إنجيل متى | 07 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح السابع
١ «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا».
لوقا ٦: ٣٧، ٣٨ ورومية ٢: ١ و١٤: ٣، ٤، ١٠، ١٣ و١كورنثوس ٤: ٣، ٥ ويعقوب ٤: ١١، ١٢
لاَ تَدِينُوا هذا لا يعني نهي القضاة والحكام عن الحكم الشرعي (١كورنثوس ٦: ٥)، ولا نهينا عن تقييمنا وحكمنا على الأشخاص والأعمال بالعدل والحق (متّى ٧: ٢٠ ويوحنا ٧: ٢٤ و١كورنثوس ٢: و٦: ٥، و١تسالونيكي ٥: ٢١ و١يوحنا ٤: ١ ورومية ١٦: ١٧ ولكنه ينهى عن الحكم الصارم القاسي، وانتقاد عيوب الناس وتعظيمها، والحكم بسرعة بلا تروٍ وبمحاباة، والحكم الذي ليس من واجباتنا، والحكم الذي لا يقترن بالمحبة.
كان اليهود يشددون الحكم على غيرهم من الأمم، وكان الفريسيون يحكمون على غيرهم من أمتهم أو غيرها بلا شفقة ولا محبة ولا عدل، وكانوا عمياناً عن عيوب أنفسهم، فحذَّر المسيح تلاميذه من أن يكونوا مثلهم في ذلك. وهو خطأ نقع فيه كلنا، مع أنه لا حقَّ لنا أن نحكم على غيرنا بما لا يهمنا. وإذا وجب علينا أن نحكم فلا يجب أن نفعل ذلك إلا بعد الفحص والنظر الكافي، وأن لا نعلن حكمنا بدون لزوم. وإذا حكمنا على المذنبين نحكم برحمة بأن ننظر إلى شدة التجربة التي ساقتهم إلى الذنب، ونفترض أن هنالك أحوالاً لو عُرفت لبرَّأتهم. وعلينا أن لا ننسب المقاصد الشريرة إلى من يؤدون أعمالاً صالحة، وأن لا ندين الواحد على ما نغض النظر عنه في الآخر، وأن لا نجسم هفوات الغير وعيوبهم (١كورنثوس ١٣: ٧)، وأن لا نسر بزلات الأفاضل بل نحزن عليها، وأن لا نرفع أصواتنا بذم تلك الزلات بل نسترها لأن «الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (١بطرس ٤: ٨)، وأن لا نحكم على غيرنا إلا ونحن نذكر نقائصنا، وأن الدينونة لله لا للإنسان.
لِكَيْ لاَ تُدَانُوا هذا لا يعني أن الغرض من عدم دينونة غيرنا النجاة من دينونة الله لنا.
٢ «لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ».
مرقس ٤: ٢٤
لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ الخ هذا لا يعني أنه إذا حكمنا على الغير بلا عدل يحكم الله علينا ظلماً، بل معناه أنه إن شددنا الحكم على الغير شُدد علينا، فالإنسان ينال من الغير ما يعطيه لهم: محبة بمحبة، ولطفاً بلطف، وصرامة بصرامة، وتقتيراً بتقتير. وتلك الدينونة إما من الناس (تكوين ١٦: ١٢ وقضاة ١: ٧ ولوقا ٦: ٣٧، ٣٨ ومرقس ٤: ٢٤ ويعقوب ٢: ١٣) وإما من الله (٢صموئيل ٢٢: ٢٧ وإشعياء ٣٣: ١).
وَبِالْكَيْلِ هذا مجاز مشهور في كلام الناس على الجزاء وأحكام الشريعة.
٣ «وَلِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَـهَا؟».
لوقا ٦: ٤١، ٤٢
انتقل المسيح من الكلام للجمع إلى الأفراد، لينسب كل سامعٍ الخطاب إلى نفسه. وربما التفت المسيح إلى فريسي أظهر ملامح وجهه أو بكلامه الاستخفاف بتلاميذ المسيح.
لِمَاذَا تَنْظُرُ؟ الاستفهام هنا للتوبيخ، فكأنه يقول لا سبب ولا عذر لك أن تفعل هذا. وأشار المسيح هنا إلى عادة الناس العامة، وهي أن الإنسان ينتبه لعيوب غيره ويغفل عن عيوب نفسه، فيقول: لماذا تنظر إلى عيوب غيرك وتذمه عليها وعيوبك أعظم منها؟
ٱلْقَذَى ما يحمله الهواء من الغبار الدقيق والتبن ونحوهما، فيقع في العين. والمقصود به هنا الذنب الصغير.
أَخِيكَ أي إنسان مثلك.
ٱلْخَشَبَة مجازٌ ومبالغة، فيراد بالخشبة الذنب الكبير. والفرق عظيم بين القذى والخشبة، فما أقبح ذنب من يرتكب الذنوب الفظيعة وهو يدين مقترف الذنوب الصغيرة. فيجب أن يظهر لنا ذنبنا كالخشبة، وذنب الآخرين كالقذى. ويجب أن نفترض أعذاراً للغير ولا نعذر أنفسنا.
٤ «أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا ٱلْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟».
أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ كيف تجيز لنفسك أن تفعل ما لا يحسن بك، ولا يقبله العقل السليم؟ فالأشرار لا يستطيعون أن يحكموا بالعدل على غيرهم. إن انتصارنا على شرور قلوبنا شرط ضروريٌ لصحة حكمنا على غيرنا. فلا نقدر أن نصلح الغير ونشعر معه ونساعده على النهوض من سقوطه إلا إن تواضعنا وشعرنا بآثامنا وتبنا عنها.
دَعْنِي ظاهر هذا الكلام الصداقة، وباطنه الانتقاد.
٥ «يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ».
يَا مُرَائِي هذا الخطاب يقوّي الظن أن المسيح قصد أحد الفريسيين بين المستمعين، وهو يصدق على كل من يشبه الفريسيين في أحكامهم على الغير. والمرائي هو الذي يتظاهر بتقوى ليست له، ويدَّعي أنه بارٌ وقاضٍ عادل يوبخ على كل خطية يراها في غيره، وهو يرتكب أفظع منها.
أَخْرِجْ أَوَّلاً ٱلْخَشَبَةَ فالمسيح هنا لا يوبخ المرائي على إثمه، بل يبيِّن له الطريق التي يمكنه فيها أن يكون أهلاً ليصلح غيره، ويكون قاضياً بالحق، لأنه يُصلح نفسه أولاً بأن يرجع عن سيئاته. وإخراج الخشبة يعني تطهير القلب وإماتة الشهوات وإصلاح السيرة وتقويمها. فيجب أن نهتم بأمر خطايانا أكثر مما نهتم بخطايا غيرنا، وأن نجثو أمام صليب المسيح بالتوبة قبل أن نجلس على منبر القضاء.
وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً الخطية في القلب تعمي البصيرة، وامتحان النفس يجهزنا للنظر في أعمال الغير بأمانة. ولا يسوغ للإنسان أن يسرع للحكم على غيره بصرامة ولو بذل كل جهده في امتحان نفسه.
أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى الذي يُرضي الله يسعف أخاه فينجو الأخ من ذنوبه. وهو لا ينظر إلى خطايا أخيه ليجسِّمها ويوبخه عليها. وهذا أمر صعب، لكنه علامة الأخوَّة، وهو عمل مبارك.
٦ «لاَ تُعْطُوا ٱلْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ ٱلْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ».
أمثال ٩: ٧، ٨ و٢٣: ٩
وجَّه المسيح خطابه هنا إلى تلاميذه، ونصحهم أن لا يُعرِّضوا أنفسهم ودينهم لهزء الجهلاء وغير المؤمنين وإهانتهم لغير سبب. ولا مناقضة بين هذا العدد والعدد الأول، لأنه أشار في الأول إلى الحكم الصارم بغير حق، وأشار في هذا إلى الحكم على الغير بالحق. فليس كل الناس سواء، وليس كلهم يقبلون التعليم. فينبغي أن ننظر النظر الصحيح لنعلم يقيناً من هم المستحقون الصداقة وبذل الجهد في سبيل منفعتهم، ومن ليسوا كذلك. فيجب أن نعتزل صرامة الحكم من جهة، ومن الجهة الأخرى نحترس من رخاوته، فلا يخطئ من اعتبر الكلب كلباً والأثيم أثيماً.
ٱلْمُقَدَّس هو ما وُقف لخدمة الله أو خُصِّص له، كبعض أجزاء الذبائح المقدمة في الهيكل (لاويين ١٠: ١٤ و٢٢: ٦، ٧). والمقصود هنا: كل ما يتعلق بالدين من الإنذار والتعليم وبيان المواعيد وطريق النجاة وسائر الأمور الروحية.
دُرَرَكُمْ أي لآلئكم. واللؤلؤ يُستخرج من الصدف، وهو من النفائس المشهورة (متّى ١٣: ٤٥ ورؤيا ١٧: ٤). والمقصود بالدرر حقائق الديانة، فإنها في عيني الرب كجواهر ثمينة مُنحت للمؤمن.
الْكِلاَبِ… ٱلْخَنَازِيرِ حيوانان حسبهما اليهود نجسين مكروهين، لا يجوز أن يُؤكلا ولا أن يُقدما ذبيحة. والمقصود بهما هنا الأشرار النجسون، أعداء الحق المفترسون، الذين يجهلون الحق ويرفضونه ويقاومونه. وهم أصحاب السيرة الدنسة والشهوات القبيحة والألسنة المجدِّفة (أمثال ١١: ٢٢ وفيلبي ٣: ٢ و٢بطرس ٢: ٢٢).
نهى المسيح هنا تلاميذه عن أن يعرضوا حقائق دينه المقدسة للمستهزئين المقاومين، إذا تحققوا أنهم يرفضونها ويمقتونها، لئلا تصير عندهم كخروف التقدمة الذي تخطفه الكلاب، أو كالدرر النفيسة التي تدوسها الخنازير في الأقذار.
فما أرهب شقاء الذين سقطوا في مثل تلك الهاوية! هاوية الإثم والرذيلة! حتى أوجب على المسيحيين أن يتركوهم قانطين ويعتزلوا عن وعظهم وإنذارهم (١صموئيل ٢٥: ١٧ وأمثال ٩: ٨ و٢٣: ٩).
وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُم إهانة الحق هي السبب الأول والأعظم لنهي المسيح، وما ذكره هنا سبب ثانوي، وهو أن لا يعرِّض التلاميذ أنفسهم للخطر بغير اضطرار (أعمال ١٨: ٦). ولكن ليس في هذا عذرٌ لمن يخفي الحق لأنه كسول أو جبان، بل يجب عليه أن يكون في وقت الضرورة كدانيال في بابل ورفقائه الثلاثة.
فيجب أن نميِّز صفات مَن نقصد تعليمهم، وأن نجعل تعليمنا موافقاً لأحوالهم. فإن كانوا ممن لا يعقلون البراهين، وممن ضمائرهم بلا شعور، وأخلاقهم شرسة كالوحوش، وجب أن لا نضيع الوقت والتعب عليهم. على أنه ينبغي أن نحزن عليهم ونصلي لأجلهم، ونحذر الغير منهم، ونتوقع الوقت الذي تلين فيه قلوبهم، بالمصائب أو بفعل الروح القدس. وحينئذ يمكننا أن نعلمهم لأنهم يستطيعون أن يستفيدوا من التعليم. قال سليمان «للسكوت وقت وللتكلم وقت» (جامعة ٣: ٨).
٧ «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ».
متّى ٢١: ٢٢ ومرقس ١١: ٢٤ ولوقا ١١: ٩، ١٠ و١٨: ١ ويوحنا ١٤: ١٣ و١٥: ٧ و١٦: ٢٣، ٢٤ ويعقوب ١: ٥، ٦ و١يوحنا ٣: ٢٢ و٥: ١٤، ١٥.
ظن البعض العلاقة بين هذا الكلام وما قبله أن المسيح التزم أن يوجه كلامه إلى بعض الفريسيين الحاضرين الذين أهانوا لتلاميذه، فوبخهم من آية ١ – ٦ من هذا الأصحاح (ثم عاد في آية ٧) إلى سياق الكلام السابق، فأنبأ التلاميذ بالوسائل التي يتوصلون بها إلى النجاة من زيادة القلق، وهي الاتكال على الله والثقة به والصلاة إليه.
اِسْأَلُوا أي اسألوا ما تحتاجون إليه من الوحيد القادر أن يعتني بكم. وهو لا يعين هنا مرات السؤال، ولا المقادير المسؤولة. فلنا أن نسأل ما نشاء وكلما شئنا.
تُعْطَوْا هذا الوعد مشروط بأن ما نسأله يكون موافقاً لإرادة الله. ولنا الثقة العظمى بقبول طلبنا إن سألنا أولاً وخاصة البركات الروحية. فلا يستجيب الله لنا في الزمان الذي نستحسنه نحن، والطريق التي نختارها، فذلك موكول إلى إرادته. فإنه يعلم ما نحتاج إليه أكثر مما نعلم نحن.
اُطْلُبُو يؤكد المسيح المعنى بتكراره بكلمة أخرى، فلا تطلبوا الخيرات الزمنية أولاً كما يفعل الأمم (متّى ٦: ٣٣).
اِقْرَعُوا كرر المعنى بلفظ آخر، لكن على سبيل الاستعارة، فكأن البركات المطلوبة في بيتٍ بابه موصد، علينا أن نقرعه لنحصل على ما وراءه. والأوامر الثلاثة «اسألوا» و «اطلبوا» و «واقرعوا» تدل على أشواق شديدة ومطالب حقيقية، هي استعدادات لقبول الجواب. وهي شروط بسيطة للحصول على أعظم البركات. فعلى الإنسان أولاً أن يطلب، وعلى الله الإجابة في النهاية. فمواعيد الله ليست للكسلان الذي يتوقع بلا عمل، لكن للنشيط المجتهد في القيام بشروطها، فلا صلاة حقيقية بلا فائدة.
٨ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ».
أمثال ٨: ١٧ وإرميا ٢٩: ١٢، ١٣
أكَّد في العدد السابق فاعلية الصلاة بالوعد، وهنا أكدها بناءً على اختبار الذين سألوا فوجدوا، فكأنه قال إن فاعلية الصلاة تكون في المستقبل كما كانت في الماضي.
كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ الوعد هنا لكل فرد، ولا يُستثنى أحدٌ ممن يطلبون لعدم استحقاقه.
يَأْخُذُ…ُ يَجِدُ الطلب بالإيمان والتسليم إلى إرادة الله. وإن سأل الأشياء التي يليق أن يعطيه إياها ويرى أنها مفيدة له.
٩، ١٠ «٩ أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ ١٠ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟».
لوقا ١١: ١١ – ١٣
للتأكيد ونفي الشك في ما قاله ذكر أن محبة الله الأبوية للمؤمن أفضل من معاملة الآباء الأشرار لأبنائهم في مثل هذه الأحوال.
أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ الاستفهام استنكاري، المراد به أنه ليس في العالم مثل هذا الإنسان.
١١ «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!».
تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١
ما قيل هنا نتيجة العددين السابقين
وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ هذا يصدق على كل الناس بالنسبة إلى الله، فأقدسهم كغيرهم من البشر أشرارٌ ساقطون.
تَعْرِفُونَ أي تميلون إلى ذلك وتمارسونه من الغريزة الأبوية.
عَطَايَا جَيِّدَةً أي فوائد زمنية وصفها بالجيدة مقارنة بالعطايا الرديئة التي ذُكرت في عددي ٩، ١٠.
أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تمييزاً له عن الآباء الأرضيين، فأقوى المحبة البشرية لا شيء بالنسبة إلى محبة الله لأولاده المؤمنين. إن كانت محبة الناس لأولادهم غريزية ودائمة وفعالة، فكم بالحري محبة الله ينبوع المحبة وأصلها.
خَيْرَات أي ما يراه موافقاً لهم، وهو الغِنى الحقيقي ولا سيما البركات الروحية، فإن الله لا يخيب رجاء أولاده بإمساكه عنهم الخيرات، ولا يخدعهم بإعطائه إياهم ما يضر أو ما لا يفيد. ولم يعين مقدار تلك الخيرات ليشجعنا لنطلب القدر الذي نريده.
لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَه هذا الشرط اللازم لنوال الوعد ليوجه أفكارهم إلى أن الصلاة طريق لإزالة الهم الزائد من قلوبهم. وقد استنتج بعض الفلاسفة أن الصلاة عبثٌ بناءً على أن الكون مربوط بشرائع لا تتغير. واستنتج المسيح أنها مفيدة وفعالة بناءً على فائدة سؤال الابن ما يحتاج إليه من أبيه الأرضي.
١٢ «فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ».
لوقا ٦: ٣١ ولاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٢٢: ٤٠ ورؤيا ١٣: ٨ – ١٠ وغلاطية ٥: ١٤ و١تيموثاوس ١: ٥
قال المسيح في متّى ٥: ١٧ إنه لم يأتِ لنقض الناموس أو الأنبياء بل ليكمل، فبيَّن بما سبق أنه لم يكمل ذلك بالحرف بل بالروح. فمعظم ما مرَّ من كلامه كان في الجز الأول من الناموس، وهو واجباتنا لله. ثم أخذ يفسر الجزء الثاني من الناموس وهو واجبات الناس بعضهم لبعض (متّى ١٢: ٣٩ ورؤيا ١٣: ٩) ويتم كل ذلك بمحبتنا للقريب كالنفس. وهذه الآية سُميت «القاعدة الذهبية» لأنها حقيقة سماوية، ولأن نتائجها صالحة.
يُحكى أن أحد الأجانب جاء إلى الربوني شمعي يسأله أن يعلِّمه الناموس كله أثناء وقوفه على رجل واحدة، فطرده هذا من حضرته. ولكنه حين ذهب إلى الربوني هليل يسأله السؤال نفسه، أجابه أن الناموس هو أن لا تفعل بالآخرين ما لا تريدهم أن يفعلوه معك. وهذا التصريح بصورة سلبية، أما تعليم المسيح فإيجابي بكامل معناه.
كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ الخ يحق لكم أن تبتغوه من غيركم، لو كان في مثل أحوالكم وأنتم في مثل أحواله. وهذه القاعدة تنافي حب الذات المحض والبغض والانتقام والنميمة والغش والاختلاس، وتثبت وحدة البشر ومساواة جميع أفراده، وتوجب أن يطلب كل واحد نفع غيره. ونتعلم من هذا أنه إن جازى إنسان غيره شراً بخير يكون شيطانياً، وإن جازى شر غيره بشر يكون وثنياً. وإن جازى الشر بالخير يكون مسيحياً، لأن فعله للغير أفضل من فعل الغير له فعلٌ إلهي. نعم إنها قاعدة وجيزة ولكن السلوك بموجبها ينفي الخصومات والحروب، ويجعل الأرض فردوس النعيم. وهي تغني عن أكثر شرائع العالم. إنها لا تنفي حب الذات الطبيعي، بل تجعله قياساً لحبنا للغير وفعلنا له. وعلى ذلك يكون حبنا الغريزي منفعة أنفسنا خادماً للعدل والإحسان.
لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلنَّامُوس الخ أي أن تلك القاعدة هي خلاصة كل تعاليم الناموس والأنبياء، لأن غايتهما أن يجعلا كل واحد يحب غيره كنفسه، فالذي يفعل ذلك يطيع الناموس (لاويين ١٩: ١٨) ويطيع الأنبياء (إشعياء ١: ١٧، رومية ١٣: ١٠).
١٣، ١٤ «اُدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ ٱلْبَابُ وَرَحْبٌ ٱلطَّرِيقُ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ ٱلْبَابَ وَأَكْرَبَ ٱلطَّرِيقَ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ ٱلَّذِينَ يَجِدُونَهُ».
لوقا ١٣: ٢٤
أظهر المسيح بكلامه السابق الصفات الواجبة أن تكون لتابعيه، فكلفهم بإنكار الذات الشديد. وهنا زاد عليه أن ذلك الإنكار ليس فضيلة عارضة بل هو شرط ضروري لكل أهل ملكوته.
اُدْخُلُوا أي ملكوتي السماوي الذي يبدأ على الأرض ونهايته في السماء. وكثيراً ما يمثل الكتاب المقدس حياة البر وحياة الإثم بطريقين يُدخَل إليهما من بابين.
ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ… ٱلطَّرِيقَ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاة أشار بذلك إلى بدء الحياة المقدسة ومداومة السير فيها. وتلك الطريق تؤدي من الأرض إلى أورشليم السماوية. ولنا من هاتين الآيتين أربعة دروس:
(١) أن كل إنسان مسافر من مهده إلى لحده، ومن هذا الزمان إلى الأبدية.
(٢) أن الناس عند الله مسافرون في طريقين لا ثالث لهما، أحدهما ضيق يوصل إلى السماء، والآخر واسع يُفضي إلى جهنم.
(٣) أن ذلك الطريق وذلك الباب ليسا ضيِّقين لأن الله قضي بهذا لأنه لا يؤيد أن يخلص كثيرين، وليسا ضيقين بسبب عدم كفاية دم المسيح للتكفير عن الجميع، إنما هما ضيقان بسبب صعوبات حياة القداسة، لأنها ضد الطبيعة الفاسدة، وتحتم وجود طبيعة جديدة (يوحنا ٣: ٣) وتمنع الشهوات الجسدية من دخول ذلك الباب والسير في تلك الطريق، بل تمنع كل خطية من ذلك وكل بر ذاتي والعالم (أفسس ٥: ١١). وتحيط وصايا الله العشر بهذه الطريق من أولها إلى آخرها، فهي طريق الإيمان والطاعة وكثيراً ما ضيّقها ويضيّقها اضطهاد الأعداء. ولكنها رغم كل ضيقها طريق أمنٍ وراحة ضمير للمسافرين، ونهايتها مباركة. فإذاً هي ضيّقة في الدنيا، واسعة في الآخرة. وأما الطريق الواسع فسُمي واسعاً لكثرة الداخلين إليه والسائرين فيه، ولأنه يسعهم مع لذاتهم وشهواتهم وخطاياهم ومحبتهم للعالم ورفقاءهم الأشرار، ولسهولة السير فيه، وعدم الموانع منه. ويسلك فيه الكثيرون لأنه يوافق ميولهم الطبيعية. ونهاية هذا الطريق جهنم. فإذاً هو واسع في الدنيا ضيق جداً في الآخرة.
(٤) كثيرون لا يدخلون في الباب الضيّق ولا يجدونه، ليس لأن باب الخلاص خفي وعسر، لأن كتاب الله يوضحه جلياً. ولا لأنه مغلق دون أولئك الناس، لأن المسيح بموته فتحه لكل من ابتغى دخوله من البشر. بل لأن الأغلبية لا يريدون أن يجدوه بالمسيح، ولا يحبون السير فيه، ولا الاجتهاد اللازم لدوام السير فيه إلى النهاية (لوقا ١٣: ٢٤).
١٥ «اِحْتَرِزُوا مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ، وَلٰكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ».
تثنية ١٣: ٣ وإرميا ٢٣: ١٦ ومتّى ٢٤: ٤، ٥، ١١، ٢٤ ومرقس ١٣: ٢٢ ورؤيا ١٦: ١٧، ١٨ وأفسس ٥: ٦ وكولوسي ٢: ٨ و٢بطرس ٢: ١ – ٣ و١يوحنا ٤: ١ وميخا ٣: ٥ و٢تيموثاوس ٣: ٥ وأعمال ٢٠: ٢٩، ٣٠
شبَّه المسيح حياة الإنسان بالطريق، وقال إن هناك هُداة كذبة يدَّعون أنهم يهدون الناس إلى طريق الحياة الأبدية وهم بالحقيقة يقودونهم إلى طريق الهلاك.
احترزوا: أي انتبهوا واحترسوا من الأنبياء الكذبة فلا تنقادوا لهم كالعميان، ولا تخالطوهم ولا تصغوا إليهم. ولا نزال في حاجة إلى هذا الاحتراس، لأن الملايين اليوم يتبعون رؤساءهم الدينيين وهم غافلون، ولأن الله لا يقبل خطأ المرشدين المضلِّلين عذراً للمضلَّلين.
ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ أي رؤساء الدين الأثمة الأشرار الخادعين، كما كان بعض الكتبة والفريسيون وقتئذٍ، أو من تطرفوا في ادعاءات لا تمُت إلى حقيقة الدين في شيء. فهؤلاء يهدمون ولا يبنون. وكما هو حال كل المعلمين المضلين في هذه الأيام فإنهم يمنعون الناس من اتباع المسيح في الطريق الضيق، ويغرونهم بمداومة السير في الطريق الواسع.
وكان المقصود بالأنبياء قديماً «الذين ينبئون بأمور آتية» ثم أُطلقت على الذين يعلنون إرادة الله، ثم على كل معلّمي الأديان.
ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُم أي الذين يأتونكم مرشدين ومعلمين. أتى المسيح معلماً الناس فأتى أيضاً كثيرون من الأنبياء الكذبة. ومن ذلك الوقت كان كلما اجتهد المعلمون الأمناء يبينون الطريق الحقيقية كثر المعلمون الكذبة وزادوا اجتهاداً.
بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ في ذلك تشبيه المعلمين الكذبة بالذئاب اللابسة جلود الخراف، يتظاهرون بالعفو والتواضع والاستقامة كأنهم من قطيع المسيح الروحي. أما باطنهم فمحبة الذات والخداع «لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها» (٢تيموثاوس ٣: ٥ و٢كورنثوس ١١: ١٣ – ١٥ ورؤيا ١٦: ١٨). وثوب الحملان الذي لبسه الفريسيون هو صومهم وعبوسة وجوههم (متّى ٦: ١٦) وصلواتهم الطويلة العلنية (متّى ٦: ٥). وقيل إن الشيطان يتنكر للخداع (٢كورنثوس ١١: ١٤).
مِنْ دَاخِلٍ أي في قلوبهم وصفاتهم.
ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ الذئاب أعداءٌ طبيعيون للخراف، فاستعارها المسيح للأنبياء الكذبة أعداء قطيعه الروحي. ووصفهم بالخطف لقساوتهم وافتراسهم وخداعهم (٢بطرس ٢: ١ وأعمال ٢٠: ٢٩ ورؤيا ١٦: ١٨.
١٦ «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ ٱلْحَسَكِ تِيناً؟».
متّى ٧: ٢٠ و١٢: ٣٣ ولوقا ٦: ٤٣، ٤٤
مِنْ ثِمَارِهِمْ شبَّه الأنبياء الكذبة بأشجار لا نفع منها. فكأن أحداً سأل: بماذا نعرف الأنبياء الكذبة من الأنبياء الصادقين؟ فقال: من ثمارهم. فالمعلمون يُعرفون من نتائج تعليمهم كما تظهر في حياتهم وحياة تابعيهم. فالدين الذي يعلم الناس أن يعيشوا بالتقوى ويموتوا على الرجاء هو الدين الحق. فالمقياس الذي وصفه المسيح يجب أن يقاس عليه كل تعليم ديني (١تسالونيكي ٥: ١ و١يوحنا ٤: ١). فالناس لا يستدلون على حسن الشجرة بورقها أو قشرها أو زهرها، بل بثمرها. وكذلك يُعرف كل من يدَّعي التقوى بأعماله. والكتاب المقدس هو المقياس الذي نميز به جيد الثمار من رديئها.
هَلْ يَجْتَنُونَ الخ كما أن لكل شجرة ثمراً خاصاً كذلك للخطية نتائج خاصة وللقداسة نتائج خاصة بها. فمن الحماقة أن نتوقع من الأشرار أعمالاً صالحة، ومن الجهل أن نتوقع الأثمار الجيدة من الأشجار الرديئة. فشرائع النعمة توافق الشرائع الطبيعية، لأن الذي وضع الواحدة وضع الأخرى.
١٧ «هٰكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا ٱلشَّجَرَةُ ٱلرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً».
إرميا ١١: ١٩ ومتّى ١٢: ٣٣
هٰكَذَا أي بموجب المبدأ الطبيعي أن النتيجة كالسبب.
كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً الشجرة الجيدة تنتج الثمر الجيد دوماً بالطبع. فإن كان أولئك المعلمون هم كما يدَّعون، لزم أن ينتج منهم ومن أتباعهم إثمار الروح (غلاطية ٥: ٢٢) لأن تلك الأثمار لا تنتج من قلب فاسد.
وَأَمَّا ٱلشَّجَرَةُ ٱلرَّدِيَّةُ أي المعلمون الكاذبون الذين يدَّعون التقوى، فيجب أن يحسبوا أتقياء إذا كانت أعمالهم تغاير تعليمهم، لأن شهادة أعمالهم أصدق من شهادة ألسنتهم.
استعار الكتاب المقدس ثلاثة أنواع من الأثمار لثلاثة أنواع من الأعمال.
(١) الثمر الجيد من شجرة جيدة إشارة للعمل الصالح من القلب الصالح. و
(٢) الثمر الصناعي إذا عُلق على شجرة ميتة إشارة للعمل الديني الطقسي الذي لم ينتج من قلب صالح. و
(٣) الثمر الرديء من الشجرة الرديئة إشارة للعمل الشرير من قلب شرير.
١٨ «لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً».
تكرر المعنى لتأكيد الحقيقة عينها، إلا أنه ذُكر أولاً في طريق الإيجاب وذُكر هنا في طريق النفي.
لاَ تَقْدِرُ أي يستحيل أن تأتي ذلك، وهذا أمر محقق عقلاً لأن النتيجة لا يمكن أن تختلف عن السبب.
١٩ «كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ».
متّى ٣: ١٠ ولوقا ٣: ٩ ويوحنا ١٥: ٢، ٦
تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّار هذه عادة الناس في أنهم يقطعون الأشجار العقيمة ويوقدونها، فاستعار المسيح ذلك يبيِّن القصاص الهائل الذي يجازي الله به المعلمين المرائين الذين يقودون الناس إلى الهلاك. وقد استعمل يوحنا المعمدان مثل هذا الكلام (متّى ٣: ١٠). وأولئك المعلمون يهلكون أنفسهم وأنفس الذين يتبعونهم.
٢٠ «فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ».
فَإِذاً أي أن خلاصة الكلام أن كل شيء يُعرف بإثماره. يُعرف المعلمون الصادقون بصلاح تعليمهم وسيرتهم الطاهرة لا بملابسهم ولا بقِدَم رتبتهم ولا بكثرة تابعيهم ولا بغناهم ولا بعلمهم ولا بسلطانهم ولا بعظمة ادعائهم شرف نسبتهم ولا شدة اعتنائهم بالطقوس ورونق احتفالهم بها (١يوحنا ٤: ١ – ٥) فدين المسيح لا يُخشى أن يُمتحن ذلك الامتحان الذي خلاصته «الشجرة تعرف بثمرها» وهذا ينافي زعم البعض أن الشرير يمكن أن يكون معلماً مفيداً في الدين.
٢١ «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
هوشع ٨: ٢ ومتّى ٢٥: ١١، ١٢ ولوقا ٦: ٤٦ و١٣: ٢٥ وأعمال ١٩: ١٣ ورؤيا ٢: ١٣ ويعقوب ١: ٢٢
ذكر المسيح المعلمين الكذبة وسوء عاقبتهم. ولما كان تلاميذه معرَّضون لمثل ذلك حذرهم من الرياء وخداع أنفسهم الناتج عن الشعور الوقتي لئلا تكون عاقبتهم كعاقبة أولئك (يوحنا ٦: ٦٤، ٧٠).
لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي لا يخلُص كل من يعترف أن المسيح رب وأنه تلميذ له لأن الاعتراف بمجرد اللسان ليس الاعتراف الذي يطلبه الله، فهو يطلب الاعتراف الحقيقي الصادر من القلب (١كورنثوس ١٢: ٣ و١٣: ١).
يَا رَبُّ يَا رَبُّ يكرر اللفظ لزيادة التظاهر في الغيرة الدينية. ولعل بعض الحاضرين ممن عرف المسيح أنهم مراؤون كانوا يكررون هذا اللفظ بعينه. فالمسيح لا يلومهم على هذا الاعتراف لأنه حسنٌ في ذاته، ولكن على أنه ليس مقترناً بالعمل الموافق له.
يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات أي يشترك في مجده وثوابه.
بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ قارن هنا من «يفعل» بمن «يقول» وأراد بذلك أن طاعة التلميذ تبرهن صحة تلمذته. ومعلوم بين الناس أن الإقرار بالصداقة لا يُعد شيئاً ما لم يقترن بالعمل، والوعد بالوفاء، وإلا فلا يكون وفاءً.
«إن أخاك الصِّدق من يجري معك ومن يضرُّ نفسه لينفعك»
وكذلك في الدين فإن أفضل الإقرار وأحسن المواعيد حتى خير المقاصد ليست شيئاً بدون الطاعة الفعلية.
إِرَادَةَ أَبِي لا ينتج من هذه الآية كلها أن أعمالنا الصالحة تخلصنا، لأنها ليست إلا برهاناً على صحة إيماننا. وإرادة الآب تتضمن الإيمان والتوبة، كما أنها تتضمن الطاعة، لأن الله يريد أن الخاطئ يطلب خلاصه بالمسيح. وأشار بقوله «أبي» إلى وحدة طبيعتهما واتفاق إرادتهما.
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ قال ذلك دفعاً للأبوة التناسلية الجسدية.
٢٢ «كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً».
عدد ٢٤: ٤ ويوحنا ١١: ٥١ و١كورنثوس ١٣: ٢
ذكر المسيح في العدد السابق القانون الذي يُجرى عليه في يوم الدين، وزاد هنا أنه ينشأ بالطرد من ملكوته في ذلك اليوم يأسٌ عظيم لكثيرين ممن يُعرَفون الآن أنهم تلاميذه.
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي اليوم الذي يأتي فيه المسيح ملكاً ودياناً (متّى ١٦: ٢٧، ٢٨ و٢٥: ٣١). فيوم الدين يكون يوم خزي وخيبة لكثيرين لأن المسيح سينكر في ذلك اليوم كثيرين مما سموا مسيحيين على الأرض. فهو يوم به تتمزق ستائر المرائين وتظهر ضمائرهم ويتبرر المخلصون.
يَا رَبُّ يَا رَبُّ هذا ما ينطقون به يومئذ إن سُمح لهم بالخطاب، وهذا أفضل طريق لبيان ما لا بد أن يقع من التعجب والخيبة واليأس والعقاب في ذلك اليوم لكثيرين من المعروفين اليوم بأنهم مسيحيون. وتكرار قولهم «يا رب» يدل على اجتهادهم ولجاجتهم وتجديد اعترافهم القديم.
أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ أي ألم يُطلق اسمك علينا؟ ألم نستعمل اسمك حقيقة حين فعلنا المعجزات؟ (متّى ١٠: ٤١ و١٨: ٥، ٢٠ و٢١: ٩ ومرقس ٩: ٣٨).
تَنَبَّأْنَا أي التعليم الديني، فلا ضرورة لتفسيره بالإنباء بأمور مستقبلة، وإن كان يدل على ذلك أحياناً (أعمال ١١: ٢٨ و٢١: ١٠).
شَيَاطِينَ هم أرواح شريرة كانوا ملائكة أطهاراً أُذن لهم بعد السقوط أن يسكنوا بعض الناس ويتسلطوا عليهم نفساً وجسداً، وكان إخراجهم من أقوى البراهين على قوة المسيح وصحة دعواه بأنه نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥) ووهب المسيح هذه القوة لتلاميذه (متّى ١٠: ٨).
قُوَّاتٍ أي معجزات. لا داعي لأن نشك في صحة قولهم هذا، وأن تلك القوة لا توهب للأشرار، فالكتاب يعلمنا أن بلعام كان يتنبأ (عدد ٢٣: ٢٠ – ٢٦ و٢٤: ١٣) ولعل يهوذا الإسخريوطي كان يفعل معجزات كسائر الرسل. ومما يدل على ذلك قول بولس الرسول (١كورنثوس ١٣: ١ – ٣). فإذن أسمى الفصاحة في شرح حقائق الدين المسيحي وأحسن نجاح في إرشاد الناس إلى المسيح ليسا برهاناً في ذاتهما على أن صاحبهما مسيحي.
٢٣ «فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ».
متّى ٢٥: ١٢ ولوقا ١٣: ٢٥، ٢٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ ومزمور ٥: ٥ و٦: ٨ وص ٢٥: ٤١
يُحتمل أن الكلام الآتي هو الكلام الذي يقوله المسيح للمرائين في يوم الدين جواباً على دعواهم الباطلة.
أُصَرِّحُ أي أقول علناً وبالتأكيد.
لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! أي لم أعرفكم المعرفة المقترنة بالمحبة (يوحنا ١٠: ١٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٩). لقد عرفتكم كأشخاص، وسمحت لكم بأن تتظاهروا أنكم تلاميذي، لكني لم أعرفكم كخاصتي، وأنتم لم تعرفوني حقيقة. فالذين يهلكون من المسيحيين بالاسم لم تتجدد قلوبهم حقيقة. ولكنهم خدعوا أنفسهم وغيرهم من الناس. لكنهم لم يخدعوا الله. فالمسيحي بالحق من كان مسيحياً من أول أمره إلى الأبد. قال المسيح عن خرافه «أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي» (يوحنا ١: ٢٩) وقال رسوله «مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا» (١يوحنا ٢: ١٩).
ٱذْهَبُوا عَنِّي القرب من المسيح هو خلاصة أفراح السماء، والبعد عنه هو أشد عقاب جهنم. فقوله «اذهبوا عني» يتضمن علاوة على ذلك أمره بانفصالهم عن تلاميذه بالحق وانضمامهم إلى أعدائه، لأنهم منهم.
يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ فأعمالهم الأثيمة هي علة طردهم ودينونتهم، لأن عصيانهم إثمٌ فعلي. فمهما كان اعترافهم فإن أعمالهم كانت مخالفة لإرادة الله. وهذا الكلام يحذر الإنسان من أن يخدع نفسه، ويبين أن الحصول على أحسن الوسائط لا يكفل خلاص الإنسان. فالمعمودية والاعتراف العلني بالمسيح والمعرفة العقلية وممارسة التعليم حتى فعل المعجزات ليست شيئاً بدون التوبة الحقيقية والإيمان القلبي والطاعة الكاملة.
٢٤ «فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلصَّخْرِ».
ختم المسيح وعظه على الجبل بمثلٍ وجَّهه إلى الذين اكتفوا بما سمعوه من تعليمه دون العمل بما يقتضيه، فبيَّن بذلك أن معرفة الناس واجباتهم بدون القيام بتلك الواجبات تزيد عقابهم شدة. ولا بد أن الحادثة التي ضرب بها المسيح المثل كانوا قد اختبروا مثلها وألفوه.
أَقْوَالِي هٰذِهِ أي كل ما ذكرته في هذا الوعظ وفي تعليمي إجمالاً. فنستنتج من ذلك أن ما سبق كان موعظة واحدة متصلة لا مواعظ كثيرة جمعها متّى وأظهرها واحدةً.
بِرَجُلٍ عَاقِل أي حكيم ينظر في عاقبة الأمور ويلتفت إلى المستقبل.
عَلَى ٱلصَّخْر أي على أساس متين وما يجب أن يُبنى عليه. وهو يقتضي تعباً كثيراً ونفقة وافرة على الحفر للوصول إليه.
ويقصد المسيح ببناء البيت على الصخر سماع أقواله والعمل بها. ومن أمثال ذلك قوله مشيراً إلى نفسه «الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ » (متّى ٢١: ٤٢) وبناءً عليه قال بولس «إِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (١كورنثوس ٣: ١١). فطاعة أقوال المسيح تتضمن أول شيء بناء رجائنا عليه بالإيمان للخلاص.
٢٥ «فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى ٱلصَّخْرِ».
فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ الخ أشار بذلك إلى ما يحدث غالباً في فصل الشتاء، وأراد به امتحان النفس في اليوم الأخير. فإنه كثيراً ما يعبر الكتاب المقدس عن حوادث اليوم الأخير بالأنواء والزوابع.
فَلَمْ يَسْقُط بسبب قوة الأساس المتين وفائدته، لأنه يقي البيت من الخطر في أثناء اضطراب عناصر الطبيعة.
٢٦، ٢٧ «وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلرَّمْلِ. فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!».
لوقا ٦: ٤٧ – ٤٩
ذكر في هذين العددين جهل من يسمع أقواله ولا يعمل بها.
بِرَجُلٍ جَاهِل من لا ينظر في عاقبة الأمر ولا يلتفت إلى المستقبل كمن يبني بيته في الصيف ويحسب أحواله على ضوء سائر الفصول، ولا يحسب للشتاء حساباً من سقوط الأمطار وجري السيول التي لا بد منها.
عَلَى ٱلرَّمْل أي على وجه الأرض اقتصاداً ودفعاً لزيادة التعب، ورغبة في الراحة المؤقتة. والبناء على الرمل هو مجرد قبول الدين عقلاً وممارسة طقوسه الخارجية. فكل من يبني على غير المسيح يبني على الرمل. فمهما كانت مقاصد الإنسان قوية من جهة قداسة حياته فإنها إن كانت غير مقترنة بالإيمان بالمسيح والاتكال عليه فهي كالرمل في تقلباته.
فَسَقَط أي خرب تماماً.
وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً لأنه سقط عند شديد الحاجة إليه وحين لا يمكن تجديده، لأن المياه تجرف مواده. وحكم المسيح بأن هذا السقوط عظيم لأنه قصد به هلاك النفس. فالمراد بالبيت دين الإنسان الذي هو ملجأ نفسه الأبدي. والمراد بالبانيَيْن في هذا المثل: الذي يسمع ويعمل، والذي يسمع ولا يعمل، وهما يتفقان في ثلاثة أمور ويختلفان في ثلاثة:
وجوه الاتفاق:
(١) أن كلاً منهما بنى بيتاً. والمعنى أن كليهما متدينان يشعران بحاجة النفس إلى ملجأ، وبذلا عنايتهما لأجل سد هذه الحاجة. و
(٢) أن كليهما تمم عمله كما اختار. و
(٣) أن كليهما جازا بالامتحانات التي لا بد من وقوعها.
وجوه الاختلاف:
(١) أن أحدهما بنى بيته على أساس متين، والآخر على أساس واهن، أو على غير أساس.
(٢) أنه عند الامتحان ثبت بيت الواحد وسقط بيت الآخر.
(٣) أن الواحد فرح فرحاً عظيماً بعمله، والآخر حزن حزناً أبدياً.
٢٨، ٢٩ «٢٨ فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، ٢٩ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ».
متّى ١٣: ٥٤ ومرقس ١: ٢٢ و٦: ٢ ولوقا ٤: ٣٢ ويوحنا ٧: ٤٦
ذكر البشير في هذين العددين تأثير موعظة المسيح بعد أن أُكملت. ويظهر من قوله أنها موعظة واحدة لا مجموعة مواعظ.
بُهِتَتِ أي تعجبت الجموع من هذا التعليم الجديد وأسلوب بيانه. ولا زال الناس إلى الآن يعجبون من حسن هذا التعليم السماوي. والحق أن تلك الموعظة أبلغ وأفيد من كل مواعظ العالم. فعلى من ينكر لاهوت المسيح أن يبين من أين تعلم نجار الناصرة هذا التعليم.
ٱلْجُمُوعُ هي التي ذُكرت في متّى ٤: ٢٥، ٥: ١.
كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ ليس مثل مفسر الشريعة بل مثل واضعها، أي المشترع الأصلي. وأظهر سلطانه في قوة كلامه على إقناع العقول وإيقاظ الضمائر ليثبت صدق أقواله. فأسند تعليمه على شريعة الله المكتوبة على قلوبهم، وقد رافق الروح القدس ذلك التعليم فجعله ذا سلطان.
وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ أي معلميهم الدينيين، وهم خلفاء عزرا الكاتب (عزرا ٨: ٦) وحفظة الكتب المقدسة ومفسروها (انظر متّى ٢٣: ٢ – ٤ ومرقس ١٢: ٣٥ ولوقا ١١: ٥٢). وكانوا في ذلك الوقت يلتفتون إلى الوصايا الصغرى ويغفلون عن الكبرى (متّى ٢٣: ١٨ – ٢٢) وأسندوا أقوالهم إلى تقاليد الشيوخ (متّى ١٥: ٩). أما المسيح فأسند تعاليمه إلى السلطان الذي قبله من الله بقوله «الحق الحق أقول لكم». وكان تعليمه يخالف تعاليمهم في أنه كان في مبادئ الدين الجوهرية. وقد تكلم كنبي وكملك ورئيس الملكوت الجديد.
السابق |
التالي |