إنجيل متى | 06 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح السادس
١ «اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
تثنية ٢٤: ١٣ ومزمور ١١٢: ٩ ودانيال ٤: ٢٧ و٢كورنثوس ٩: ٩، ١٠
قارن المسيح في الأصحاح السابق البر الحقيقي ببر الكتبة والفريسيين من جهة بعض المبادئ الأخلاقية العظيمة، وأخذ هنا في مقارنة كيفية عبادتهم بكيفية العبادة التي يطلبها الله من جهة الصدقة والصلاة والصوم.
اِحْتَرِزُوا إشارة إلى وجود خطر الضلال من سوء تعليم الكتبة والفريسيين وعملهم، وإلى ضرورة إجراء أعمال العبادة حسب العادة. فالخطية التي يحذر تلاميذه منها هي الرياء الذي يدنس أخلاق الإنسان، ويهلك نفسه. ومحبة المدح من الناس تدخل القلب خفية، وتوقع الإنسان في خطر شديد، فتصير أول غايات حياته، وهو لا يشعر بذلك.
قُدَّامَ ٱلنَّاسِ بغية أن يروا صدقتكم ويمدحوكم عليها. لأنه يجب أن لا نعمل شيئاً من أعمالنا الدينية لننال مجداً من الناس. نعم قد يحدث أنهم يرونها صدفةً، أو أنها تُصنع أمامهم عمداً (متّى ٥: ١٦). ولكن لا يجوز أن يكون قصدنا أن نريهم ما نعمله.
وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ هذا نتيجة قوله «احترزوا» لأنه لا ينتظر بركة إلهية ولا مجازاة من الله ولا خير للنفس من العبادة التي غايتها المدح من الناس والتباهي.
عِنْدَ أَبِيكُم أعني في قصده. فلا شيء مكنوز عنده لكم. لأن غاية هذه العبادة ليست إكرامه. فلا يُعتبر من يقدمها مستحقاً شيئاً من ذلك.
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَات تمييزاً عن الوالدين البشريين.
٢ «فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ. ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ».
فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً صُنع الصدقات واجب على كل إنسان يقول إنه يعبد الله.
فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ ليس المقصود أن الفريسيين كانوا يصوتون ببوق حقيقة عندما كانوا يوزعون إحساناتهم، بل أراد توبيخهم على خطية إعطاء الصدقة بقصد الافتخار والتظاهر بالكرم. فكأنه قال: لا تعطِ صدقة وأنت كقائد جيش ذاهب للحرب، أو كملك أمام شعبه يتقدمه بوق ينبِّه الناس إليه.
ٱلْمُرَاؤُونَ المدَّعون بفضيلة ليست فيهم، والمتظاهرون بخلاف ما في قلوبهم، كأن صنيعهم ناتج عن محبة الفقير، ولا أثر للمحبة فيهم. ولا شك أن المسيح أراد بكلامه هذا الكتبة والفريسيين وإن لم يذكر اسمهم. ولا بد أن السامعين عرفوا أن هذا اللقب يصدق عليهم.
فِي ٱلْمَجَامِعِ أماكن العبادة (انظر الشرح متّى ٤: ٢٣) حيث تكثر الشهود الذين ينظرون تقواهم الظاهرة.
وَفِي ٱلأَزِقَّةِ حيث يكثر الناس فتكون الفرصة مناسبة لإظهار كرمهم. ففي الموضعين (المجمع أو الزقاق) يجتمع الناس للعبادة أو للأعمال، علينا أن ننتبه فلا نكن مرائين.
لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ ليتعجب الناس منهم ويمدحوا سخاءهم. فهذه الغاية الفاسدة المقصودة بصدقتهم جعلتها بلا فائدة عند الله ومكروهة في عينيه.
قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ نالوا كل ما يمكن أن ينالوه، وليس لهم حق أن ينتظروا شيئاً بعد، لأن أجرهم مجد الناس الزائل. طلبوه فلا يأخذون غيره. وبما أنهم لم يطلبوا المجد الذي من الله وحده لم يمنحهم إياه.
وفي هذا العدد والعدد ٥، ٢٣، ٢٩، ٣٦، ٣٩ يستعمل المسيح صيغة المفرد بدلاً من صيغة الجمع ليوجه كلامه إلى كل فرد.
٣ «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ».
فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُك مَثَلٌ يُضرب في إخفاء أمر. ولا يمكن أن نتصور كتمان سر أشد من هذا، وهو أن عضواً من أعضاء الإنسان لا يشعر بحركة غيره من الأعضاء. ويستعمل المسيح هذا المثل ليشير إلى وجوب اجتناب الشهرة في ممارسة واجباتنا الدينية، وليس لينهى المسيحي عن أن يشترك علانية في فعل الخير عندما يكون قصده أن يجعل نوره يضيء قدام الناس، ليتمجد الله. ولا لينهى عن طبع عطايا الجمعيات الخيرية في الجرائد. إنما ينهى عن التباهي بتلك الواجبات بقصد نوال المجد من الناس، وعن لذة الفخر بما فعلناه من الصدقة بقصد نوال المدح الذاتي. فيجب أن نجتهد في أن ننسى ذلك كما نسيه الصالحون الذين ذكرهم بقوله «فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟» (متّى ٢٥: ٣٧).
٤ «لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».
لوقا ١٤: ١٤
لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ فتتميز عن صدقة الكتبة والفريسيين. فاصنعها لله طوعاً لأمره لترضيه وتنال بركته.
فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يرى ما صُنع في الخفاء كما يرى ما صُنع جهاراً. فيجب أن نتذكر في كل خدمة دينية أن الله يفحص القلب ويعلم كل شيء ويعرف غاياتنا في كل أعمالنا. وهو لا ينظر إلى مكانة المعطي بل إلى روحه. فليست الفضيلة بالعمل الخارجي، بل بالدافع وراء هذا العمل. فالله ينظر إلى أعمالنا الصالحة بقدر ما نخفيها عن الناس.
يُجَازِيك (تكوين ١٥: ١ وعبرانيين ١١: ٦). يجازي الله على فعل الخير وإنكار الذات في إخفاء العمل عن نظر الناس وعن مدحهم. على أن أفضل أعمالنا لا تستحق المجازاة. لكن الله في رحمته وتنازله يرضى أن يجازينا عليها، فتكون المجازاة من النعمة لا من الاستحقاق.
عَلاَنِيَةً أي يوم الدين أمام الملائكة والناس، إن لم يكن قبل ذلك، لأنه أحياناً يجازي في هذه الحياة بمنحه النجاح في الأمور الدنيوية فإنه «مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أمثال ١٩: ١٧) وهو يجازي العبد الصالح دائماً بأن يجعل ضميره يمدحه.
ملحوظة: في بعض النسخ لا توجد كلمة «علانية». وربما زيدت ليكسب الكلام قوة أكثر.
٥ «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ».
وَمَتَى صَلَّيْتَ لم يأمر المسيح بالصلاة هنا، بل حسب ذلك أمراً مسلماً به عند تلاميذه، ليس طاعةً لأمره الصريح، ولا لأن الصلاة واسطة لازمة للنمو الروحي، بل كأمر ينتج من حياة النفس الجديدة، كالتنفس من الحياة العادية. وجعل قانون الصدقة المذكور آنفاً قانوناً للصلاة أيضاً. أي أننا نقصد بها أن يسمعنا الله لا الناس. ومن صلى بخلاف هذا القانون يُظهر إنه مراءٍ يتظاهر بأنه يعبد الله بغية رضاه، وغايته بالحقيقة هي مدح الناس.
فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ ينهى المسيح تلاميذه عن أن يشابهوا المرائين أو الكتبة والفريسيين، وينتظر منهم أن لا يشابهوهم.
فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ أي أنهم يسرون بالمجاهرة في الصلاة أمام الناس. وقول المسيح هذا يتضمن أنهم لا يمارسون الصلاة الانفرادية البتة، ولا يحبون الصلاة إلا لأنها واسطة تظاهرهم بالتقوى أمام الناس.
فِي ٱلْمَجَامِع لا يذكرها المسيح كأنها ليست أماكن موافقة للعبادة، فإنها بُنيَت لهذه الغاية، بل لأنهم قصدوها لتراهم الجموع هناك، لا ليعبدوا الله فيها.
فِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ لأنها أكثر مناسبة للاشتهار. فالذين يختارون مثل هذه الأماكن للصلاة يظهرون أن غايتهم مدح الناس لا رضى الله. وقوله «قائمين» لا يدل على زيادة الرياء، لأن الوقوف كان من عادة اليهود وهم يصلون. وأمر واضح أن المسيح لا ينتقد هيئة الساجدين، ولا مكان الصلاة، بل روح الساجدين في هذه الأماكن وغايتهم.
لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاس يعبدون الله ليُخبروا الآخرين بعبادتهم، فيمدحهم الناس. وهذا كل همهم بدلاً من أن يسعوا لرضا الله عنهم.
٦ «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».
ملاخي ٤: ٣٣
فَمَتَى صَلَّيْت يبين المسيح لنا الطريق التي بها يقدم المسيحي الحقيقي الصلاة المقبولة.
فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ بدلاً من الصلاة قدام الناس لينظروك ادخُل إلى موضع الانفراد. «مخدعك» أي المكان المختص بك أو تحت مطلق تصرفك. فالصلاة على انفراد تعين الإنسان على ضبط أفكاره، وتمكنه من التعبير عنها.
وَأَغْلِقْ بَابَكَ ليس المقصود أن هذه الأعمال الخارجية ضرورية للصلاة المقبولة، بل المقصود هو الانفراد التام. فالغاية من غلق الباب منع دخول العالم إلى أفكارنا. وخلاصة الأمر وغايته هو أن نجتمع مع الله وحدنا فيمكن أن يكون ذلك في الحقل كما صلى إسحاق (تكوين ٢٤: ٦٣) أو تحت تينة كصلاة نثنائيل (يوحنا ١: ٥٠) أو على السطح كصلاة بطرس (أعمال ١٤: ٩) أو على الجبل كما فعل المسيح (مرقس ٢: ٤٦ ويوحنا ٦: ٥) أو في جثسيماني (لوقا ٢٢: ٤١). وأما ما جاء في لوقا ١٨: ١٠ فيظهر فيه أن الهيكل للفريسي كزوايا الشوارع، وللعشار كمخدعه.
وجود مكان معين للانفراد في الصلاة يساعدنا كثيراً على تقديم صلواتنا بالصواب.
وَصَلِّ إِلَى أَبِيك ليسمع صلاتك لا ليراك الناس.
فِي ٱلْخَفَاءِ أي في السر فلا يراك أحد من الناس.
فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يظهر من هذه الكلمات أن المسيح يتكلم عن الصلاة الانفرادية لا العائلية والجمهورية اللتين لا بد منهما، وقد أمر بهما. يرى الله ما لا يقدر أن يراه الإنسان. يرى غايات الإنسان الحقيقية في الصلاة وأشواق قلبه.
يُجَازِيك الجزاء (كما في ع ٤) نعمة لا استحقاق. وهو قبول الصلاة ونوال الطلب إن كان يؤول إلى مجد الله وخيرنا.
عَلاَنِيَة أي أمام الناس في العالم، وأمام الملائكة والناس في العالم الآتي.
لا يذكر المسيح عدد المرات التي يجب أن يصليها تلاميذه كل يوم، لئلا تصير عبادتهم طقسية، بل ترك ذلك بدون تعيين لتكون صلواتهم اختيارية ناتجة عن محبتهم له وشعورهم باحتياجهم إليه. ولم يأمرنا بإطالة الصلاة. فيجب أن يكون طولها وقصرها حسب مقتضى الحال، والاحتياج، والشعور، والواجبات.
٧ «وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَـهُمْ».
جامعة ٥: ٣ و١ملوك ١٨: ٦٦ و٣٩ وأمثال ١٠: ١٩ وجامعة ١٠: ١٤
بعدما حذر المسيح تلاميذه من ضلال الكتبة والفريسيين في الصلاة، معلناً لهم وجوب أن تقدم لله لا لمدح الناس، يحذرهم من العادات الوثنية في الصلاة الباطلة. ولعله نقله الكلام من المفرد إلى الجمع لأنه قصد أن يتكلم عن الصلاة الجمهورية، لأنه كان يشير به إلى الصلاة الانفرادية.
لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَم في الكتاب المقدس مثلان من عادة الأمم في تكرير الصلاة: (١) ١ملوك ١٨: ٢٦ حيث صرخ كهنة البعل من الصبح إلى الظهر قائلين «يا بعل اسمع! يا بعل اسمع!». و(٢) أعمال ١٩: ٣٤ حيث صرخ الأفسسيون عبدة أرطاميس مدة ساعتين «عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين». فقد تمثل معلمو اليهود بالوثنيين حتى قيل إنهم اعتادوا أن يقف الواحد منهم ثلاث ساعات متوالية كل يوم يصلي مكرراً طلباته أكثر الوقت.
بَاطِلاً لا يلوم المسيح التكرار، بل التكرار الباطل، أي الكلمات التي تقال تكراراً وبلا فكر. فيجوز لنا أن نكرر طلباتنا إن فعلنا ذلك من غيرتنا في الصلاة ولجاجتنا بالاحترام. ومثال ذلك في صلاة المسيح في جثسيماني وصلاة الأرملة (لوقا ١٩: ١ – ٨) والكنيسة لأجل بطرس (أعمال ١٢: ٥).
لم ينه المسيح عن كثرة الصلاة بل عن كثرة الكلام، فإنه هو عينه قضى الليل كله في الصلاة. فلا ننتظر إجابة صلواتنا بداعي طولها وكثرة كلامها، لأنه مهما كانت جيدة بذاتها ان قُدمت بلا فكر وبلا شوق فليست إلا تكريراً باطلاً.
إِنَّهُمْ يَظُنُّون بُنيت هذه العادة الفاسدة على زعم الناس أن الصلاة طلسم سحري، لا خدمة القلب العقلية، وأنها بحد ذاتها تنفع من يقدمها، ولا سيما إذا كُررت. فدخلت هذه الضلالة في الكنيسة المسيحية في القرون الأولى، كأن غاية الصلاة تغيير أفكار الله، أو إخباره بشيء يجهله.
٨ «فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ».
فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ لأن تكرار الكلمات في الصلاة عادة وثنية مبنية على أوهام.
لأَنَّ أَبَاكُمْ يذكرهم المسيح بعلاقتهم البنوية بالله، فهو يحبهم ويشفق عليهم ويطلب خيرهم كوالد، لأنه «كما يترأف الآب على البنين يترأف الرب على خائفيه» (مزمور ١٠٣: ١٣).
يَعْلَمُ نتجت تلك العادة الباطلة من زعمهم أن الله لا يعلم احتياجاتنا إلا بواسطة تكرار طلباتنا دائماً. فليس للمسيحي حجة الوثني الذي جهل أن الله بكل شيء عليم، لأنه أعلن للمسيحي أنه يعرف كل شيء وأنه «قَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ» (أفسس ٣: ٢٠).
قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ إن كانت غاية صلاتنا أن نخبره بما يجهله فلا حاجة إليها، ولا حاجة إلى تكرارها مرات عديدة لهذه الغاية. ولم يقصد المسيح هنا أن يعلمنا كل شيء يتعلق بالصلاة، لأن ذلك موضَّح في أماكن أخرى من الكتاب المقدس، وإنما قصد أن يحذرنا من الضلالة في الصلاة.
وما أعظم التعزية من أن الله يعلم احتياجاتنا أحسن ما نعبر عنها بطلباتنا الضعيفة. ولكن معرفة الله بها لا تغني عن الصلاة. لأن الشرط لنوال أكثر بركاتنا هو أن نطلبها. قال المسيح «إن أباكم يعلم احتياجاتكم قبل أن تصلوا» ولم يقل «انه يمنحكم ما تحتاجون إليه بدون أن تصلوا». فنصلي عبادةً لله، لا لنخبره بأشياء لأنه هو يعلم كل شيء.
بُنيت مواعيد الله على شرط أن نسألها . فطلباتنا تظهر شعورنا باحتياجاتنا وثقتنا به، ولذلك يسرُّ الله بها (حزقيال ٣٦: ٣٧) وهي تؤهلنا لقبول البركة، فبناءً عليه هي لائقة بالله ولازمة لنا. ولنا أدلة على أنها شرط لنوال البركة (انظر متّى ١٨: ١٩ و٢١: ٢٢ ولوقا ١١: ١٣ ويوحنا ١٤: ١٣ وعبرانيين ٤: ١٦).
٩ «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هٰكَذَا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ».
لوقا ١١: ٢ الخ
لم يكتف المسيح بتحذيرنا من الضلالات في الصلاة، فقدَّم لنا مثالاً للصلاة مختصراً بسيطاً شاملاً موافقاً بدء ملكوته الجديد، ليقينا سائر الضلالات في ذلك. ولهذا لم يذكر فيه نفسه أو عمله الخاص. ويجب أن نعتبر هذا المثال وهو «الصلاة الربانية» نموذجاً في تقديم صلواتنا، لا قانوناً مرتباً للصلاة لنستعمله في كل الأحوال والأوقات. ولم يُذكر أن المسيح نفسه استعملها، ولم نقف في أعمال الرسل والرسائل على أدنى إشارة إليها كأنها قانون استعماله ضروري في العبادة. فالمسيح علمنا كيف نصلي، ولم يعلمنا ماذا نصلي. نعم إن استعمالها أمر لائق بنا ونافع لنا كثيراً في عبادتنا انفرادية والجمهورية، ولكن لسنا مقيدين بذلك.
أعطانا الرب صورة الصلاة هذه علامة لاستجابته لها، لأن الملك الذي يعطي رعاياه صورة ما يقبله يُظهر بذلك استعداده لإجابة ما يلتمسون بها.
وتشتمل هذه الصلاة على مقدمة وست طلبات وخاتمة. فالطلبات الثلاث الأولى تختص بالله، باسمه وملكوته ومشيئته. والثلاث الأخيرة بما نحتاج إليه نحن من الخبز اليومي، ومغفرة الخطايا، والحماية من التجربة والشر.
أَبَانَا تعلمنا هذه الكلمة لمن وحده يجب أن تكون الصلاة، وبأي علاقة نقترب إليه. وقد تسمى الله بهذا الاسم في العهد القديم (إشعياء ١: ٢ و٦٣: ١٦ وملاخي ١: ٦) ولكنه لم يُعلم تمام العلم كأب إلا بعد مجيء المسيح. فالله أبٌ لجميع الناس، بمعنى أنه خالقهم وحافظهم ينعم عليهم ويريد خيرهم، لكنه أب روحي بمعنى خاص للمؤمنين الذين دخلوا في البنوة له بواسطة إيمانهم (كولوسي ١: ٢٠ – ٢٢) فمحبته لهم محبة خاصة (رومية ٨: ١٤ وغلاطية ٣: ١٦ و١يوحنا ٣: ١).
فتعليم أبوة الله من أمجاد الإنجيل والديانة المسيحية، ولا أثر له إلا في الكتاب المقدس والكتب المبنية عليه، وقد أوضحه المسيح توضيحاً لم يعهده بشر قبل تعليمه.
ولنا في ذلك جراءة على أن نقترب إليه بالصلاة، وتأكيد أنه قادر ومستعد أن يعيننا. ومن قوله «أبانا» لا «أبي» نستنتج أنه يجب علينا أن نذكر غيرنا في صلواتنا، سواء صلينا معهم أم كنا منفردين. ويعلمنا أيضاً علاقتنا بإخوتنا المؤمنين، فنحن وإياهم أعضاء متحدون في المسيح، نكوِّن جسداً واحداً وعائلة واحدة. ويجب على كل مؤمن أن يشارك الكل في الأحزان والأفراح. وليس لأحدٍ حق دون غيره أن يدعو الله أباه، ولكن سُمح له أن يستعمل هذا الاسم كما يستعمله غيره من إخوته، نعمةً من الله.
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ مسكن الملائكة والقديسين حيث يُظهر الله حضوره ومجده بأكثر وضوح. وكنيته «أبانا» تقربنا إليه وتحقق لنا عنايته ومحبته. وقوله «في السماوات» يرقي شأنه في أفكارنا ويجعله موقراً عندنا. وبهذا الفرق العظيم بين الأبوة الإلهية والأبوة البشرية، فإنه ليس كوالد أرضي ضعيف ومحتاج. وهذا القول يصرف أفكارنا عن الدنيا والأمور الأرضية في الصلاة إلى السماء، ويذكرنا أن هناك أبانا ووطننا وميراثنا.
يعلمنا الكتاب أن الله في كل مكان، وأنه يملأ الكون (مزمور ١٣٩: ٧ – ١٠) ومع ذلك يعبر عنه كملك عظيم كرسي مجده في السماء، وذلك ليبيِّنه إلهاً حقيقي الوجود. ووصف الله بالآب يختلف مع أفكار الوثنيين الذين آلهتهم مصنوعة من الخشب والحجر وموضوعة أمامهم، ويختلف مع أفكار الباطنيين القائلين إن الله مجرد روح الكون.
لِيَتَقَدَّسِ هذه هي الطلبة الأولى، ومعناها ليُعتبر قدوساً، ويعرفه الجميع موقراً ومرتفعاً فوق كل خلائقه.
وبدء هذه الصلاة (التي هي قاعدة كل صلواتنا) بالطلبة التي مآلها أن يتمجد الله يعلمنا أن ذلك هو الغاية العظيمة التي يجب أن نطلبها أولاً في صلواتنا، لأن كل ما يختص بنا ثانوي. ولكننا في وقت الضعف والاحتياج نسرع إلى الطلبات الشخصية أولاً.
ٱسْمُكَ رأى البعض هذا إشارة إلى مجرد اسمه «يهوه» الدال على كونه أزلياً واجب الوجود، وأنه قد دخل في عهدٍ مع الإنسان. وفهم آخرون بالاسم كل ما يعلن به الله ذاته. وقال آخرون إن معناه الله ذاته، أو صفاته كما هي معلومة عندنا بواسطة خليقته وكلامه. ومهما كان معناه فهو لا يتمجد على الأرض إلا بواسطة المسيح.
وفي هذه الطلبة نسأل أن يعرف الناس في كل مكان الإله الحقيقي، وكل صفاته المجيدة، ويعبدوه حق العبادة ويمجدوه حق المجد. وهذا كان موضوع صلوات المسيح بدليل قوله «أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!» (يوحنا ١٢: ٢٨). ويمكننا أن نقدس اسم الله بقلوبنا وشفاهنا وتصرفنا.
١٠ «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ».
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ هذه الطلبة الثانية. والمقصود بالملكوت ملكوت المسيح، ملكوت النعمة الذي نادى المخلص بأنه قد اقترب ولكنه لم يصل بعد. قد أتى بعض الإتيان إذ أخذ محل النظام الموسوي نظام الرموز والإشارات، ولم يأت تماماً بانتصاره على ملكوت الظلمة وملاشاته إياه. وقد أُجيبت هذه الطلبة في كل عصر نجح فيه الإنجيل وغلب أهل الضلال. وستُجاب تماماً عندما يأتي الملك يسوع ثانيةً. فتتضمن خيرات خاصة وخيرات عامة، لأن خير العالم متعلق بمجيء ملكوت المسيح. ومن أول واجباتنا أن نرغب في تقدم هذا الملكوت في العالم، ونصلي ونتعب لأجل ذلك.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ أي مشيئة الله كما هي معلنة في أوامره وأعمال عنايته، وهذه الطلبة تعلمنا أن يكون خضوعنا لمشيئة الله اختيارياً وبسرور. وهذا يتضمن فقط الخضوع فعلاً لمشيئة الله، وميل نفوسنا إلى إتمام مشيئته لا مشيئتنا. فمشيئته المعلنة في أوامره يجب أن تكون دستور أعمال كل خلائقه.
وفي هذه الطلبة نسأل الله أن يقدرنا نحن وجميع الناس أن نعمل كل ما يريده ويأمر به، وأن الجميع يعرفون تلك المشيئة ويقبلونها ويطيعونها بلا ريب أو تذمر. وإنما يطلب المسيحيون هذه الطلبة لأنهم تيقنوا أن مشيئته عادلة ومحبة. فلتكن مشيئة الله، لا مشيئة الشيطان (يوحنا ٨: ٤٤) ولا مشيئة الناس (١بطرس ٤: ٢).
كَمَا فِي ٱلسَّمَاء كما هي عند سكان السماء الملائكة الأطهار. فإذا تممت مشيئة الله كما في السماء صارت الأرض كالسماء. فتعلمنا هذه العبارة أن يجب أن لا نكتفي بأن نتمم واجباتنا كما يتممها بقية الناس، بل أن نتممها كل التتميم كالملائكة في السماء، بالطاعة السريعة والسرور.
كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْض أي عند سكان الأرض، بتركهم الخطية، وطاعتهم لأوامر الله بنفي الظلم والسرقة والكذب والقتل والسكر والنجاسة ومحبة الذات والبغض، وإدخال البر والسلام والحق والرحمة والمحبة إليها.
١١ «خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ».
أيوب ٢٣: ١٢ ومزمور ١٠٤: ١٧، ٢٨ وأمثال ٣٠: ٨
خُبْزَنَا كَفَافَنَا هذا هي الطلبة الرابعة، وهي بدء القسم الثاني الذي فيه نطلب البركات لذواتنا. والمقصود بها سد احتياجاتنا الجسدية، لأن الخبز قوام الحياة. والمقصود «بخبزنا كفافنا» ما يكفينا لأجل قوت أجسادنا.
ولأن الخبز من ألزم المواد التي يتألف منها طعامنا، عبَّر به عن كل لوازم أجسادنا، فهي تعبر عن احتياجاتنا، وتعلمنا أنه يجب أن نطلب كفافنا من الخيرات الجسدية، أي الضروري لنا. ولا نهتم بلذات الجسد وفخر هذه الحياة (١تيموثاوس ٦: ٨) فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما.
فهذه طلبة الحاجات الجسدية الضرورية كلها، فالخبز عبارة عن الكل. ولو كان القصد من الطلبة الخبز الروحاني لأُضيف إليها كل ما يدل على ذلك (كما في يوحنا ٦: ٢٧ – ٥٨) فإنه يُسمى هناك «خبز السماء» و «الخبز الحقيقي» و «خبز الحياة». ولكن ذكر احتياجات أجسادنا يقودنا طبعاً إلى أن نفتكر باحتياجات نفوسنا أيضاً ونصلي لأجلها.
وفي تقديم هذه الطلبة إقرار باتكالنا على الله في كل شيء، فهو يجعل تعبنا مثمراً وعملنا ناجحاً ويمنحنا أصدقاء لإعانتنا، ويعطينا القوة والحكمة والصحة التي بها نقدر أن نحصل على خيرات هذه الحياة ونتمتع بها.
ٱلْيَوْم أي قدر ما نحتاج إليه يوماً بعد يوم، مكتفين بالقوت اليومي، تاركين المستقبل في يد الله. فعلينا أن نصلي كل يوم شاعرين على الدوام باحتياجنا إلى الله وبالشكر له، قابلين كل بركاته كأنها من يده ليدنا، وكالمن الذي سقط من السماء كل يوم. وتنهى هذه الطلبة عن الاهتمام الزائد بالمستقبل واشتهاء الترف لأنه لا يمنحه الله لنا.
١٢ «وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا».
متّى ١٨: ٢١ الخ
ٱغْفِرْ هذه هي الطلبة الخامسة، وهي طلبة أعظم وألزم البركات الروحية. وتدل المغفرة على إزالة الخطية من قلب المسيء وقلب المُساء إليه. والرمز لذلك في العهد القديم إطلاق تيس عزازيل في البرية (لاويين ١٦: ٢١، ٢٢). فكأننا نطلب إلى الله بها أن لا يعاقبنا على خطايانا، ولا يسمح بأن تلحقنا نتائجها وكل ثقتنا بإجابتها مبنية على عمل المسيح وآلامه.
ذُنُوبَنَا خطايانا الكثيرة العظيمة ديون علينا نعجز عن أن نوفيها. والعدل صارخ إلى الله يطلب عقابنا. وقد أمرنا المسيح بتقديم هذه الطلبة مع أنه يعرف أن مغفرة الخطية لا تكون إلا بطاعته وموته.
ويجب علينا جميعاً أن نقدم هذه الطلبة لأن فيها اعترافاً بالخطايا، وإقراراً باحتياجنا إلى الغفران. ونحن جميعنا خطاة محتاجون دائماً إلى ذلك. فينبغي أن نطلب كل يوم كما نطلب احتياجاتنا الجسدية كذلك.
وخطايا المؤمن وإن كانت بسيطة، لا يجوز التغاضي عنها، وإلا أصبحت خطراً جسيماً. ونحتاج إلى الغفران بسبب تعدياتنا على شريعة الله، وبسبب قصورنا عن إتمام واجباتنا له ولعبيده.
كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ الخ لا على قدر ما نغفر، ولكن على مثاله. وليس لأن مغفرتنا للآخرين تجعلنا مستحقي المغفرة من الله، بل لأن إرادته أن الذين يلتمسونها يجب أن يكونوا مستعدين أن يمنحوها.
ومن الواضح أنه ليس من باب اللياقة أن نطلب لذواتنا ما نرفض أن نمنحه غيرنا، ولا سيما حين تكون خطايانا إلى الله أعظم جداً من كل الخطايا التي يمكن الناس أن يخطئوا بها إلينا. فيجب علينا أن نرحم إخوتنا الذين أغاظونا كما نريد أن يرحمنا الله ونحن خاطئون إليه.
ومغفرتنا لمن أساءوا إلينا لا ترفع خطيتهم عنهم، ولكنها تزيل من قلوبنا الغضب والحقد وروح الانتقام منهم، وتبعدنا عن أن نعاقبهم.
١٣ « وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».
متّى ٢٦: ٤١ ولوقا ٢٢: ٤٠، ٤٦ و١كورنثوس ١٠: ١٣ ويعقوب ١: ١٣ و٢بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٣: ١٠ ويوحنا ١٧: ١٥ و١أخبار ٢٩: ١١
هذه الطلبة السادسة، وهي طلبة الحماية من الخطية في المستقبل ومن نتائجها.
لاَ تُدْخِلْنَا أي لا تسمح أن نقع في التجربة، أو لا تسمح أن يقودنا إليها الناس أو الشيطان، أو لا تدعنا في أحوال فيها فرص للخطية أو مهيجات إليها. وإذا وقعنا في أحوال كهذه فأعطنا نعمة لنقاوم التجربة ونغلبها. وتتضمن أيضاً أن يحفظنا الله من ميول قلوبنا الشريرة التي تجعلنا معرضين للسقوط في التجربة ومن الفخاخ التي ينصبها إبليس ليصطاد بها نفوسنا.
تَجْرِبَةٍ هي امتحان أخلاقي للإنسان عندما يُعرض عليه أن يختار بين الخطية والطاعة. فليست مجرد مصائب وضيقات، بل مصائب تقترن بها فرصة وخطر الوقوع في الخطية. وقد تعني في لغة العامة «الإغراء بالخطية». ولكن ذلك مستحيل في جانب الله «لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا (بالشرور)» (يعقوب ١: ١٣). لكن امتحان الله لطاعتنا أمرٌ محتمل، فإنه امتحن إبراهيم (تكوين ٢٢: ١).
لٰكِنْ نَجِّنَا أي انتشلنا من الشر، ولا تتركنا نقاومه وحدنا، واجعلنا نجتنب كل ما يقود إلى الخطية من الناس وغيرهم.
فمن يقدم هذه الطلبة من القلب يبتعد عن التجربة، لأنه يكون ساهراً مصلياً.
ٱلشِّرِّيرِ أي الشيطان الذي هو أصل الخطية ومجرب الإنسان. وتتضمن هذه الطلبة أن الله قادرٌ أن يحفظنا من تجارب الشيطان، ومستعد لذلك إن سألناه.
لأَنَّ هذه بداءة الخاتمة وفيها سبب الصلاة كلها أو سبب تقديمه لله.
لَكَ ٱلْمُلْكَ أي لك الحق بهذا المُلك، ولك السلطة المطلقة على العالم الطبيعي والروحي.
وَٱلْقُوَّةَ أي القوة لتستجيب هذه الطلبات. إننا ضعفاء وأما أنت فغير محدود القوة. وفي هذا شعور بقدرة الله، يقوي إيماننا في الصلاة.
