً واحدة أثمن من العالم كله.

(٥) إنه إن فُقدت النفس مرة ضاعت إلى الأبد، فلا عوض عن تلك الخسارة إذ لا فداء في جهنم.

فِدَاءً عَنْ نَفْسِه الفداء هنا بمعنى البدل أو العوض. وقيمة النفس غير محدودة فلا شيء في العالم يصلح أن يكون فداءً عنها. ويبين عظمة قيمتها ما بذله المسيح ليجعل فداءها ممكناً. فإن خسر الإنسان نفسه بترك فداء المسيح رغبة في العالم فأين يجد فداءً آخر له.

٢٧ «فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ».

دانيال ٧: ١٠ وزكريا ١٤: ٥ ومتّى ٢٥: ٣١ و٢٦: ٦٤ ويهوذا ١٤ وأيوب ٣٤: ١١ ومزمور ٦٢: ١٢ وأمثال ٢٤: ١٢ وإرميا ١٧: ١٠ و٣٢: ١٩ ورومية : ٦ و١كورنثوس ٣: ٨

ترك متّى هنا شيئاً ذكره مرقس ولوقا، وهو إنذار المسيح للذين يستحون به. ولعل تركه إياه هنا لأنه ذكر مثله في موضع آخر (متّى ١٠: ٣٣).

سَوْفَ يَأْتِي أشار المسيح بذلك إلى مجيئه الثاني للدينونة. وورد مجيء المسيح ثانيةً في الإنجيل بثلاثة معانٍ: (١) مجيئه عند موت كل مؤمن (يوحنا ١٤: ٣٢). (٢) مجيئه لخراب أورشليم (يوحنا ٢٠: ٢٢). (٣) مجيئه ليدين العالم، وهو المقصود هنا.

فِي مَجْد الذي كان حينئذٍ في صورة عبد يأتي أخيراً في أعظم مجد. فألم يخطئ التلاميذ وهم ينتظرون مجده، لأن هذا لا بد منه في المستقبل بعد أن يتألم.

أَبِيه أي ليس في مجد الابن فقط، بل في مجد الآب أيضاً. فقوله «ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ» يشير إلى أنه لا يزال ابن الإنسان في السماء، ولا يستحي أن يعترف بأنه أخ لكل مؤمن به. فإنه كما شارك البشر في ناسوتهم يشاركهم في مجده.

مَلاَئِكَتِه أي أتباعه السماويين (متّى ١٣: ٤١ و٢٥: ٣١ و٢تسالونيكي ١: ٧ ويهوذا ١٤).

يُجَازِي لا يأتي حينئذٍ ليتألم كما أتى أولاً، بل يأتي ملكاً يثبت الأبرار ويعاقب الأشرار ويجازي الذين تألموا معه بأن يجعلهم شركاء مجده. فلا يحسن أن يتوقع الأبرار ثوابهم في هذا العالم لأنهم لم يوعدوا بنواله إلا عند مجيء المسيح ثانيةً (٢تيموثاوس ٤: ٨).

٢٨ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ».

متّى ١٠: ٢٣

إتيان هذا الملكوت هو بصورة تدريجية مستمرة. ولا شك أن تلاميذ المسيح قد تحققوا من ملكوته بعد قيامته، ولا يزالون يتحققون منه إلى أن يتم هذا الملكوت في قلوب الناس وسيرهم وأعمالهم.

ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا أي الجمع مع تلاميذه الاثني عشر.

يَذُوقُونَ ٱلْمَوْت شبَّه الموت بكأس شراب مر حُتم على الإنسان أن يشربه. وهذا القول يفيد أن الحادثة التي ينبئ بها تحدث وبعض الحاضرين في الحياة.

آتِياً فِي مَلَكُوتِه أي في عظمته وبهائه الملكي، كقوله «أتى بقوة» (مرقس ٩: ١) وقوله «يروا ملكوت الله» (لوقا ٩: ٢٧). فالمقصود أنه يُظهِر أثناء حياة بعض الحاضرين أدلةً قاطعة على أن الملكوت الذي أنبأ به الأنبياء والمسيح نفسه قد تأسس على الأرض.

وفي أمر هذا الإتيان ثلاثة آراء

(١) أنه حادثة تجلّي المسيح، التي حدثت بعد ذلك بستة أيام. وكان هذا التجلي عربون مجيئه ثانيةً ولمعان المجد الذي سيظهر في وقته. ويوافق هذا الرأي قول بطرس وهو يشير إلى التجلي «عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ… مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ» (٢بطرس ١: ١٦).

(٢) حلول الروح القدس يوم الخمسين وإيمان ثلاثة آلاف يهودي بالمسيح، وتأسيس الكنيسة المسيحية وقتئذٍ ونجاح الإنجيل على أثر ذلك. وهذا كله دلالة واضحة على أن الملكوت الجديد قد أتى، وأن المسيح قد مارس مُلكه الروحي على القلوب.

(٣) خراب أورشليم الذي حدث بعد هذا بنحو أربعين سنة، فإن الخراب كان نهاية كل ما يتعلق بالنظام الموسوي ورمزاً إلى مجيئه في اليوم الأخير لخراب العالم.

ونعتقد أن هذه الآراء الثلاثة صحيحة، لأن ثلاثة من الرسل شاهدوا التجلي، وكلهم ما عدا واحداً شاهدوا حوادث يوم الخمسين ونجاح الإنجيل. وواحد منهم على الأقل (هو يوحنا التلميذ المحبوب) عاش بعد خراب أورشليم وشاهد انتشار الإنجيل في آسيا وبلاد اليونان وروما وأكثر المسكونة المعروفة في ذلك الوقت.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى