إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 10 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح العاشر

ذكر متّى أنباء خدمة المسيح إجمالاً في ص ٤: ٢٣ حيث يقول «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب» وبيّن أسلوب تعليمه في ٥، ٦، ٧ وأورد بض الأمثلة من معجزاته في ص ٨، ٩ وأخذ هنا يبين نظام الرسل الاثني عشر وأوامر المسيح لهم.

١ «ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ».

دَعَا تَلاَمِيذَهُ علاوةً على خدمته في نشر بشراه دعا المسيح اثني عشر من تلاميذه ليساعدوه في تلك الخدمة، وكان قد اختارهم قبلاً (متّى ٤: ١٨ ومرقس ٣: ١٤) ليرشدهم ويعلمهم استعداداً لذلك. لكنهم لم يستعدوا كما ينبغي ليكونوا رسلاً إلا بعد يوم الخمسين (لوقا ٢٤: ٩ وأعمال ١: ٤١).

ٱلاثْنَيْ عَشَرَ لا بد أن المسيح اختار أن يكون الرسل اثني عشر ليكونوا وفق عدد أسباط إسرائيل.

سُلْطَاناً أوكل إليهم هذا السلطان من هو أعظم. وهو سلطان مقيَّد بالهدف الذي أعطاهم هذا السلطان لأجله. فليس لهم أن يتصرفوا به كما شاءوا.

أَرْوَاحٍ نَجِسَة ليس على كل الأرواح، بل على الملائكة الساقطين. وسُموا «أرواحاً نجسة» لتأثيرهم النجس.

حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا الخ قيد خدمتهم هنا بأن ينادوا بأن المسيح قد أتى، ويشرحوا أمور ملكوته الروحي، ويثبتوا تعاليمهم بمعجزات المسيح. ولكن تلك الخدمة اتسعت بعد يوم الخمسين بأن أسسوا كنيسة المسيح، وأوضحوا التعاليم المسيحية ونشروها. وتطورت أحوال الرسل مع دعوة المسيح في ثلاثة أحوال: (١) أنه اتخذهم أصدقاء، أسمعهم بعض تعاليمه وهم باقون في أعمالهم اليومية. و(٢) أنه اتخذهم رفقاء. و(٣) أنه عينهم رسلاً وأرسلهم للتبشير. وجاء في لوقا ٦: ١٢ – ١٩ أنه اختارهم قبل وعظه على الجبل، وأنه قضى الليلة السابقة لاختيارهم في الصلاة.

٢ «وَأَمَّا أَسْمَاءُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هٰذِهِ: ٱلأَوَّلُ سِمْعَانُ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ».

يوحنا ١: ٤٢ وأعمال ١: ١٣

لأسماء الرسل أربع قوائم مستقلة، (١) ما ذكره متّى هنا. و(٢) ذكرها مرقس (مرقس ٣: ١٦ – ١٩) و(٣، ٤) ذكرهما لوقا (لوقا ٦: ١٤ – ١٦ وأعمال ١: ١٣) وفيها اختلاف في الأسماء وفي ترتيبها. لكن ذُكر فيها كلها اسم بطرس أولاً، واسم فيلبس خامساً، واسم يعقوب تاسعاً، واسم يهوذا الإسخريوطي أخيراً في ثلاثة منها وتُرك في الرابعة.

سِمْعَانُ هو ابن يونا وهو صياد سمك، وُلد في بيت صيدا على شاطئ بحر الجليل، وسكن في كفرناحوم، وكان أولاً من تلاميذ يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ٤٠، ٤١).

يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ لقَّبه المسيح بذلك في أول معرفته إياه (يوحنا ١: ٤٣) وكرر ذلك بعدئذٍ (متّى ١٦: ١٨) وغلب الاسم الجديد، لكن القديم بقي، فدُعي بطرس سمعان مراراً (متّى ١٦: ١٦ و١٧: ٢٥ ولوقا ٢٤: ٣٤ وأعمال ١٥: ١٤) ودُعي أحياناً «صفا» وهو معنى اسمه في السريانية (١كورنثوس ١: ١٣ و٣: ٢٢ وغلاطية ٢: ٩). ولقَّبه المسيح ببطرس أي «صخر» إشارة إلى قوته وجسارته. وورود اسمه أولاً لا يدل على أنه أُعطي الرئاسة على الرسل، ولا أنه أحسن من الآخرين في قواه العقلية أو الأدبية ولكن غيرته وشجاعته وحرارته جعلت له التقدم على الآخرين في القول والفعل (انظر متّى ١٦: ١٦ و١٩: ٢٧ ومرقس ٨: ٢٩ ولوقا ١٢: ٤١ وأعمال ١٥: ٧).

أَنْدَرَاوُسُ أَخُوه وهو صياد أيضاً، وأحد تلاميذ يوحنا المعمدان قبلاً (يوحنا ١: ٣٧ – ٤٠) وتبع المسيح حين أُشير إلى أنه حمل الله. ويظهر أن طبعه كان غير طبع أخيه بطرس، لأنه كان يميل إلى الهدوء.

يَعْقُوبُ… وَيُوحَنَّا هما ابنا زبدي وسالومي (ومعنى كلمة «زبدي» العبرانية عطية يهوه) ذُكرت دعوتهما قبلاً (انظر متّى ٣: ٢١، ٢٢). ويعقوب أول من مات من الرسل ويوحنا آخر من مات منهم. ويعقوب أول شهيد بينهم قتله هيرودس (أعمال ١٢: ٢). وسُمي هذان الأخوان بابني الرعد (مرقس ٣: ١٧) إشارة إلى قوتهما في الوعظ والإنذار. ولُقب يوحنا بالتلميذ «الذي كان يسوع يحبه». وكتب بشارةً وثلاث رسائل وسفر الرؤيا .

٣ «فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى ٱلْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ ٱلْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ».

فِيلُبُّسُ وُلد في بيت صيدا كالأربعة المذكورين، ودعاه الرب في غد اليوم الذي أتى فيه أندراوس إلى المسيح. وهو غير الشماس الذي ذُكر في أعمال الرسل (أعمال ٦: ٥ و٢١: ٨).

بَرْثُولَمَاوُس هو ابن ثولماوس والمرجح أنه نثنائيل. وكان شائعاً بين اليهود أن يكون للشخص اسمان أحدهما عبراني والثاني يوناني أو لاتيني. عرَّفه فيلبس بالمسيح، وشهد المسيح له يومها شهادة حسنة (يوحنا ١: ٤٨). ولم يُعرَف باسم نثنائيل بين الرسل بعد ذلك إلا بعد قيامة المسيح (يوحنا ٢١: ٢) كان يسكن في قانا الجليل مكان أول معجزات المسيح (يوحنا ٢: ١ و٤: ٤٦).

تُومَا وسمي «التوأم» أيضاً (يوحنا ١١: ١٦ و٢٠: ٢٤).

مَتَّى ذُكرت دعوته قبلاً (متّى ٩: ٩) وسماه لوقا لاوي (لوقا ٥: ٢٦) وقد سمى هو نفسه «متّى العشار» تواضعاً. ولم يلقِّبه أحد من البشيرين الثلاثة الآخرين بالعشار.

يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى حلفى في اليونانية مثل كلوبا في السريانية (يوحنا ١٩: ٢٥) وكان ساكناً في أورشليم (أعمال ١٥: ١٣). وهو كاتب الرسالة المعروفة برسالة يعقوب.

لَبَّاوُسُ ٱلْمُلَقَّبُ تَدَّاوُس وسُمي بهذا اللقب في مرقس ٣: ١٨. والمرجح أنه هو المشار إليه بقول يوحنا «يهوذا ليس الإسخريوطي» (يوحنا ١٤: ٢٢). ونستنتج من قائمة أسماء الرسل في لوقا أنه هو أخو يعقوب بن حلفى، والأغلب أنه كاتب الرسالة المعروفة برسالة يهوذا.

٤ «سِمْعَانُ ٱلْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيُّ ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ».

لوقا ٦: ١٥ وأعمال ١: ١٣ ويوحنا ١٣: ٢٦

سِمْعَانُ ٱلْقَانَوِيُّ ولقَّبه لوقا بالغيور. وليس المراد من القانوي أنه منسوب إلى قانا، بل هو لقب عبراني معناه الغيور. فإنه كان بين اليهود طائفة صغيرة يسمى أعضاؤها بالغيورين، أخذوا فينحاس بن هارون مثالاً لهم في الغيرة للشريعة الموسوية، وكانت زيادة غيرتهم وسفكهم الدماء علة لسرعة خراب أورشليم. فالظاهر أن سمعان كان من هذه الطائفة قبل أن صار تلميذاً للمسيح.

يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيّ هو ابن سمعان (انظر يوحنا ٦: ٣١ و١٢: ٤ و١٣: ٢، ٢٦) وأصل لقبه في العبراني «إيش قريوت» أي رجل قريوت، وهي قرية في أرض يهوذا (يشوع ١٥: ٢٥).

ٱلَّذِي أَسْلَمَه اختار المسيح هذا الشخص رسولاً وهو يعلم طبيعته يظهر من أغرب الأمور. ولكن «جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ» (١كورنثوس ١: ٢٥). ولعل قصده من ذلك أن يعلِّمنا أن أعظم الفرص والوسائط لا تكفي لخلاص نفس، وأنه يمكن أن يوجد في كل كنيسة خائنون. ويدفع اعتراض من يقول إن الشهادة للمسيح كانت كلها من أصدقائه. فيهوذا كان رفيق المسيح ثم أسلمه، ولو كان له أدنى شيء يشتكي به على المسيح ما عدل عن ذكره ليبرر نفسه في ذلك، لكنه شهد ببر المسيح بقوله «قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً» (متّى ١٧: ٤).

٥، ٦ «٥ هٰؤُلاَءِ ٱلاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. ٦ بَلِ ٱذْهَبُوا بِٱلْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ».

متّى ٤: ١٥ ويوحنا ٧: ٣٥ وأعمال ١٠: ٤٥ – ٤٨ و١١: ١ – ١٨ و٢٢: ٢١ ورومية ١٥: ٨، ٩ و١تسالونيكي ٢: ١٦ و٢ملوك ١٧: ٢٤ وعزرا ٤: ٩، ١٠ ويوحنا ٤: ٩، ٢٠ وإشعياء ٥٣: ٦ وإرميا ٥٠: ٦، ١٧ وحزقيال ٣٤: ٥، ٦، ١٦ ومتّى ١٥: ٢٤ وأعمال ١٣: ٤٦ و١بطرس ٢: ٢٥

أَرْسَلَهُمْ ذكر مرقس أنه أرسلهم اثنين اثنين (مرقس ٦: ٧). وذكر متّى دعوة الرسل مع إرسالهم مع أنه مضت مدة بين الأمرين.

إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا أرسلهم أولاً إلى أمتهم، لكن ذلك لم يكن إلا إلى حين، فالمسيح بعد قيامته أرسلهم إلى الأمم بقوله «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ الخ» (مرقس ١٦: ١٥).

لِلسَّامِرِيِّينَ هذه طائفة عقائدها يهودية ووثنية معاً، فكانت كحلقة بين اليهود والأمم، وكانت تسكن البلاد بين الجليل واليهودية، وأهلها من أخلاط، جمعهم الأشوريون وأتوا بهم بدل الأسباط العشرة التي سبوها (٢ملوك ١٧: ٢٤). وبعد ذلك اقتدوا باليهود في بعض الأمور، فقبلوا شريعة موسى (أي الأسفار الخمسة) دون غيرها من كتب اليهود المنزلة ومن تقاليدهم. فبنوا لهم هيكلاً على جبل جرزيم وعبدوا الله هناك تاركين هيكل أورشليم، لأن اليهود لم يسمحوا لهم أن يشتركوا في البناء معهم بعد الرجوع من سبي بابل (عزرا ٤: ١ – ٣). وكان السامريون يتوقعون مجيء المسيح (يوحنا ٤: ٢٥). لذلك وعظ يسوع بينهم وأعلن لهم أنه هو المسيح (يوحنا ٤: ٢٦، ٢٩، ٣٩، ٤٢). فنهي المسيح الرسل من تبشيرهم انتهى بعد القيامة وحلول الروح القدس (أعمال ١: ٨ و٨: ٥). وكان بين السامريين واليهود عداوة شديدة منعتهم من التعامل معاً (يوحنا ٤: ٩).

خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ أي اليهود الذين ضلوا عن مسالك الحق والعبادة الروحية فكانوا كغنم بلا راعٍ (متّى ٩: ٣٦) وعرضة للهلاك الأبدي. والمراد ببيت إسرائيل نسل يعقوب.

٧ «وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ ٱكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ».

لوقا ٩: ٢ و١٠: ٣ الخ

سبق الكلام على موضوع تبشير الرسل في متّى ٣: ٢، وخلاصته أن المسيح أتى وبدأ ملكوته. فهذا التبشير كان استعدادياً لتنبيه أفكار اليهود وتمهيد الطريق لكل التعاليم المسيحية.

٨ «اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا».

أعمال ٨: ١٨، ٢٠

يجب أن يرافق عمل الكرازة عمل الشفاء أيضاً. الكرازة تتناول النفس فتهدي إلى الله، والشفاء يتناول الجسد فيعود إلى الصحة.

ذكر في هذا العدد براهين صحة إرساليتهم. والمعجزات التي منحهم سلطاناً عليها كانت كمعجزاته، ومنحها لهم إلى أمدٍ محدود وغاية معينة. وكانوا يستعملون ذلك السلطان بإرشاد الله. فإنه بدون تلك البراهين لا يصدقهم أحد، وكانت كلها مفيدة لا كبعض آيات موسى للانتقام إثباتاً لرسوليته أمام فرعون.

أَقِيمُوا مَوْتَى لم يذكر أن الرسل أقاموا ميتاً قبل صعود المسيح.

مَجَّاناً أَعْطُوالم يأذن لهم أن يتقاضوا أجراً مقابل شفاء الأمراض، فخدمتهم ليست تجارة يربحون بها. فكان كل ما استعملوه من قوتهم نفعاً لغيرهم لا لأنفسهم. لكن المسيح لم يمنعهم من أخذ ضروريات حياتهم (لوقا ١٠: ٧ و١كورنثوس ٩: ٨ – ١٤ و١تيموثاوس ٥: ١٨) فمجانية خدمتهم رمز إلى مجانية بركات الإنجيل التي هي أعظم.

٩ «لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ».

ذهباً.. فضة نحاساً: هذه المعادن الثلاثة كانت مواد النقود الرائجة في تلك الأيام، كما هي اليوم. وكانت عادة الناس يومئذٍ أن يحملوا النقود في مناطقهم كعادة بعض الناس اليوم.

لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً لأنهم في غنى عن النقود، فهم لا يحتاجون إلى استئجار مأوى أو شراء طعام، لأن الناس كانوا مسؤولين بإطعامهم وإيوائهم، بعد أن ينالوا خدمتهم.

١٠ «وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَه».

١صموئيل ٩: ٧ ومرقس ٦: ٧ – ١١ ولوقا ٢٢: ٣٥ و١كورنثوس ٩: ٧ و١تيموثاوس ٥: ١٨

وَلاَ مِزْوَداً أي وعاء لطعام السفر.

وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً ليس المقصود منعهم من أخذ حذاء أو عصا، بل منعهم من أخذ أكثر من حذاء وعصا، وذلك ظاهر من بشارة مرقس (٦: ٨، ٩). فلا تناقض بين متّى ومرقس، لأن متّى قال أن لا يأخذوا أثواباً غير التي عليهم ولا يحملوا أحذية غير ما في أرجلهم ولا عصياً غير ما في أيديهم. ولا يعني هذا أن التقشف فضيلة وأن الفقر الاختياري تقوى. إنما قصد المسيح بمنعهم عما ذكر أن يكونوا بلا ثقل في جولانهم ليتمموا ذلك بالسرعة. ولثقته أن الناس الذين يذهبون إليهم سيقدمون لهم ما يحتاجون إليه. ولعل المقصود بذلك أن يذهب الرسل بما هو عليهم، فالذي له عصاً فليأخذه (كما ذُكر في مرقس). ومن ليس له فليذهب بلا عصاً كما هو ظاهر في كلام متّى.

ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَه هذا مثلٌ أراد به المسيح أن خدمتهم توجب لهم أن يثابوا بأن يُعطوا ما يحتاجون إليه. فلا بد من أن يحصلوا على ذلك.

١١ «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَٱفْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا».

دَخَلْتُمُوهَا أي للتبشير فيها.

مُسْتَحِقٌّ أي مستعدٌ لقبول رسل الله ضيوفاً. والاستعداد علامة الاستحقاق فيجب أن يفحصوا عن ذلك قبل دخولهم لئلا يهانوا.

أَقِيمُوا أي امكثوا في البيت الذي تدخلونه إلى أن تكملوا تبشيركم. فعليهم أن يبينوا بسلوكهم أن عملهم ذو شأن عظيم، ولا يكلفوا الناس تعباً زائداً في خدمتهم، ولا يظهروا أنهم غير راضين بما قُدم لهم، ولا أنهم يهتمون بالرفاهية.

ولا يخفى أن هذه الأوامر كانت مؤقتة، أي إلى حين، وكانت لمقتضى أحوال خاصة، فهي تختلف باختلاف الأحوال. ولكن لا بد من بقاء روح هذا التعليم على خدام الإنجيل في كل حال.

١٢ «وَحِينَ تَدْخُلُونَ ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ».

معنى هذه الآية وجوب أن يكون الرسل لطفاء، وأن يظهروا إمارات الصداقة، وأن لا يهملوا شيئاً من التحيات المألوفة بين الأصحاب، وأن يظهروا الاهتمام بالناس، وأن يحسبوا الإضافة من حقوقهم.

ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْه أي على أهله.

١٣ «فَإِنْ كَانَ ٱلْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُم».

مزمور ٣٥: ١٣

مُسْتَحِقّا علامة استحقاق أهل البيت أن يردوا تحيتكم ويقبلوكم ضيوفاً.

فَيَأْتِي سَلاَمُكُمْ… فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُم يعني إن لم ينتفع أهل البيت من التسليم انتفع به من سلَّم. ويظهر من هذا أن تلك التحيات ليست ألفاظاً بلا معنى كما هو غالب العادة، بل هي دعاء قلبي يستجيبه الله.

١٤ «وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَٱخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ».

نحميا ٥: ١٣ وأعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦

لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَع أي من لا يقبلهم ضيوفاً، ولا يسمع كلامهم بروح المحبة والطاعة، بل يكره رسالتهم.

وَٱنْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُم هذه عادة شائعة بين اليهود تقول إن النافض يعتبر الذين تركهم نجسون غير مستحقين لمعاشرته، ولا يريد مشاركتهم في شيء، حتى في غبار أرضهم اللاصق برجله. وقد فعل بعض الرسل ذلك، في أنطاكية بيسيدية، وفي مجمع اليهود في كورنثوس (أعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦). ولم يُبنَ هذا على تركهم كأشخاص، بل على رفض أنهم رُسل الله. وكله رمزٌ إلى رفض الله اليهود لرفضهم المسيح.

١٥ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ».

متّى ١١: ٢٢، ٢٤

عقاب الذين يرفضون رُسُل الله أشد من عقاب أهل سدوم وعمورة، فإن هاتين المدينتين انقلبتا مع ثلاث مدن أخرى في سهل سدوم لزيادة شرها (تكوين ١٨: ٢٠ و١٩: ٢٤) فاتخذهما الكتاب مثلاً لمن عظُم شرهم واشتد عقابهم، عبرة لغيرهم. فقال المسيح بهذا المثل إن من يرفضونه (برفضهم رسله) أشرٌ ممن ارتكبوا أفظع الآثام في سدوم وعمورة، لأنهم كانوا جهلة. أما سامعو المسيح ورسله فيعرفون ويرفضون.

يَوْمَ ٱلدِّين أي اليوم الأخير الذي يُدان فيه جميع الناس حسب أعمالهم وعلى قدر نورهم.

١٦ «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ».

رومية ١٦: ١٩ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ وأفسس ٥: ١٥

ما قاله المسيح (من الآية ٧ – ١٦) نصائح للرسل في بدء إرساليتهم، وتعليم لهم كيف يتصرفون في أثناء أحوالهم الحاضرة. وما بقي من الآية ١٦ – ٤٢ كلام يعم كل أعمالهم المستقبلة طول الحياة، وفيه إشارة إلى أحوالهم زمن الاضطهاد الذي لم يثُر عليهم إلا بعد نهاية خدمة المسيح على الأرض. ولم يذكر مرقس ولوقا من هذا الخطاب سوى أوله.

أَنَا أُرْسِلُكُم لا يذهبون من تلقاء أنفسهم، بل هو أرسلهم.

كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ أول أمر أنبأهم به أن العالم سيكون عدواً لهم بالطبع، فإن العداوة بين الذئاب والغنم طبيعية. فالغنم ضعيفة والذئاب قاسية. وبتشبيهه تلاميذه بالغنم أعلن ضعفهم وعلاقتهم القريبة إليه، باعتباره راعيهم. وقد شبه أهل العالم بالذئاب لأنهم يكونون أعداءً لهم أقوياء وقساة. فإرساله الغنم بين الذئاب أمر غير طبيعي، إذ تكون عرضة للافتراس والهلاك. وعليه فنجاتهم من الذئاب وانتصارهم عليهم من أعظم البراهين على إرساليتهم الإلهية. وهذه العداوة تقتضي أن تكون لهم صفات خاصة للنجاة. وذكر أربعة تشبيهات: واحداً لأعدائهم إذ شبههم بالذئاب؛ وثلاثة لرسله: (١) شبههم بالغنم، و(٢) بالحيات، و(٣) بالحمام. وكما شبه المسيح الرسل بالغنم شبه إشعياء المسيح نفسه بذلك (إشعياء ٥٣: ٧).

حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّات الخ أفادهم بواجباتهم ليتجنبوا الخطر المحيط بهم. فعليهم أن يُظهروا الحكمة والوداعة والطهارة. وذكر الحكمة كالحيات. وحكمة الحيات مشهورة بشدة احتراسها من الخطر. فوجب على التلاميذ أن يماثلوها بذلك الاحتراس، لا بالخبث والحيلة (تكوين ٣: ١). وأمر تلاميذه بأن يشبهوا الحمام لأنه مشهور بالوداعة وعدم الإيذاء. وظهر الروح القدس وقت معمودية المسيح بهيئة الحمام (متّى ٣: ١٦). وقد أظهر المسيح حكمة الحيات في جوابه للكتبة والفريسيين والصدوقيين (متّى ٢٢: ١٥ – ٤٦) وأظهر وداعة الحمام وقت محاكمته (متّى ٢٦: ٦٣، ٦٤).

١٧ «وَلٰكِنِ ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلنَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ».

متّى ٢٤: ٩ ومرقس ١٣: ٩ ولوقا ١٢: ١١ و٢١: ١٢ وأعمال ٥: ٤٠

ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلنَّاس الذين يشبهون الذئاب، فلا تقعوا في أيديهم بغير ضرورة.

سَيُسَلِّمُونَكُم لتُحاكموا وتدانوا لإيمانكم بي.

إِلَى مَجَالِس هي المجالس الصغرى، وكانت يومئذ في كل قرية ومدينة في البلاد، وتخضع كلها للمجلس الأكبر في أورشليم المؤلف من سبعين عضواً. وقد تم هذا القول على الرسل فعلاً (انظر أعمال ٤: ٥ – ٢٢ و٥: ٤٠ و٢٢: ١٩ و٢٦: ١١).

فِي مَجَامِعِهِم كان أعضاء المجالس يجتمعون أحياناً في المجامع للمحاكمة، وكان في كل مجمع ثلاثة قضاة، لهم سلطان أن يوقعوا بعض القصاص، ومنه الجَلد (أعمال ٢٢: ١٩ و٢٦: ١١).

يَجْلِدُونَكُمْ ذُكر الجلد في شريعة موسى (تثنية ٢٥: ٢٣). وكان القانون أن لا تزيد الجلدات على أربعين، وجعلها اليهود بعد ذلك ٣٩ خوفاً من الغلط. وجعلوا السوط مثلثاً، وعدد الضربات بها ١٣. وعلى ذلك جُلد بولس خمس مرات (١كورنثوس ١١: ٢٤). أما الشريعة الرومانية فلم تعين عدد الضربات. والمقصود بالمجالس والمجامع المحاكم الدينية التي كانت في القرون المظلمة تضطهد تلاميذ المسيح. وكان من وظيفة خدام الدين أن يعلموا غيرهم الرحمة، لكنهم قصروا عن أن يتعلموها.

١٨ «وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ».

أعمال ١٢: ١ و٢٤: ١٠ و٢٥: ٧، ٢٣

من أعظم واجبات المؤمن الحقيقي أن يشهد للمسيح بسيرته قبل أقواله، لا سيما وقت الاضطهاد وبين أعداء مجدفين.

وُلاَة هم الحكام الرومان. وتم ذلك لما وقف بولس أمام فيلكس (أعمال ٢٤) وفستوس (أعمال ٢٥) وسرجيوس بولس (١٣: ٧) وغاليون (أعمال ١٨: ١٢).

مُلُوكٍ وهذا تم بوقوف بولس أمام هيرودس أغريباس (أعمال ٢٦) وأمام نيرون (أعمال ٢٥: ١٢). ويكنى بالولاة والملوك المسؤولين عن كل الأحكام السياسية. وكثيراً ما أعانت القوة السياسية القوة الدينية على تلاميذ المسيح. وتمام هذه النبوة برهان على أن المسيح عالم بالمستقبل، فمن المحال أن يقف صيادو الجليل أمام الملوك.

شَهَادَةً لَهُمْ تكون تلك الشهادة لهم إذا قبلوها كما قبلها سرجيوس بولس (أعمال ١٣: ٧). ولكنها تكون عليهم إن لم يقبلوا كما كانت على فيلكس (أعمال ٢٥: ٢٥). وتلك الشهادة بالمسيح. وقد وسع الاضطهاد دائرتها، فكان موت الشهداء شهادة قوية للحق.

وَلِلأُمَم كرر المسيح هذه النبوة بقوله: «ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى» (متّى ٢٤: ١٣). وتظهر فاعلية تلك الشهادة مما ورد في فيلبي ١: ١٢ – ١٨ وذكر الأمم بعد ذكر ولاتها وملوكها لعموم تلك الشهادة.

١٩، ٢٠ «١٩ فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، ٢٠ لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ».

خروج ٤: ١٢ وإرميا ١: ٧ ومرقس ١٣: ١١ – ١٣ ولوقا ١٢: ١١ و٢١: ١٤، ١٥ و٢صموئيل ٢٣: ٢ وأعمال ٤: ٨ و٦: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١٧

بعد أن أنبأهم بالخطر الذي سيحيط بهم، أراد أن يشجعهم بالتعزية، فوعدهم بإلهام خاص يمكِّنهم حين يُساقون إلى المحاكمة أن يجاوبوا عن أنفسهم وعن الحق الإنجيلي. وإدراكهم هذا الوعد سيحفظهم من اليأس، لأنهم سيقدرون أن يحاموا عن الحق وعن أنفسهم أمام الملوك، مع أن للملوك رتبة تفوق رتب الرسل الذين كانوا في أعين أنفسهم جهلاء وضعفاء.

فَلاَ تَهْتَمُّوا أي لا تتكلفوا الهم الزائد، وهذا مثل ما سبق في متّى ٦: ٢٥، ٢٧.

كَيْفَ أَوْ بِمَا أي لا تهتموا بأسلوب الإجابة ولا بحقيقة الأجوبة، فالمعونة التي وعدهم بها هي أن الروح القدس يتخذهم آلات له فيتكلم بألسنتهم.