ٱلْمَجْدَ نطلب هذه الأشياء ليس لأجل مجدنا، بل من أجل مجدك الذي طلبناه في الطلبة الأولى، والذي يحق لك وحدك. وكل المجد الناتج عن إجابة صلواتنا هو لك لا لسواك.
ٱلأَبَدِ زمان بلا نهاية.
آمِين ليكن هكذا. أي كذا نحب ونرجو ونصلي أن يكون. واستعمال الجمهور إياها عندما يصلي أحد جهاراً نيابة عنهم يشير إلى اشتراكهم في الطلبات التي قد تقدمت. فيجب أن تكون الصلاة في لغة يفهمها العامة «وَإِلاَّ فَإِنْ بَارَكْتَ بِالرُّوحِ، فَالَّذِي يُشْغِلُ مَكَانَ الْعَامِّيِّ، كَيْفَ يَقُولُ «آمِينَ» عِنْدَ شُكْرِكَ؟ لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ مَاذَا تَقُولُ!» (١كورنثوس ١٤: ١٦).
١٤، ١٥ «١٤ فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ. ١٥ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ».
مرقس ١١: ٢٥، ٢٦ وأفسس ٤: ٣٢ وكولوسي ٣: ١٣ ومتّى ١٨: ٣٥ ويعقوب ٢: ١٣
إن غفرتم: هذان العددان شرح لما قيل في الطلبة الخامسة (ع ١٢) ويعلماننا أحد الاستعدادات الضرورية للصلاة المقبولة، ومنها التوبة والإيمان. فروح المغفرة للآخرين اقتداءً بالمسيح هو عربون المغفرة منه. نعم إن هذا لا يخلِّص، لكنه علامة تجديد القلب.
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أي إن وُجدت في الإنسان كل الفضائل ولم يكن فيه روح المغفرة، فجميع تلك الفضائل لا تكفي أن تجعل صلاته مقبولة، لأن الصلاة المقدمة من قلب غاضب لا تُقبل أبداً. وإن لم نغفر لا يُغفر لنا، وإن متنا بدون مغفرة هلكنا. فمن لا يغفر لغيره يكون قد هدم الجسر الذي يقتضي أن يعبر عليه، لأن كل إنسان محتاج إلى المغفرة.
لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُم بقوله «أبوكم» يعلمنا أنه مهما كانت نسبته الأبوية من التقرُّب منا والحنو علينا، لا تجعله يغض الطرف عن عدم وجود روح المغفرة في أحد بنيه.
١٦ «فَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ».
إشعياء ٥٨: ٥
بعدما علم المسيح ما يتعلق بالصدقة والصلاة، أخذ يذكر وجوب شيء ثالث هو الصوم، فذكر سوء ممارسة الفريسيين له وضرورة ممارسته لله لا للمدح من الناس. وقد مارس اليهود، ولا سيما الفريسيون، الصوم كثيراً (لوقا ١٨: ١٢). ومع أن موسى لم يأمر إلا بيوم واحد للصوم سنوياً، إلا أنهم زادوا على ذلك أصواماً كثيرة منها نهار الاثنين ونهار الخميس من كل أسبوع. ولما صاموا كانوا يمتنعون عن غسل وجوههم ويغيرون منظرها بوضع الرماد عليها (أستير ٤: ٣ وأيوب ٢: ٨ ومراثي إرميا ٣: ١٦ ودانيال ٩: ٣ ويونان ٣: ٦). وبما أن الرماد ولبس المسوح كانا علامة خارجية للحزن استعملها الفريسيون خداعاً.
فَمَتَى صُمْتُمْ كأن الصوم في بعض الأوقات أمر مسلم به عنده وعند تلاميذه. فيذكر الرب سوء تصرف الفريسيين لكي يجتنبه تلاميذه.
والصوم يساعد الإنسان على ممارسة التوبة والاتضاع والتضرع لأجل رفع الضربات عنه. وليس في العهد الجديد أمرٌ صريح به، بل تُرك لكل إنسان أن يصوم حسب ضميره. وذُكرت أمثلة الذين صاموا لنتمثل بهم حين تكون أحوالنا مثل أحوالهم.
لاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ أي لا تظهروا كأنكم مكتئبون حزانى بخلاف عوائدكم المعتادة وانفعالاتكم الحقيقية، لكي يعرف الناس أنكم صائمون. فلا يرفض المسيح صومهم، لكن إعلانهم ذلك الصوم للناس بمنظرهم، ولا سيما تظاهرهم بحزن لا يشعرون به.
فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُم بكآبتهم، أو عدم غسلهم إياها، أو بوضع الرماد عليها.
لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ هذه كانت الغاية الوحيدة من شعائرهم الجسدية لينالوا مجداً من الناس، ولكن بنوالهم ذلك قد استوفوا أجرهم في الزمان الحاضر، ولم يبق شيء ينالونه في الآتي.
١٧، ١٨ «١٧ وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، ١٨ لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة».
راعوث ٣: ٣ ودانيال ١٠: ٣
بعد الكلام على سوء تصرف الفريسيين بدأ المسيح يذكر ما ينتظر من المسيحي عندما يصوم.
ٱدْهُنْ رَأْسَكَ لم يشر بهذا القول إلى العادات في الاحتفالات غير المعتادة، بل إلى الناس في عادات النظافة واللياقة. فالمعنى ليكون منظرك عندما تصوم كالعادة حتى لا تظهر أنك صائم.
ومن المعلوم أن أمر المسيح بذلك لا يناسب الأماكن التي ليست فيها هذه العادات. فيجب أن نطيع روح هذا الأمر على الدوام مجتنبين الرياء والتباهي في ممارسة واجباتنا الدينية.
وأشار المسيح هنا إلى الصوم الشخصي لا الجمهوري الذي نُدعى إليه أحياناً. وسبب وجوب إخفاء الصوم ليكون الجزاء علانية من الله، كما ذُكر في أمر الصدقة والصلاة (ع ٤، ٦).
١٩ «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى ٱلأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ ٱلسُّوسُ وَٱلصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ ٱلسَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ».
بعدما لام المسيح الناس على التباهي والرياء في العبادة، أخذ يوبخ على الطمع والبخل، ويعلن الطريق الفضلى.
لاَ تَكْنِزُوا لم يقصد المسيح أن يمنع تلاميذه عن جمع الأموال، لأن كثيراً من الأعمال يقتضي رأس مال وافراً. ويحق للإنسان لا بل يجب عليه أن يجمع شيئاً لوقت المرض والشيخوخة وللإحسان.
كُنُوزاً تطلق هذه الكلمة على كل مشتهيات الإنسان وما هو أكبر أهميةً عنده. فيكون المعنى: لا تكتفوا بالكنز الأرضي، ولا تجمعوا لمجرد الخير الدنيوي.
عَلَى ٱلأَرْض لتتمتعوا بالراحة الجسدية وسعة العيش، لتكونوا مثار إعجاب للناس، أو لتنالوا بواسطة ما تجمعونه سطوة واحتراماً. والخطية هنا كامنة في هدف الإنسان. فلا يخطئ من يجمع مالاً لخير الآخرين ومجد الله. وليس اقتناء المال خطية، بل محبته التي يتعرَّض لها الفقير والغني، ويمكن أن يسقط فيها المفلس والغني.
ولا يجوز أن نطلب المال بنفس الاجتهاد الذي به نطلب خلاص نفوسنا، ولا نطلبه طلباً يؤول إلى إهمال النفوس وضررها، آملين نوال السعادة بواسطته.
فالخطية التي يحذرنا المسيح منها هي الخطية التي نحن في خطر عظيم للسقوط فيها. فكثيرون خسروا نفوسهم بسبب محبة المال، لأن التجربة إليها قوية. ولا خطأ على الإنسان في الاعتناء بالعمل والاقتصاد في المصروف والحكمة في النظر إلى المستقبل. ولكن يجب عليه أن يسهر ويصلي لكيلا يقع في هذه التجربة، فإن القلب عندما يرى أكثر الناس الذين حوله منهمكين بجمع الكنوز الأرضية يميل إليها.
حَيْثُ يُفْسِدُ ٱلسُّوسُ وَٱلصَّدَأُ أحد أسباب عدم جمع الكنوز الأرضية هو أنها فانية، ويُحتمل أن تؤخذ منا، لأن الكنوز التي كان يكنزها الناس قديماً كانت ثياباً نفيسة ومعادن ثمينة قابلة الفقدان السريع، إما لأسباب داخلية كالسوس والصدأ، أو خارجية كاللصوص.
يَنْقُبُ ٱلسَّارِقُون هذا إذا كانت البيوت مبنية من الطوب النيء (أيوب ٤: ١٩) أو من الحجارة الصغيرة بدون كلس ورمل، فيسهل على اللص أن ينقب الحائط أو السقف ويتناول الكنز. ويذكر المسيح هنا أسباب الخسارة، ويحذرنا من تعلق نفوسنا بهذه الكنوز لأنها تحت خطر الفقدان. فلماذا نخاطر بأنفسنا لنقبض على أمور زائلة؟
٢٠ «بَلِ ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ».
متّى ١٩: ٢١ ولوقا ١٢: ٣٣، ٣٤ و١٨: ٢٢ و١تيموثاوس ٦: ١٩ و١بطرس ١: ٤.
جعل الله فينا ميلاً إلى جمع المال لغاية مفيدة وهي أن نكنز لنا كنزاً في السماء. ومن أهم واجباتنا أن نهيئ ما نحتاج إليه للمستقبل الأبدي، لكيلا تذهب نفوسنا من هذا العالم ولا يكون لنا حظ في كنوز السماء. ولا بد أن المسيح قصد المؤمنين الحقيقيين بهذا الكلام، لأنه لا يدخل السماء غيرهم ومن لا يدخلها كيف يكنز له كنزاً هناك.
ٱكْنِزُوا لَكُمْ لا يستطيع أحد أن يكنز كنزاً في السماء لأجل غيره، بل كل إنسان يكنز لنفسه. وخير لنا أن نكنز لنفوسنا في السماء من أن نكنز لذريتنا هنا. وكنزنا في السماء يتم بعمل الخير إكراماً للمسيح (متّى ٢٥: ٤٠) وبالتعب في خلاص نفوس غيرنا (يعقوب ٥: ١٩، ٢٠ و١تيموثاوس ٦: ١٨) وبالنمو في النعمة (٢بطرس ١: ٥ – ١١) وبالاتكال على الله وتسليم ذواتنا له وإنكارها لمجده وخير العالم (يعقوب ٢: ١٥).
كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاء أي مجازاة روحية، مُنعَم علينا بها، آمنة من الفناء والسرقة، لأن واهبها وحافظها الله. وذلك نصيب ورثة الله والوارثين مع يسوع (١بطرس ١: ٤) ويُقال إنها في السماء لتمتاز عما يحرزه الإنسان في هذا العالم من الثروة والشرف والسطوة واللذات. ومعرفة المؤمن أنه يمكن أن يجمع كنزاً في السماء يجعله يبذل جهده في إعداد ما يؤول إلى سعادته في دهور الأبدية غير المحدودة، ساعياً في نوال ذلك الغرض السامي.
٢١ «لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً».
ذكر المسيح هنا سبباً ثانياً لعدم جمع الكنوز الأرضية، وهو الضرر الناتج منها للقلب الذي منه مخارج الحياة (أمثال ٤: ٢٣). ونتيجة جمع كنزنا هنا على الأرض أن تكون أهواؤنا وميولنا أرضية، لأنه إن كان كنزنا في السماء فأشواقنا وميول قلوبنا تتجه إلى هناك. وما يحبه الإنسان أكثر من كل شيء هو إلهه. ومن المستحيل أن يجمع الإنسان كنوزاً في السماء والأرض معاً، لأن القلب لا ينقسم بين المكانين. فنصيب النفس الخالدة الوحيد الحقيقي هو الله، لأنها خُلقت لأجله، ولا تكون سعيدة إلا إذا حصلت عليه. فهو كنزنا، وأعظم سعادتنا تكون بمعرفتنا إياه ومحبته لنا. ونستطيع أن نعرف أين كنزنا في السماء أم على الأرض من معرفتنا بأي الكنزين نهتم أكثر ونرغب في تحصيله ونخشى فقده.
٢٢ «سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً».
لوقا ١١: ٣٤، ٣٦
سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ يدخل النور الجسد بواسطة العين فتنتفع به كل الأعضاء. وبالعين يكتسب الإنسان أكثر معرفته بالأمور الخارجية، وبدونها يبقى الجسد كله في ظلمة. فإذاً خير الجسد موقوف على صحة العين التي هي بمثابة الضمير للنفس. فكما يحتاج الجسد إلى جلاء البصر لإرشاده ومنفعته، تحتاج النفس إلى نقاوة القلب لترى ترى الله كما هو، والأشياء كما هي، وترى الحق والأمور السماوية والعلاقة الحقيقية بين الأمور الزائلة والأبدية.
بَسِيطَة أي صافية قادرة أن ترى ما حولها كما هو حقيقة. والنفس البسيطة هي التي أنارتها كلمة الله والروح القدس. فمن كانت عينه بسيطة بهذا المعنى الروحي يجب أن ينظر إلى الله ويتكل عليه وحده ويحبه فوق كل شيء، ويتأمل في الأمور الإلهية «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (كولوسي ٣: ١). «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (في ٣: ١٣). «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ» (عبرانيين ١٢: ٢).
نَيِّرا أي لديه كل المنفعة الناتجة من النور والبصر، فتمتد الفائدة إلى الجسد كله، أي إلى الرأس واليد والرِّجل إلخ. فمتّى كانت عين النفس صحيحة يدرك العقل المعرفة الحقيقية، وتشعر العواطف بالانفعالات الروحية، ويكون الإيمان قوياً وطيداً، وتهتدي الأفكار والأعمال إلى طريق الصواب.
٢٣ «وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَٱلظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ».
شِرِّيرَةً هي العين التي ترى الأمور مزدوجةً أو ملتوية، أو التي لا يدخلها نور كافٍ لتميز ما تراه بوضوح. وحالة العين الشريرة مصابة بمرضٍ أصاب النفس، فجعلها تركز النظر في الكنوز الأرضية. وكما يشك الإنسان الضعيف البصر في الطريق التي يسير فيها، ويتعرض للأخطار بسبب ذلك، يشك صاحب العين والقلب غير البسيط، ويتعرض للمخاطر الروحية.
فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاَماً أي إن كان ما قُصد به أن يكون نيراً قد صار ظلاماً، فما أشد الظلام الذي تمكث النفس فيه، لأن الضمير الميت لا يأتيه نور السماء، فتبقى النفس في ظلام حالك مقطوعة الرجاء. فهذا كلام مرعب بشأن النفس الباقية في الخطية، فإنها عمياء. ولا عمى مخيف كعمى القلب، لأنه إذا عميت عين الجسد يحترس صاحبها من خطر السقوط. وأما عميان القلوب فيجهلون حالهم ويندفعون إلى الهلاك. وبقدر ما تفوق النفس الجسد قيمةً، يكون عمى القلب أردأ من عمى الجسد. وسبب عمى القلب انصرافه عن الله إلى العالم والكنوز الدنيوية، فبذلك تفقد نفسه قوة البصر فيعيش الإنسان في الظلام إلى الأبد.
فَٱلظَّلاَمُ كَمْ يَكُون إذا سُدَّت أمام الإنسان الطريق الوحيدة لدخول النور إليه، فكم يكون ظلامه دامساً! وإذا فسدت آراؤه من جهة الله والحق وغاية حياته وكانت ديانته كاذبة، فما أشد ظلامه وأعظم الخطر عليه من الضلالة والهلاك!
وصاحب القلب الأعمى لا يكترث بالحق، ويعيش في الجهالة والأوهام والكفر. فميول الإنسان وشهواته تحتاج إلى نور الضمير لهدايتها. فإن فقدت هذه الهداية فما أرهب الخراب الناتج عن فقدانها!
وهذا ما حدث في تاريخ اليهود والوثنيين. والنتيجة من كل ذلك هي أن يكون قلب الإنسان وكنزه في السماء. فإن انقسم القلب بين المكانين نتج عن ذلك عماه، ووقع في خطر، وأصابه ما يصيب الجسد عندما تنظر العين كل شيء مزدوجاً، أو يغشيها غشاءٌ آخر.
٢٤ «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَال».
لوقا ١٧: ١٣، غلاطية ١: ١٠ و١تيموثاوس ٧: ١٧ ويعقوب ٤: ٤ و١يوحنا ٢: ١٥
لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ مستحيل أن يكون للإنسان كنزان في عالمين، ولا أن يخدم سيدين هما الله والمال. فالإنسان يرغب في خدمة العالم للحصول على اللذة في الحاضر، وفي خدمة الله للأمن في المستقبل. ولكن من المستحيل أن يخدم الاثنين، لأنهما ضدان، بينهما حرب لا تتوقَّف أبداً، وما يأمر به الواحد ينهى عنه الآخر، وكلٌ منهما يطلب خدمة تامة دائمة لا يشاركه غيره فيها. وليس للإنسان إلا قلب واحد، وخدمة سيدين تستلزم وجود قلبين. وقد أعلن الله أنه لا يقبل خدمة جزئية مشتركة، إذ محبة العالم عداوة له. قال المسيح «إن لم تترك كل شيء وتتبعني لا تقدر أن تكون تلميذي». والمسيح يطلب عبداً يخدم خدمة دائمة تشغل كل قوى النفس والجسد. «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيدًا لِلطَّاعَةِ، أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ: إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟» (رومية ٦: ١٦). فإن خدمنا الله جعلناه غايتنا الأولى، وكان كنزنا في السماء. وإن خدمنا العالم كانت غايتنا أن نكنز كنزاً على الأرض.
وجمع المال لا يمنعنا من خدمة الله، بل المانع هو وضع قلوبنا عليه، وجعلنا اكتسابه غايتنا العظمى.
لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ إلخ بسبب اختلاف صفات هذين السيدين، من الضروري أن الذي يحب الواحد يكره الآخر، وإذا رأى أنه منجذب نحو الواحد يرى أنه مدفوع بعيداً عن الآخر. وكل إنسان يجب أن يختار من يخدم من هذين السيدين ويتبعه، لأن التنحي عن كليهما مستحيل. فعدم اختيار الله إنما هو اختيار العالم.
ٱلْمَال شخَّص الخير العالمي كأنه إلهٌ يدَّعي السيادة على قلوب الناس كالله.
٢٥ «لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ ٱللِّبَاسِ؟».
مزمور ٥٥: ٢٢ ولوقا ١٢: ٢٢، ٢٣ وفيلبي ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٧
تتحدث بقية هذا الأصحاح عن نتائج طاعة الأمر المذكور في ع ٢٤، أي خدمة الله دون العالم.
أَقُولُ لَكُمْ متكلماً بسلطة المعلم والإله، ناصحاً لكم بما هو لخيركم.
لاَ تَهْتَمُّوا أي لا تقلقوا أكثر من الواجب باحتياجاتكم الجسدية، لأنه ربما تظنون أنكم بخدمتكم لله وترككم العالم تخاطرون بأسباب معيشتكم وتعرضون ذواتكم للعوز والضيقة. ولكني أقول: ألقوا عنكم هذه الهموم واتكلوا على الله غير خائفين من هموم المستقبل والتدبير والاجتهاد. وهو يمنع الهمَّ الزائد وعدم الثقة بالله (فيلبي ٤: ٦ ولوقا ٨: ١٤ و٢١: ٣٤). فالسبب الأول لعدم الهمّ هو أن ما نهتم به زهيد.
لِحَيَاتِكُمْ أي للوازم حياتكم واحتياجاتكم هنا في هذا العالم.
أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ من المؤكد أن الله الذي منحنا هذه الحياة يعتني بها. والذي أعطانا أجسادنا لا يتركها تحتاج إلى لوازمها. فإعطاؤهُ الخير الأكبر يتضمن الأصغر، وإعطاؤه الحياة لنا يتضمن أنه قادرٌ ومستعدٌ أن يعطي لوازمها من القوت والحماية. فخلق الله الإنسان وعدٌ له أنه لا يتركه يهلك جوعاً إن كان عبداً أميناً له. واستعمل المسيح صيغة الاستفهام لأنها أقوى من مجرد التصريح بالخبر، فكأنه يستشهد عقولنا بصحة ما قال.
٢٦ «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَ؟».
أيوب ٣٨: ٤١ ومزمور ١٤٧: ٩ ولوقا ١٢: ٢٤ الخ
اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ السبب الثاني لعدم اهتمامنا بالدنيويات هو ما نتعلمه من اعتناء الله بالطيور، فهو يعلمنا الثقة بأنه يعتني بنا. إنها مع كثرتها واحتياجها إلى القوت اليومي يقوتها الله بسخاء، فليست لها وسائط تدبير المعاش التي للإنسان، وإنما لها غرائزها واعتناء الله بها. ومع ذلك فهي لا تحتاج (مزمور ١٠٤: ١٠ – ١٢، ٢١، ٢٧، ٢٨) وسُميت طيور السماء لأنها تطير في الجو.
إِنَّهَا لاَ تَزْرَع الزرع، والحصاد، والجمع إلى مخازن، هي الدرجات الثلاث في أتعاب الإنسان لتدبير معيشته، فقال المسيح إن الطيور لا تمارس هذه الأعمال لكي تدبر معاشها. والمسيح لا يمنعنا من أن نزرع أو نحصد بل يمنعنا من القلق.
أَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا لا يقول في الطيور إن الله أبوها، بل إنه أبوكم. فكأنه قال: إن كان خلق الله للطيور يجعله يعتني بها، فكم بالحري يهتم بالبشر، بنيه، ولا سيما بالطائعين المحبين له منهم!
٢٧ «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟».
السبب الثالث لعدم القلق بخصوص الدنيويات هو عدم نفع ذلك. وصيغة الاستفهام تزيد الكلام قوة، فإن أعظم همومنا لا تأتي بأدنى نتيجة.
قَامَتِهِ للكلمة اليونانية المترجمة «قامة» معنيان: أحدهما طول الجسد، والآخر طول الحياة. والمعنيان هنا صحيحان، فإن قلقنا لا يزيد شيئاً على طول أجسادنا أو على طول حياتنا. فلماذا نهتم بما ليس تحت تصرفنا، ولا تؤثر فيه كل همومنا شيئاً؟.
٢٨ «وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ».
لِمَاذَا تَهْتَمُّون الأمر في ع ٢٥ صار هنا سؤالاً. وأورد المسيح سبباً رابعاً لعدم الاهتمام بالأمور الدنيوية، متخذاً مثلاً من المملكة النباتية، كما اتخذ في ع ٢٦ من الحيوانية. وذلك السبب هو اعتناء الله بالزهور.
تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ أي لاحظوها ليس للتلذذ بمنظرها الحسن، ولا لتستفيدوا من تركيبها علماً، بل لتتعلموا منها أمثلة أخلاقية أشار إليها سليمان منذ عهد طويل (أمثال ٦: ٦ – ٨ و٣٠: ٢٤ – ٣١). وسُميت زنابق الحقل لأنها تنبت في البرية بدون اعتناء الإنسان بها. وهي تمتاز عن غيرها من الزهور بحسن شكلها وبهاء ألوانها.
لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ ذكر المسيح في ع ٢٦ بعض أنواع العمل في تدبير المعيشة، وهنا ذكر بعضها في تدبير الملابس.
٢٩ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا».
وَلٰكِنْ أي مع أن الزنابق عاجزة عن تدبير ملابسها.
وَلاَ سُلَيْمَانُ كان سليمان متميزاً في المجد والبهاء، حتى صار مثلاً بين الناس (١ملوك ١٠).
فِي كُلِّ مَجْدِه إشارة إلى عظمته الخارجية، وثروته وملابسه الملكية، بدون نظر إلى صفاته الأخلاقية.
كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا لا يقول إن حقلاً من هذه الأزهار أجمل وأبهج من ملابس سليمان، بل أن زنبقة واحدة تفوقه مجداً. قد اكتسى سليمان بمجد مصنوع، وأما مجد الزهرة فذاتي. وإذا وضعنا الزهرة وأفخر المنسوجات تحت النظارة المكبرة فالزهور تبقى كاملة الجمال مهما كبرت، وأما المنسوجات فتظهر خشنة ناقصة. وهذا يبين لنا جهل الذين يفتخرون بلباسهم.
