إنجيل متى | 09 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح التاسع
١ «فَدَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَٱجْتَازَ وَجَاءَ إِلَى مَدِينَتِهِ».
متّى ٤: ١٣
هذا العدد خاتمةٌ لأصحاح ٨ لأن فيه ذكر طلب الجدريين أن ينصرف المسيح عن تخومهم. فلم يكن له إلا أن يدخل السفينة ويرجع. والأرجح أن تلك السفينة هي التي عبر فيها بحر الجليل.
إِلَى مَدِينَتِهِ هي كفرناحوم، لا بيت لحم حيث وُلد، ولا الناصرة حيث تربى. وقد اختار كفرناحوم مركزاً لتبشيره (متّى ٤: ١٣).
٢ «وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحاً عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».
مرقس ٢: ٣ ولوقا ٥: ١٨ ومتّى ٨: ١٠
ذكر متّى هنا معجزة أخرى لإثبات أن يسوع هو المسيح. ولم يكن من قصد متّى أن يذكر الحوادث بترتيب تاريخ حدوثها، بل قصد أن يجمع البراهين على قوة المسيح العجيبة الإلهية.
مَفْلُوجٌ أي مُصاب بداء الفالج (الشلل). انظر شرحنا على متّى ٨: ٦.
يُقَدِّمُونَهُ زاد مرقس على ذلك أن الذين قدموه أربعة، وأنهم لما لم يتمكنوا من الوصول إلى المسيح بسبب ازدحام الناس عليه، صعدوا به على السطح ودلوه إلى أمام المسيح (مرقس ٢: ٣، ٤).
مَطْرُوح دليلاً على شدة ضعفه وعجزه.
رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُم أي إيمان المفلوج وإيمان أصدقائه الذين حملوه، وهو ثقتهم أن المسيح يقدر أن يشفيه وهو راضٍ بذلك. ولم يرَ إيمانهم بعلمه الإلهي فقط، لأنه رأى علامات خارجية على إيمانهم، في ما فعلوه، وما كان على إمارات وجوههم، وما قالته كلماتهم، وعدم اكتراثهم بصعوبة الوصول إلى المسيح (مرقس ٢: ٤ ولوقا ٥: ١٩).
ثِقْ يَا بُنَيّ ما أطيب كلمة «يا بنيَّ» هنا، وما أكثرها تشجيعاً لإنسان مسكين فقد عزيمته حتى على الوقوف أو السير. إنه يقول له: تشجع وقم من الأموات فيضيء لك المسيح. «يا بُنيَّ» دليل حبه له، وشفقته عليه، وعلى العلاقة الجديدة بينهما بناءً على إيمانه.
لم يكتف المسيح بمدح إيمان ذلك المفلوج، الذي بالرغم من مرضه الجسدي كان صحيح النفس، فزاده قوة بهذا الكلام. فكأنه قال له: تشجع وافرح بالرجاء. ولعل مرضه وشدة عجزه جعلاه ضعيف الأمل. ويُحتمل أن نفسه قلقت من ذلك المرض لأنها حسبته ضربة من الله على خطاياه، فجاء المسيح ليشفيه نفساً وجسداً، ويعيد إلى نفسه أحسن الرجاء.
مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاك أي في الحال لا في المستقبل، فهو إنجاز لا وعد.
لا نظن أن علة مرضه كانت خطيئته كما كان اليهود يعتقدون. وهذا ما اجتهد المسيح في إزالته (يوحنا ٩: ٣ ولوقا ١٣: ٢ – ٥). ولا نقول إن الخطية لا تسبب مرضاً، لكننا ننفي أن كل مرض نتيجة خطية معينة. وأحب المسيح أن يقرن شفاء الجسد بشفاء النفس ليجعل الأول رمزاً للثاني وعربوناً له، وليبين أنه طبيب النفس كما أنه طبيب الجسد. وفي نبأ المفلوج غرابة وهي أن غفران الخطايا سبق شفاء الجسد خلافاً لعادة المسيح في الشفاء. وقد أبان هنا أن المغفرة هي البركة العظمى، وأنها تشتمل على سائر البركات. وقصد المسيح بذلك أن يحول أفكار الناس من الشفاء الأدنى إلى الشفاء الأسمى، وعندما سُئل أن يشفي جسد المفلوج أعطاه الشفائين. وإن كان للمسيح في حال اتضاعه على الأرض ذلك السلطان على الغفران، فبالأولى أن يكون له وهو مالك في المجد (أعمال ٥: ٣١).
٣ «وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: هٰذَا يُجَدِّفُ».
وَإِذَا قَوْمٌ أي جماعة بينها جواسيس وأعداءٌ للمسيح. لأجلهم قال ما قاله في العدد الثاني في شأن مغفرة الخطايا.
ٱلْكَتَبَة انظر شرحنا في متّى ٢: ٤ و٥: ٢٠. حسد الكتبة المسيح لكثرة الجموع التابعة له، وأبغضوه لأنه فند تعاليمهم (متّى ٧: ٢٩) ولم يكونوا من كفرناحوم وحدها بل كانوا من كل منطقة الجليل واليهودية ومن أورشليم عينها (لوقا ٥: ١٧). وإتيانهم بكثرة من أماكن بعيدة ليراقبوه دليل على ما كانت عليه أفكار علماء اليهود من الهيجان لما فعله المسيح وعلمه.
قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عرف المسيح ذلك وأن لم ينطقوا به. وهم لم يظنوا أنه عرف، ولكنه عرف إيمان المفلوج وحامليه، كما عرف عدم إيمان الكتبة. وفي هذا برهان على أنه هو الله الذي يعلم أسرار القلوب، فهذا من صفات الله الخاصة (أيوب ٢٨: ٩ ورؤيا ٨: ٢٧ ورؤيا ٢: ٢٣).
يُجَدِّف التجديف ما يشين حق الله والدين. ونسب الكتبة التجديف إلى المسيح لأنه ادَّعى السلطان على مغفرة الخطايا، الأمر الخاص بالله وحده. فأصابوا بقولهم إنه من التجديف أن الإنسان يدعي السلطان على الغفران، لأنه لا يقدر أحد أن يترك ديناً ليس له. وكل خطية ضد الله. فحق المغفرة له وحده. لكنهم أخطأوا في إنكارهم لاهوت المسيح، إذ حسبوه إنساناً مجرداً فحكموا عليه بالتجديف. ويتبين لنا من هذا أن أفضل الناس معرَّض لأن يُتَّهم بارتكاب أفظع الخطايا.
٤ «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ فِي قُلُوبِكُم؟».
مزمور ٤٤: ٢١ و١٣٩: ٢ ومتّى ١٢: ٢٥ ومرقس ١٢: ١٥ ولوقا ٥: ٢٢ و٦: ٨ و٩: ٤٧ و١١: ١٧
فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ أي أدرك ما في قلوبهم دون أن يبينوه بأفواههم.
تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ كانت أفكارهم شريرة لأنهم لم يؤمنوا بأن يسوع هو المسيح، ولأنهم نسبوا إليه الشر والتجديف.
فِي قُلُوبِكُم قال ذلك لأن حالة قلوبهم كانت علة عدم إيمانهم. واستفهامه هنا للتوبيخ الشديد، كأنه قال لهم: أخطأتم بأنكم ظننتموني مدَّعياً سلطاناً ليس لي، وأني قلتُ ذلك ظناً أن لا أحد يقدر أن يبرهن بُطل دعواي. فكان عليهم أن يعلموا من معجزاته أنه ليس مجرد إنسانٍ.
يتوهم بعض الناس أن الخطية هي ما يُرتكب قولاً أو فعلاً. ولكن ظهر هنا أن الخطية تُرتكب بالفكر أيضاً. فمن الجهل القول بأن لا عقاب على الخطايا الفكرية (عبرانيين ٤: ١٣). ويظهر من سؤال المسيح المتقدم أن الشكَّ في سلطانه على غفران الخطايا خطية!
٥ « أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱمْشِ؟».
انتقل المسيح من البرهان العقلي لإثبات سلطانه على مغفرة الخطايا إلى البرهان الحسي، بأن شفى المفلوج بأمره، لأنه علم أن الأدلة العقلية لا تؤثر فيهم. فجاء بذلك الشفاء الحسي دليلاً على صحة الشفاء العقلي.
أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ الخ لم يقل المسيح: هل غفران الخطية أيسر أم شفاء المفلوج؟ بل سأل: أي الدعويين أسهل على الإنسان المخادع؟ ولا شكَّ أن دعوى المغفرة أيسر له، لعدم القدرة على كشف خداعه في ذلك. فاختار المسيح أصعب الدعويين على المخادع لسهولة بيان الحق فيه، وبرهن صدقه بأمره للمفلوج: قم وامشِ، فقام ومشى.
٦ «وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: قُمِ ٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ».
خاطب المسيح الكتبة قبل أن يخاطب المفلوج. وادَّعى بسلطانين يستحيل كلٌّ منهما على الإنسان، وربط أحدهما بالآخر، حتى إذا ثبت أحدهما ثبت الآخر. وإن بطل أحدهما بطل الآخر. فكأنه قال: كما قلت قبلاً بأنه مغفورة له خطاياه، أقول الآن بأنه شُفي من دائه. وإن بقي مفلوجاً فالدعويان باطلتان. وإن شفي بأمري ثبتت الدعويان!
سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أي أن للمسيح على الأرض السلطان الذي اعتقد الكتبة أنه لله وحده في السماء. وسمَّى نفسه بابن الإنسان إعلاناً أنه هو المسيح، لأن ذلك من الأسماء الخاصة به.
قُمِ الخ بعد أن خاطب الكتبة وجَّه المسيح كلامه إلى المريض المطروح أمامه. فجعل تلك المعجزة دليلاً ظاهراً على حقيقة باطنة.
ٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ أمره بذلك ليدل على كمال الشفاء، لأنه بعد شدة ضعفه وعجزه لا يقدر على ذلك إلا إن عادت إليه القوة والعافية الكاملتان.
٧ «فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ».
لا شكَّ أن أصدقاء المسيح وأعداءه كانوا ينتظرون النتيجة بكل اهتمام، لأنه لو عجز المسيح عن شفاء المفلوج لبطلت كل دعاواه، وكان أمره في ذلك كأمر النبي إيليا وكهنة البعل في جبل الكرمل. فلا ريب في أنه عندما قام ذلك المفلوج افترق بعض الجموع التي منع ازدحامها وصول المفلوج إلى المسيح عن بعض ليعطوا طريقاً لمرور المفلوج الذي أتى يحمله أربعة، فرجع حاملاً ما كان محمولاً عليه. فقد رأينا أنه شُفي بكلمة في الحال ونال تمام الشفاء أمام الجميع أعداءً وأصدقاءً.
٨ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ ٱلَّذِي أَعْطَى ٱلنَّاسَ سُلْطَاناً مِثْلَ هٰذَا».
متّى ١٥: ٣١
ذكر متّى هنا تأثير تلك المعجزة في المشاهدين، فإنهم تعجبوا من القوة الإلهية التي ظهرت بشفاء شر الأمراض، ومجدوا الله بنسبتهم كل المجد إليه (لوقا ٥: ٢٥).
ٱلنَّاس هذا يدل على أنهم مع كل ما شاهدوه لم يعتقدوا أن المسيح إله، بل ظنوه واحداً من البشر، أو أرادوا بذلك يسوع وتلاميذه.
سُلْطَاناً مِثْلَ هٰذَا أي قوة على شفاء الأمراض ومغفرة الخطايا كما تبرهن. فمشاهدة المعجزات غير كافية للإيمان القلبي بدون فعل الروح القدس.
في هذه المعجزة ثلاثة براهين على لاهوت المسيح: معرفة الأفكار. الثاني: شفاء المريض بأمر. الثالث مغفرة الخطايا لأن كلاً منها مختص بالله.
٩ «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ رَأَى إِنْسَاناً جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، ٱسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ».
مرقس ٢: ١٤ الخ ولوقا ٥: ٢٧ الخ متّى ٢١: ٣١، ٣٢.
ماذا جعل يسوع يدعو متّى العشار؟ في هذه الدعوة خروج على جميع تقاليد الفريسيين وعاداتهم المتبعة بكل دقَّة. وكان يسوع يعرف الصعوبات سيواجهها بسبب هذا التحول عن الفريسيين إلى العشارين والخطاة. والجواب على هذا السؤال نجده بقوله «لا يحتاج الأصحاء». وأية خسارة كنا خسرناها لولا دعوته له. ألا يكفي متّى فخراً أن أصبح الإنجيلي العظيم؟ فما أقصر نظر الفريسيين وأتباعهم، وما أبعد نظر يسوع إلى قيمة الرجال الحقيقيين.
مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاك أي من كفرناحوم (مرقس ٢: ١) إلى بحيرة طبرية (مرقس ٥: ١٣).
مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ وهو إما بيت أو خيمة على الشارع، تصلح مكتباً لجمع الجزية. وكانت كفرناحوم تقع على أعظم الطرق، وهي مركز ذو شأن لجمع الجباية من كل تلك البلاد. وكان اليهود يحتقرون العشارين (انظر متّى ٥: ٤٦).
ٱسْمُهُ مَتَّى هو كاتب هذه البشارة، ويسمى أيضاً لاوي في بشارتي مرقس ولوقا. فكان ذا اسمين كبطرس ومرقس وبولس، كعادة اليهود. وبعد أن صار تلميذاً شاع اسمه متّى أكثر من لاوي حتى أنه لم يذكر البشيرون الاسم الثاني في قوائم أسماء الرسل الأربع.
فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي اختار المسيح رسله الأربعة الأولين من صيادي السمك، واختار الخامس من العشارين أثناء ممارسة مهنته. وليس لنا في الإنجيل ما يبين أن متّى لم يشاهد المسيح ولا سمع تعليمه قبل هذه المرة، فيحتمل أنه كان فقط سمعه وآمن به وتوقع هذه الدعوة. وكانت مثل دعوة الله لإبراهيم منذ ١٩٥٠ سنة قبلها، ومثل الدعوة التي يدعونا بها المسيح اليوم (لوقا ٩: ٢٣).
فَقَامَ وَتَبِعَهُ وذلك لدعوتين: الدعوة الظاهرة المسموعة من المسيح، والدعوة الباطنة من الروح القدس. فأجاب الدعوتين في الحال وترك كل شيء (انظر لوقا ٥: ٢٨) أي مهنته وربحه وأصحابه الأولين وما شاكل ذلك.
١٠ «وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي ٱلْبَيْتِ، إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ».
فِي ٱلْبَيْتِ لم يذكر متّى لمن كان ذلك البيت ومن قام بالوليمة التي كانت هناك، ولكن لوقا ٥ يذكر أن متّى العشار (بعد دعوته) أقام وليمة عظيمة ليسوع وتابعيه، ودعا إليها كثيرين من أصحابه الأولين من العشارين والخطاة. ولعل غايته من ذلك أن يسمعوا تعليم المسيح لخلاص نفوسهم، وأن يكرم المسيح أمام عيون الجميع. فأظهر بذلك صحة إيمانه وتغيير قلبه.
عَشَّارُونَ وَخُطَاة هما فرقتان من الناس اعتاد الفريسيون أن يذكروهما معاً باعتبارهما نجستان ومحرومتان من حقوق أمة اليهود المقدسة. وذلك إما لرداءة صفات أولئك الناس، أو لكراهة مهنتهم، أو لاختلاطهم بالوثنيين، أو لتركهم فرائض الشريعة الطقسية. والظاهر أنهم مالوا إلى سمع وعظ المسيح أكثر من غيرهم. ولعل سبب ذلك أنهم كانوا مهانين من سواهم، وشاعرين بآثامهم وباحتياجهم إلى مخلص.
١١ «فَلَمَّا نَظَرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ؟».
متّى ١١: ١٩ ولوقا ٥: ٣٠ و١٥: ٢ وغلاطية ٢: ١٥
ٱلْفَرِّيسِيُّونَ إن لم يكونوا من المدعوين إلى مائدة خاصة في تلك الوليمة فلا ريب في أنهم أتوا رقباء أو جواسيس. هذا إذا لم يظلوا وقوفاً خارجاً يرصدون الداخلين والآكلين.
قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ كان ذلك بعد ما تناولوا الطعام، فاشتكوا المسيح إلى تلاميذه كأنهم خافوا أن يلوموه مواجهةً. أو لعلهم أرادوا أن يفسدوا أذهان التلاميذ ويصرفوهم عنه.
لِمَاذَا يَأْكُلُ؟ اعتبر الفريسيون الأكل مع الوثنيين أو المحرومين من الشعب اليهودي مخالفاً لفرائض الدين (أعمال ١٠: ٢٨). فيظهر من اعتراض الفريسيين أنهم اعتقدوا أنه لا يجوز أن يجتمع المسيح مع مثل أولئك الناس ويصادقهم، باعتبار أنه نبي ومصلح. فحكموا من معاشرته للأشرار أنه ليس باراً.
١٢ «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَـهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى».
فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ كانت الشكوى للتلاميذ، لكن الجواب عليها كان من المسيح. لقد بنوا اعتراضهم على فساد ظنهم في عمله، فبيَّن لهم أن عمله عمل طبيب، وأن الخطية هي مرض نفوس الناس. وكلما زادوا خطية زادوا احتياجاً إلى وجود المسيح بينهم وعنايته بهم. فهو إذاً لم يعاشر الأشرار للذته بمعاشرتهم، بل لمنفعتهم.
ٱلأَصِحَّاءُ لم يقصد أن الفريسيين أبرياء، لكنه برَّر نفسه بناءً على ما يدَّعونه من بر أنفسهم. فكأنه قال لهم: أنتم تعتقدون أنكم أبرياء، فإذاً لا تحتاجون إليّ. أما أولئك فيشعرون باحتياجهم إليَّ فلذلك أتيت إليهم. ولا شكَّ في أن مرض الفريسيين الروحي كان أشد من سائر الأمراض الروحية.
١٣ «فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».
هوشع ٦: ٦، ٧ و٨ ومتّى ١٢: ٧ و١تيموثاوس ١: ١٥، ١٦
فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا ذكر لهم ما جاء في هوشع ٦: ٦ توبيخاً لهم وتبريراً لنفسه، وزاد على توبيخه لهم أن قال إنهم يجهلون كتبهم الدينية التي هم معلموها.
أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً نقل من ذلك قول الكتاب برهاناً على أن الله يحب الرحمة للمصابين ومنح الخلاص للخطاة، أكثر مما يحب كل طقوس الشريعة التي أعظمها الذبيحة. فعمل المسيح الذي لاموه عليه كان وفق هذا المبدأ الإلهي. وأما هم فخالفوا هذا المبدأ بلومهم المسيح لأن الشفقة على الساقطين أحب إلى الله من أثمن القرابين.
لأَنِّي لَمْ آتِ… أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً الأبرار هنا الذين يحسبون أنفسهم أبراراً غير محتاجين، والخطاة هنا هم الذين شعروا بآثامهم. لأنه لو كان في الأرض أبرارٌ بالحقيقة ما احتاجوا إلى التوبة. ولكنه أتى ليدعو الناس إلى التوبة لأنهم خطاة. وبما أنهم جميعهم كذلك وجب أن يخالطهم ليتمم إرساليته. فلا ينتج من هذه الآية أنه وُجد على الأرض إنسانٌ بارٌ لا يحتاج إلى التوبة والحق، وأنه لم يوجد ولا يوجد ولن يوجد مثل هذا الإنسان البار.
١٤ «حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا قَائِلِينَ: لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟».
مرقس ٢: ١٨ الخ ولوقا ٥: ٣٣ الخ و١٨: ١٢
حِينَئِذٍ أي وقت الوليمة.
تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كان يوحنا يومئذ في السجن، وقد تفرق تلاميذه، وتبع بعضهم المسيح. وكانت إرساليته إعدادية هدفها إرشاد الناس إلى المسيح باعتباره حمل الله الذي يرفع خطية العالم. فلو استفاد الجميع من تعليمه في شأن المسيح لاتبعوه كلهم. لكن أخذ بعض تلاميذ يوحنا يظهرون الغيرة له، وحسبوا المسيح منافساً لمعلمهم (يوحنا ٣: ٢٦) فنظموا حزباً سُمي «تلاميذ يوحنا» (متّى ١١: ٢ و١٤: ١٢). وكان لهم اصطلاحات في الصلاة (لوقا ١١: ١). واستمروا يشكلون حزباً وقتاً طويلاً، فقد وُجد بعضهم في أفسس بعد ثلاثين سنة من ذلك العهد (أعمال ١٩: ١ – ٧) وعددهم غير معلوم. والظاهر أنهم اقتدوا بمعلمهم بشدة الزهد. ونستدل من اتحادهم مع الفريسيين ومن سؤالهم في هذه الآية أنهم كانوا متعصبين في طقوس الشريعة (مرقس ٢: ١٨).
نَصُومُ نَحْنُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً لم يفرض موسى على أمته سوى صوم يوم واحد في السنة (لاويين ٢٣: ٢٦ – ٣٢) زاد عليه اليهود أصواماً لأمور خاصة (أستير ٤: ١٥ وإرميا ٣٦: ٩ ويوئيل ١: ١٤) وأصواماً مطلقة (زكريا ٨: ١٩). وكان الفريسيون يصومون مرتين في الأسبوع (لوقا ١٨: ١٢). ولعل تلاميذ يوحنا صاموا أكثر من ذلك لحزنهم على سجن معلمهم، فتعجبوا من أن تلاميذ يسوع لم يشاركوهم في الصوم. ولا دليل على أن يوحنا فرض عليهم أصواماً جديدة. والظاهر أنه أبقى الأصوام المعهودة.
لِمَاذَا… تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟ هذا استفهام للتوبيخ على تركهم الصوم باعتباره فرضاً دينياً ذا شأن واجب بالذات، ومعونة في الصلاة.
١٥ «فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو ٱلْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ».
يوحنا ٣: ٢٩ وأعمال ١٣: ٢، ٣ و١٤: ٢٣ و١كورنثوس ٧: ٥
في جواب المسيح دفاعاً عن تلاميذه ثلاثة أمثال: (١) يتعلق بعادات الأفراح، و(٢) بالملابس، و(٣) بالخمر.
هَلْ يَسْتَطِيعُ؟ هذا استفهام استنكاري يريد به أن ذلك لا يتوقعه أحد.
بَنُو ٱلْعُرْسِ هم أصحاب العروسين ورفقاؤهم، لا كلُّ المدعوين.
أَنْ يَنُوحُوا أراد بذلك أن الصوم علامة المناحة، فلا صوم حيث لا مناحة. والمعنى أنه لا يليق اتخاذ علامة الحزن وقت الفرح. والدليل على أن الصوم علامة الحزن قوله «إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة» (زكريا ٨: ١٩).
ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ تشبيه المسيح نفسه بالعريس يناسب تلاميذ يوحنا، لأن يوحنا قال عنه «مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ» (يوحنا ٣: ٢٩). وأكمل المسيح بوصفه نفسه بذلك بعض النبوات والرموز المتعلقة به في العهد القديم، منها ما ذكر في هوشع ٢: ١٢ وإشعياء ٥٤: ٥ – ١٠ وإرميا ٣: ١٤ ونشيد الأنشاد بأسره. والحق أن مدة وجود المسيح مع تلاميذه على الأرض هي وقت المسرة والابتهاج لا وقت الحزن، فلو صام تلاميذ يسوع وقتئذٍ كانوا كأنهم ناحوا في وقت العرس.
حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ هذه أول مرة أشار بها المسيح إلى صلبه، والأرجح أن تلاميذه لم يفهموا تلك الإشارة، وكذلك تلاميذ يوحنا، وإن كانوا قد استنتجوا من ذلك سفره عنهم فقد حسبوا ذلك سيتم بعد زمن طويل.
فَحِينَئِذٍ يَصُومُون ذلك خبرٌ بما يقع في المستقبل لا أمرٌ به. إن كنيسة المسيح مكلفة بالصوم مدة غياب سيدها عنها بالجسد. فمراد المسيح أن الصوم يليق في غيابه لداعٍ حقيقي (يوحنا ١٦: ١٩، ٢٠).
نستنتج من كلام المسيح أمرين: (١) أن الصوم ليس فرضاً واجباً، بناءً على أن الكنيسة اعتادته، أو أن الله أمر به. إلا أنه عمل حسن تمارسه الكنيسة عندما تدعو إليه أحوالها. فالصوم الذي يقبله الله لا بد أن يكون لسببٍ كافٍ وفي وقت مناسب. و(٢) أن الصوم بدون ما ذكرناه لا معنى له ولا منفعة، إنما ينفع حين يقترن بالحزن الروحي واتضاع النفس والصلاة القلبية زمن المصاب الشديد. والذي نعلمه من اختبار أولاد الله أنهم وجدوا من الصوم نفعاً عظيماً لهم أو للكنيسة كلها في الأحوال التي يليق الصوم فيها.