رُوحُ أَبِيكُمُ هو الروح القدس، وسماه «روح أبيهم» لأنه من الآب، ولأنهم بمنزلة البنين لله (انظر متّى ٥: ١٦) ووعد المسيح بالروح القدس بأكثر إيضاح في يوحنا ١٥: ٢٦، ٢٧. ورأينا إتمام هذا الوعد في بطرس ويوحنا أمام مجلس السبعين (أعمال ٤: ١٣) فإنهما تكلما بشجاعة وحكمة. ولم يحجب الروح شيئاً من الحق بسبب جهل الرسل أو عدم فصاحتهم، فجاءت كل أجوبة الرسل في سفر الأعمال لا من عندهم بل من عند روح الله. فليس لنا أن ننسب إلى بولس خطأ في جوابه لرئيس الكهنة بالغضب (أعمال ٢٣: ٣) ولا أن ننسب إليه الحكمة الدنيوية في تخلصه من الصدوقيين بإلقاء الخلاف بينهم وبين الفريسيين من جهة القيامة (أعمال ٢٣: ٦). فكما ألهم الروح القدس الرسل بالكلام في المحافل، ألهمهم بما كتبوه شهادة لكل بشر في كل زمن. ولا نستنتج من ذلك أن الروح القدس اليوم يتكلم بأفواه المبشرين الذين لا يهتمون بالدرس والاستعداد الواجب للوعظ، فهو ليس وعداً لأهل الكسل. وكان مقصوراً على الرسل والمبشرين الأولين في أوقات خاصة، كما يستفاد من القول «فمتّى أسلموكم» وقوله «في تلك الساعة».

٢١ «وَسَيُسْلِمُ ٱلأَخُ أَخَاهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ ٱلأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ».

ميخا ٧: ٦، ٣٦ ولوقا ٢١: ١٦ الخ

مع أن المسيح وعدهم بتلك التعزية، أكد لهم أن امتحان إيمانهم سيكون شديداً حتى ينفصل بعض الأقربين عن بعض.

سَيُسْلِم لا تسليم خيانة، بل تسليم إجبار لرجال الحكومة والقضاة.

وَٱلأَبُ وَلَدَه ولكن حسب الوعد السابق إن من يضطهده الأب الأرضي يعينه الآب السماوي.

يَقُومُ ٱلأَوْلاَدُ أي يعصى الأولاد والديهم ويقاومونهم أشد مقاومة.

يَقْتُلُونَهُمْ ذلك نتيجة التسليم لرجال الحكومة والقضاة. ومن الغريب أن التعصب الديني يزيل المحبة الطبيعية بين الأقربين، فيجعل النساء والرجال أشد شراسة من الوحوش. وتبدو هذه النبوة غريبة جداً أنها بخلاف طبيعة الأبوة والبنوة، لكنها تمت بالفعل مرات لا تحصى.

٢٢ «وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ».

مرقس ١٣: ١٣ ومتّى ٢٤: ١٣

من هذا القول يظهر أن المسيحية ستلقى المقاومة من كل الناس في كل الأرض، لا من شعب واحد في عصر واحد. وسبب ذلك أن هذا الدين يضاد فساد القلب البشري الطبيعي. وتمت هذه النبوة في القرن الأول وما بعده إلى الآن، وصدقت على المسيحيين في كل عصر كما صدقت على الرسل الاثني عشر. ولا بد من أن تبقى العداوة بين نسل الحية ونسل المرأة إلى نهاية الزمن.

مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ أي عرضة للبغض الذي ينتج عنه الأذى من أكثر الناس.

مِنْ أَجْلِ ٱسْمِ أي لاتحادكم بي، ولأنكم تنادون بي وتشهدون بأني إلهكم والوسيط الوحيد والكاهن والملك (يوحنا ١٥: ١٨، ١٩).

ٱلَّذِي يَصْبِرُ نستنتج من ذلك أن مقاومة الأعداء للمسيحيين لا تميتهم كلهم، وأن نهايتها النجاة. والمراد بالصبر هنا احتمال الاضطهاد، مع التمسك بالإيمان قلبياً، والاعتراف العلني الذي هو سبب الاضطهاد.

ٱلْمُنْتَهَى أي نهاية الاضطهاد عند خراب أورشليم (كما في العدد الآتي)، أو نهاية الحياة، أو مجيء المسيح ثانيةً.

يَخْلُصُ أي ينجو من الموت كنجاة المسيحيين في خراب أورشليم (متّى ٢٤: ١٥ – ١٨). أو أنه ينجو النجاة الأبدية إن مات قتلاً من أجل المسيح.

٢٣ «وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ فَٱهْرُبُوا إِلَى ٱلأُخْرَى. فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».

متّى ٢: ١٣ و١٢: ١٥ وأعمال ٩: ٢٥ و١٤: ٦ ومتّى ١٦: ٢٨

أمر المسيح تلاميذه هنا بأن يستعملوا حكمة الحيات في مثل تلك الضيقات، بأن يحذروا الخطر، فلا يعرضون أنفسهم له لغير اضطرار، وأن لا يمكثوا حيث الموت بلا فائدة، بل أن يحسبوا حياتهم عزيزة ليصرفوها بخدمته في المستقبل. وأباح المسيح بذلك لتلاميذه في كل عصر أن يستعملوا الحكمة في إنقاذ حياتهم من الخطر كلما قدروا بلا ضرر للحق.

فالهرب من الاضطهاد لمجرد راحة الجسد جُبنٌ وإثم، لكن المحافظة على الحياة لخدمة الكنيسة ونفعها من الواجبات المسيحية. وقد بيَّن المسيح معنى هذا الكلام بفعله (لوقا ٤: ٢٧ – ٣٠ ويوحنا ٨: ٥٩ و١٠: ٣٩) وبيَّن الرسل ما فهموه منه بفعلهم أيضاً (أعمال ٨: ١، ٤ و١١: ١٩).

لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ أراد بذلك أن تلك المدن كانت كثيرة كافية لأن يبشروا أهلها بالتتابع، وهم يعتزلون ما فيها من الاضطهاد. وأنهم لا يفرغون من تعليمهم فيها حتى يُرفع الخطر ويؤسس ملكوته.

يَأْتِيَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ رأى البعض أن هذا إشارة عامة إلى نهاية إرساليتهم بإتمامهم خدمتها، ورأي البعض الآخر أنها إشارة إلى مجيء المسيح للنقمة بإهلاك أورشليم وإزالة الطقوس الموسوية. وتم ذلك بعد ثلاثين سنة من كلام المسيح هذا، وهو الرأي الأصح. وتنبأ الأنبياء علاوة على مجيئه متواضعاً بمجيء آخر بالقوة والمجد (دا ٧: ١٣) فكان إتيانه لخراب أورشليم رمزاً في بعض الأمور إلى ذلك الإتيان العظيم.

٢٤، ٢٥ «٢٤ لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ، وَلاَ ٱلْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. ٢٥ يَكْفِي ٱلتِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَٱلْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ ٱلْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ».

لوقا ٦: ٤٠ ويوحنا ١٣: ١٦ و١٥: ٢٠ ومتّى ١٢: ٢٤ ومرقس ٣: ٢٢ ولوقا ١١: ١٥ ويوحنا ٨: ٤٨، ٥٢

كلام المسيح من هنا إلى آخر الأصحاح يصح أن يوجه إلى كل تلاميذ المسيح إلى نهاية الزمان.

لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ الخ الأرجح أن هذا الكلام كان مثلاً، فاستعمله المسيح مراراً لمقاصد مختلفة (لوقا ٦: ٤ ويوحنا ١٣: ١٦ و١٥: ٢٠). وكأنه قال لهم هنا: لا تعجبوا من نبواتي بإتيان الشرور عليكم، لأنكم إن احتملتموها اتَّبعتم خطواتي. وقصد بذلك تعزيتهم، إذ يذكرون في كل ضيقاتهم أنهم شركاؤه، فلا يكونون عُرْضة لمشقات وتعييرات أكثر مما احتمل هو لأجلهم.

بَعْلَزَبُولَ أي رئيس الشياطين (متّى ١٢: ٢٤ ولوقا ١١: ١٥ ويوحنا ٨: ٤٨) وهو اسم إله العقرونيين (٢ملوك ١: ٢) ولفظهُ الأصلي «بعلزبوب» أي إله الذباب، وسمُّوه كذلك لاعتقادهم أنه يقيهم من كثرة الذباب. ولكن اليهود سمُّوا به الشيطان، وبدَّلوا الباء باللام لإهانته. وسموا المسيح به ليهينوه. وأشار المسيح في هذين العددين إلى علاقته بتلاميذه بثلاثة أمور: (١) علاقة المعلم بالتلميذ (متّى ٥: ١ و٢٣: ٧، ٨ ولوقا ٦: ٢٠) و(٢) علاقة السيد بالعبد (يوحنا ١٣: ١٣) و(٣) علاقة رب البيت بأهل بيته (متّى ٢٦: ٢٦ – ٢٩ ولوقا ٢٤: ٣٠).

٢٦ «فَلاَ تَخَافُوهُمْ. لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ».

مرقس : ٢٢ ولوقا ٨: ١٧ و١٢: ٢ الخ

ذكر المسيح هنا عدة أسباب لإزالة خوفهم: الأول أن انتصار الأشرار إلى حين، كخسوف القمر أو كسوف الشمس، لا بد أن يليه النور بعد قليل. فلا يمكن أن تخفي نميمةُ أعدائهم أو شكاواهم الكاذبة الحقَّ زماناً طويلاً. فأصحاب الحق مهما أُهينوا واتُّهموا لا بد أن ينالوا الاحترام والتبرئة بعد ذلك. وكل شركاء المسيح في عاره وإهانته يشتركون معه في مجد نصرته. وقول المسيح هنا بشرى للأبرار وإنذار للأشرار.

يُسْتَعْلَن قد يستعلن الحق وصدق أهله في هذه الأرض. ولكن لا بد من أن يعلن كل الإعلان في يوم الرب العظيم بدليل القول «حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله» (١كورنثوس ٤: ٥) وهذا الاستعلان قد تجريه العناية الإلهية في هذه الدنيا، ولكن الله يجريه في يوم الدين بالذات.

خَفِيٌّ أي حقٌ مستور، أو بر ذي حق محجوب بشهادة زور أو تحريف أو كتم شهادة تجب تأديتها (كولوسي ٣: ٣ و١يوحنا ٣: ٢).

يُعْرَف كما قيل «مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤) والقول «وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ» (مزمور ٣٧: ٦).

٢٧ «ٱلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي ٱلظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي ٱلنُّورِ، وَٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي ٱلأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى ٱلسُّطُوحِ».

مقاومة العالم للتلاميذ تكون واسطة لانتشار الحق، فالذي علمهم المسيح لهم ليس كنزاً يخفونه لأنفسهم ليتمتعوا به، بل هو نور ينشر ليبدد الظلام الأخلاقي.

فِي ٱلظُّلْمَةِ… فِي ٱلأُذُنِ كلام جارٍ مجرى المثل، يُراد به المخاطبات السرية. وليس المقصود أن كلام المسيح كان سراً للرسل، لكن دعاه كذلك بالنسبة إلى قوة ظهوره في ما بعد.

فِي ٱلنُّورِ… عَلَى ٱلسُّطُوح أي الإظهار الكامل. إن تعليم المسيح التلاميذ وهم مسافرون من مكان إلى مكان في الجليل، أو هم مجتمعون في البيت، ليس قاصراً عليهم ليحفظوه في قلوبهم، بل ليبذروه هم ومن بعدهم على توالي الأزمنة حتى تمتلئ الأرض بالثمار. فإنجيل المسيح بشرى لكل أمم الأرض، واضطهاد المبشرين ووقوفهم في المجالس أمام المحاكم والولاة من أعظم الوسائط لإعلان الحق والمناداة بذلك الإنجيل.

ويظهر من هذه الآية أن الوقت الذي تُعلن فيه البشارة كل الإعلان لم يكن قد جاء بعد، ولا يأتي إلا بعد موته وقيامته وحلول الروح القدس يوم الخمسين. فإن قلوب الناس لم تكن يومئذ مستعدة لقبوله. وأن التعليم نفسه لم يكمل إلا بعد أن قال المسيح وهو على الصليب «قد أكمل». وكتم المسيح أمره يومئذ بعض الكتمان، واعتزل اليهود خوفاً من أن يأخذوه ويجعلوه ملكاً بالرغم عنه، وخشية من أن الرومان يتهمونه بتهييج الفتنة في البلاد.

٢٨ «وَلاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّم».

إشعياء ٨: ١٢، ١٣ ولوقا ١٢: ٤ و١بطرس ٣: ١٤

السبب الثاني لنفي خوف التلاميذ من أعدائهم القساة الأشرار هو أن قوة إيذائهم تقع على الجسد فقط ولا تبلغ النفس. وذلك يدل على أن النفس لا تموت مع الجسد.

خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِك هذا القادر هو الله. فإذا خفنا من الناس فأخفينا الحق أغظنا الله، فيكون غضبه أعظم من غضب الناس. فمن خالف أمره وأهمل واجباته خوفاً من الناس جلب على نفسه وجسده خوفاً أعظم.

ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا لا قوة لأذى الإنسان إلا الجسد بأن يحرمه بعض اللذات ويجلب عليه بعض الآلام، وتنتهي تلك القوة بانتهاء الحياة الأرضية. ولكن لله قوة على النفس والجسد إلى الأبد بأن يهلكهما في جهنم النار.

فِي جَهَنَّم هي محل العذاب (انظر شرحنا لمتّى ٥: ٢٢)

٢٩ «أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى ٱلأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ؟».

يجب أن نثق في محبة الله وعنايته كما يجب أن نخشى غضبه. وهذا هو السبب الثالث لنفي خوف الخطر في إتمام واجباتنا. فإن المسيح ذكر أن قوة أعداء تلاميذه مقصورة على أذى أجسادهم آية ٢٨)، وذكر هنا أن تلك الأجساد هي في حراسة الله.

عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ الفلس عُشر الدينار، والدينار أجر عامل في اليوم.

وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا ذكر الواحد منهما لتقليل القيمة.

لاَ يَسْقُطُ عَلَى ٱلأَرْضِ لا يمكن أن يسقط بدون معرفته وإذنه، ولكنه يسقط إذا أراد.

أَبِيكُمْ أشار بتسمية الله أباً إلى محبته للتلاميذ، وأنها كمحبة الأب لأولاده. وإذا كان الذي يعتني بالعصافير كل تلك العناية أباً لهم، فلا يبقى مبرر لخوفهم. فإن كان الله يعتني بما ليس له قيمة كالعصافير، فكم بالحري يعتني بالناس! وإذا كان يعتني بكل الناس فكم بالحري يعتني بمن هم بمنزلة أولاده.

