إنجيل متى | 13 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الثالث عشر
١، ٢ «١ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ، ٢ فَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَجَلَسَ. وَٱلْجَمْعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى ٱلشَّاطِئِ».
مرقس ٤: ١ الخ، لوقا ٨: ٤ الخ، لوقا ٥: ٣
قال متّى في هذا الأصحاح إن المسيح علَّم بأمثال، وذكر فيه سبعة منها، مع تفسير اثنين من السبعة. ويظهر مما قاله متّى ومرقس ولوقا أن شروعه في التعليم بأمثال بدية تطوُّر في أعمال يسوع، فإنه علَّم قبلاً بمواعظ كموعظته على الجبل، وكان لوعظه تأثير عظيم. وشرع الآن بأسلوب جديد يبيِّن حقيقة ملكوته، ليعرِّف سامعيه بدون إعلان أنه المسيح، لأن الناس لم يكونوا قد استعدوا لقبول الإعلان الكامل لدعواه.
عِنْدَ ٱلْبَحْرِ أي بحر الجليل.
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أشار بذلك إلى صنوف الناس، كما أشار إلى كثرة عددهم.
دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ أي أحد قوارب الصيد، طلبه لخدمته (مرقس ٣: ٩). وكان الجموع مزدحمين عليه حتى لم يمكنه أن يخاطبهم وهو واقف بينهم، فجلس في السفينة تجاههم، وخاطبهم وهم وقوف أمامه على الشاطئ.
جَلَسَ كان الجلوس عادة المعلم عند التعليم (متّى ٥: ١ و٢٣: ٢ ولوقا ٤: ٢٠).
٣ «فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: هُوَذَا ٱلزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ».
كَثِيراً ما أورده متّى من أمثال المسيح جزءٌ قليل من كثير، وأورده مثالاً للأسلوب الجديد من تعليمه.
بِأَمْثَالٍ المثل حقيقة مادية قصصية توضح حقيقة عقلية روحية، وهو أحياناً يُبنى على التشبيه، وأحياناً على المفارقة، وقد يكون خبر حادثة. وقد يُراد بالمثل عبارة وجيزة تتضمن معاني كثيراً كأمثال سليمان. وقد يُراد به كلام يحتمل غير ظاهر معناه. وأكثر الأمثال الدائرة على الألسنة اليوم تصورية لا أصل لها في الواقع، ولكن كل أمثال المسيح مبنية على حوادث حقيقية.
ولا يجب في تفسير المثل أن نطلب المعنى الروحي لكل ما جاء به، ويجب أن نميز بين لب الحق وقشره. وضرب المسيح أكثر أمثاله مما شاهده السامعون في وقته.
هُوَذَا ٱلزَّارِعُ يحتمل أنه كان حينئذ على القارب وأمامه أناس يزرعون.
٤ «وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ ٱلطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ».
عَلَى ٱلطَّرِيق أي الممر إلى الحقل حيث يبقى البذار مكشوفاً لا تغطيه التراب الندي.
٥ «وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ».
ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَة هي الأرض ذات الحجارة الكثيرة فتكون التربة الرقيقة على الصخور الواسعة الثابتة.
فَنَبَتَ حَالا بسبب رقة التربة أثَّرت الحرارة فيه وجعلته ينبت بسرعة.
٦ «وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ».
ٱحْتَرَق لأن حرارة الشمس يبَّست رطوبته، ولأن رقة التربة منعت الزرع من تعمق أصوله.
٧ «وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ».
ٱلشَّوْك ينبت في الحقول عادة.
خَنَقَه اختنق الزرع لأن مدد الحياة انقطع عنه، لأن الشوك أقوى من الزرع، فسلبه الرطوبة والحرارة.
٨ «وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ».
تكوين ٢٦: ١٢
ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَة أي المعدَّة لقبول الزرع ولتقديم وسائط النمو، بخلاف الأرض التي يبست من وطء أقدام المارة، وخلاف المحجرة، والكثيرة الأشواك.
مِئَةً… سِتِّينَ… ثَلاَثِين هناك نسب مختلفة بين مقدار البذار ومقدار غلته.
٩ «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع».
متّى ١١: ١٥ ومرقس ٤: ٩
فُسر كلام هذا العدد في شرح متّى ١١: ١٥.
١٠ «فَتَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟».
ٱلتَّلاَمِيذ المقصود بالتلاميذ هنا جميع السامعين الذين صدقوا قوله (مرقس ٤: ١٠). وهؤلاء هم الذين بقوا بعد انصراف كل الجمع. فلم يوجه المسيح هذا الشرح لكل الجموع الكثيرة، ولا إلى الاثني عشر وحدهم، بل إلى الذين صدقوا تعليمه. فهذا التفسير جواب لسؤالين: (١) لماذا تكلم بأمثال؟ و(٢) ما هو معنى هذا المثل؟
١١ «فَأَجَابَ: لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ».
متّى ١١: ٢٥ و١٦: ١٧ ومرقس ٤: ١١، ١٢ و١كورنثوس ٢: ١٠ و١يوحنا ٢: ٢٧
هذا جواب المسيح على السؤال الأول، وهو بيان ما حمله على التعليم بأمثال. فقال إنه بدأ يميز بين سامعيه الذين استناروا بتعاليمه وخلصوا، والذين ليسوا كذلك. وهذا الفرق كله من نعمة الله. وعندما يضرب مثلاً يتضح معناه للراغبين في معرفة الحق، ويصبح مبهماً لمن يريدون أن يبقوا في جهلهم. فالإنجيل رائحة حياة للحياة للبعض، ورائحة موت للموت للآخرين (٢كورنثوس ٢: ١٦). فأمثال المسيح للأولين تشرح الحق السماوي للمؤمنين وتخفيه عن الذين يظنونه مجرد قصص وأحاديث.
أُعْطِيَ لَكُمْ على سبيل الهبة لا على سبيل أجرة تستحقونها (رومية ٦: ٢٣ وأفسس ٢: ٨). وهذه العطية موقوفة على الذين يسألون عن معنى المثل ويرغبون في معرفة كل الحق.
أَنْ تَعْرِفُوا أي أن تفهموا بلا مثل القول الواضح، أو أن تدركوا المراد في المثل بواسطة تفسيري المنزه عن الغلط.
أَسْرَارَ أي ما لا يدركه عقل البشر بلا وحي إلهي. وأعظم هذه الأسرار معرفة المسيح حق المعرفة، بدليل القول «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦).
مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي حقيقة هذا الملكوت وكيفية انتشاره.
وَأَمَّا لأُولَئِكَ أي الذين لا يبالون بي والذين «هم الذين من خارج» (مرقس ٤: ١١).
١٢ «فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ».
متّى ٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ ولوقا ٨: ١٨ و١٩: ٢٦
ذكر هذا المبدأ شرطاً لاكتساب المعرفة الروحية. فمراده أن الذي يسمع تعليمه ويحفظه ويعمل بمقتضاه يحصل على معرفة زائدة به. والذي لا يستفيد من المعرفة التي حصل عليها من المسيح ولا يسير بموجبها تؤخذ منه. وهذا مبدأ عام في الحياة الروحية. فلا بد من أن الإنسان يربح أو يخسر في الروحيات، فهو إما أن يتقدم أو أن يتأخر. ولا يمكن أن يقف على نقطة واحدة.
مَنْ لَه أي من يسمع بأذنيه ويدرك بعقله ويقبل بقلبه يستفيد من وسائطه.
مَنْ لَيْسَ لَه أي من لا يستفيد من وسائطه ولا يريد أن يقبل التعليم ويعمل بموجبه، فهذا له شبه العلم. وذلك ليس بشيء عند الله.
سَيُؤْخَذُ مِنْهُ أي تؤخذ منه وسائط النفع والمعرفة القليلة التي حصل عليها من التعليم الروحي. وأورد المسيح نفس هذا المعنى في «مثل الوزنات» في كلامه على صاحب الوزنة الواحدة (متّى ٢٥: ٢٨، ٢٩).
١٣ «مِنْ أَجْلِ هٰذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ، لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ».
مِنْ أَجْلِ هٰذَا أي بناء على المبدأ الذي ذكره في عدد ١٢.
بِأَمْثَال أكثر المسيح التعليم بالأمثال امتحاناً لقلوب السامعين، فأخذ بعضهم ظاهر كلام المثل، ولم يسأل عن معناه، فكان المثل له مجرد قصة. وأخذه البعض الآخر بخلاف ذلك. فالحق في أيدي بعض الناس كمصباح ينطفئ حالما يمسكونه بأيديهم، ويظل في يد الآخرين موقداً يرشدهم إلى السماء.
مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُون الخ ورد مثل هذا الكلام على سبيل المثل في خُطب ديموستينيس وأسكليوس الخطيبين اليونانيين، والمقصود به تأثير الصوت في الأذن دون العقل أو القلب، وبلا فائدة في السلوك. فالمثل بفم المسيح يشبه حجاباً يخفي الحق وراءه، فاكتفى بعضهم بمجرد مشاهدة ذلك الحجاب، ورغب الآخر في إدراك ما وراءه، فرفعه فرأى الحق جلياً. إن المثل يشبه عمود السحاب والنار بين المصريين وبني إسرائيل: مظلم للأولين ومنير للآخرين (خروج ١٤: ٢٠).
١٤ «فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ: تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ، وَمُبْصِرِينَ تُبْصِرُونَ وَلاَ تَنْظُرُونَ».
إشعياء ٦: ٩ وحزقيال ١٢: ٢ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٦ ورومية ١١: ٨ و٢كورنثوس ٣: ١٤، ١٥
نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ انظر إشعياء ٦: ١٠ وهذا إنذار أورده متّى كنبوَّة والأصل العبراني يحتمل المعنيين.