٣٠ «فَإِنْ كَانَ عُشْبُ ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، أَفَلَيْسَ بِٱلْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَان!».
بعد البراهين قدَّم المسيح النتيجة.
عُشْبُ ٱلْحَقْلِ الأعشاب هي النباتات الصغيرة، تمييزاً لها عن الأشجار والنجوم لأن الأعشاب قصيرة الحياة.
يُوجَد أي يوجد حياً نامياً زاهراً.
ٱلْيَوْمَ وَغَداً اصطلاح يشير إلى مدَّتين قريبتين.
يُطْرَحُ فِي ٱلتَّنُّورِ غاية هذا المثل إظهار الفرق الكلي بين مدة حياة العشب وحياة الإنسان، ليؤكد لنا أن الله الذي يكسو قصير الحياة بالجمال، لا يتغافل عمن حياته أطول وأفضل. فلا داعي للقلق، لأن الإله الذي يعتني بالطيور والأزهار هذا الاعتناء الكامل، لا بد من أن يعتني بأولاده.
يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَان جميعنا نقع تحت هذه الدينونة. ولكن الله يعتني بالذين لا يثقون به (٢تيموثاوس ٢: ١٣). ومع أن الأمثلة التي تعلم الثقة بالله كثيرة تحيط بنا من كل جهة يومياً لا نزال نشك فيها.
٣١ «فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟».
فَلاَ تَهْتَمُّوا ألقوا عنكم كل شك وخوف ومشقة وبأس من جهة احتياجاتكم الجسدية.
مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَب؟ هذه هي المسائل الأولى والعظمى التي يهتم بها أكثر البشر.
٣٢ «فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا».
تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ يذكر المسيح في هذا العدد السبب الخامس لعدم الاهتمام بالدنيويات، لأن المؤمنين عندما يهتمون بالمستقبل يكونون كأنهم لا يعرفون شيئاً عن عناية الله ومحبته الأبوية وبذلك لا يختلفون عن الأمم بشيء. فكأنه قال إن الأمم لا يعرفون أن الله عالم بكل شيء ومعتنٍ بكل شيء، فلهم عُذرٌ في القلق. وأي فائدة استفدتم من معرفتكم أن الله أبوكم ومحبكم؟
ظن بعض الأمم أن كل شيء في العالم يجري بالصدفة. وظنَّ آخرون أن كل شيء يجري بحسب المقدَّر. وقال غيرهم إن الآلهة لا تعتني بالناس، أو أنها تعتني بهم كيفما اتفق. فإذاً الشك والاهتمام في الأمور الدنيوية هما صفتان وثنيتان غير مسيحيتين.
أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ لأن الله أب فهو يحب المؤمنين كحب الوالد الأرضي لأولاده. ولكن لأنه سماوي له قوة ليست للأب الأرضي لكي يهبهم احتياجاتهم. فالسبب السادس لعدم الاهتمام الدنيوي للمستقبل هو أن الله قادر ومستعد لأن يعتني بنا.
أَنَّكُمْ تَحْتَاجُون لنا احتياجات دائمة وديانتنا لا تطلب منا إنكار وجودها والألم بسبب عدم الحصول عليها، ولكنها تطلب منا ألا نهتم الاهتمام الزائد، لأن ذلك عبثٌ، فإن الله الذي خلقنا وأحبنا يعلمها جميعها، وهو قادر وراضٍ أن يشبعنا من خيراته.
٣٣ «لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».
١ملوك ٣: ١٣ ومزمور ٣٧: ٢٥ ومرقس ١٠: ٣٠ ولوقا ١٢: ٣١ و١تيموثاوس ٤: ٨
جاء المسيح هنا بالعلاج الشافي للدنيويات، وهو الاجتهاد في موضوع أفضل، هو لوازم نفوسنا ذات الشأن. هو لا يمنعنا عن تحصيل لوازم الحياة الجسدية بل ييسرها لنا.
اطلبوا أولاً: أي اطلبوا أولاً الروحيات في أفكاركم وصلواتكم وأتعابكم، لأنها أعظم قيمة وأكثر أهمية. فليس المعنى أنه بعدما تكونون قد صلّيتم لأجل البركات الروحية، لكم الحرية أن تطلبوا الدنيويات. لكن يجب أن تجعلوا الروحيات غايتكم العظمى.
ٱطْلُبُوا أَوَّلاً ذلك الملكوت الذي أتى المسيح ليشيده في هذا العالم، والذي على تلاميذه أن يطلبوا تقدُّمه وامتداده. فتخصيص ذواتنا على توسيع هذا الملكوت من أول واجباتنا.
وَبِرَّهُ أي البر الذي يطلبه الله منا ويعتبره براً حقيقياً، لأنه مطابق لإرادته الإلهية ومثل بره. فكأنه قال: اطلبوا أن تكونوا مثل الله في القداسة والمحبة. وهذا هو المطلب الأعظم في وعظ المسيح على الجبل إذ يقارن هذا البر ببر الكتبة والفريسيين.
وَهٰذِهِ كُلُّهَا أي لوازم هذه الحياة التي يعلم أبوكم السماوي أنكم تحتاجون إليها، ولا سيما القوت والكسوة، فهو يعد بهما كثواب للتقوى، وليس بالغنى الجزيل (مزمور ٣٧: ٢٥ وفيلبي ٤: ١١، ١٩).
تُزَادُ لَكُم أعطى المسيح هذا الوعد الثمين ليقينا من القلق. ويجب أن يكون كافياً لذلك (رومية ٨: ٢٨ ومزمور ٨٤: ١١) وهو وعد ببركات زمنية تضاف على البركات الروحية التي طلبناها.
ولا يمنع قول المسيح من وجوب الصلاة للحصول على البركات الزمنية، بل يمنع من أن نطلبها أولاً ونجعلها أسمى مطالبنا. وإذا ظهر لنا أحياناً أن الله لا يتمم وعده لعبيده فلا بد من أن يكون ذلك لأسباب كافية ويؤول لخيرهم كما يتضح لهم يوماً ما.
٣٤ «فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ ٱلْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي ٱلْيَوْمَ شَرُّهُ».
أو بترجمة حديثة: «لأن للغد هموماً. يكفي كل يوم شروره الخاصة». هذا القول إما خلاصة ما سبق، أو إنذار حتى لا نهتم بالاحتياجات الزمنية الحاضرة، ولا المستقبلة الممكنة الحدوث.
لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَد أي المستقبل، لأن ذلك في يد الله ولا يعلم أحد غيره بكل ما يحدث فيه. فإنه يعرف ما ستحتاجون إليه، والمخاطر التي تأتي عليكم، ويهتم بكم. فبالإيمان به يطمئن القلب وينتفي هم المستقبل.
لأَنَّ ٱلْغَدَ يَهْتَمُّ مع إتيان الغد تأتي الهموم والأتعاب المختصة به. فإضافة حمل الغد على حمل اليوم من باب الجهالة، إن كان لا بد من حمله في يومه.
أفضل استعداد لإتمام واجبات الغد هو تكميل واجبات اليوم، فمن الواجب أن نتبصر في المستقبل لنعرف واجباتنا ونتجنب الخطر، ولكن تبصرنا حتى نصور في بالنا شروراً مستقبلة يتعبنا ويعطلنا عن إتمام واجباتنا الحاضرة، وهذا ناتج عن عدم ثقتنا بالله.
يَكْفِي ٱلْيَوْمَ شَرُّهُ يأتي كل يوم بتعبه ومشقاته وهمومه. فيكفي الإنسان أن يحمل همَّ كل يوم بيومه، لأن الله يعطي قوة ونعمة لكل يوم بيومه، فلا يعطي نعمة اليوم لاحتمال حمل الغد. ويرسل الله للمشقات المستقبلة نعمة ونجاحاً في حينها. فالذي أعاننا اليوم لا يتركنا غداً. ومن منا يعرف إن كان سراج حياته سيبقى مشتعلاً إلى الغد؟ وإن بقينا أحياء إلى الغد فربما لا تأتي الشرور التي كنا نتوقع حدوثها! وإن حدثت فالله يعطي نعمة من فوق ومعونة لنحتملها.
السابق |
التالي |