٣٠ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ».

١صموئيل ١٤: ٤٥ و٢صموئيل ١٤: ١١ ولوقا ٢١: ١٨ وأعمال ٢٧: ٣٤

هذا كلام جارٍ مجرى المثل، يراد به العلم الكامل والعناية الشاملة. وليس في ألفاظ اللغة ما يدل على علم الله وعنايته وحمايته أكثر مما دلت هذه الكلمات. فإن شعور الرأس قليلة القيمة حتى لم يهتم أحد قط بإحصائها. لكن عناية الله شاملة إلى هذا الحد حتى أنه أحصاها. فهو يعتني بما لا نظنه يستحق العناية من أمورنا. فالذي نراه لا قيمة له هو عند الله ذو شأن. وإن كانت شعور رؤوسنا محصاة فلا بد أن تكون دموعنا وأوجاعنا وتنهداتنا كذلك.

٣١ «فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ».

هذا خلاصة العدد السابق، فإن اعتنى الله بالعصافير، فكم بالحري يعتني برسل المسيح الذين هم أولاده.

٣٢، ٣٣ «٣٢ فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٣٣ وَلٰكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَات».

لوقا ١٢: ٨ ورومية ١٠: ٩، ١٠ ورؤيا ٣: ٥ ومرقس ٨: ٣٨ ولوقا ٩: ٢٦ و٢تيموثاوس ٢: ١٢

أورد هنا السبب الرابع لعدم تأثر تلاميذه من خوف الناس. فمعاملة الله لهم في المستقبل متوقفة على أمانتهم له في الحاضر.

كُلُّ مَن أي كل أحد بلا استثناء.

يَعْتَرِفُ بِي أي يُقر بأني المسيح سيده ومعلمه بالقول والفعل، ويترك كل ما لا يليق بهذا الإقرار وبإتباعه إياي. ولا يعتبر المسيح خدمة أحد ما لم تكن في العلن. والاعتراف بالمسيح أشمل من الاعتراف بالاعتقاد، فيؤثر في كل أعمالنا مدة الحياة.

أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِه أي أعترف بأنه تلميذي وأني فديته. فهذه الكلمة القصيرة جمعت أبدية المسرات.

قُدَّامَ أَبِي في السماء أو في اليوم الأخير. فمثلما قال في عدد ٣٢ في شأن الاعتراف قال في أمر الإنكار. وكرر الأسلوب لزيادة الإيضاح. فإنكار المسيح قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل بأن يرتكب المسيحي ما لا يليق بدعوته، وقد يكون بسكوته حين يجب أن يتكلم.

أُنْكِرُه هذه العبارة القصيرة جمعت ما لا يُحصى من أنواع الشقاء. فمن أنكره المسيح لا يستطيع أن يرفع دعواه إلى الآب، لأن من رفضته الرحمة لا يعفو عنه العدل.

٣٤ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى ٱلأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً».

لوقا ١٢: ٤٩ – ٥٣

مقاومة العالم للتلاميذ ليست صدفةً يستغربون حدوثها، بل هي نتائج ضرورية لانتشار الحق يجب أن يتوقعوها.

لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً أي لا تنتظروا راحة وسلاماً في وقتٍ لا بد فيه من التعب والجهاد، ولا تتوقعوا أثمار الإنجيل الكاملة في أول أمره. ولكن المسيح كان رئيس السلام، فيحق لتلاميذه أن يتوقعوا سلام العالم من مجيئه. ولا بدَّ من هذه النتيجة أخيراً لأن الإنجيل بشَّر بالسلام بين السماء والأرض (إشعياء ٩: ٦ و١١: ٦ ولوقا ٢: ١٤)، وبسلام الضمير، وبالسلام بين الناس. وهذه نتائج الإنجيل الحقيقية التي لا بد منها أخيراً، ولكن نتائجه الحاضرة حروباً وعداوات واختلاف الأقارب. وعلة ذلك عصيان الناس على الله ومقاومتهم للحق.

سَيْفاً السيف هنا كناية عن الحرب، ولا بد من أن تسبق الحربُ السلامَ في المملكة العاصية على ملكها الشرعي. والمسيح أتى لكي يحارب الشيطان وكل أعماله (أفسس ٦: ١١، ١٢ و١تيموثاوس ٦: ١٢). أما السلام الذي جاء في ترنيم الملائكة يوم ميلاد المسيح فالمقصود به ليس السلام بين المسيح والعالم الشرير، بل السلام بين الله ومختاريه. وذلك السيف إما سيف المسيح على الشيطان كما فُسر، وإما سيف الاضطهاد من أعداء المسيح عليه وعلى المؤمنين به. وهذا السيف لا يبرح من الأرض ما دام الحق يقاوم الباطل والباطل يقاوم الحق.

٣٥ «فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ ٱلإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَٱلابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَٱلْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا».

ميخا ٧: ٦

هذا مقتبس من ميخا ٧: ٦ وقد بين إتمامه في يوحنا ٧: ٢ – ٥ وهو من الأمثلة على أن المسيح جاء ليلقي سيفاً. فدينه كثيراً ما يكون علة لاختلاف الأقارب وانفصال بعضهم عن بعض. وإذا قبل بعض أفراد العائلة المسيح ورفضه البعض الآخر، فلا بد أن يقع أولاً الخصام، ثم البغض، ثم الانفصال. فأنبأهم المسيح أنهم لا بد من أن يتوقعوا خسارة محبة أصدقائهم لأجل اسمه. فيخسرون سلام العائلة ليربحوا سلام الله بالمسيح.

٣٦ «وَأَعْدَاءُ ٱلإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ».

مزمور ٤١: ٩ و٥٥: ١٢، ١٣ ويوحنا ١٣: ١٨

هذا العدد كالعدد السابق إلا أنه أعم. وقد أثبت اختبار المسيحيين صدقه منذ كان المسيح على الأرض إلى الآن.

أَعْدَاءُ ٱلإِنْسَان أي الإنسان الذي يتبع المسيح بالأمانة.

٣٧ «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي».

لوقا ١٤: ٢٦، ٢٧

كثيراً ما يكون الإيمان بالمسيح سبب الاختلاف بين الأقارب، فيضطر الإنسان إلى أن يختار إما ترك أقاربه واتِّباع المسيح، وإما إتباع أقاربه وترك المسيح. وفي ذلك امتحان له يتبين به إن كان مؤمناً حقيقياً.

مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً خلق الله الوالدين والأولاد حتى يحب بعضهم بعضاً، وذلك فرض واجب إن لم يخالف فرضاً أعظم منه. فمن أصعب التجارب أن يترك الإنسان والديه أو أولاده لأجل المسيح، لأنه بذلك يقاوم ما فُطر عليه. ولكن إذا حدث مثل ذلك وجب على الإنسان أن لا يتوقف في الاختيار. فيجب أن يُحب المسيح أكثر من كل إنسان، وإلا فلا تحسب محبته شيئاً. أما سبب تفضيل المسيح فلأنه إله.