١٦ «لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، لأَنَّ ٱلْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ ٱلثَّوْبِ، فَيَصِيرُ ٱلْخَرْقُ أَرْدَأَ».
في هذا العدد ضرب المسيح المثل الثاني دفاعاً على اعتراض تلاميذ يوحنا والفريسيين عليه، وهو مبني على عادة الناس في ترقيع الثياب البالية. والمراد بالثوب في هذه الآية نسيج من الصوف بلي بالاستعمال فتخرَّق، وترقيعه بقطعة جديدة من النسيج يجذب كل ما حول الخياطة، فيتمزق الثوب البالي أكثر! والمعنى أن المسيح لم يأتِ ليصلح طقوس اليهود البالية من عوائد الفريسيين وتقاليد الشيوخ بأن يزيد عليها طقوساً جديدة كالأصوام وغيرها، لأن هذا التصليح يكون كالرقعة المذكورة. ولكنه أتى ليجدد الكنيسة كلها، ليس من جهة جوهرها بل من جهة كل طقوسها الخارجية. فكأنه قال: لا يمكن أن تضاف تعاليمي الجديدة على طقوس الفريسيين العتيقة، فالاجتهاد في ذلك عبثٌ بل ضارٌ.
١٧ «وَلاَ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَنْشَقَّ ٱلزِّقَاقُ، فَٱلْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً».
المثل الثالث الذي ذكره المسيح مأخوذ من عادات الناس في وضع الخمر في الزقاق، فجلد الزقاق العتيقة رقيق ضعيف، إن وضعت فيه الخمر الجديدة اختمرت داخله فتمزقه. ولكن إن وضعت تلك الخمر في زقاق من جلود جديدة قوية احتملت لمرونتها فعل الخمر عند اختمارها. والمعنى أن المسيحية ذات حياة وحرية ونمو، فلا يمكن حصرها في نطاق ضيق بالٍ كطقوس اليهود الفريسية.. والكنيسة المسيحية إن لم تنتبه إلى تعليم المسيح ترتكب خطأ تلاميذ يوحنا. وكتب بولس رسالته إلى أهل غلاطية إصلاحاً لذلك الغلط. إنما تلك الرسالة هي شرح مطول لكلام المسيح هنا.
١٨ «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهٰذَا إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: إِنَّ ٱبْنَتِي ٱلآنَ مَاتَتْ، لٰكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا».
مرقس ٥: ٢٢ الخ ولوقا ٨: ٤١ الخ
حدث ما في هذه الآية وهم مجتمعون في بيت متّى بعد الوليمة، وكان الحوار حول الصوم لا يزال دائراً.
رَئِيسٌ زاد مرقس على ذلك أن اسمه يايرس، وأنه رئيس مجمع، أي أنه أحد شيوخ اليهود الذين يقومون بالأمور الدينية في كفرناحوم، وهي وظيفة قديمة عندهم يرثها الخلف في العائلة عن السلف، وأصحاب تلك الوظيفة أشرف أمة اليهود ولادةً ورتبة. ولعله كان أحد شيوخ مجمع كفرناحوم الذين جاءوا إلى المسيح يسألونه شفاءَ غلام قائد المئة (لوقا ٧: ٣). لقد ألجأت الضيقة هذا الرئيس إلى المسيح، فيجب أن يكون تأثير كل مصائبنا كذلك.
سَجَدَ لَهُ أي طرح نفسه على الأرض قدامه (مرقس ٥: ٢٢) ولا يدل ذلك ضرورة على أنه قصد بما فعل أن يعبده، بل يبين أنه احترم المسيح جداً.
ٱبْنَتِي هي ابنة وحيدة له في سن الثانية عشرة (لوقا ٨: ٤١).
ٱلآنَ مَاتَتْ عندما فارقها كانت مشرفة على الموت، حتى رجح لشدة خوفه أنها عند وصوله إلى المسيح ماتت.
تتَعَالَ وَضَعْ يَدَك نستدل من ذلك أن الرئيس اعتقد كسائر الناس أن حضور المسيح بالذات ولمسه باليد أمران ضروريان لإجراء المعجزة. والعجب أن قائد المئة مع أنه وثني كان أحسن إيماناً بالمسيح من هذا الإسرائيلي، لأنه صدَّق أن المسيح يقدر أن يشفي بكلمة وهو غائب عن المريض (متّى ٨: ١٠).
فَتَحْيَا قوله هذا ومجيئه للمسيح يظهران إيمانه وإن كان ناقصاً.
١٩ «فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ».
أجاب المسيح حالاً كعادته الدعوة الناتجة عن الحزن والاحتياج فتبعه تلاميذه وجمعٌ ممن أرادوا مشاهدة ما يكون (مرقس ٥: ٢٤ ولوقا ٨: ٤٢).
٢٠ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ».
مرقس ٥: ٢٥ ولوقا ٨: ٤٣
بينما المسيح ذاهب ليجري المعجزة في بيت يايرس، صنع معجزة أخرى في الطريق. فقد كان في ذلك المجمع امرأة لم تأتِ لمشاهدة ما يكون في بيت يايرس، بل لتطلب شفاءً من مرض اعتراها منذ اثنتي عشرة سنة. وعلى قول مرقس ولوقا «أنفقت كل مالها على الأطباء فلم تستفد شيئاً بل زادت مرضاً» فيئست من البشر، ورجت المسيح بالإيمان. وكان مرضها مما تستحي أن تعلنه، فطلبت الشفاء سراً.
مِنْ وَرَائِه أتت ذلك عمداً لا صدفةً بسبب ما ذكرناه. ولعلها كتمت أمرها لأنها كانت حسب شريعة موسى نجسة بسبب ذلك المرض (لاويين ١٥: ٢٦).
مَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِه كان هذا الثوب رداءً أو ما يُلبس فوق سائر الثياب. وكان العبرانيون يعلقون الهدب بطرف ذيل الثوب طاعةً لأمر الله، وعلامة على أنهم شعبه (عدد ١٥: ٣٨ وتثنية ٢٢: ١٢). ولا بدَّ أن لمسها كان بإيمان وصلاة غير مسموعة.
٢١ «لأَنَّهَا قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ».
قالت ذلك في قلبها وهي تزاحم الناس مقتربة إلى المسيح، معتقدة أن لمس ذيله يشفيها. وهذا دليل على قوة إيمانها.
٢٢ «فَٱلْتَفَتَ يَسُوعُ وَأَبْصَرَهَا، فَقَالَ: ثِقِي يَا ٱبْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. فَشُفِيَتِ ٱلْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
لوقا ٧: ٥٠ و٨: ٤٨ و١٧: ١٩ و١٨: ٤٢
ذكر متّى هنا أنها شُفيت حالاً بلمس ثوبه، وزاد مرقس ولوقا على هذا بعض أمور (مرقس ٥: ٣٠ – ٣٣ ولو ٨: ٤٥ – ٤٧). ولا شكَّ أن المسيح عرف قصد المرأة وهي تقترب إليه لتلمس ثوبه، كما عرف أفكار الكتبة (متّى ٩: ٤). فإيمانها هبة منه، وهو جذبها إليه.
فَٱلْتَفَتَ التفات الحنو والشفقة
ثِقِي يَا ٱبْنَة قال ذلك دفعاً لخوفها لأنها كانت تتوقع التوبيخ على تلك الجسارة.
إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ شفتها قوة المسيح، ولكن إيمانها كان الوسيلة إلى تحريك تلك القوة. فالإيمان هو يد النفس التي تتناول البركة. كلمات المسيح شفت وطهرت. فنرى من التأمل في هذه المعجزة تعزية عظيمة للحزانى، لأن أقل التجاء إلى المسيح بالتواضع والإيمان من قلب خائف يمنح شفاءً تاماً للنفس المريضة.
أتت تلك المرأة خائفة فعادت مبتهجة. وهكذا كل من أتى إلى المسيح بالتوبة، يعود مسروراً مطمئناً.
٢٣ «وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ ٱلرَّئِيسِ، وَنَظَرَ ٱلْمُزَمِّرِينَ وَٱلْجَمْعَ يَضِجُّونَ».
مرقس ٥: ٣٨ ولوقا ٨: ٥١ و٢أخبار ٣٥: ٢٥
اختصر متّى الخبر فلم يذكر إتيان الرسول إلى يايرس في الطريق ليخبره أن ابنته ماتت، ولم يذكر كلمات المسيح لتقوية إيمانه (مرقس ٥: ٣٥، ٣٦ ولوقا ٨: ٤٩، ٥٠). ولم يذكر أنه لما وصل إلى البيت أدخل معه ثلاثة فقط من تلاميذه (مرقس ٥: ٣٧ – ٤٠) ولا بد أن التعطيل الذي حصل للمسيح في الطريق كان واسطة لامتحان إيمان يايرس وتقويته. ولا بد أن المعجزة التي شاهدها على الطريق زادت ثقته بالمسيح.
ٱلْمُزَمِّرِينَ ذلك من استعدادات الدفن، فاليونانيون والرومانيون واليهود كانوا يستأجرون نادبين في جنازاتهم. وكان القصد من استعمال آلات الطرب مساعدة النادبين. وبما أن الميتة كانت من عائلة شريفة زاد الاحتفال بجنازتها. وكل ما ذُكر علامة على أنها ماتت حقيقة لأنه كان كله استعداداً للدفن.
٢٤ «قَالَ لَـهُمْ: تَنَحَّوْا، فَإِنَّ ٱلصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ. فَضَحِكُوا عَلَيْهِ».
أعمال ٢٠: ١٠
صرف المسيح النادبين والضاجين لا لأن الصبية حية، بل لأنه قصد أن يبدل حزنهم إلى فرح عاجل، ولأنه لم يرهم مستعدين وليسوا أهلاً أن يشاهدوا أعظم آياته. ويدل على عدم أهليتهم لذلك هزؤهم به عند قوله «إن الصبية لم تمت».
لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَة لم يرد أنه أُغمي عليها، بل قوله إنها نائمة كقوله «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ» وهو عالم أنه قد مات (يوحنا ١١: ١١ – ١٤) فاستعار النوم لموتها لقرب إحيائها، وليوقفهم عن استعدادات الدفن. واستعارة النوم للموت مجازٌ شائع في أكثر لغات الأرض. وما يجمع بين الأمرين: الراحة والسكون في كليهما، ولأنه يلي الموت القيامة كما يلي النوم اليقظة (دانيال ١٢: ٢ و١تسالونيكي ٤: ١٤) فيجوز أن يُقال إن النوم موت قصير والموت نوم طويل.
فَضَحِكُوا عَلَيْه ذكر متّى ذلك برهاناً قاطعاً على أنها ماتت حقاً، وإنما ضحكوا لمعرفتهم علامات الموت، ولأنهم لم يفهموا ما قصده المسيح بالنوم.
٢٥ «فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا، فَقَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ».
دخل المسيح بعد أن أخرج الجمع على غير إرادتهم مع والدي الصبية وثلاثة من تلاميذه إلى حيث الصبية.
وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا تنازل المسيح إلى ذلك تقوية لإيمان أبيها الضعيف، وإشارة إلى أن إحياءها كان بقوته. وزاد مرقس على ذلك أن المسيح قال لها «طليثا قومي» (مرقس ٥: ٤١).
فَقَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ أي من الموت ومن سريرها. وزاد مرقس على ذلك أنها مشت (مرقس ٥: ٤٢) وأمر أن تطعم لتقويتها بعد مرضها ولبيان أنها جسد حقيقي لا خيال (لوقا ٨: ٥٥) ورأى البعض من أمر المسيح بإطعامه رقة قلبه خوفاً من أن ينسى والداها لشدة فرحهما أن يطعماها. وهذه أول معجزات أربع أظهر بها المسيح سلطانه على الموت، ثلاث منها أقام بها غيره، وهي إقامته هذه الصبية، وإحياءه ابن أرملة نايين، وإقامة لعازر. وواحدة في نفسه إذ قام من الموت. وأثرت هذه المعجزات في الناس أكثر من غيرها لأنهم لم يشاهدوا في تغيرات الطبيعة شبيهاً لها.
٢٦ «فَخَرَجَ ذٰلِكَ ٱلْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا».
لم يقتصر انتشار الخبر في كفرناحوم، بل ذاع في كل البلاد المجاورة لها.
٢٧ «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرُخَانِ وَيَقُولاَنِ: ٱرْحَمْنَا يَا ٱبْنَ دَاوُدَ».
متّى ٢٠: ٣٠ ومرقس ١٠: ٤٧ ولوقا ١٨: ٣٨
ذكر متّى هنا معجزتين أتاهما يسوع بعد إقامة ابنة يايرس لم يذكرهما غيره من البشيرين، وذلك من الأدلة على أنه كتب بشارته مستقلاً.
تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ رافق أحدهما الآخر لاشتراكهما في الانفعالات، وليساعد الواحد الآخر عند الحاجة. والأرجح أنهما سمعا من المارين وأبناء السبيل الأخبار عن المسيح ومعجزاته وأنه قريب منهما.
يَصْرُخَانِ وَيَقُولاَن أي يرفعان الأصوات الدالة على الشدة حتى ينتبه إليهما.
ٱرْحَمْنَا أي اظهر شفقتك علينا بمنحنا البصر.
يَا ٱبْنَ دَاوُد أي يا سلالة داود وخليفته على عرش ملكه. وذلك من ألقاب المسيح عند اليهود بناءً على ما جاء في الأنبياء (انظر إشعياء ٩: ٧ و١١: ١ وإرميا ٢٣: ٥) وسمياه بذلك على شهادة من شاهدوا آياته. وأظهرا بذلك إيمانهما بأنه قادر أن يشفيهما.
٢٨ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هٰذَا؟ قَالاَ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ».
متّى ١٣: ٥٨ ومرقس ٩: ٢٣، ٢٤ ويوحنا ٤: ٤٨، ٥٠ و١١: ٢٦، ٤٠
لم يظهر أن المسيح انتبه لصراخهما إلى أن دخل بيتاً (الأرجح أنه بيت بطرس) امتحاناً لإيمانهما. فبعد ما أظهرا الإيمان به والرغبة في الشفاء أجاب طلبهما. ولعله أحب أن يتوارى عن أعين الناس عند فعله المعجزة، ثم امتحنهما بالكلام كما امتحنهما بالفعل فقال:
أَتُؤْمِنَان طلب اعترافهما بالإيمان استعداداً لنوال الشفاء.
٢٩ «حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا».
لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا لمس الأعين دون غيرها لأنها هي المصابة. ولمسهما يبين أن الشفاء منه. وتلك كانت عادة المسيح في تفتيح أعين العمي دائماً، لأن ما كان يستفيده غيرهم بالنظر إلى وجه المسيح وعمله كانوا يستفيدونه باللمس (متّى ٩: ٢٩ ويوحنا ٩: ٦ ومرقس ٨: ١٢).
بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا أي على قدر الإيمان، لا حسب استحقاقه. وهذا يظهر العلاقة بين إيمان الإنسان وهبة الله، فالإيمان ليس سوى واسطة لقبول البركات الإلهية، وبه الاتصال بين غنى الله وفقر الإنسان. وبمثل إيمان هذين الأعميين والاعتراف به تخلُص نفوسنا من الهلاك الأبدي.
٣٠ «فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَٱنْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: ٱنْظُرَا، لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!».
فَٱنْفَتَحَتْ يعبر الكتاب عن منح البصر للعميان بانفتاح العيون.
لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ أمر المسيح بإخفاء خبر المعجزة لتواضعه، وعدم رغبته في الشهرة، لأن الافتخار بأنه صانع معجزات كان يعيقه عن العمل الأعظم وعن التعليم، وأنه كان يشغل أفكار الناس بالدنيويات عندما كان يريد توجيهها إلى الروحيات. ولم يرد ذلك خوفاً من أن الناس يقيمونه ملكاً على الرغم منه، وخيفة أن يقوم عليه الحكام توهُّماً أنه يريد الفتنة والعصيان. ولا نعلم لماذا أمر بكتم بعض المعجزات تارة وإظهارها أخرى، ولعله رأى غيرة البعض شديدة فأراد أن يقللها، ورأى غيرة الآخرين ضعيفة فأراد تقويتها. أو لعل الأحوال كانت تقتضي الإظهار تارة والإخفاء أخرى.
٣١ «وَلٰكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا».
مرقس ٧: ٣٦
لعل الذي حملهما على تلك الإشاعة الشكر للمسيح. لكن هذا ليس عذراً لعدم طاعتهما أمره، لأن المسيح لا يأمر بشيء يريد خلافه، لأنه عند الله دائماً «الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ» (١صموئيل ١٥: ٢٢).
٣٢ «وَفِيمَا هُمَا خَارِجَانِ إِذَا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْه».
متّى ١٢: ٢٢ ولوقا ١١: ١٤
أَخْرَسُ مَجْنُون الأرجح أن الروح النجس كان سبب خرسه، فحالة هذا المصاب تشبه حالة الإنسان الذي ذكره متّى ١٢: ٢٢. إلا أن ذلك أعمى زيادة على الجنون والخرس. فكانت قوة الشياطين على إيقاع الضرر بالناس تختلف باختلاف الأشخاص.
قَدَّمُوه لعل الذين قدموه أقرباؤه أو جيرانه لشفقتهم عليه، لأن المرجح أن ذلك المسكين كان أصم، والصمم يرافق الخرس غالباً. فلم يمكنه أن يعرف شيئاً من أمر المسيح. ولو لم يقدموه للمسيح لبقي بلا شفاء.
٣٣ «فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ قَائِلِينَ: لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هٰذَا فِي إِسْرَائِيلَ».
تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ هذا يبرهن أن الشيطان كان سبب خرسه، لأنه تكلم حالما خرج.
فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ لأن هذه المعجزة أظهرت قوة جديدة لم يشاهد مثلها قبلها.
لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ الخ ليس أن هذه المعجزة كانت أعظم من سائر معجزات المسيح، بل إن النتائج المذكورة لم تحدث قبلاً عند إخراج الشياطين، وإن الذين كانوا حاضرين وقتها لم يشاهدوا غيرها قط، ولعلهم شاهدوا كل معجزات المسيح أو أكثرها فحكموا عليها بما قالوا.
فِي إِسْرَائِيل أي في أخبار بني إسرائيل منذ كانوا أمة إلى الآن، فلم يفعل مثل المسيح أحد من الأنبياء كموسى وإيليا وأليشع وغيرهم من أنبياء إسرائيل. وقد تم بهذه المعجزة قوله بلسان إشعياء «حِينَئِذٍ تَتَفَقَّحُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ» (إشعياء ٣٥: ٥، ٦).
٣٤ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ».
متّى ١٢: ٢٤ ومرقس ٣: ٢٣ ولوقا ١١: ١٥
ذكر متّى في الآية السابقة خلاصة أفكار الجمهور في أمر المسيح بعد مشاهدتهم الآيات، وذكر هنا خلاصة أفكار الفريسيين بعد ذلك. وهذه هي المرة الأولى التي تجاسر فيها الفريسيون أن ينسبوا معجزات المسيح إلى عمل الشيطان، وكرروا ذلك بعده كثيراً. فجواب المسيح على هذا التجديف ذكره متّى ١٢: ٢٢ – ٣٧ وأتوا ذلك القول التجديفي ليمنعوا الناس من أن يستنتجوا أن يسوع هو المسيح.
رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ سمي هذا الرئيس بعلزبول (متّى ١٢: ١٤). لما لم يقدر الفريسيون أن ينكروا إخراج يسوع الشياطين، نسبوا قوته إلى بعلزبول، فيكون المسيح بهذا شريكاً للشيطان. وكان الواجب أن يعترفوا بالحق أنه هو المسيح.
٣٥ «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ ٱلْمُدُنَ كُلَّهَا وَٱلْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ».
متّى ٤: ٢٣ ومرقس ٦: ٦ ولوقا ١٣: ٢٢
ذكر متّى هذه الآية عينها في ٤: ٢٣ ولكنها كانت هنالك مقدمة لما بعدها إلى هنا. وكانت خلاصة ما ذكر من هنالك بعد الإثبات بالبراهين.
٣٦ «وَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا».
مرقس ٦: ٣٤ عدد ٢٧: ١٧ و١ملوك ٢٢: ١٧ وحزقيال ٣٤: ٥ وزكريا ١٠: ٢
هذا ما فعله المسيح أثناء جولانه في الجليل يعلم الناس ويشفي مرضاهم.
ٱلْجُمُوع أي الجماعات التي أتت من كل الجهات لتسمع تعاليمه. ولم يعين متّى زمان حدوث ذلك، ولعله زمن اجتماع الناس الذي ذكره في الأصحاح الخامس.
تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ هذا لا ينفي أنه تحنن عليهم في غير هذا الوقت، إنما ذكره هنا افتتاحاً للحديث الذي دار بينه وبين تلاميذه، ومقدمة لإرساله الإثنى عشر مبشرين (متّى ١٠: ٥). ولم يحرك شفقته كثرة عددهم ولا احتياجاتهم الجسدية، بل فقرهم الروحي.
مُنْزَعِجِين أي مضطربين ومهتمين ومتعبين من عدم القوت الروحي، ومن ثقل الأحمال التي حملهم إياها الفريسيون والكتبة من طقوسهم وتقاليدهم.
مُنْطَرِحِينَ كغنم لا تساق إلى مرعى نهاراً ولا تصان في حظيرة ليلاً.
كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا أشار بذلك إلى سوء أحوالهم وعدم الاعتناء بهم ممن كان يجب أن يفعلوا ذلك. وقصد الله أن يكون معلموهم بالنسبة إليهم كالرعاة إلى الغنم، لكنهم غفلوا عن واجباتهم كرعاة غير أمناء (إرميا ٢٣: ١، ٢ وحزقيال ٣٤: ١ – ٦ و١ملوك ٢٢: ١٧) فكان في شعب إسرائيل كتبة كثيرون وكهنة وناموسيون ورؤساء دين ومعلمون، ولكن لم يكن من الرعاة الروحيين إلا القليل.
٣٧ «حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱلْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ».
لوقا ١٠: ٢ ويوحنا ٤: ٣٥
الحديث هنا نتيجة شفقته. والحصاد الذي لا حاصدين له هو الجموع الذين تحنن عليهم، وشبههم بالغنم بلا راعٍ، إشارة إلى ضياعهم. وشبههم هنا بحصاد لم يُجمع إشارة إلى أن الله خسرهم.
ٱلْحَصَادُ كناية عن شيء ذي قيمة، وما يتعب فيه أصحابه ثم لا يستفيدون منه. وهو استعارة للشعب اليهودي بأسره، أو للمستعدين منهم إلى قبول التعليم الروحي.
ٱلْفَعَلَةَ هم الذين يعتنون بجمع حصاد الله الروحي أي بتعليم جهلاء الشعب.
٣٨ «فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِه».
مزمور ٦٨: ١١ وإرميا ٣: ١٥ ولوقا ٦: ١٢، ١٣ و١٠: ١ ويوحنا ٤: ٣٥ و٢٠: ٢١ وأعمال ٨: ٤ و١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ١
فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أن يعين فعلة، فهذا عمل رب الحصاد، وينبغي أن يُطلب إليه أن يعينهم. وكان المسيح هو رب الحصاد. وربما قصد ذلك بقوله ولم يوضحه في حال اتضاعه ولم ينتبه تلاميذه له. وأشار بقوله «اطلبوا» إلى أن الصلاة شرط لإرسال الله الفعلة، كما اتضح من متّى ٧: ٧ – ١١. وتعلمنا هذه الآية وجوب التوسل من أجل العالم، فالحصاد لا يزال كثيراً، والفعلة لا يزالون قليلين. فيجب أن نصلي بلا انقطاع ونسأل الله أن يرسل أناساً أمناء غيورين، يخبرون الأمم بالمسيح الذي صُلب ومات لأجلهم وقام لتبريرهم، وهو الآن يشفع فيهم.
أَنْ يُرْسِل الأصل اليوناني أن يسرع بإرسال أولئك الفعلة. والذين يرسلهم الله هم الذين ينجحون في أعمالهم لا غيرهم.
إِلَى حَصَادِه هذا الحصاد لله وحده، وهو يعتبره كذلك ويصرح به.
السابق |
التالي |