تَسْمَعُونَ سَمْعاً أي تدركون الصوت ولا تستفيدون منه.
مُبْصِرِين الخ تدركون ظاهر الأمر وتغفلون عن المقصود به. فالمعنى أنهم في السمع والإبصار يدركون الظواهر دون الجوهر الروحي.
١٥ «لأَنَّ قَلْبَ هٰذَا ٱلشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ، وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ».
عبرانيين ٥: ١١
هذا إيضاح لما قبله وتأكيد له. والألفاظ وفق الترجمة السبعينية، وهو يصدق على كل الذين «يحبون الظلمة أكثر من النور» (يوحنا ٣: ١٩).
غَلُظَ أي غلبت حيوانيته على روحانيته فصار بلا شعور بالروحيات.
غَمَّضُوا عُيُونَهُمْ أبوا أن يفتحوها لئلا يبصروا الحق الذي يقودهم إلى التوبة وإصلاح السيرة. فالذي أتوه أولاً عمداً واختياراً وقع عليهم بعد ذلك إجباراً واضطراراً عقاباً لهم.
لِئَلاَّ يُبْصِرُوا… وَيَسْمَعُوا… وَيَفْهَمُوا هذا نتيجة تغميضهم الاختياري وسد آذانهم الإرادي، فإن الله الديان العادل تركهم إلى الظلمة التي اختاروها والجهل الذي رضوه، ليدوموا في الظلمة والعصيان إلى الأبد (مزمور ٨١: ١١، ١٢ وإشعياء ٦٦: ٤).
فَأَشْفِيَهُمْ أي من مرض الخطية.
١٦ «وَلٰكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلِآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ».
متّى ١٦: ١٧ ولوقا ١٠: ٢٣، ٢٤ ويوحنا ٢٠: ٢٩
هنأ المسيح تلاميذه هنا بأنهم ليسوا عمياً ولا غليظي القلوب، لأنهم نظروا وأدركوا الحقائق المجيدة التي أعلنها لهم. نعم أنهم كانوا بطيئي الفهم، لكن عيونهم كانت مفتوحة توقعاً لزيادة النور وآذانهم مصغية إلى الصوت الإلهي.
١٧ «فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ ٱشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا».
عبرانيين ١١: ١٣ و١بطرس ١: ١٠، ١١
هنأهم المسيح بأنهم أدركوا ما لم يدركه الكتبة والفريسيون في عصرهم، ويهنئهم على مشاهدتهم وإدراكهم ما اشتهى الأنبياء والأتقياء القدماء أن يروه ولم يروا. وقد رغب قديسو العصور القديمة أن يشاهدوا المسيح وظهور ملكوته، فلم تكن لهم إلا الرموز والنبوات وظلال الخيرات المقبلة، وأما التلاميذ فصار لهم الجوهر لأنهم رأوا المسيح عياناً وشاهدوا معجزاته وسمعوا تعاليمه من فمه (٢صموئيل ٢٣: ٥ وأيوب ١٩: ٢٣، ٢٧ وعبرانيين ١١: ٤٠) وشرح حال أولئك الأتقياء بطرس الرسول بقوله «الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ» (١بطرس ١: ١٠، ١١). وكانوا ينتظرون التعزية السماوية كسمعان الشيخ، ولكنهم لم ينالوا ما نال من النعمة بأن «أبصرت عيناه خلاص الرب» (لوقا ٢: ٢٥، ٣٠).
١٨ «فَٱسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ ٱلزَّارِعِ».
مرقس ٤: ١٤ الخ ولوقا ٨: ١١ الخ
يقول: يا تلاميذي الذين أنعم عليهم أكثر مما أنعم على غيرهم بتفسير المثل الذي طلبوه: أدركوا بقلوبكم المستنيرة بالروح القدس المعنى المقصود. ويرشدنا شرح المسيح لهذا المثل إلى تفسير ما لم يفسره من الأمثال. فيجب أن نسمع تفسير هذا المثل كما سمعه الرسل لأن فيه ما يحدث كل يوم حيث يُنادى بالإنجيل.
١٩ «كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ ٱلْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ، فَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هٰذَا هُوَ ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلطَّرِيقِ».
متّى ٤: ٢٣
كَلِمَةَ ٱلْمَلَكُوت بدأ لوقا في شرح هذا المثل بقوله إن «الزرع هو كلمة الله» (لوقا ٨: ١١) وقال المسيح إنه هو زارع الكلمة (متّى ١٣: ٣٧). فكل الذين يبشرون اليوم بكلمته هم زارعون. ولا يستطيع أن يتوقع حصاد النفوس إلا من يزرعون الكلمة الإلهية خالصة.
وَلاَ يَفْهَمُ ذكر المسيح في هذا المثل أربعة أصناف من السامعين. وذكر في هذا العدد أولهم وهو الذي يسمع بأذنه لا بقلبه، أي لا ينتبه لما سمعه ولا يدرك معناه الروحي ولا يعتبر أنه هو المخاطب. وسبب عدم فهمه مذكور في متّى ١٣: ٤ وهو قوله «سقط بعض على الطريق» أي كان قلبه لكثرة الأفكار الرديئة والتأثيرات الشريرة فيه، كالطريق التي تصلَّبت من كثرة المرور عليها، فلم يشقه محراث الناموس ليقبل زرع الإنجيل.
فَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ أي الشيطان مقاوم ملكوت الله وعدو نفوس الناس، الذي ينتهز دوماً الفرصة لمنع الإنسان عن الاستفادة من كتاب الله، وبذلك يؤكد هلاكه.
يَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِع يفعل الشيطان هذا بأن يصرف أفكار الإنسان عن الحق الذي سمعه إلى الأمور الدنيوية والأهواء، فإنها تسرق الحق بتدبير الشيطان. والشيطان هو رئيس كل ما يسرق الوعظ والإنذار من أذهان السامعين. والقلوب التي تشبه الطريق هي قلوب مشتَّتي الأفكار، الذين لا يتروون في الأمور الأساسية، فلا تؤثر فيهم أهم الحقائق. وللأسف فإن هؤلاء الأكثر عدداً. إنهم مثل المدعوين إلى العرس الذين قيل إنهم «تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ» (متّى ٢٢: ٥) «الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٤)
٢٠ «وَٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَح».
إشعياء ٥٨: ٢ وحزقيال ٣٣: ٣١، ٣٢ ويوحنا ٥: ٣٥
وصف هنا الصنف الثاني ممن يسمعون الكلمة بلا فائدة. إنهم الزرع المزروع في أرض محجرة. ورجاء الفائدة من هؤلاء أعظم من رجائها من أهل الصنف الأول. ولكن النتيجة واحدة، فمجرد سماع الكلمة لا يكفي للخلاص. وأهل الصنف الثاني هم الذين يقبلون الإنجيل ولا يحسبون النفقة من إنكار الذات والاضطهاد والمشقات (لوقا ١٤: ٢٥ – ٣٣).
حَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَح هذا الفرح ليس هو الفرح المذكور في غلاطية ٥: ٢٢ بأنه أحد ثمار الروح، لأن ذلك الفرح يتبع التوبة عن الخطية، لكنه وقتيٌّ ناتج عن النظر في الوعود بالسعادة الأبدية. فلذة السامعين بالوعظ ليست برهاناً على أنهم استفادوا منه، بدليل قول الله للنبي «هَا أَنْتَ لَهُمْ كَشِعْرِ أَشْوَاق لِجَمِيلِ الصَّوْتِ يُحْسِنُ الْعَزْفَ، فَيَسْمَعُونَ كَلاَمَكَ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ» (حزقيال ٣٣: ٣٢) وكذلك مجرد دموع السامعين ونذورهم وعزمهم لا يؤكد تجديد قلوبهم. فاستعارة التربة الرقيقة فوق الصخور مناسبة لأصحاب الانفعالات السريعة الزوال. فكان البذار في أول المثل كلمة الله. ولما صار زرعاً كان المراد به السامعين لها.
٢١ «وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ».
متّى ١١: ٦ و٢تيموثاوس ١: ١٥
لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إما لأنه ليس له مبادئ راسخة كالإيمان والتوبة والمحبة لله، أو لأن الحق لا يتأصل في ذاكرته وضميره وأشواقه ومقاصده. يعترف أنه مسيحي، لكنه لم يولد ثانية. وهذا الصنف كالبيت المبني على الرمل (متّى ٧: ٢٦) وكالمصابيح بلا زيت (متّى ٢٥: ٢).
إِلَى حِينٍ يبقى وقتاً يعترف بالمسيح.
ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ إذا كان الإنسان مسيحياً بالحق ينشئ فيه الاضطهاد زيادة القداسة والاستعداد للسماء. ولكن كما أن حرارة الشمس تفيد الزرع في التربة العميقة وتحرقه في التربة الرقيقة (ع ٦) فكذلك الضيقات تجعل صاحب الانفعالات السريعة الزوال، ينكر ما كان قد اعترف به. والزرع في المثل لم ييبس لشدة حرارة الشمس، بل لأن ليس له أصل. فليس للأحوال تأثيرٌ في المسيحي الحقيقي «المتأسس والراسخ» في الإيمان.
فَحَالاً يَعْثُر وتعثُّره سريعٌ سرعة قبوله الحق. فإنه فتح قلبه الحق بالفرح متوقعاً المسرة، فلما نزلت به الشدائد عثر وسقط، بدل من أن يصعد عليها ويرتقي بواسطة الإيمان والصلاة.
٢٢ «وَٱلْمَزْرُوعُ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى يَخْنُقَانِ ٱلْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ».
إرميا ٤: ٣، ٤ ومتّى ١٩: ٢٣ ومرقس ١٠: ٢٣ ولوقا ١٨: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ و٢تيموثاوس ٤: ١٠
وصف هنا الصنف الثالث من السامعين، وهم الذين أرادهم بالزرع المزروع بين الشوك. وهم الذين سمعوا الحق واعترفوا به موقتاً. وهم يختلفون عن المزروعين في الأرض المحجرة لأن هؤلاء عثروا وتركوا الحق من الاضطهاد، وأما أولئك فخدعتهم الشهوات واللذات عن الاستمرار في الحق.
هَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أي كثرة الانهماك وزيادة الاعتناء بأمور هذه الحياة كالطعام والكسوة وسائر لوازم الجسد، لأن الهموم الجسدية هي من أعظم الموانع للنمو في النعمة والتقوى، إذ هي تمنع الناس من طلب ملكوت الله أولاً.
هم الذين يريدون الأمرين معاً: الله والمال، بل ويعبدونهما معاً، متناسين قول المسيح «لا تعبدوا ربَّين: الله والمال» وهذا لا يعني أن لا يكون لنا مال، بل أن لا يكون للمال سلطان علينا، فلا نسلمه قيادتنا ولا نُستعبد له لئلا نشقى به وتموت كلمة الله في نفوسنا.
غُرُورُ ٱلْغِنَى أي محبة المال وزيادة الرغبة في إحرازه وشدة التمسك به بعد الحصول عليه، لأن هذه هي الأشواك التي تخنق الكلمة في قلب الإنسان. فالخطر للنفس من الغِنى أكثر منه في الفقر، لأن المال يفعل خفية. وأضاف الغرور إلى الغنى، لأن الناس لا يحصلون على الفائدة التي يتوقعونها من الغِنى، فإنهم ينتظرون السعادة الدنيوية منه فيجدون الشقاء الأبدي. والذين يسرعون إلى إدراك الغنى بغية السعادة منه، والذين يحسبون أنفسهم سعداء لأنهم أدركوه بالرغم من أنهم مغرورون ينطبق عليهم القول «وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ» (١تيموثاوس ٦: ٩). لكن يصعب على أكثر الناس أن يدركوا أن الغنى شوك، لأنهم يحسبونه من خير النعم. ولكنه يشبه بالشوك لأن عاقبته تجرح النفس جرحاً عميقاً وتؤلمها إيلاماً شديداً.
بِلاَ ثَمَرٍ كلمة الله (في هذه الحالة) تكون كالزرع الذي لا يأتي بالثمر المطلوب من إصلاح قلب الإنسان وسيرته.
٢٣ «وَأَمَّا ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَهُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ».
وصف هنا الصنف الرابع من الناس الذين سمعوا الكلمة وقبلوها (كالصنفين السابقين) وخالفوهم بأنهم انتصروا على موانع الإثمار، فأثمروا، وأظهروا بأعمالهم وثباتهم نتيجة ما أثرته كلمة الحق في قلوبهم. فهذا الصنف وحده يحقق قصد الزارع.
ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ هي القلب الذي ألانته نعمة الله وأعدته لقبول الحق قولاً وفعلاً. فهو مثل قلب ابن السلام (لوقا ١٠: ٦) وقلب ليديا (أعمال ١٦: ١٤) وقلوب أهل بيرية (أعمال ١٧: ١١). والناس مسؤولون عن أحوال قلوبهم، واللوم عليهم إذا لم تكن قلوبهم كالأرض الجيدة.
يَأْتِي بِثَمَر هذا هو البرهان الوحيد الكافي على أن السامعين للكلمة الإلهية استفادوا. فعلامات استفادتهم من الكلمة ثلاث: إصغاؤهم إليها، وإدراكها مع اعتبارها موجَّهة إليهم، وطاعتهم إياها. وهذه الطاعة هي الثمر.
بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ الخ اختلاف هذه الأعداد إشارة إلى اختلاف مقدار الاستفادة من الأمانة والغيرة وممارسة الصلاة. فيختلف المسيحيون في مقدار الفضائل وإظهار أثمار الروح ونفعهم للغير. فعلى جميع المسيحيين أن يجتهدوا في أن يصيروا كالأرض الجيدة التي تصير مئة ضعف، أي أن يكونوا مثل إبراهيم الخليل في الإيمان، وأيوب الصديق في الصبر، ويوحنا البشير في المحبة، وبولس الرسول في الغيرة. وذلك وفق قول المسيح «بِهذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي: أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» وقوله «أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا ١٥: ٨، ١٦) وقول رسوله «كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ» (يعقوب ١: ٢٢) وقول نبيه «اِزْرَعُوا لأَنْفُسِكُمْ بِالْبِرِّ. احْصُدُوا بِحَسَبِ الصَّلاَحِ. احْرُثُوا لأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا، فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ الرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ الْبِرَّ» (هوشع ١٠: ١٢).
٢٤ «قَالَ لَـهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ».
قَالَ لَهُمْ مَثَلاً كالأحجية لينبِّه أفكارهم ليبحثوا عن معناه الروحي.
مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ أي الملكوت الجديد الذي أتى المسيح ليبدأه على الأرض ويتممه في السماء.
إِنْسَاناً زَرَعَ أي أحوال الإنسان أو ما يحدث كثيراً للإنسان.
زَرْعاً جَيِّداً أي نافعاً كالحنطة ومن أحسن الأنواع.
٢٥ «وَفِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ ٱلْحِنْطَةِ وَمَضَى».
فِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ أي في الليل الذي هو وقت النوم وزمن انتهاز الأشرار خفية. فلا لوم على صاحب الحقل ولا على خدامه بأنهم ناموا.
عَدُوُّه أي أحد جيرانه ممن أرادوا ضرره.
زَوَان صنف من الحبوب يشبه الحنطة شكلاً ولكن علاوة على عدم نفعه فهو ضارٌّ. فالمسيح لم يفترض نوعاً من الأذية لم يكن معهوداً للناس، فالأشرار الذين يحبون الانتقام ولا يخافون الله موجودون دائماً، يسهل عليهم أن يأتوا خفية ويضرون غيرهم.
وَمَضَى خفية كما أتى، ولم يحتج بعد ذلك إلى عناء لكي ينتج الشر مما فعل.
٢٦ «فَلَمَّا طَلَعَ ٱلنَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً، حِينَئِذٍ ظَهَرَ ٱلزَّوَانُ أَيْضاً».
لا يظهر الفرق بين الحنطة والزوان في أول الإنبات، لكن متّى ظهرت السنابل ظهر جلياً. وكذلك قلّما نميِّز الشرور في أول حدوثها.
٢٧ «فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ ٱلْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟».
يظهر من هذا أن هؤلاء العبيد لم يكونوا كسالى أو نياماً حين يجب أن يسهروا لأنه حين ظهر الشر انتبهوا له وأخبروا به سيدهم.
أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً أرادوا بالاستفهام هنا إثبات أن الزرع كان جيداً حقيقةً، وفيه تعجب وحيرة من النتيجة التي هي خلاف المنتظر.
فَمِنْ أَيْنَ زَوَانٌ يصح أن نحسب معظم تعاليم البشر جواباً لهذا السؤال لكثرة الآراء الفاسدة، مع أن تعليم المسيح كان زرعاً جيداً.
فسر المسيح هذا المثل بعد ذلك ولم يذكر أحداً من أولئك العبيد. فيكون أن ذكرهم جاء تكملة عرضية للمثل لا لغرض آخر. وإن كان ذكرهم لقصد فهم إشارة إلى المسيحيين الذين يغارون على طهارة الكنيسة، وغيرتهم هي أعظم من حكمتهم، مثل ابني زبدي اللذين أرادا أن تنزل نار من السماء وتحرق السامريين (لوقا ٩: ٥٤).
٢٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هٰذَا فَقَالَ لَهُ ٱلْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟».
عَدُوٌّ زرع الزوان وسط الحنطة لا يفعله إلا من تمكنت العداوة في قلبه فلا يمكن أن يفعله صديق.
فَعَلَ هٰذَا أي في وقت الفراغ.
نَجْمَعَهُ أي الزوان.
٢٩ «فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا ٱلْحِنْطَةَ مَعَ ٱلزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ».
منع السيد قلع الزوان لأنه يأتي بالشر أكثر من الخير. لا ريب في أن الزوان يضر بالحنطة، ولكن قلعه في أول الأمر أكثر ضرراً من تركه، لأنه يصعب حينئذٍ أن يتميَّز عن الحنطة، فيحتمل أن تُقلع الحنطة معه. وعلى هذا النسق يصبر الله على الأشرار لأجل الأخيار.
٣٠ «دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى ٱلْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ ٱلْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: ٱجْمَعُوا أَوَّلاً ٱلزَّوَانَ وَٱحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا ٱلْحِنْطَةَ فَٱجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي».
ملاخي ٤: ١ ومتّى ٣: ١٢
ترك رب الحصاد الزوان ينمو مع القمح، دون أن يتغافله، لأنه قصد أن يفصل الواحد عن الآخر في وقت الحصاد ويجمع النافع ويحرق الضار. وفسر المسيح ذلك بعدئذٍ.
٣١، ٣٢ «٣١ قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، ٣٢ وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ. وَلٰكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ ٱلْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا».
إشعياء ٢: ٢، ٣ وميخا ٤: ١ ومرقس ٤: ٣٠ الخ ولوقا ١٣: ١٨، ١٩
هذا مثل ثالث ضربه المسيح وأخذه من حياة المزارع، لأن كل سامعيه كانوا يعرفونها.
حَبَّةَ خَرْدَلٍ أي بزرة واحدة
أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُور أي البزور التي يزرعها الناس. وبينها وبين نبتها أعظم تباين في المقدار. وتستعار حبة الخردل كثيراً للأمر التافه والزهيد (لوقا ١٧: ٦).
وَتَصِيرُ شَجَرَة أي تنمو حتى تستحق أن تُحسب من الأشجار.
حَتَّى إِنَّ طُيُورَ الخ أي أن نبتة الخردل تبلغ كالأشجار قدراً يصح معه أن تستظل الطيور بها.
والمشابهة بين ملكوت المسيح أي كنيسته وحبة الخردل تقوم بثلاثة أمور.
صغر كل منهما في أول أمره.
نمو كل من الكنيسة والبزرة بالتدريج الدائم في هدوء وبلا مراقبة.
عظمة النتيجة في كليهما بالنسبة إلى أول أمره. فإن الكنيسة وإن كانت صغيرة في بدايتها وُعدت بأن تصير عظيمة تمتد إلى أقاصي الأرض. وبذلك تختلف عن برج بابل فإنه قصد أن يكون رأسه في أول الأمر بالغاً السماء فصار ردماً من اللبن والتراب. ويظهر التشابه بين الكنيسة وحبة الخردل من النظر إلى مؤسسها: وهو طفل في بيت لحم، والنظر إليه في ممارسته وظيفته وهو ابن ثلاثين سنة بلا غنى ولا رتبة ولا جند، والنظر إليه وهو معلم نحو ثلاث سنين في مدن فلسطين وقراها يتبعه قليل من التلاميذ الأميين الفقراء، ثم انتهت حياته الأرضية بموته المهين على الصليب، ومن النظر إلى الكنيسة بعد قيامة المسيح حين اجتمع الأحد عشر رسولاً في علّية أورشليم، وكان عدد المؤمنين ١٢٠ فأخذت تنمو وتزيد من يوم الخمسين فصاعداً حتى انتشر الإنجيل بعد ثلاثين سنة في كل ما عُرف من المسكونة يومئذٍ. وبعد ثلاث مئة سنة صارت ديانة المسيح ديانة المملكة الرومانية ولم تزل تمتد منذ ذلك العهد إلى اليوم.
ويظهر صدق التشابه إذا نظرنا إلى أول بدء ملكوت المسيح في قلب الإنسان، فيحتمل أن يكون البدء من سماع آية من الكتاب المقدس أو موعظة في الكنيسة، أو نصيحة من صاحب، ومن ذلك نتجت دموع التوبة مع قليل من انفعالات الإيمان والمحبة، ثم تظهر علامات النمو في النعمة بالانتصار على الخطية والشهوات وإظهار الفضائل المسيحية وثمار الروح، حتى يتم العمل في السماء وتحصل النتيجة وهي القداسة الكاملة. فما أعظم الفرق بين حال بولس حين قال عند بدء إيمانه قرب دمشق «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟» وحاله حين قال في آخر حياته «أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ. وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ» (٢تيموثاوس ٤: ٦ – ٨) وبين حال الابن الضال حين وهو جائع وعريان «أقوم وأذهب إلى أبي» وحاله وهو جالس في بيت أبيه لابساً الحلة الأولى والخاتم في يده والوليمة أمامه.
وفي هذا المثل كما في مثل الزوان، الزارع الأصلي هو المسيح، والزرع هو الكلمة تنبت في قلوب المؤمنين، والحقل هو العالم الذي تنمو الكنيسة في وسطه.
٣٣ «قَالَ لَـهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ».
لوقا ١٣: ٢٠، ٢١
هذا المثل الرابع وموضوعه كموضوع سابقه: نمو ملكوت المسيح من بدءٍ صغير في الكنيسة وفي قلب المؤمن. والفرق بينه وبين المثل السابق هو أن الأول يتكلم عن علامات النمو الظاهر، والثاني عن النمو الخفي الذي يغيِّر كل الصفات إلى مثل صفات الخميرة، بلا انقطاع حتى يعم تأثيره.
يجب أن تذوب الخميرة وتمتزج بالعجين، فهي لا تريد المجد لنفسها، بل تفعل فعلها غير ظاهرة، ولا تطلب أجراً ولا شكراً. فإن كنا من أهل النعمة الذين يطلبون الخير والإصلاح يجب أن ننسى نفوسنا ونذكر الواجب العظيم الذي أمامنا، فيزيد تأثيرنا بنسبة اختفائنا وراء صليب المسيح الغافر الآثام.
خَمِيرَةً من صفات الخميرة أنها إذا وُضعت في مادة تختلف عنها حوَّلتها كلها حتى صارت مثلها. فهكذا النعمة في قلب الإنسان تحول كل صفاته إلى مثل صفاتها. ومثلها ملكوت الله الذي وُضع بين ممالك العالم حتى يجعلها كلها مثله، وذلك بواسطة تأثير كل مؤمن في غيره تأثير المحبة والغيرة والطاعة التي تمتد من قلب إلى قلب ومن بيت إلى بيت ومن بلاد إلى بلاد، بذهاب المبشرين حاملين إنجيل السلام. ونتيجة ذلك كله اختمار أرضنا بخميرة الإنجيل السماوي، فتصير مثل السماء حيث تتحول قلوب الناس وتتغير وتصير مثل قلب الله في الطهارة.
أَخَذَتْهَا أي من خارج العجنة. فكذلك إنجيل المسيح أتى إلى هذا العالم وإلى قلب كل إنسان من الخارج، أي من السماء. فهو ليس بنشوءٍ طبيعي، ولا بإصلاح موجود، بل بخَلْق جديد.
ٱمْرَأَةٌ خص المرأة بالذكر لأن العجين من اختصاصها.
خَبَّأَتْهَا أي خلطتها بالعجين حتى لم تتميز عنه لكنها تفعل بقوة.
ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ وذلك هو الإيفة عند العبرانيين وهو مقدار العجنة المعتادة (تكوين ١٨: ٦ وقضاة ٦: ١٩ و١صموئيل ١: ٢٥). فليس للعدد قصد في المثل، وإنما ذُكر بناء على الواقع.
حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيع في هذا الكلام تاريخ ماضي الكنيسة وإنباءٌ بمستقبلها. ومن تأثيرات الإنجيل التي تشبه تأثير الخميرة إلغاء كثير من عبادة الوثنيين وعاداتهم، وتجارة العبيد ونحوها. ومنها ترقية أحوال المرأة، وتقليل الحروب ونزع قساوة المتحاربين، وإلغاء المبارزة الشخصية ونشر التمدن والعلم بدل التوحش والجهل. وحصول كل ذلك تدريجياً بهدوء كفعل الخميرة في العجين لا فجأة باضطراب عظيم كالزلزلة. وكما حدث في الماضي يحدث في المستقبل، فسيغلب دين المسيح كل قوات الشر في العالم. وهو يقدس كل قلب يدخله تقديساً كاملاً.
عجب بعضهم من استعارة المسيح الخمير لملكوته، لأن الخميرة تُستعار للرياء والخبث (لوقا ١٢: ١ و١كورنثوس ٥: ٧ وغلاطية ٥: ٩) ومُنع الخمير من أن يكون في التقدمات (خروج ١٣: ٣ ولا ٤: ١١) باستثناء واحدة منها (لا ٢٣: ١٧). ولكن استعارة الخميرة في بعض صفاتها للشر لا تمنع استعارتها في غير تلك الصفات للخير، فإن الخميرة تنفخ العجين فيزيد حجمه، وبذلك يصح أن تستعار للخبث والفساد. ولكن إذا كان مقداراها معتدلاً فهي تجعل الخبز ألذ طعماً وأسهل هضماً وأوفق للصحة، وبذلك يصح أن تستعار للإصلاح. وظن البعض أن الكتاب المقدس اعتبر الخميرة مادة فعالة مؤثرة في الغير بقطع النظر عن بقية صفاتها، فاستُعيرت أحياناً لقوة فعالة للصلاح، وأحياناً أخرى لقوة فعالة للفساد. وعلى هذا الأسلوب استعير الأسد للمسيح جل وعلا (رؤيا ٥: ٥) واستعير للشيطان عدوه (١بطرس ٥: ٨).
ولنا مما ذكر أن أوجه الشبه بين الخميرة والدين المسيحي ستة: (١) أن كلاً منهما ليس شيئاً في أول أمره. (٢) أن كلاً منهما ليس مما يؤثر فيه بل هو أمر خارج عنه. (٣) أنه لا بد من تأثير كل منهما في غيره عند اختلاطه به (عبرانيين ٤: ١٢ وأعمال ١٧: ٦). (٤) أن كلاً منهما ما يؤثر هو فيه مثله تماماً (١كورنثوس ٥: ٦). (٥) أن كلاً منهما يؤثر باطناً بالهدوء (مر ٤: ٢٧ ولوقا ١٧: ٢٠، ٢١). (٦) أن مفعول كلٍ منهما يؤثر في غيره، فالعجين المختمر يخمر غيره، والمسيحي بالحق يجعل غيره مسيحياً.
٣٤ «هٰذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ بِأَمْثَالٍ، وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ».
مرقس ٤: ٣٣، ٣٤
هٰذَا كُلُّهُ ليس المراد من هذا أن المسيح من ذلك الوقت لم يكلم الجموع إلا بالأمثال، لأنه كثيراً ما خاطب الجموع بعد ذلك بغير الأمثال. لكن المعنى أنه في الوقت الذي بدأ فيه يعلم بأمثال وروى هذه الأمثال السبعة، اقتصر على هذا الأسلوب من تعليمه.
٣٥ «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ: سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ».
مزمور ٧٨: ٢ ورومية ١٦: ٢٥، ٢٦ و١كورنثوس ٢: ٧ وأفسس ٣: ٩ وكولوسي ١: ٢٦
من عادة متّى أنه يأتي بالنبوات لبيان أنها تمت بما فعله المسيح، وهنا أبان أن تعليمه بالأمثال إتمام لنبوءة.
مَا قِيلَ في مزمور ٧٨: ٢ على ما في الترجمة السبعينية.
بِٱلنَّبِيِّ أي آساف كما في عنوان المزمور. وسمي آساف الرائي (٢أخبار ٢٩: ٣٠) والرائي هو النبي (١صموئيل ٩: ٩). ويظهر أن حوادث هذا المزمور تاريخية، ولكن لا مانع من أن تكون رمزية أيضاً تشير إلى مجيء المسيح وملكه.
٣٦ «حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ ٱلْحَقْلِ».
صَرَفَ أي أذن لهم في الذهاب لانتهاء خطابه لهم.
ٱلْجُمُوعَ هم الذين ذُكروا في العدد الثاني من هذا الأصحاح.
ٱلْبَيْتِ الأرجح أن ذلك بيت سمعان بطرس في كفرناحوم (انظر تفسير ٨: ١٤).
تَلاَمِيذُهُ لا الاثنا عشر فقط، بل غيرهم معهم (مرقس ٤: ١٠).
٣٧ «فَأَجَابَ: ٱلزَّارِعُ ٱلزَّرْعَ ٱلْجَيِّدَ هُوَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».
هذه مرة ثانية شرح بها المسيح مثلاً، وهو يشبه تفسيره لمثل الزارع في الاختصار والوضوح والنظر إلى الجوهر دون العرض.
ٱلزَّارِعُ أي المذكور في عدد ٢٤ من هذا الأصحاح.
ٱبْنُ ٱلإِنْسَان أي المسيح في حال اتضاعه (متّى ٨: ٢٠). وكان بدء زمن ذلك المثل بدء خدمة المسيح على الأرض. وهو لا يزال يزرع الزرع على يد المبشرين بالإنجيل والمعلمين والوالدين الأتقياء وسائر المسيحيين بالحق، وهم يزرعون بأقوالهم وأفعالهم.
٣٨ «وَٱلْحَقْلُ هُوَ ٱلْعَالَمُ. وَٱلزَّرْعُ ٱلْجَيِّدُ هُوَ بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ. وَٱلزَّوَانُ هُوَ بَنُو ٱلشِّرِّيرِ».
متّى ٢٤: ١٤ و٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٥، ٣٠ ولوقا ٢٤: ٢٧ ورومية ١٠: ١٨ وكولوسي ١: ٦ وتكوين ٣: ١٣ الخ ويوحنا ٨: ٤٤ وأعمال ١٣: ١٠ و١يوحنا ٣: ٨
ٱلْحَقْلُ هو الذي زُرع فيه الزرع الجيد والزوان، وهو العالم الذي كان المسيح قد أخذ يؤسس فيه كنيسته فتكون جزءاً منه. ولم يكن التلاميذ محتاجين إلى أن يبين لهم المسيح بمثله اختلاط الأبرار بالأشرار في العالم بأسره، لأن ذلك معروف. إنما أراد أن يوضح لهم أن ذلك الاختلاط يكون في الكنيسة أيضاً كما يظهر من قوله «من ملكوته» (متّى ١٣: ٤١). وفسر الحقل بالعالم لأنه جمع كنيسته منه، ولأن كنيسته أخيراً ستشمل كل أهل الأرض.
بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ أي أصحابه وورثة بركاته، لا بالميلاد ولا بالإرث الدنيوي، بل بالنعمة. وسموا «الزرع الجيد» لأن كلمة الله التي عبر عنها بذلك الزرع في عدد ١٩ زُرعت في قلوبهم وصارت واسطة تجديدهم. فأثمرت أعمالاً صالحة (يعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٧). وقد قسم المسيح كل صنوف البشر إلى قسمين فقط.
بَنُو ٱلشِّرِّير أي أولاد الشيطان وهم الزوان المذكور في عدد ١٩ وسُموا أولاد الشيطان لأنهم يشبهونه في صفاتهم، وهو يقودهم، وهم خاصته لأنهم نسل الحية ويعملون أعماله في العالم وسيشاركونه في العذاب أخيراً (متّى ٢٥: ٤١).
٣٩ «وَٱلْعَدُوُّ ٱلَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَٱلْحَصَادُ هُوَ ٱنْقِضَاءُ ٱلْعَالَمِ. وَٱلْحَصَّادُونَ هُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ».
يوئيل ٣: ١٣ ورؤيا ١٤: ١٥.
ٱلْعَدُوُّ هو المذكور في عدد ٢٥ وهو عدو المسيح وعدو الإنسان منذ القديم (تكوين ٣: ١٥).
إِبْلِيسُ هو الشيطان ومعناه واشٍ أو مشتكٍ (متّى ٤: ١). ومعنى الشيطان «خصم». وسُمي في عدد ٣٨ بالشرير لأنه أعظم الأشرار شراً في ذاته، وهو علة الشر في غيره. وهو على الدوام يعارض المسيح، فالمسيح يزرع الزرع الجيد وهو يزرع الرديء، ويرسل المسيح أنبياء صادقين وهو يرسل أنبياء كذبة. فلا بد من أن يكون «ضد المسيح» حيث يكون المسيح على الأرض، وأظهر الشيطان أشد أعماله حين كان المسيح على الأرض. وهو رئيس ملكوت الظلمة الباذل جهده في منع تأسيس ملكوت النور. وقد ظهر في هذا المثل إدخاله أولاده بين أولاد الملكوت أي كنيسة المسيح على الأرض. وتعليم المسيح هنا يبين لنا أن لا نتوقع الطهارة الكاملة في الكنيسة، فلا بد من وجود المرائين بين المؤمنين الحقيقيين، كيهوذا الإسخريوطي بين الإثني عشر. ونرى سرعة نبت الزوان في الكنيسة الجديدة من قصة حنانيا وامرأته سفيرة (أعمال ٥).
ولم يفسر المسيح طلب الخدام أن يقلعوا الزوان ونهي رب الحقل إياهم عن ذلك، فيجوز تفسير ذلك بمقارنته بباقي تعاليم الكتاب المقدس. فليس هناك ما يمنع الكنيسة من تأديب أعضائها على أعمال مضادة لشريعة الله ومضرة لطهارة الكنيسة وراحتها، فإن وجوب ذلك التأديب جليٌّ في الإنجيل. لكن منع الخدام من قلع الزوان يمنع الكنيسة من إجبار المرائين والضالين ليرجعوا عن ريائهم وضلالهم، ويمنعها من قصاص المعاندين لها بذاتها، ويمنعها من معاملة أولادها العصاة بطريق لا تُبقي بها لهم فرصة التوبة والإصلاح والرجوع إليها.
ونستنتج من كلام المسيح أنه لا يريد أن يخرج تلاميذه الحقيقيون من كنيسةٍ إن وُجد فيها بعض المرائين، فيخرجون منها ويؤسسون كنيسة منفصلة عنهم لستة أسباب:
(١) أن الذين يفعلون ذلك يخالفون أمر المسيح بقوله «دعوهما ينميان كلاهما معاً» وهم في خطر السقوط في هاوية الكبرياء الروحية.
(٢) أنه لا يمكن لأحد فصل المرائين عن المخلصين إلا الذي يفحص القلوب والكلى.
(٣) إنه يخشى أن يُحسب الأخ ضعيف الإيمان مرفوضاً من النعمة ويُقطع.
(٤) إن اختلاط النوعين في الكنيسة يمتحن إيمان خدام المسيح الحقيقيين وإخلاصهم وصبرهم.
(٥) إن إبقاء المرائي في الكنيسة فرصة لتوبته ورجوعه إلى الله، فإن بقي على حاله لم تكن له حجة يوم الدين.
(٦) إن المسيح أجَّل الانفصال إلى يوم الحساب وحينئذٍ يكون تحت نظره بدليل قوله «فِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ.. الخ» (متّى ١٣: ٣٠).
ٱلْحَصَادُ أي حصاد الله، وهو جمع غلة العالم في كل أزمانه من بدء الخليقة إلى يوم الدين من خيرٍ وشر، لتمييز الواحد عن الآخر وفصله عنه إلى الأبد.
ٱنْقِضَاءُ ٱلْعَالَمِ أي نهاية حال العالم الحاضرة بالنسبة إلى الأبدية، فهو الوقت المعين للفصل.
ٱلْحَصَّادُونَ أي الفعلة الذين يستخدمهم الله للجمع والفصل.
ٱلْمَلاَئِكَةُ هم أرواحٌ أرفع رتبة من البشر منزهون عن العوارض الجسدية والنقص البشري. وأضافهم إلى الله بقوله «ملائكته» لأنهم يطيعون أوامره ويتممون مقاصده. فيليق أن يكونوا الحاصدين لأنهم أصدقاء أمناء للصالحين وأعداء عادلون للأشرار (دانيال ٧: ٩، ١٠).
٤٠ «فَكَمَا يُجْمَعُ ٱلزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِٱلنَّارِ هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ».
يهلك الأشرار حالَ فصلهم عن الأخيار.
يُجْمَعُ ٱلزَّوَان وهذا قصاص للأشرار أن يُجمعوا معاً، فما أكره هذه الرفقة!
وَيُحْرَقُ بِٱلنَّارِ لا إهلاك كامل كالإهلاك بالنار المعهودة، ولذلك استعارها الكتاب المقدس لهلاك الأشرار التام في نار جهنم.
٤١ «يُرْسِلُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ ٱلْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي ٱلإِثْمِ».
متّى ١٨: ٧ و٢بطرس ٢: ٢، ٢
ٱبْنُ ٱلإِنْسَان هو الذي يُجري كل تلك الأمور وهو الشخص المُهان نفسه الذي كان يخاطبهم يومئذٍ، فإن المسيح وإن احتمل الأشرار بطول الأناة لا يحتملهم إلى الأبد.
جَمِيعَ ٱلْمَعَاثِرِ أي أصحاب المعاثر المضلين، وهم الذين يوقعون غيرهم في الإثم.
٤٢ «وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ».
متّى ٣: ١٢ ورؤيا ١٩: ٢٠ و٢٠: ١٠ ومتّى ٨: ١٢، ٥٠
هذا إضافة وتوضيح لعدد ٤٠ وتأكيد له، فإن عدد ٤٠ ذكر كمال الهلاك، وهذا العدد أوضح شدة العذاب المتعلق به. فعلينا أن نلاحظ أن النار هنا للقصاص والهلاك، لا للتطهير.
٤٣ «حِينَئِذٍ يُضِيءُ ٱلأَبْرَارُ كَٱلشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع».
هذا تفسير لعدد ٣٠ فسر فيه الحنطة المذكورة هناك بالأبرار.
كَٱلشَّمْسِ وجه الشبه البهاء والطهارة والبهجة وإنارة الغير. وكثيراً ما عبر عن السعادة السماوية بالنور كما عُبر عن جهنم بالنار. وقوله «حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ» يدل على أن مجدهم كان محجوباً قبل ذلك (أمثال ٤: ١٨ ودانيال ١٢: ٣ وكولوسي ٣: ٣ ورومية ٨: ١٨). فجمال الكنيسة لا يظهر كما هو بالحق إلا بعد فصل الأشرار.
فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِم يعترف الله بأن الأبرار أولاده وورثته، وذلك من خير بركات الله عليهم.
مَنْ لَهُ أُذُنَانِ الخ انظر متّى ١١: ١٥.
٤٤ «أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَنْزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَى ذٰلِكَ ٱلْحَقْلَ».
إشعياء ٥٥: ١ وفيلبي ٣: ٧، ٨ ورؤيا ٣: ١٨
مرَّ في عدد ٣٦ أن المسيح صرف الجموع. فالأمثال الثلاثة الباقية من السبعة ضربها في البيت لتلاميذه فقط.
مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ أي مُلك المسيح الجديد الروحي.
كَنْز تكلم المسيح في المثلين السابقين عن نمو ملكوته الغريب من بداية صغيرة، ثم تكلم عن علاقته بكل فرد من المؤمنين كمقتنى خاص. ولا يُسمى كنزاً إلا ما هو ثمين. ففي ملكوت السماوات الغنى الحقيقي، لأن فيه رضى الله والحياة الأبدية والميراث الذي لا يضمحل. وهذا وحده يشبع نفس الإنسان. وأفضل الكنز السماوي هو المسيح «الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كولوسي ٢: ٣).
مُخْفىً فِي حَقْلٍ كانت عادة الأغنياء في الأزمنة القديمة أن يدفنوا أموالهم في الأرض أوقات الخطر (أيوب ٣: ٢١ وأمثال ٢: ٤ وإرميا ٤: ٨). وقوله «مخفى» ليس له معنى جوهري لكنه من الضروريات للمثل لأنه لا يمكن إيجاده ما لم يكن مخفى. ولا شك أن الكنوز الروحية مخفاة عن عيون أهل العالم من عمى قلوبهم، لا لأن الله قصد إخفاءها. قال الرسول «وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا» (١كورنثوس ٢: ١٤). وقال أيضاً «لَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ» (٢كورنثوس ٤: ٤).
وَجَدَهُ إِنْسَان أحياناً يجد بعض الناس كنزاً مخفى منذ قديم، ولعله هذا ما حدث حينئذٍ في تلك المنطقة، وشاع أمره بين الجميع.
فَأَخْفَاه إلى أن اشتراه فصار له الحق الشرعي أن يملكه. ولم يرد في المثل أن هذا حلال أو حرام، لأنه ليس من غرض المسيح، وإنما ذكره على ذلك النسق هو المعهود من أمثاله. ولم يخفِ الواجد الكنز خشية أن يأخذه غيره، بل خشية أنه هو يخسره. فالمقصود من ذلك رغبة الواجد في استعمال كل الوسائط ليملك ذلك الكنز، توضيحاً لوجوب الاجتهاد في طلب ملكوت السماء والاحتراس من كل ما يمنع من ذلك. ولكن لا حاجة أن نخفي الكنز السماوي عن غيرنا حتى نتمتع به، فإنه يكفي ليُغني كل العالم. وعلى قدر عدد الذين ندعوهم إلى مشاركتنا فيه يزيد سرورنا. فأندراوس حين وجد المسيح الذي هو أعظم كنوز السماء أخبر فيلبس، وفيلبس أخبر نثنائيل بقوله «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ» (يوحنا ١: ٤٥).
بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَه الخ ليس المقصود من ذلك أن الكنوز السماوية تُشترى بمالٍ، لأنها «بلا فضة وبلا ثمن» (إشعياء ٥٥: ١). ولكن الكتاب يشير إلى الحصول على الشيء بشرائه (أمثال ٢٣: ٢٣ ومتّى ٢٥: ٩، ١٠ ورؤيا ٣: ١٨). فلعله أراد بقوله «باع كل ما كان له الخ» إن طالب الخير السماوي يترك كل شيء يمنعه عن إدراك ذلك الخير، وفقاً لقول بولس «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيح» (في ٣: ٧، ٨) ووفقاً لقول المسيح «إِنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. َمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. َنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متّى ١٠: ٣٧ – ٣٩). (انظر متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٩: ٤٣ – ٤٨).
فعلى ذلك يجب على مُحب المال أن يترك طمعه، وعلى المتواني أن يترك كسله، وعلى محب اللذات أن يترك شهواته، وعلى البار في عيني نفسه أن يخلع ثوب بره الذاتي. وهذا الترك يكون اختيارياً سهلاً عليه حين يرى قيمة العوض. فكما أن واجد الكنز «مضى من فرحه وباع كل ما كان له» كذلك المسيحي يترك بكل رضى كل شيء لأجل المسيح.
٤٥، ٤٦ «٤٥ أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لَآلِئَ حَسَنَةً، ٤٦ فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا».
أمثال ٢: ٤ و٣: ١٤، ١٥ و٨: ١٠، ١٩
هذا المثل يشبه الذي قبله في ثلاثة أمور: (١) عظمة قيمة الموجود. (٢) وجوب أن يكون ملكاً خاصاً. (٣) أن يترك كل شيء لأجله عندما يجده.
ويختلف عنه في أمر واحد هو أن الواجد في المثل الأول وجد اتفاقاً، والواجد في الثاني وجد بعد بذل جهده في التفتيش. فمثال الأول المرأة السامرية، فإنها جاءت إلى البئر لمجرد الماء وجدت المسيح هناك. ومثلها بولس الذي لم يقصد أن يجد المسيح حين وجده قرب دمشق. ومثال الثاني المجوس الذين أتوا من المشرق يطلبون مشاهدة الملك المولود حديثاً. ومثلهم الخصي الحبشي فإنه وجد المسيح بإتيانه إلى أورشليم للسجود وبدرسه كلام الأنبياء عن المسيح.
لَآلِئَ تُستخرج من الصدف في البحار ولا سيما بحر الهند، وكانت تعتبر قديماً أكثر مما تعتبر اليوم. وكانوا يبذلون مبالغ عظيمة من المال لشرائها، وكان اقتناؤها دليلاً على غنى مقتنيها وعظمته وشرفه، ولهذا رغب فيها الملوك (متّى ٧: ٦ و١تيموثاوس ٢: ٩).
وكل أهل الأرض مثل ذلك التاجر في أنهم يطلبون الخير الأعظم، لكنهم يخطئون بأنهم يطلبونه حيث لا يوجد لظنهم إياه في المال أو المراتب العالية أو زيادة العلم. وفاتهم أنه لا يوجد إلا عند الله. فمتّى طلبوا الغنى السماوي برغبة كرغبة التاجر في اللآلئ فلا بد أن يجدوه.
لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ اللؤلؤة في هذا المثل إما ملكوت الله في نفس الإنسان، وإما الخلاص، وإما معرفة المسيح وإما المسيح نفسه. ومآل الكل واحد، أي المسيح، لأن بالمسيح كل بركات ملكوته. وقوله «لؤلؤة واحدة» دليل على أن الخير الأعظم واحد.
مرَّ في مثل الكنز المخفي أن الذي وجده فرح، ولم يذكر هنا أن التاجر فرح باللؤلؤة. وليس المقصود أن فرح الذي يجد النفيس بعد الطلب أقل من الذي يجده اتفاقاً بلا طلب. ولكنه ذكر فرح الأول إشارة إلى أنه وجد الكنز على غير انتظار. ولكن كليهما اتفقا في أنهما اعتمدا شيئاً واحداً، وهو الحصول على النفيس بأي نفقة كانت.
بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا يتضح معنى ذلك من عدة آيات (أمثال ٢٣: ٢٣ وإشعياء ٥٥: ١ ومتّى ١٠: ٣٧ – ٣٩ و١٦: ٢٤ و٢٥: ٩، ١٠ أو مرقس ٩: ٤٣ – ٤٨ وفيلبي ٣: ٤ – ١١ ورؤيا ٣: ١٨). فمن تحقق قيمة البركات الإنجيلية لا يعطله شيء عن الحصول عليها، فيكون مستعداً ليترك خطاياه ولذاته ومدح الناس وكل خير دنيوي ولينكر نفسه ويتبع المسيح. ومن فعل ذلك لا يندم أبداً، فإن جواهر الأرض ليست شيئاً بالنسبة إلى جوهرة السماء، لأنها تبقى على بهائها وقيمتها إلى الأبد. وكما أن ذلك التاجر هو الذي سعى لإدراك تلك اللؤلؤة لنفسه، وأنفق كل شيء ليحصل عليها، كذلك يجب على كل إنسان في الأرض أن يسعى في إدراك المسيح، فذلك ليس وراثة من الآباء ولا هبة من الكنيسة، بل هو اقتناء خاص بالإيمان.
٤٧، ٤٨ «٤٧ أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ، وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. ٤٨ فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ، وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا ٱلْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا ٱلأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً».
متّى ٢٢: ١٠
هذا المثل آخر الأمثال السبعة، وهو يشبه مثل الزوان، إلا أن ذاك من أعمال الفلاحة وهذا من صيد السمك. ولعل المسيح اختار هذا المثل من الصيد لأن أربعة من تلاميذه كانوا صيادين، فأورده لزيادة تأثيره في قلوبهم، ولأنه كان يجهزهم كلهم ليكونوا صيادي الناس.
شَبَكَةً الشبكة الكبيرة نسيج طويل ذو عيون ضيقة يثقل بقطع كثيرة من الرصاص من الأسفل، ويخفف بقطع كثيرة من الفلين من الأعلى. تُطرح في البحر فتشتمل على دائرة كبيرة ثم تجر من الطرفين بكل ما فيها إلى الشاطئ. ومعنى الشبكة هنا الكنيسة لأنها تجمع أعضاءها من كل العالم.
مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ إشارة إلى انتشار الإنجيل في العالم وأنه ليس لأمةٍ دون أخرى. وطُرحت هذه الشبكة قديماً في نهر صغير، يوم كانت مقصورة على بني إسرائيل . وفي قوله «مطروحة في البحر» نبوَّة بامتداد الإنجيل من أمة إلى أمة من يوم أمر المسيح تلاميذه «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦:١٥). وتمَّت هذه النبوة فعلاً من يوم الخمسين إلى الآن. وتطرح تلك الشبكة في البحر كلما بُشر الناس وآمنوا واعتمدوا.
جَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْع إشارة إلى مختلفي الصفات الذين يدخلون الكنيسة، بالرغم من اجتهاد أعضائها في ألا يدخلها إلا متجددو القلوب. والشبكة تجمع عندما يسحب الصيادون الشباك الكبيرة إلى الشاطئ، مملوءة من كافة الأسماك الجيدة والرديئة.
فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أي لما تم عدد مختاري الله.
جَلَسُوا يشير هذا إلى أنهم لم يجروا ذلك إلا بعد النظر والتأمل احتراساً من الخطأ.
ٱلْجِيَادَ… وٱلأَرْدِيَاء المقصود بالجياد المؤمنون، وبالأردياء المراؤون. وهم إما مخدوعون وإما خادعون. فلا عجب من أن نجد في الكنيسة من كل نوع، لأنه كان قايين في العائلة الأولى، وحام في الفلك، وعيسو في عائلة إسحاق، ويهوذا الإسخريوطي بين الرسل، وسيمون الساحر بين المعتمدين في السامرة.
ولم يذكر الصيادين، ولكن الكلام يقتضي وجودهم، فالذين يطرحون الشبكة الإنجيلية هم خدام المسيح الذين ينادون بالإنجيل. ولا بد من أن شبكة الإنجيل تختلف عن الشبكة العادية، لأن الأردياء في الشبكة المعتادة لا تتحول داخل الشبكة إلى أن صالحة. ولكن شبكة الإنجيل تلقى لغاية أن يصير الأردياء داخلها صالحين. فالذين يبقون في الكنيسة أردياء إنما يبقون كذلك باختيارهم.
أَوْعِيَةٍ المقصود بالأوعية هنا المقصود بالمخزن (في عدد ٣٠) وبالمنازل الكثيرة (يوحنا ١٤: ٢) وبالمظال الأبدية (لوقا ١٦: ٩).
٤٩ «هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ ٱلْعَالَمِ: يَخْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ ٱلأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ ٱلأَبْرَارِ».
متّى ٢٥: ٣٢.
يَخْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَة أي يظهرون للأبصار خلافاً لما هم عليه الآن. وقد اعتاد صيادو السمك الذين يطرحون الشبكة أن يعزلوا الأردياء عن الجياد. ولكن الأمر في الروحيات ليس كذلك، فإن البشر يكونون صيادي الناس، ولكن الملائكة هم الذين يُجرون قضاء الله ويفرزون الأثمة عن الأبرار (متّى ١٣: ٤١ و٢٤: ٣١ و٢٥: ٣١ ورؤيا ١٤: ١٨، ١٩).
٥٠ «وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان».
أَتُونِ ٱلنَّارِ إشارة إلى مسكن الأبالسة والهالكين من الناس.
ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان كناية عن الحزن والألم واليأس. كانت غاية المسيح أن ينادي بالخلاص ويبشر بالحياة الأبدية، ولكنه لم يسكت عن ذكر الدينونة الآتية وهول عقاب الأثمة غير التائبين.
فائدة: ينهانا هذا المثل عن أن نكتفي بانتمائنا للكنيسة «لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ» (رومية ٩: ٦) ويوجب علينا أن «نجعل دعوتنا واختيارنا ثابتين» (٢بطرس ١: ١٠).
والسبعة الأمثال المذكورة في هذا الأصحاح تشتمل على قصد واحد كامل، فالأول (مثل الزارع) يبين أسباب النجاح الإنجيلي أحياناً وأسباب ذلك النجاح في سائر الأحيان.
والمثل الثاني (مثل الزوان) يبين الموانع الداخلية من امتداد الإنجيل، وينسب أصلها إلى الشيطان، ويحذر الناس من إزالتها إجباراً.
والمثلان الثالث والرابع يشيران إلى امتداد الإنجيل وانتصاره أخيراً ظاهراً كما في نمو الخردل، وباطناً كما في فعل الخميرة.
والمثلان الخامس والسادس يُظهران قيمة ملكوت المسيح لكل فرد من الناس، ووجوب ترك كل شيء بغية اقتنائه.
والسابع يشير إلى تمام الانفصال أخيراً بين الصالحين والأشرار المجتمعين الآن في الكنيسة، وأن الله هو الذي يُجري ذلك الانفصال في وقته وفي الطريق التي يختارها.
٥١ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَفَهِمْتُمْ هٰذَا كُلَّهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا سَيِّدُ».
بعد أن علَّم المسيح هذه الأمثال وفسر اثنين منها، سأل التلاميذ: هل فهموا معناها الروحي.
نَعَم أصابوا بهذا الجواب مع أنهم لم يفهموا كل معناها ولا سيما النبوات التي تتضمنها إلا بعد ما حل عليهم الروح القدس كما وُعدوا (يوحنا ١٦: ١٣، ١٤).
فائدة: سماعنا كلام الحق لا يفيدنا شيئاً إن لم نفهم معناه ونحسبه خطاباً لأنفسنا، فالألوف يحضرون الكنيسة ويظنون أنهم أكملوا ما يجب عليهم بمجرد سماعهم كلام المبشر، وهم لا يأخذون شيئاً من تعليمه في قلوبهم. فيجب أن يفهم كل السامعين كلام الإنجيل، لأن المسيح يسأل «أفهمتم هذا كله؟». فطوبى لمن يستطيعون أن يجيبوه «نعم يا سيد».
٥٢ «فَقَالَ لَـهُمْ: مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ».
بعد أن أكمل المسيح تعليمه بالأمثال، وسألهم عما استفادوا منها، أخبرهم بالطريق التي يجب أن يسيروا فيها، فيعلِّمون بعد ما تعلموا، ويطعمون غيرهم من خبز الحياة الذي شبعوا به وذخروا منه موزعين على الناس حسب احتياجاتهم.
كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أطلق على معلِّمي المسيحية الاسم الذي عُرف به معلمو اليهود. فكل من يعرف الإنجيل ومعناه الروحي هو الكاتب المتعلِّم الحقيقي.
رَبَّ بَيْتٍ يعطي بحكمة وحنو كل عضو من أهل بيته ما يحتاج إليه، فلا يقلّب كالبخيل، ولا يكثر على نفسه كالمسرف. لكنه يعتني باحتياجات أهل البيت اليومية والخاصة كما في وقت المرض والمصيبة. فالمسيح هو «رب البيت» العظيم الذي أخرج من كنز السماء كل ما يحتاج إليه الناس. فالمتعلم منه ينوب عنه في توزيع هذا الكنز.
مِنْ كَنْزِهِ أتى المسيح بهذا الكنز من السماء. ولكن كل معلم في ملكوته يأتي بكنزٍ من قلبه المملوء من النعمة، المختبر تأثير الحق، المتعلم من الروح القدس. خلافاً لمن يُخرج من ذاكرته ومعرفته العقلية فقط. فلا يجب أن يعلّم أحدٌ بالإنجيل ما لم يكن قد شعر بقوته وتأثيره في نفسه.
وكنز المبشر الذي يخرج منه ما يُعلّمه للشعب يأتيه من أربعة مصادر. (١) الكتاب المقدس. و(٢) بينات لصفات الله. و(٣) أعمال العناية الأزلية. و(٤) اختباره الحق بإرشاد الروح القدس إياه.
جُدُداً وَعُتَقَاءَ أي مما اقتناه حديثاً وقديماً. واستعار ذلك للحقائق السماوية التي تعلمها التلاميذ وهم يهود من العهد القديم، وللذي استفادوه من تعليم المسيح أو مما سيتعلمونه من الروح القدس. ويجوز أن تكون الحقائق الواحدة عتيقة وجديدة بالنسبة إلى قدر إدراكنا لها. فيجوز مثلاً أن نحسب شرائع الحق والبر التي كتبها الله على صفحات الضمير وعلى لوحي الحجر (أي الوصايا العشر) وفي كتب الأنبياء عتيقة، ويجوز أن نحسب الحقائق التي أُعلنت لنا بمجيء المسيح وتجسده وصلبه وقيامته وصعوده ودعوة الأمم وروحانية ملكوت المسيح ووجوب التبشير بالإنجيل في كل العالم جديدة. فعلى القسوس والمبشرين الآن أن يعظوا الناس بحقائق الإنجيل التي اعتادوا سماعها منذ الصغر حتى صارت عندهم بمنزلة العتيقة. ولكن عليهم أن يجتهدوا في الدرس والاختبار والصلاة حتى يشعروا أعظم شعور بمعناها، ويأتوا بطرق جديدة لبيانها حتى تظهر للسامعين كأنها ذات معنى جديد وقوة جديدة. فكل حقائق الكتاب المقدس من أولها إلى آخرها كنز ثمين، يستخرج منها المعلم المسيحي ما يقوي ضعيف الإيمان، وينير الجهلاء، ويعزي الحزانى، ويرشد الضالين.
٥٣ «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَمْثَالَ ٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ».
هذا نهاية وعظ المسيح بالأمثال كما كان في متّى ٧: ٢٩.
٥٤ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ وَٱلْقُوَّاتُ؟».
متّى ٢: ٢٣ ومرقس ٦: ١ ولوقا ٤: ١٦، ٢٣
هذا بدء كلام على أمر جديد كان في وقتٍ غير وقت الوعظ السابق. ولم يُبيّن متّى زمان حدوثه. فلا تناقض بينه وبين مرقس، فإنه بيَّن أن الحادثة الآتية كانت على أثر إقامة المسيح ابنة يايرس من الموت (مرقس ٦: ١ – ٦). ولكن متّى ذكر إقامة تلك الابنة قبل أن ذكر الوعظ (متّى ٩: ١٨ – ٢٦).
وَطَنِهِ أي الناصرة (متّى ٢: ٢٣). وهذا المجيء إليها غير المجيء الذي ذكره لوقا (لوقا ٤: ١٤ – ٣٠) وهذا كان قبل الذي ذكره متّى هنا. وأحوال المجيئين مختلفة مع أن الناس أظهروا في كليهما عدم الإيمان. ولا عجب من أنه رجع إلى الناصرة غير مرة، وجدد طلباته إليهم بعد رفضهم لأنه تربى هناك، ولم تزل يومئذٍ مسكن أهله.
يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِم اغتاظ أهل الناصرة منه عند مجيئه الأول حتى عزموا على أن يرجموه، أما الآن فلم يعارضه أحد، إما لأن غيظهم كان قد زال، وإما لأن صيته ذاع في البلاد. وسبب قبولهم أن يعلم في مجمعهم أنهم اعتادوا أن يدعوا كل يهودي يظهر أنه من أرباب المعرفة وأنه قادر على الإفادة إلى أن يخاطب الشعب (أعمال ١٣: ١٥) أو أن يسوع عُرف يومئذٍ أنه يعلم تعليماً غير عادي، وأنه ربُّ معجزات عظيمة.
بُهِتُوا لم يتحيروا مما علم كما تحيروا مما ادَّعى من اللاهوت والسلطان، خلافاً لما كانوا يعهدون من أمره مثل كونه من عائلة يعرفونها وأنه تربى بينهم.
مِنْ أَيْنَ لِهٰذَ الخ كان الشعب أقل قسوة مما كانوا في مجيئه الأول إليهم، ولكنهم ليسوا أكثر إيماناً من ذي قبل. وفي سؤالهم شكٌّ واستخفاف. وقد اعترفوا أنه أظهر حكمة وقوة غريبة، ولكنهم عزوهما إلى غيره، ولعل بعضهم ظنهما من الشيطان كما اتهمه الفريسيون (متّى ١٢: ٢٤). ولا ريب في أن أهل الناصرة سمعوا ذلك من أولئك.
أنهم لم ينكروا على المسيح معجزاته لكنهم لم يسلموا بأنها برهان على أنه المسيح، فاكتفوا بأن عجبوا منها كأمر فوق إدراكهم. ولكن تسليمهم بحكمته وقوته لم يترك لهم عذراً على عدم إيمانهم، ودلَّ على أن التعصب والحسد والبغض تعمي القلب وتمنعه من تصديق ما تشهد به الحواس ويحكم به العقل.
٥٥ «أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ ٱلنَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟».
إشعياء ٤٩: ٧ ومرقس ٦: ٣ ولوقا ٣: ٢٣ ويوحنا ٦: ٤٢ ومتّى ١٢: ٤٦ ومرقس ١٥: ٤٠
رفض أهل الناصرة قول المسيح بسبب معرفتهم له منذ الطفولية، ومعرفتهم أهله وأنسباءه ومهنتهم، فهو واحدٌ منهم! وهذا عذر باطل لأنه بُني على التعصب والهوى والحسد، لا على استدلال عقلي.
ٱبْنَ ٱلنَّجَّارِ اشتهر المسيح بين الناس بأنه ابن يوسف النجار. وكان هو نجاراً (مرقس ٦: ٣). وكان كل يهودي في ذلك الوقت يتعلم شيئاً من الصنائع، مهما كانت وظيفته أو رتبته. فلا ينتج من دعوتهم إياه بابن النجار أن النجارة كانت صناعة دنيئة، أو أن يسوع صار أدنى منهم لمزاولته النجارة. بل كان غرضهم أن يبينوا أنه مثلهم، لا حق له أن يدَّعي أنه أعظم منهم.
فاتضاع المسيح لم ينتج من كونه نجاراً ابن نجار، بل من أنه صار جسداً وحل بيننا. فلو جاءنا ملكاً لم يكن أقل تنازلاً من كونه نجاراً (في ٢: ٦ – ٨).
وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوب قال بعض المفسرين إن إخوته هم أولاد أخي يوسف، أو أخي مريم أو أختها، أو أنسباؤه من جهة أخرى. وقال البعض الآخر إنهم إخوته وأخواته من أمه ويوسف. ولا توجد إجابة قاطعة. فالذي يرغب في بحث هذا الأمر عليه أن يقارن الآيات الآتية ويحكم لنفسه: متّى ١٢: ٤٦ ومثله مرقس ٣: ٣١ ومثله لوقا ٨: ١٩.. متّى ١٣: ٥٥ ومثله مرقس ٦: ٣..
يوحنا ٢: ١ و٧: ٣، ٥، ١٠ وأعمال ١: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٥ وغلاطية ١: ١٩.
٥٦ «أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ كُلُّهَا؟».
عِنْدَنَا أي في الناصرة، مما يدل على أن الناصرة ما زالت مسكن أهل يسوع بعد ما ذهب منها. ومن العجب أنهم اتخذوا معرفتهم أصل يسوع وعائلته دليلاً على عدم صحة دعواه أنه المسيح.
٥٧ «فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ».
متّى ٥: ٢٩، ٣٠ و١١: ٦، ٢١ ومرقس ٦: ٣ الخ ولوقا ٢: ٣٤ ولوقا ٤: ٢٤ ويوحنا ٤: ٤٤
ما أعظم ضرر المعرفة الناقصة المدعية كما فعل هؤلاء، فقد حسبوا أنهم عرفوا يسوع معرفة تامة لأنهم عرفوا نسبه وعائلته ومهنته وإخوته وأخواته. وفاتهم أنهم لم يعرفوه في رسالته الجديدة وفي وظيفته المقدسة أنه المسيح المخلص ابن الله الوحيد. ولأنهم قصروا في المعرفة الحقيقية، كان لهم ضيق النظر والعمى الروحي.
فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ هم كسائر اليهود انتظروا أن يأتي المسيح ملكاً أرضياً فيجعل الأمة اليهودية أقوى من الأمة الرومانية، ومجلس السبعين أعظم من السناتوس الروماني، وهيكل أورشليم أشرف من الكابيتول (أي قلعة روما). فصعُب عليهم أن يعتقدوا أن النجار ابن قريتهم هو المسيح المنتظر. فكان حجر عثرة لهم. فإنهم اعترفوا بحكمته وقوته ولكن أهواءهم منعتهم من قبول تعليمه. وكل برهان على صحة دعوى المسيح أو إنجيله، ورفضه الناس، هو حجر عثرة لهم يسقطون عليه لهلاكهم الأبدي.
لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَة الخ لم يتخذ المسيح رفضهم إياه اعتداءً عليه وإهانةً له، بل تصديقاً لقولٍ جرى عندهم مجرى المثل، وهو أن الإنسان يجد من الغرباء اعتباراً لدعواه لا يجدها ممن هم أقرب إليه. وعلة ذلك أن الغرباء يحكمون بالنظر إلى أعماله العلنية وسيرته باعتبار وظيفته، ولكن أقاربه يحكمون بالنظر إلى أمور ماضية من جهة الأصل والسيرة.
وآثر المسيح ذكر «النبي» في ذا القول إما لأنه صدق في الماضي على الأنبياء أكثر من غيرهم، أو لأن أهل الناصرة أنكروا دعواه أنه نبيّ.
٥٨ «وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِم».
كانت نتيجة عدم إيمانهم محزنة، وهي أنه لم يصنع بينهم من المعجزات إلا أقل مما صنعه في غير قريتهم من الجليل، لأنهم لم يطلبوا منه شفاءً لعدم ثقتهم بقوته عليه. ولا دليل على أن أحداً منهم طلب أن يشفيه وطُرد. فيظهر من ذلك أن المسيح لم يصنع المعجزات ليقنع منكري دعواه، وإلا جاء بأعظم المعجزات للذين هم أقل إيماناً من غيرهم. ولكنه صنع المعجزات ختماً لسلطانه لمن استعدوا لقبوله بآية إلهية.
السابق |
التالي |