لاَ يَسْتَحِقُّنِي أي لا يستحق أن أعترف به قدام الآب ولذلك لا أعترف به. والحق أنه لا أحد يستحق المسيح، لكنه هو يتنازل إلى أن يعترف بمن يعترف به قدام الناس ويتبعه. فاعتراف المسيح بالإنسان أفضل شرف وبركة له، وخير ثواب عن كل الضيقات. وإنكار المسيح أعظم عار وأشر خسارة.

٣٨ «وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي».

متّى ١٦: ٢٤، ٢٥ ومرقس ٨: ٣٤، ٣٥ ولوقا ٩: ٢٣، ٢٤ و١٤: ٢٧

يَأْخُذُ صَلِيبَهُ كان الرومان يلزمون المحكوم عليه بالصلب أن يحمل صليبه إلى محل العقاب. ومن ذلك صار حمل الصليب كناية عن حمل الخزي والآلام. وتكلم المسيح هنا كأنه حُكم عليه بالموت صلباً، وأنه ذاهب إلى مكان العقاب، وكل واحد من تلاميذه يسير وراءه حاملاً صليبه. وأخذ الصليب إكراماً للمسيح أفضل من مجرد حمله، لأنه يعني التعرُّض للخطر والألم حتى الموت، عن علم واختيار (في ٣: ٨ – ١٠). وصار معنى حمل الصليب بعد موت المسيح مصلوباً مشاركة للمسيح في الإهانة والآلام.

وَيَتْبَعُنِي سبق المسيح تلاميذه في طريق الآلام، فاحتمال المصائب اقتفاءٌ لآثار المسيح في تلك الطريق.

لاَ يَسْتَحِقُّنِي انظر شرح عدد ٣٧.

٣٩ «مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا».

يوحنا ١٢: ٢٥

للحياة معنيان: حياة الجسد وحياة النفس، فالأولى زمنية على الأرض، والأخرى أبدية في السماء. والذي ينكر المسيح ليجد الحياة الأرضية يضيع الحياة السماوية (أي حياة نفسه)، والذي يخسر الحياة الدنيوية لأجل المسيح يربح حياة النفس الخالدة. ومحبة الحياة أقوى من محبة الأقارب، ولكن محبة المسيح يجب أن تفضَّل على كلتيهما.

وربما توهم البعض أن هذه الآية تحثنا على الانتحار (أي قتل الإنسان نفسه) والحق أنها تعني بذل الخير الأدنى الزمني بالخير الأسمى الأبدي، كقلع العين اليمنى وقطع اليد اليمنى (متّى ٥: ٢٩، ٣٠). وكلها أمثلة لترك عزيز ثمين لربح ما هو أعز وأثمن منه في المستقبل. فيستحيل على الإنسان أن يبقى في الحياة الطبيعية بكل شهواتها وميولها كما هي ويحصل مع ذلك على حياة المحبة والقداسة في السماء. فلا بد أن يترك الواحدة منهما، لأنه لا يمكن أن يرث ملكوت الله بالطبيعتين العتيقة والجديدة معاً. فيجب على الذي وُلد من فوق وابتدأ الحياة المقدسة مع الله أن يموت للعالم والخطية. فجزاء خسارة الحياة الأرضية ربح جزيل في السماء.

أَضَاع أي سمح عند الضرورة أن يبذل نفسه. لنا في العدد ٣٧ وجوب تفضيل المسيح على أعز الأقارب. وفي العدد ٣٨ وجوب تفضيله على الراحة والصيت. وفي العدد ٣٩ وجوب تفضيله على الحياة نفسها.

٤٠ «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي، وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».

متّى ١٨: ٥ ولوقا ٩: ٤٨ و١٠: ١٦ ويوحنا ١٢: ٤٤ و١٣: ٢٠ وغلاطية ٤: ١٤

بعد أن ذكر المسيح ما يلحق تلاميذه من المصائب عزاهم بأن ذكر أنه يشاركهم في كل شيء، وأن إكرامهم إكرامه وخدمتهم خدمته، وأنه يجازي من يكرمهم ويخدمهم كمن يكرم ويخدم المسيح نفسه.

مَنْ يَقْبَلُكُمْ باعتبار أنكم رُسلي، وأن رسالتكم حق، فيرحب بكم ويكرمكم ويحسن إليكم.

يَقْبَلُنِي أي يُجازى كأنه فعل كل ما ذُكر لي. وقبول الرسول كقبول رسالته، وقبول الرسالة كقبول الذي أرسلها، كما أن إكرام السفير إكرام لملكه، وإهانته إهانة لذلك الملك. وغاية هذا الكلام تشجيعه التلاميذ في مناداتهم بالإنجيل وتعزيتهم حين يرفضون.

٤١ «مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً بِٱسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارّاً بِٱسْمِ بَارٍّ فَأَجْرَ بَارٍّ يَأْخُذُ».

١ملوك ١٧: ١٠ الخ و١٨: ٤ و٢ملوك ٤: ٨ الخ

مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً قبول النبي باسم نبي ليس قبوله كمجرد شخص، بل قبوله لأنه نبي مع الإصغاء إلى نبوَّته وطاعتها، وإظهار كل الإكرام له باعتبار أنه رسول الله. ومن فعل ذلك يشارك النبي في الثواب يوم الإثابة.

مَنْ يَقْبَلُ بَارّاً المراد بالبار هنا المسيحي بالحق. وقبوله يُظهر الشركة معه في الشعور والهدف، فيستحق أن يشاركه أخيراً في الجزاء. فالذي بأعماله حبَّه للبر وأهله يبرهن أنه أهلٌ للشركة في ملكوت البر وكل ما فيه من البركات.

٤٢ «وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ».

متّى ١٨: ٥، ٦ و٢٥: ٤٠ ومرقس ٩: ٤١ وعبرانيين ٦: ١٠

هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ أراد بهم تلاميذه، وسماهم صغاراً إشارة إلى تواضعهم في عيون أنفسهم، وإلى ضعفهم بالنسبة إلى قوة أعدائهم. وكما كانوا صغاراً في عيون أنفسهم كانوا كذلك في عيون أهل العالم، الذين لا يحترمون إلا الكبار الأغنياء والشرفاء والعلماء والأقوياء. ويحتمل أن المسيح أراد بالصغار «الأقل معرفة واعتباراً» بين تلاميذه.

كَأْسَ مَاءٍ بَارِد الماء أرخص منعشات الإنسان، فيكنى به عن أصغر هبة يقدمها الإنسان لغيره. ورفض تقديمه لعطشان توحُّش وعمل غير إنساني.

بِٱسْمِ تِلْمِيذ أي باعتبار أنه للمسيح وأنه تلميذه. فالذي يصنع هذا المعروف الزهيد لأحدٍ باعتبار أنه مسيحي، ولإظهار محبته للمسيح، يكون كأنه صنع ذلك المعروف للمسيح نفسه ويُجازى عليه كذلك.

لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ لا تتوقف قيمة الهدية على كبرها أو صغرها، بل على قصد المُهدي وحالته. فيجب على المسيحي مهما كان فقيراً وضعيفاً أن لا ييأس من أخذ الأجر (لوقا ٢١: ١ – ٤). وذلك الأجر ليس أجرة حقيقية بل هبة يمنحها الله إياه.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى